طالب الاتحاد العام التونسي للشغل منذ سنوات عديدة وفي مناسبات كثيرة بإحداث نظام وطني للتأمين على فقدان مواطن الشغل لأسباب لا إرادية واستأنس لبلورة مقاربته حول الموضوع بآراء الخبراء والباحثين في الداخل والخارج، كما استند الى المراجع القانونية وخاصة الاتفاقيات الدولية ذات العلاقة. وقد تم إدراج هذا المطلب رسميا في اللائحة المهنية لمؤتمر جربة الاستثنائي الأخير (فيفري 2002) باعتباره آلية تعديلية ضرورية لمواجهة مرونة التشغيل وتداعيات التحول نحو اقتصاد السوق. ويعلّل الاتحاد العام التونسي للشغل مطالبته المستمرة ببعث صندوق للتأمين على فقدان مواطن الشغل لأسباب لا إرادية باعتبارات ذات أبعاد قانونية واقتصادية واجتماعية وسياسية. فعلى المستوى القانوني تقرّ الاتفاقية الدولية للعمل رقم 44 لسنة 1934 بضرورة إرساء نظام تأمين إجباري أو اختياري ضدّ البطالة على ان يشمل الاشخاص الذين هم في حالة بطالة كلية وكذلك الاشخاص الذين يوجدون في حالة بطالة جزئية. كما تعتبر الاتفاقية الدولية للعمل رقم 102 لسنة 1952 المتعلقة بالقواعد الدنيا للضمان الاجتماعي، أن البطالة هي من المخاطر التي يشملها مفهوم الضمان الاجتماعي. ويشير الدستور التونسي في ديباجته الى الحق في الشغل باعتباره من الحقوق التي يضمنها النظام الجمهوري بما يعني حق كل فرد في الحصول على شغل يناسبه، وفي التعويض عن حرمانه من العمل لأسباب خارجة عن إرادته. الا ان القانون لا زال يفتقر الى نظام عام وشامل يغطي الحرمان من العمل أو فقدانه، حيث اكتفى المشرع بسنّ بعض النصوص التي توفر إحاطة اجتماعية ظرفية لفائدة العمال الذين توقفوا عن العمل لأسباب اقتصادية أو فنية، أوكلت مهمة إسدائها الى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. وتتمثل هذه الإحاطة أساسا في تقديم مساعدات نقدية لمدة ستة أشهر كحدّ أقصى في حالة البطالة الفنية والطرد مع مواصلة التمتع بالخدمات الصحية والمنح العائلية ومنحة الأجر الوحيد طيلة سنة من تاريخ الطرد. كما تتمثل في تنفيذ الاحكام القضائية الباتة لفائدة العمال في حالة الطرد واستحالة التنفيذ على صاحب المؤسسة على أن يقوم الصندوق بالحق الشخصي نيابة عن العمال. الا ان هذه الاجراءات بحكم محدودية ميدانها لا ترتقي الى مستوى المنظومة الحمائية المتكاملة والمستوفاة الشروط ولا تغطي الا حالات معينة اضافة الى انها قد ترتهن التوازنات المالية للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي على المدى المتوسط والبعيد. أما على المستوى الاقتصادي والاجتماعي فإن السوق التونسية تشهد تحولات عميقة محملة بالكثير من التحديات والرهانات لعلّ أبرزها تنامي القطاع غير المنظم وأنماط التشغيل الهشّ والمهمش وتراجع القدرة التشغيلية خاصة في مجال العمل المأجور، وهي عناصر من شأنها ان تنحرف بمسار التنمية وتخلّ بقواعد التعامل بين الاطراف السياسية وبديمومة منظومة الحماية الاجتماعية وترتهن قدرات المجتمع في ضمان توازناته واستقراره. وفي المستوى السياسي، فإن تراجع دور الدولة التعديلي في مجال الحماية الاجتماعية وغياب فاعلين اقتصاديين قادرين على التكفل بمهمة التداول في مجال الانتاج والتشغيل الى جانب توسع ظاهرة المرونة وما تسببه من تفاقم القطيعة في مجال تنظيم العلاقات الشغلية ومجال النشاط الاقتصادي للمؤسسة من شأنها جميعا ان تؤدي الى اهتزاز الثقة بين الدولة والاطراف الاجتماعية من ناحية والى تدهور الدور التعديلي للدولة من ناحية أخرى. على خلفية هذه التحولات التي تعيشها بلادنا ينتظر ان تشهد معضلة البطالة المزيد من التفاقم وأن تكون لها الكثير من التداعيات على مسارات التنمية وعلى التوازنات داخل المجتمع وهو ما يحتم مصاحبة هذه التحولات بآليات وإجراءات حمائية تساعد على التوازن وتعمل في اتجاه ضمان الكرامة والمواطنة داخل المجتمع بما يبعد التطرف والتعصب. إن الحد من هذه المخاطر والمحافظة على التوازنات الاساسية يجد سنده في التمسك بالعقد الاجتماعي الذي يضبط المسؤولية الاجتماعية والاخلاقية لمختلف مكونات المجتمع وهو عقد يقتضي رعاية الحقوق الاساسية للمواطن كحق التشغيل والحق في الصحة والتعليم والتكوين والحق في التمتع بثمرات التنمية بأكثر ما يمكن من العدل والانصاف. وللتذكير فإن العقد الاجتماعي الذي تنبني عليه فلسفة تنظيم العلاقات الاجتماعية بين الاطراف هو ذاته الذي انبنى عليه الميثاق الوطني المبرم منذ سنة 1989 والذي كان الاتحاد العام التونسي للشغل أحد الموقعين الرئيسيين عليه. لكل هذه الاسباب، ونظرا لوجود شبه إجماع لدى المؤسسات الدولية المعنية حول ضرورة إيجاد آليات تعديل لسياسات الانتقال نحو اقتصاد السوق قصد امتصاص آثاره السلبية، وحرصا على تجنيب مجتمعنا مخاطر التهيمش والاقصاء الاقتصادي والاجتماعي يتعيّن على الاطراف الاجتماعيين الدخول فورا في مفاوضات تتعلق بكيفية تجسيم مشروع بعث صندوق للتأمين على فقدان مواطن الشغل لأسباب لا إرادية وفق مفهوم يقوم على فكرة التأمين للمساعدة على العودة الى العمل والاندماج من جديد في الحياة المهنية. ان طلب الاتحاد العام التونسي للشغل ببعث مثل هذا الصندوق للتأمين وان يجد تبريره فيما سبق الاشارة اليه من اعتبارات موضوعية فإنه يستند الى واجب المنظمة في الدفاع عن ضحايا التسريح لأسباب لا إرادية باعتبارهم جزء لا يتجزأ من القوى العاملة ساهموا وبإمكانهم ان يساهموا مستقبلا في خلق الثروة الوطنية، كما يستند ايضا الى المسؤولية النقابية التي تفرض على الاتحاد التمسك بحقوق منظوريه والحرص على رعايتهم والمحافظة على قدرتهم الشرائية والسعي الى إعادة إدماجهم في الدورة الاقتصادية فضلا عن مسؤولياته الوطنية في الدفاع عن التوازنات الاجتماعية الاساسية وفي الالتزام بالمصلحة العليا للوطن وباستقراره ومناعته.