اصدار بطاقات إيداع في حق مسيري جمعيتين اثنتين ومسؤولين سابقين بعدد من الإدارات ( محمد زيتونة)    مدير معهد الإحصاء: كلفة انجاز التّعداد العامّ للسّكان والسّكنى لسنة 2024 تناهز 89 مليون دينار    وزير التشغيل والتكوين المهني يؤكد أن الشركات الأهلية تجربة رائدة وأنموذج لاقتصاد جديد في تونس    تونس في الإجتماعات السنوية للبنك الأوروبي لإعادة الأعمار والتنمية(BERD).    منوبة: إصدار بطاقتي إيداع في حق صاحب مجزرة ومساعده من أجل مخالفة التراتيب الصحية    قابس: تراجع عدد الأضاحي خلال هذه السنة مقارنة بالسنة الفارطة (المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية)    وزير الداخلية الفرنسي: الشرطة قتلت مسلحا حاول إشعال النار في كنيس يهودي    بن عروس: اندلاع حريق بمستودع قديم وغير مستغل    كاس تونس لكرة القدم - نتائج الدفعة الاولى لمباريات الدور ثمن النهائي    مدرب الاهلي المصري: الترجي تطور كثيرا وننتظر مباراة مثيرة في ظل تقارب مستوى الفريقين    بطولة العالم لالعاب القوى لذوي الاعاقة : التونسي احمد بن مصلح يحرز برونزية مسابقة دفع الجلة (صنف اف 37)    تفكيك شبكة لترويج الأقراص المخدرة وحجز 900 قرص مخدر    القيروان :الاحتفاظ ب 8 اشخاص من دول افريقيا جنوب الصحراء دون وثائق ثبوتية يعملون بشركة فلاحية    الحماية المدنية: انقاذ طفل على اثر سقوطه ببئر دون ماء عمقه حوالي 18 متر    الكاف: انطلاق فعاليات الدورة 34 لمهرجان ميو السنوي    بن عروس : انطلاق ملتقى الطاهر الهمامي للإبداع الأدبي والفكري في دورته العاشرة    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    نحو 20 بالمائة من المصابين بمرض ارتفاع ضغط الدم يمكنهم العلاج دون الحاجة الى أدوية    الخارجية الألمانية.. هجمات المستوطنين على مساعدات غزة وصمة عار    رسميا.. سلوت يعلن توليه تدريب ليفربول خلفا لكلوب    اكتشاف جديد قد يحل لغز بناء الأهرامات المصرية    تضمّنت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرًا في صناعة السينما العربية    سعيّد يأذن بتنقيح فصولا من المجلة التجارية    قيس سعيد يُعجّل بتنقيح الفصل 411 المتعلق بأحكام الشيك دون رصيد.    أب يرمي أولاده الأربعة في الشارع والأم ترفضهم    إرتفاع قيمة صادرات المواد الفلاحية البيولوجية ب 24،5 %    أولا وأخيرا ..«سقف وقاعة»    خلال لقائها ببودربالة...رئيسة مكتب مجلس أوروبا تقدّم برنامج تعاون لمكافحة الفساد    عاجل/ إسبانيا تتخذ اجراء هام ضد الكيان الصهيوني..    القدرة الشرائية للمواكن محور لقاء وزير الداخلية برئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    دقاش: افتتاح فعاليات مهرجان تريتونيس الدولي الدورة 6    وزير الفلاحة: المحتكرون وراء غلاء أسعار أضاحي العيد    الديوانة تحجز سلعا مهربة فاقت قيمتها ال400 مليون    حاولوا سرقة متحف الحبيب بورقيبة الأثري...القبض على 5 متورطين    معلم تاريخي يتحول إلى وكر للمنحرفين ما القصة ؟    المنستير: عدد حجيج الولاية لموسم الحج الحالي بلغ 590 حاجا وحاجة    تقريرنقابة الصحفيين: ارتفاع وتيرة الاعتداءات على الصّحفيين في شهر أفريل    غدا..دخول المتاحف سيكون مجانا..    البطولة العربية للأردن : تونس تشارك ب14 مصارعا ومصارعة    570 مليون دينار لدعم الميزانيّة..البنوك تعوّض الخروج على السوق الماليّة للاقتراض    عاجل/ أمريكا تستثني هذه المناطق بتونس والمسافات من تحذير رعاياها    إتحاد الفلاحة: المعدل العام لسعر الأضاحي سيكون بين 800د و1200د.    اليوم.. حفل زياد غرسة بالمسرح البلدي    القصرين: وفاة شاب في حادث مرور    بعد تسجيل الحالة الرابعة من نوعها.. مرض جديد يثير القلق    مباراة الكرة الطائرة بين الترجي و الافريقي : متى و أين و بكم أسعار التذاكر؟    كأس أوروبا 2024: كانتي يعود لتشكيلة المنتخب الفرنسي    عاجل : ليفربول يعلن رحيل هذا اللاعب نهاية الموسم    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    خطبة الجمعة...الميراث في الإسلام    سنتكوم: تفريغ أول حمولة مساعدات على الميناء العائم في غزة    النائب طارق مهدي يكشف: الأفارقة جنوب الصحراء احتلوا الشريط الساحلي بين العامرة وجبنيانة    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    التحدي القاتل.. رقاقة بطاطا حارة تقتل مراهقاً أميركياً    منها الشيا والبطيخ.. 5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    التوقعات الجوية لهذا اليوم…    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لا بد أن يكون تطوير العمل النقابي بمفهومه الواسع سعياً لحماية الحريات المدنية والدفاع عن العدالة الإجتماعية
رضا التليلي حوار: رشأ التونسي
نشر في الشعب يوم 13 - 01 - 2007

من الشباب البارزين بين جيله ، مثقف واسع الاطلاع ومتعدد الاهتمامات، تونسي المولد عالمي الأفق، إهتم بالتراث ، تاريخ الحضارات وحوارها ، التنمية الثقافية بكل أنواعها وفنونها ، والمجتمع المدني بكل أبعاده ......
