ثلاثة، اثنان، واحد... قف...، تظهر أمامك راحة يد مضيئة تخبرك أن الثواني المخصّصة لعبورك قد انقضت فإنتظر إضاءة اليد الخضراء... إشارات مرور باردة لا ترحم عجلتك للقاء مُهمّ، وساكنة في نظام لا تحركها لهفتك الخاصة لأيّ شيء، الجميع ينتظر في المفترقات رضاها ولا تنتظر رضى أحد... تتجاوز أنت الوافد العربي على العاصمة السياسية للولايات المتحدةالأمريكية »دي سي«❊ (1) رغبتك في الانقضاض على سطوة هذه الاضواء لتكسرها انسجاما مع فوضاك وتغادر المفترق، تدخل صيدلية ضخمة بحثا عن غسول أيادي فتقع تحت طائلة الطابور... هذا الطابور الذي يطبع كل محلاّت وإدارات ومصالح »واشنطن«... طابور لدخول المغازة وطابور لركوب الحافلة وطابور لقطع التذكرة وطابور لابتياع قهوة وطابور للتدريب على الصبر... كل شيء خاضع لانضباط مذهل... انضباط ميكانيكي يخرج بك من دائرة الانساني إلى دائرة الصناعي الآلاتي... مدينة انسجمت مع نظافتها الخارقة ونظامها المذهل ودقّة تصميمها حتى لتكاد تشعر أنّك في فضاء غير بشري... شوارعها مقسّمة إلى أفقيّة اسماؤها حروف، وعمودية اسماؤها أرقام، عناوينها تقاطعات وبناياتها فارهة تأسرك فخامتها ولكنك لا تستطيع تبيّن طرازها المعماري بدقة... فهي أبنيّة مؤلّفة ملامحها من سياقات وإنماط معمارية مختلفة جمعت النمط »القُوتيّ« إلى »الفكتوريّ« الى »العصري« الى »المعاصر«.. أبنيّة بلا شخصيّة أو تاريخ ولكنّها مهيمنة وآسرة. مع إنبلاج شمس معتدلة ودافئة تُقلّنا حافلة صغيرة إلى رحلة مصافحة المدينة من خلال معالمها... رحلة رافقتنا خلالها مرشدة صغيرة هادئة ومنسجمة وهي الاخرى مع أرضها الجديدة... »إسمي فاطمة، وأنا أمريكية... أبي سعودي وأمّي يمنيّة وعشت بلبنان« أهلا بالجامعة العربية، قلنا مرحّبين... أخذتنا إلى ساحة البيت الأسود المبيضّ إثر حريقه وَطفِقَتْ تشرح تواريخ شتّى، تركتُها تنهيها وإنطلقتُ حيث خيمة ذاك المعتصم الأبدي إحتجاجَا على الحروب الظالمة والخاسرة التي تشنها بلاده ويحياها العالم لينعم بويْلاتها... »هنا جناح السيدة الأولى وهنا الادارة وهنا طاقم الخدمة« تقول مُرشدتنا الرقيقة فأتوهُ ثانية في أشجار الساحة المتمطيّة تعُبُّ دفء الشمس في استرخاء.... تهتُ أقفو خطى محطّات هذا البلد الذي تأسس على دماء سكانه الاصليين اللذين هُجّروا وأبيدو وتلاشوا خلف غيوم الزيف... بلد تأسست وحدته على حرب أهليّة تواجه خلالها شمالُه وجنوبُه.... بلد مازالت تجذبه رائحة الدماء أينما كانت... وخاصة دماءٌ فصيلتُها عربيّة.. »سنرى الآن عراقة مبنى »الكونغرس«، تواجهه ساحة خضراء كبرى تنادى المسلمون يومًا ليقيموا فيها صلاة جمعة يحضرها خمسون ألفا في أوهامنا ويحضرها في الواقع خمسة آلاف بالحساب«، فتعرى أكثر حال انفصال الجاليّة العربيّة والمسلمة وغياب تلاقيها أو تأثيرها في هذا البلد حتى لو دُغدغت شعرة الدين منها. »هذا صليبُ الديمقراطية الذي يتواجه في عرضه البيت الابيض وتمثال »توماس جيفرسون« تحيطه الوصايا، وتتواجه في طوله المشكاة مع مبنى »الكابيتول / الكونغرس«، »أهذا هو الصليب الذي زار بوش الصغير في المنام ليأمره بشنّ الحرب على أرضنا؟« تتفاجأ المرشدة من سؤالي فتحيلني على جغرافيّة التوازي في توزيع البناءات والمعالم وتشرح لي التناظر والتقابل فأتوه منها ثانية في اتجاه حسرتي... »هنا قائمة باسماء شهداء حرب »فيتنام« التي انتهت حيث بدأت وهنا عليكم أن تلتزموا الصمت إحتراما للموتى« فأسألها في صخب لائق بسرياليّة المشهد وأكاليله »كم عبرتُ وكم سأعبر ترى دون قدسيّة للموت على قبور عربية غير مرئية لأناس دفنهم قصف أمريكا حيث كانوا دون شواهد ولا نُصب؟