شاعراً في أوقات فراغه ، شغف منذ صباه بالثقافة والتاريخ عامة ، وبالسياسة خاصة ، وإن كان المثل التونسي دليلاً على أن « من خلف ما مات « ، فهو إبن المناضل الكبير أحمد التليلي ، خير خلف لخير سلف ، وأتقانا من مات حياً
ولد في قفصة سنة 1948 ، حيث درس في الإبتدائية ، ثم في العاصمة بالمعهد الثانوي بخزندار ، تحصل على ليسانس اللغة الإسبانية من جامعة باريس VII ، ثم تحصل من نفس الجامعة على دكتوراه في التاريخ المعاصر والحديث ، ومن ثم تحصل على ديبلوم المدرسة الديبلوماسية بجامعة مدريد ،
شكلت أحداث قفصة سنة 1952 انعطافة كبرى في سيرة الطفل رضا ، إذ منذ ذاك الحين ، بدأ يمعن النظر في هويته الثقافية ويعزز ما إكتسبه منذ الميلاد الأول ، دون أن يؤثر ذلك على انتمائه الواسع إلى الإنسانية .
فهو التونسي الذي لم يأل جهدا في الدفاع عن بلده ، وهو العربي الذي تجمعه علاقات واسعة مع كل الجنسيات ، وهو المغاربي الذي تنقل بين قارات العالم ، وهو الإفريقي الذي يعمل بأمل على تحسين الوضع في إفريقيا المنسية ، درس في إسبانيا وحمل لغتها للبحث والمعرفة عبر جل البلدان اللاتينية وغيرها ،
إشتغل بالبحث في تايخ الحضارات والثقافات وحاضرها وإمكانية إشعاع مستقبلها بحيث أصبح مرجعاً مهماً عبر الكثير من البحوث والدراسات والمقالات .
إلتقينا به للحوار حول ذكرياته ، وماض مازال حاضرنا اليوم ، حديث عن حياة مليئة بتاريخ عائلة وتاريخ أمة ، مسيرة طفولة وشباب على خلفية لبدايات وإنطلاق الإتحاد العام التونسي للشغل الذي عاش ومات من أجله المناضل أحمد التليلي، الإتحاد العام التونسي للشغل الذي وإن مر بأوضاع متمزقة في فترة من الوقت لأن القضايا الحساسة بطبيعتها تجر إلى الاحتداد في الجدل ، لكنه حافظ على جوهره الأصيل وبقي رائداً في الوطن العربي من خلال مسيرته وإختياراته وإنشغاله بالشأن العام .
أولى ذكرياتك مع العمل الوطني ؟
مر إكتشافي للعلاقات بين الناس وبين الدول بحالات عدة الأولى في جانفي 1952 عند إجتياح الجيش الفرنسي منطقة قفصة بصفة عامة و» حوش أحمد التليلي « بصفة خاصة ، على أساس أن حمولة باخرة أسلحة توجد في حوش التليلي . كنت آنذاك طفلاً لكني أذكر ذلك العدد الهائل من الجنود الفرنسيين يحملون غضباً وحقداً وضغينة لا متناهية بسبب هجوم الثوار على فصيلة فرنسية حيث تحمل الجيش الفرنسي لأول مرة خسائر مهمة عدداً وعدة . ، كانت المقاومة في السابق لا تتجاوز مفجرات وقنابل في حركات فردية ومتفرقة ، وأتى الهجوم الأخير كمدخلاً جديداً ومختلفاً للعلاقات بين المقاومة والجيش الفرنسي ، أكثر مباشرة ، وأكثر علنية ، لأنه دليل قاطع على أن الحركة الوطنية في تونس منظمة ومؤهلة للعمل المسلح والمقومة خارج السرية والتراتيب المعتادة في هذه الحالات خاصة في المدن ، ومن ذكرياتي التي لا تنسى هو كيف إتجه الضباط الفرنسيين عند إقتحامهم الحوش نحو الراديو لتحطيمه وإلقاءه على الأرض ، وقد تكررت العملية في جل بيوت مدينة قفصة . تبع ذلك عملية إرهاب حيث أخرج الجنود الأهالي من ديارهم وصفوهم أمام جدران المنازل وكأن الرصاصة لن تنتظر إلا لحظات ، تكررت أمامنا في قتل بعض أهالي القرية خاصة المعلمين
كان الإستنطاق يشمل كل سكان القرية خاصة النساء والأطفال ، بما أن جل رجال القرية إلتحقوا بالجبال ، كانت الكلبة المدربة على الشم والتفتيش عن الأسلحة (قمة السخافة تدعى « بيلا أي جميلة ) كانت تهاجم أمهاتنا ببطء لتشتم على ملابسهن آثار أسلحة ومتفجرات ، كانت تحاصرهن في الزوايا باثة الرعب والخوف ، علهن يفقدن الثقة ويصرحن بمكان الثوار وأسلحتهم وكيفية تنظيمهم ، أذكر في حادثة قصر قفصة الشهيرة في تاريخ الحركة الوطنية كيف وجه أحد الضباط مسدساً إلى رأس أمي مهدداً « ستعترفين بمكان زوجك حمد التليلي ولا يفكك لا ربي ولا بورقيبة»
أما الحالة الثانية التي تعرفت بها على التبادل الحقيقي هي حين رافقت والدي إلى عديد البلدان الأجنبية سنة 1958 ، كان والدي يحملني معه ليتمكن التنقل في أوروبا بسهولة ، فأب يرافق طفلاً لا يتجاوز عمرع العاشرة لا يلفت إنتباه المخابرات الفرنسية وزملائها ، ورغم صغر سني فهمت أن هذه الرحلات والتنقلات كانت تهيء للتنظيم العسكري لحركة التحرير الجزائري ، كان والدي مناضل وطن لا حدود له ، تعددت اللقاءات بين رواد الحركة الإستقلالية الجزائرية وبعض زعامات التيارات التقدمية والنقابية في أوروبا ، لم أكتشف الموقع المتميز في تاريخ الحركات الوطنية المغاربية والعمل السري وقواعده الذي ترعرعت فيهم إلا سنوات بعد ذلك ، عندما عدت إلى أرشيف الذاكرة لتحديد تلك الفترة لما لها من أهمية بالنسبة لي كطفل ، وبالنسبة إلى المنعرجات التي تمت منذ 1958 والتي تتعلق بالإستقلال وبناء المغرب العربي .
الحالة الثالثة التي مع الأسف تجهلها الأغلبية هي مشاركة كل أهالي قفصة عبر حملة قمنا بها مع المرحوم محمد صالح 57/58 لجمع الأموال لدعم إنشاء جيش وطني ، كنا مجموعة من الشبان نتنقل من بين الأحياء من الصباح إلى المساء طارقين باباً بعد باب لإرسال هذه الأموال والتبرعات عن طريق الحزب الحر الدستوري التونسي إلى دعم المنظمات الوطنية ، أهلتنا هذه التجربة نحن الشباب لمعرفة حقيقة الوضعيات الإجتماعية والسياسية ، تنتابني أحياناً بعض من النوستالجية والحسرة لذكرى تلك الفترة المتميزة المليئة بالثقة والعطاء والكرم الفطري دون مقابل ، كانت كل فئات الشعب التونسي تساهم في هذه التبرعات ، لم يحرجنا أحد بالرفض أو النكران ، حتى من لم يكن يملك ما يعطيه ذو قيمة ، يقدم الحلويات والحليب والقهوة ،
أما الحالة الأخيرة التي عرفت من خلالها أن للنضال أيضاً ثمن يكون في بعض الأحيان غالياً ، كانت حادثة وفاة والدي سنة 1967الذي نزل على الجميع كالصاعقة ، لم يصدق الناس الخبر ، ولم يتجرأ أحد إعلامنا بالفاجعة وكأن الحدث لا يمكن أن يكون حقيقياً ، لا أذكر من الذي تحمل بالشجاعة والمسؤولية الكافية لحمل الخبر ، لكن أذكر تلك الجنازة الفريدة التي دخلت في التظاهرات التاريخية النادرة . بلغ عدد المشيعون آلاف الآلاف ، تمددت الحشود من باب السويقة والضواحي إلى منزلنا في نهج المعز بالمنزه ، رغم أن العديد من داخل الجمهورية لم يتمكنوا من الحضور ، كان خشوعاً تلقائياً وحزناً عاماً ، لم يبق أحداً في المقاهي ، إصطف الناس ودموعهم تنهمر طوال الطريق إلى المقبرة .