«، تهربُ المرشدة إلى شروحها وتترك سؤالي للغياب وتتوسل بنُصب آخر للممرضات وللمقاتلين فأسألها »وأين »مارتن لوثر كينغ« في زحمة تماثيل المؤسسين واللاحقين وحتى المجهولين؟« فتأخذني الى تمثال »أبراهام لينكولن« وتقول قد نجد له هناك أثرا فأقول بل من هنا انبعث صوته يوم 28 أوت من سنة 1963 صادحًا »I have a dream« من على هذه المدارج توّج حركة الحقوق المدنيّة والمسيرة الى »واشنطن«ولكن أين تمثاله؟ تتفاجأ ثانية وتقول »بدأ التفكير في تصميمه منذ سنوات قليلة وقد يظهر خلال سنوات قادمة«... فأدركت أن »دي سي« التي يشكّل الملوّنين سبعين بالمائة من سكانها لم تستلهم جيدا وصايا ذاك المعلّم العظيم ففي الحين الذي جابت أحلامه كل العالم واستنهضت أرواح الملايين لم يستطع بني جلدته أن يفرضوا وضع تمثال له في مدينة تعج بالتمثايل تخلّد جهوده وسعيه من أجل بلوغ لحظة »يتعايش خلالها السود والبيض ويعيشون في مساواة«.❊(2) »هنا تطبع الاوراق النقدية وهذا متحف صكّ الأموال« »أموالنا المنهوية هنا إذن فلنلتقط صورة أيها الرفاق«، يتفرّق جمعنا في اتجاه التقاط الصور الجامدة وأتبعها المرشدة إلى زاوية شارع مقابل تقول »هنا نشأ مفهوم »اللوبي واللوبيينغ« فقد كان رجال الاستقراطية القديمة يأتون للتدخين في »لوبي« / قاعة استقبال هذا الفندق وتطول جلسات نقاشهم للتخطيط والتدبير فنشأ مفهوم شبكات ومجموعات الضغط«... من هنا انطلقت فكرة وتاريخ المجموعات التي تسيّر اليوم أمريكا والعالم وكالعادة لم يتعلم عرب أمريكا من أساليبها في التأثير شيئا، برغم انتشارها في كل الأركان والزوايا وبين بُطيّن القلب وشريانه... من حركات الضغط التي تستهدف تحسين أوضاع جمعية الرياضة المحليّة إلى تلك التي تركّز على القضايا الكبرى مرورا بالثقافة والفن والاقتصاد والقتل والتخطيط والبناء والتعليم... محليّا وجهويّا ومقاطعيّا وفيدراليّا وعالميّا... إنّه »اللّوبي«... من شبّاك الحافلة التي تعود بنا كنت أرقب في هذه الشوارع المنظمة الكنائس تتلوها الكنائس فأماكن العبادة المسيحيّة في »دي سي« منثورة تقريبا في كل تقاطع وميدان وساحة، كنائس لمختلف التيارات المسيحيّة يخرج ويدخل من أبوابها المزركشة مريدون من كل الاعمار والالوان يدخلون في خشوع حاسري الرؤوس ومتلحفين، يدخلون خفافا ومثقلين بالذنوب، يدخلون ببالونات العيد وقفاف الحلوى وسلال البيض الملوّن وبعض ما سُحِبَ من دنان دم المسيح... يدخلون ويخرجون بفرح خاشع ومريح... ربما لم يكونوا بصدد سماع تخويف وترهيب وترويع بل فقط جلسات غناء واعترافات بخطايا صغيرة وعضات مرتّبة عن سماحة القديس وتسامحه، يُنبّهني جُوعي الى زمن آخر فأطلب طعاما تسعفني منه مرشدتنا الهادئة ببعض التمر والمشمش المجففين »تصبيرة« كما تقول، أشكرها واعيد السؤال ولو عن تمثال صغير »لمارتن لوثر« فتكتب لي عنوان محل تذكارات قريب من الفندق ثم تودّعنا في شارع »جورج تاون« وتغيب تاركة طيفها لفريق زوّار قادم ستشرح له نتوءات المكان مرّة أخرى. (1) »دي سي« disstrict of colombia، قطاع تابع للإتحاد الفيدرالي مباشرة، ولا يتبع أية ولاية أخرى، يقع بين ولايتي »فرجينيا« و»ميريلاند«، بات العاصمة السياسية للاتحاد الامريكي. (2) جملة من خطاب »مارتن لوثر كينغ« »لديّ حلم« الذي ألقاه من على مدارج تمثال »إبراهم نيلكون« في »واشنطن« يوم 28 أوت 1963.