هل أثرت هذه العلاقة المتينة مع والدك وكفاحه في إختياراتك ؟
بالطبع ، كان لذلك أكثر من تأثير على حياتي ، في الستينات كنت أدرس في معهد خزندار ، إستدعاني مدير المعهد لإعلامي أنني سأدرس الإسبانية نزولاً لرغبة والدي ، كان ذلك أثناء الإعداد لمؤتمر الشعوب بالمكسيك ، كانت جميع الوثائق المتوفرة باللغة الفرنسية ، وتبين أن وزارة الخارجية وبقية المؤسسات تفتقر إلى من يتقن اللغة الإسبانية ، ولم أستطع رفض قرار إرسالي لتعلم اللغة الإسبانية خاصة بعد أن عاد إلى ذاكرتي حديثاً بين والدي والمرحوم المنجي سليم ضرورة إتقان شباب تونس المستقلة اللغات الأجنبية المتداولة للإتصال بالعالم . وإلتحقت بالجامعة والمعاهد الخاصة في إسبانيا ، وتنقلت إلى العديد من البلاد اللاتينية ، وأصبحت اليوم من المختصين في الحضارة والثقافة وتاريخ العالم الناطق باللغة الإسبانية . وهذا مثل من تأثير والدي الذي كان يحمل إهتمامات كبيرة عن التاريخ والأدب والتراث .
هل حاولت أن تكون صورة من والدك ؟
لا أعتقد أن أي إنسان يكون صورة من أي إنسان آخر ، لكني إستجبت إلى تصور والدي للعلاقات الإجتماعية ، الذي كان يؤكد على المعرفة ، وأعتقد أن من أهم خاصيات الإنسان المعرفة ، كما تبقى في نظري المثالية كإحدى المرجعيات الأساسية التي تؤهل الفرد والمجتمع إلى التقدم وإن كنت أوجه بعض النقد إلى من تفتحوا على الفكر المثالي في مجتمع يميل إلى مثالية إيتوبية التي تبقى غالباً في حالة تكرار نمطي من ناحية الإبداع الفكري والفلسفي ، رصيد المثالية الذي ورثته عن والدي كان وما زال مصدراً لما قمت به من نشاط فكري ومهني ، تأثيره كان واضحاً على علاقاتي الإنسانية ، وتصوري للمثالية أقرب إلى نظريات غاندي من ماركس . المثالية تبقى في النهاية محاكاة للتاريخ وبدونها يبقى التاريخ في الملفات والخزائن والمكتبات بعيداً عن واقع الناس والمجتمع
هل حاولت أن تنقل لأبناءك ما نقله لك والدك ؟
بالطبع ... وعلى سبيل المثال . أحببت بإفريقيا من خلال زياراتي المتعددة لها كمتطوع في الجامعات الإفريقية ، وفي السنة الماضية رافقني غبني البالغ من العمر سبع عشر سنة للمشاركة في تظاهرة عالمية تحت شعار « جامعة القارات الخمس « وهي تتمثل في تطوع أساتذة جامعيين من كل بلدان العالم لتأطير طلبة أفارقة ليس لديهم إمكانية مواصلة تعليمهم العالي أو إجراء اية بحوث بسبب الحروب الأهلية والفقر والمجاعة ، ومن المفارقات أنه عندما تقع كوارث طبيعية تتجند المساعدات والإعانات ، لكن عندما تقع كوارث ثقافية لا يتحرك ساكن ولا حياة لمن تنادي ، وكأن الكوارث الثقافية ليست من خصائص الإنسان ، وقد إكتشف إبني الضفة الأخرى لهذا العالم .
كيف يمكن دمج الثقافة بالعمل النقابي ؟
السؤال مهم جداً . لأن إحدى أهداف العمل النقابي في بدايات القرن العشرين خاصة لدى الجبهات الشعبية في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا هي المطالبة بحصول الطبقة العاملة على الزاد الثقافي والمعرفي كبقية الفئات والطبقات ، أما من ناحية أخرى فليس من المهم أن يكون العامل ضليعاً بالشعر أو الفيزياء والكيمياء أو الأدب المقارن ، الأهم هو تمكين الطبقة العاملة التي حرمت من التثقيف ومواصلة التعليم في الكليات أن تسترجع بعضاً من التقارب من الثقافة وهو حق خاصة أنه بدون هذا الرصيد الثافي تبقى الطبقة العاملة معزولة عن المجتمع . وهذه العزلة تساهم في تأسيس نزاع الطبقات ، وفي الواقع تندرج منظومة دمج الثقافة بالعمل النقابي في نطاق أوسع يتمثل في كيفية تصنيف الجماهير الشعبية والإبتعاد عن سياسات ثقافية نخبوية أو إنفصالية والتي تؤدي في النهاية إلى إفراغ الوطنية من محتوياتها الإنسانية والعاطفية ، لابد من الوعي بمجتمع كامل غير متجزيء . والموضوع الأساسي ليس فقط علاقة الثقافة بالطبقات الشغيلة بل علاقة السياسة بالمشروع المجتمعي . هل البعد الإستراتيجي موجود حتى لا ننتهي إلى تجزئة الفئات الشعبية ؟ ثم لا يجب أن نقع في فخ الشعبوية فكل محاولة من طرف البعض من خلال تصورهم للثقافة والمجتمع ينتهي إلى ترسيخ المرجعيات التي تؤمن بالإمتيازات الطبقية ومجتمع ينقسم إلى غني وفقير ، ومتعلم وجاهل . وهذه الإزدواجية تؤدي في النهاية إلى عزل الطبقة العاملة عن الحركات الثقافية ، وكما يوجد ثقافية علماوية جمالية أرستقراطية ونخبوية ، توجد أيضاً ثقافة شعبية عفوية تبنى على الذاكرة الحية والتواصل بين فئات إجتماعية مختلفة ، وهي ثقافة لا تقل أهمية عن السابقة ، ومن المفارقات أن أعمال أهم الكتاب العالميين وأكبر الدارسين والباحثين في ميدان الإجتماعيات وأكبر رجال السينما والمسرح إرتكزت على « التجربة الشعبية « وغالباً ما كان الفكر الطلائعي مرتكزاً على إمتداد للثقافات الشعبية . كقارسيا ماركيز ، زولا ، نجيب محفوظ ، بوانتيز ، باساو .....
لكنا اليوم نعيش مع الأسف إنزلاقات خطيرة سببها خاصة القنوات التلفزية والبرامج الثقافية التي تتدعي أنها تتجه للشعب دون غيره ، وهي في الواقع تروج تجارة شعبوية مبتذلة موجهة إلى مستهلك يتخذها نموذجاً لسلوكيات ثقافية تعزله عن مكونات طبقته ومجتمعه .
ما هي مكونات المجتمع المدني ؟
أولاً المجتمع هو ظاهرة تستعمل في إبراز مختلف مكونات المجتمع ، وليس لها أي صلة بأي سلطة ، والتصنيف الموجود اليوم فيه نوع من التجزئة ، تصنيف غير ثابت لأن مفهوم المجتمع المدني متحرك ومتغير ، مفهوم يحمل محتويات عديدة . فبالنسبة للثورة البولشيفية يمثل أقصى البعد الرجعي ، لأنه لم ينخرط في الثورة البولشيفية ، أما إسبانيا فخلال الحرب الأهلية لم يساند الجمهوريين المجتمع المدني . لذلك لا بد أن يطرح معنى المجتمع المدني في إطاره التاريخي . واليوم من الأفضل أن يكون مجتمع أهلي وفي إعتقادي أن المجتمع المدني هو الفئة التي تعمل على تنمية المجتمع على المستوى الثقافي الإقتصادي البيئي دون التغلغل في مسالك السلطة مهما كان نوعها وهياكلها ، المجتمع المدني ليس بديلاً للسياسة ، هو تجمع لهيئات المجتمع الذي لا يمكن أن يصلح أو يتطور إلا من خلال العمل السليم في إطار التطوع المطلق .
هل للنقابة دور في حماية المجتمع المدني ؟
منذ بدايات تاريخها كان إرتباط النقابة بالجمعيات الأهلية تمثل حركية المجتمع ، لذلك فدورها هو إرتباط متين ومنشود ، و .
كيف يمكن للنقابة المساهمة في تأسيس مجتمع متوازن ؟
لا يوجد مجتمع متوازن دون نقابة ، ومنذ قرون كان لكل المجتمعات مراكز تنظيمية لإثبات هذا التوازن ، من أهم مكونات الدولة الوطنية نقابات تدافع عن إستقلالية الوطن وحمايته من العولمة المشطة ، ومن المفارقات أن النقابات تدافع عادة عن مكاسب البرجوازية الوطنية ، ولولا نداء النقابات للحد من التفويت في القطاعات الإستراتيجية كالصحة والنقل ... وغيرهم مثلما حصل في أميريكا لإنهارت كل القطاعات وتشتت وتوزعت بين العديد من الشركات التي تخضع إلى قاعدة الربح الآني المطلق . كما حصل أيضاً في الأرجنتين فلو كان للنقابات القدرة على التدخل لما دخلت الأرجنتين في تلك الأزمة الإقتصادية والإجتماعية التي أدت على إنهيار المجتمع ، ولما تألبت الحكومة على أهمية موقع النقابات المركزي في المجتمع ، كانت النتيجة في الأرجنتين درامية دفعت حتى اليمينيين إلى إعادة تنظيم النقابات .
هل كان هناك تحول منذ الحركة التصحيحية للنقابة في تونس ؟
لا يوجد تصحيح ينتهي في فترة معينة ، التصحيح هو عمل يومي لا يخضع إلى التيارات الفكرية ، هو عمل بيداغوجي منهجي يتطلب :
أولاً تصور للعمل النقابي من خلال الوضع المجتمعي الداخلي والدولي و الوعي بالقضايا
ثانيا : يتطلب أولويات واضحة تشترك في تصنيفها كافة الهياكل والإطارات النقابية .
ثالثاً : الإعتماد بصفة آلية على التكوين النقابي ولو أخذ في بعض الحالات صبغة إجبارية .
أما من الناحية الداخلية يجب أيضاً أن نتأكد مما يستحق أن يكون موضوع إصلاح ، وما هي الآليات ، وكيف نقيم هذا الإصلاح ، ثم يأتي الإصلاح على مستوى الفكر النقابي داخل منظومة فكرية وسياسية ، أي من خلال المشروع المجتمعي الذي نريده نحن ، حيث لا يقوم أي إصلاح دون إختيار المشروع المجتمعي الذي نصبوا إليه ، لذلك يجب تحديد المشروع المجتمعي الذي لا بد أن تتفق على نوعيته الأغلبية ، هنا يأتي الإصلاح كمحرك العمل النقابي لتحقيق إصلاح شامل
في كتابك « الديمقراطية والتنمية في فكر أحمد التليلي هل حاولت كتابة التاريخ من خلال رؤية جديدة ؟
لمدة عشر سنوات حاولت الإطلاع على وثائق مختلفة في الأرشيف في نيويورك وأمستردام والجزائر والمغرب وتونس وبروكسل وفرنسا ، ترتكز تلك الوثائق أساساً على العلاقات السياسية والنضالية في الحركة الوطنية التونسية ، وعلاقة المناخ الجغراسياسي الذي كان يحيط بتونس والحزب الدستوري والحركة النقابية ،
لأول مرة في كتابة مرحلة من تاريخ تونس إعتمدت على شهود من كل أنحاء العالم ؟
إعتمدت على سلسلة من الأحاديث مع كل من المحجوب بن صديق ، بو ضياف ، آيت أحمد ، جون لا كوتير ، بول بالتا ، اليوسفي ... وغيرهم . فتاريخ تونس لا يمكن أن يفصل عن تاريخ الجزائر أو تاريخ المغرب العربي أو تاريخ المتوسط أو عن الصراع بين القطبين السوفياتي والأمريكي ، وجل المؤرخين لم يتعرضوا بدقة لهذه المواضيع ، أي التأثيرات الخارجية التي كان لها إنعكاسات على السياسة الداخلية لتونس ، لأن تموقع الحزب الدستوري التونسي أو الإتحاد العام للشغل أو القضية اليوسفية ، يعكس التموقع في العلاقات الدولية من ناحية والعلاقات المحلية المغاربية من ناحية أخرى . وتناولت أيضاً تاريخ تونس من الزاوية التونسية البحتة ، وإستشرت من عايش هذه الفترة من تاريخ تونس بإستشارة العديد من الأشخاص والمنظمات السياسية والنقابية ، لأن الرؤية المحلية لتاريخ تونس أدت أحياناً إلى المبالغة أو التهميش .
إلى أي مدى كانت شخصية أحمد التليلي مهمة ضمن تلك المرحلة من تاريخ تونس ؟
حاولت أن أضع شخصية أحمد التليلي ضمن تاريخ تونس ، فعادة يضع المؤرخون تونس في شخصية زعمائها ، وهذا الخطأ وقع فيما يخص بعض الكتابات عن تاريخ « البورقيبية « و « اليوسفية «
تحدث الكتاب عن النشأة والبدايات والمناخ الإجتماعي والسياسي لأحمد التليلي
أحمد التليلي عاش في مناخ متميز ، في منطقة ظهرت فيها « ثورة صناعية « لا مثيل لها في القرن العشرين ، عاش ثورة المناجم التي أدت إلى الإختلاط بين الجنسيات والأفكار السياسية وظهور مناخ جديد من حيث ما يسمى « بالماشينة « أي ماكينة السكك الحديدية ، النقابات ، عمال من ليبيا والجزائر ومالطا .... إلخ . ويعتبر مناخ العشرينات من أهم المرجعيات في تاريخ أحمد التليلي ، وقد شبه جون لا كوتير في هذا الصدد منطقة قفصة في جنوب تونس بمناجم الفحم الحجري بفرنسا حيث عاشت المنطقتان صراعات سياسية ونقابية . كما عايش أحمد التليلي دخول الصحافة الأجنبية على منطقة قفصة والتتلمذ في المدارس الفرانكو عربية ، وربما كان أروع إكتشاف إنبثاق الكهرباء سنة 1906 ، الكهرباء تلك الظاهرة العجيبة الشبيهة بعوالم قارسيا ماركيز الروائية
كانت عائلة أحمد التليلي منذ البدايات منفتحة على العلم والثقافة ؟
نعم ... عاش أحمد التليلي في عائلة متعلمة ، تمدرس أفرادها في المدرسة الفرانكو عربية ، وكان شقيقه علي التليلي من بين مؤسسي الحزب الشيوعي والنقابات الشيوعية ، زار موسكو وتقابل مع ستالين ، ربما كانت للشخصية الرهيبة لهذا الشقيق تأثيراً على أحمد التليلي الذي إنتمى ودافع عن حرية الحزب الشيوعي ، كما شارك أخاه سي الهادي في الحرب العالمية الثانية وبقي مدة طويلة في مونبيليي في فرنسا وعاد حاملاً رصيداً مهماً من المعلومات والثقافة الأوروبية . كل هذا وغيره جعل أحمد التليلي أصغر العائلة ينشأ في محيط متشبع بمراجع مهمة إجتماعية وسياسية .
رغم هذا الزاد من الثقافة الأوروبية لم يذهب أحمد التليلي إلى فرنسا كأصدقائه عندما طرد من البكالوريا ؟
عندما طرد أحمد التليلي من الصادقية لإنتماءاته السياسية الوطنية ، ذهب إلى الجزائر وعاش هناك وتعرف على أبرز الزعماء الجزائريين ، وتتلمذ في حزب الشعب ومجموعة مصالي الحاج وإشتغل في مكتبه ، وقد أثرت هذه الرحلة الجزائرية في حياة أحمد التليلي تأثيراً كبيراً وعمق نضاله الوطني .
أسس أحمد التليلي الإتحاد العام للشغل في منطقة قفصة وكان أول أمين عام للإتحاد العام لشغل في تونس المستقلة؟
إنتمى أحمد التليلي إلى جامعة قفصة للحزب الدستوري سنة 1937 ، وبين 43 و 49 أسس الإتحاد العام للشغل في منطقة قفصة ، وكان أهم حدث في تلك الفترة لقائه مع بورقيبة وذلك حسب شهادة بورقيبة نفسه ، ثم أتى العنصر المهم في حياته السياسية وهو بداية الحركة المسلحة ، وتأسيس اللجنة الوطنية للمقاومة . هنا إنتقل أحمد التليلي من النضال النقابي والسياسي إلى النضال المسلح ، وكان لهذا إنعكاساً في معاملة السلطات الفرنسية أثناء هجرته بفرنسا ، كان مسانداً للحركة الجزائرية وقائداً للمقاومة المسلحة في تونس ، أسباب كافية ليطرد من فرنسا .
تذكر أن حادثة إختطاف الطائرة التي تقل زعماء الحركة الوطنية الجزائرية كانت وراء القطيعة بين بورقيبة وصالح بن يوسف ؟
في سنة 1956 وقعت قضية إختطاف الطائرة التي تقل زعماء الحركة الوطنية ، وتأزمت العلاقات بين الجزائريين والحزب الحر الدستوري ، كانت بداية لحروب داخلية أهلية بين الحركات الوطنية الجزائرية والتونسية والمغربية ، ووجهت التهم لبورقيبة بتعاونه مع فرنسا بصفة غير مباشرة في إختطاف الطائرة خاصة بعد حديث لعبد الناصر جاء فيه : « إن بورقيبة شارك بصفة غير مباشرة في إختطاف الطائرة وفي تهميش مؤتمر قادة الحركات الوطنية المغاربية الذي كان سيقام في تونس « ووصلت الأزمة إلى محاولة بعض العناصر الجزائرية المسلحة في تونس الدخول في مواجهة عسكرية مع الأمن التونسي ، وكان لإتهام عبد الناصر أثر كبير على بورقيبة الذي طلب من صالح بن يوسف أن يكذب هذا الكلام فلم يفعل ، وحسب إعتقادي كان ذلك سبب بداية القطيعة بين الرجلين ، إذ سلط الشك على الحزب الحر الدستوري بتعاونه ولو بصفة غير مباشرة مع فرنسا .
هل كان لأحمد التليلي دوراً في تهدئة الأوضاع ؟
أثرت هذه الأزمة السياسية الخطيرة في العلاقات التونسية الجزائرية والتونسية المصرية ، والمغربية الجزائرية ، كذلك علاقات تونس مع فرنسا ومع الولايات المتحدة ايضاً . كان هناك اربعون الف مسلحاً جزائرياً في تونس ، كما كان الجيش الفرنسي موجوداً على الحدود الجزائرية التونسية ، أما على الحدود الجنوبية فكانت الوضعية متأزمة من خلال الإضرابات المكثفة في قطاع المناجم ، إضافة للجوء الجزائريين إلى منطقة قفصة بصفة متواصلة وكان اللقاء الثاني بين بورقيبة وأحمد التليلي في هذه الوضعية المتأزمية، فقد كان أحمد التليلي قريباً من الجزائريين ويملك رصيداً كبيراً من الثقة ، وله صداقات متميزة خاصة مع بوضياف ، وإنخرط في القضية الجزائرية كممثل للحركة الوطنية التونسية والحزب الحر الدستوري ، وفيما بعد ممثلاً للحكومة التونسية في كل ما يتعلق بالجزائر . لذلك نجح وإلى حد بعيد في تهدئة الأوضاع وإعادة ربط الصلة بن الحركة الوطنية الجزائرية والحركة الوطنية التونسية والمغاربية مواصلاً المشاركة في قيادة الحركة الوطنية الجزائرية مشرفاً على التسليح وجمع الأموال .
لم بتقبل أحمد التليلي الصراع الداخلي الذي قام في النقابة وفي الحزب الحر الدستوري ؟
كان أحمد التليلي عضواً في الديوان السياسي ونائباً لرئيس المجلس التأسيسي ثم مشرفاً على القضية الجزائرية وهي قضية مصيرية ، وفي مراسلاته مع محمد إقبال ومحاضراته فيما بعد لم يكن متقبلاً للصراع الداخلي سواء في النقابة أو في الحزب لإعتقاده أن مثل هذه الخلافات يمكن أن تؤدي إلى نهاية الحركة الوطنية و صراعات أهلية لا تخدم الوطن ولا تخدم المغرب العربي ولا التيارات الفكرية والسياسية المتنازعة .
* هل هناك إختلاف نظريات بين بورقيبة وأحمد التليلي ؟
حتمية الوحدة الوطنية في بداية الإستقلال كانت مبدأ أساسياً لمواصلة المسيرة مع بورقيبة ، لكن الإختلاف بين الرجلين كان فيما يخص قضية تأسيس للبعد المغاربي ، فقد كان لإتحاد الشغل رؤية أكثر جرأة من الحزب الحر الدستوري ، لذلك فقد عرفت النخبة الوطنية آنذاك إختلافاً حول بناء الدولة الوطنية ، منها أن أحمد التليلي كان يرى أن القضية الجزائرية في مسارها ستؤثر على الوضع الداخلي في تونس ، وبالتالي من الأفضل أن يكون التنسيق محكماً مع الجزائر ، ويعتقد أنه لا إستقلال لتونس بدون إستقلال الجزائر ، الإختلاف الثاني بدأ حول ماهية الأدوار التي يمكن أن يضطلع بها الحزب من ناحية والإتحاد من ناحية أخرى ، كذلك تأسيس الشعب المهنية وأيضاً قضية التموقع السياسي فقد كان أحمد التليلي من مؤسسي النقابات الإفريقية وناضل وساهم في العمل التحريري في إفريقيا من خلال تجمعات الشعوب في إفريقيا ، وتجمعات المنظمات الإفريقية في تونس ، زيادة على مكانته القيادية في دولة الإستقلال ونفوذه السياسي في مؤسسات الدولة وعلاقاته الوطيدة داخل تونس وخارجها كان أحمد التليلي يرفض فكرة الحزب الواحد ؟
نعم ، وقد صرح بذلك في مؤتمر الشعوب الإفريقية سنة 60 ، كما تعرض لمنع الحزب الشيوعي الجزائري قائلاً :
« بالرغم من معارضتنا للشيوعية فإننا لا نجيز إطلاقاً حل الأحزاب الشيوعية ، فمن مباديء الحرية حرية التعبير تمتع بها الشيوعيون في بلادنا ، لذلك لا نريد حرمان الآخرين من الحرية التي نريدها لأنفسنا ، لأن الحرية تمثل الديمقراطية الحقيقية « .
كيف كان رد فعل الحزب الشيوعي ؟
رغم أن تصريح أحمد التليلي صدر في الصحافة التونسية إلا أن الشيوعيين آنذاك لم يستوعبوا أبعاد هذا الموقف ، كانوا يعتقدون أن كل من يتحدث عن الديمقراطية ينتمي إلى الغرب ، وكأن الديمقراطية حكراً على الولايات المتحدة ، تساءلوا بتهكم عن عجلة أحمد التليلي بخصوص حديثه عن الديمقراطية مشككين أن هذا إمتداداً للحرب الباردة ، وحسب شهادة الحبيب عاشور وجورج عدة فإن أحمد التليلي كان الوحيد الذي نبه أن أخطر شيء ضد الحرية منع الأحزاب ممارسة نشاطها خاصة الحزب الشيوعي . ورغم دفاعه عن الحزب الشيوعي فقد كان ضد الإشتراكية التي تؤدي إلى إحتكار كل السلطة من طرف حزب واحد ، وهذا نموذج تنموي كان رائجاً لدى الشيوعية لإعتقادهم أنه لا بد من حزب قوي ودولة قوية ، وأن التنمية لا تمر عن طريق الديمقراطية . وكان رفضه لفكرة الحزب الواحد سبباً آخر لخلاف بينه وبين بورقيبة .
كيف وصلت الأزمة إلى أوجها بين بورقيبة من جهة وبين الإتحاد ومن جهة ثانية وأحمد التليلي من جهة ثالثة ؟
درست وثائق عدة وتحدثت مع العديد من شهود عصرهم وإنتهيت إلى الإستنتاج أن بورقيبة لم يكن يؤمن بالإشتراكية كانت القضية محاولة لربح الوقت للوصول إلى سياسة قررها وللحد من عزلته ، زيادة إلى تأثير العالم الثالث التي تبنت نظرية الإشتراكية ، ولم يكن بورقيبة متخوفاً من الإتحاد العام التونسي للشغل بإشتراكيته أو ببرنامجه الإقتصادي ، وإنما كان متخوفاً من الوعد الذي كان طرحه بتأسيس حزب عمالي للإتحاد العام التونسي للشغل . ولما طرح النقابيون هذه القضية مجدداً شعر أن الأمر سيكون خطراً على مشروعه السياسي . وفهم ذلك الخطر بعد مؤامرة 62 عندما أعيدت المطالبة بإنشاء الحزب العمالي وكانت القطيعة نهائية سنة 63 ، حيث وقع تقارب بين الحبيب عاشور وأحمد بن صالح بسبب الحرج والتخوف من زعماء الجنوب كأحمد التليلي في كل الأوساط الحزبية على أنهم ربما كانوا على علم بالمؤامرة . وإتخذوا ذلك سبباً لتعذيب أحمد التليلي المعنوي والمادي والنفسي ، وقيام إنقلاب جهوي في السلطة ضده وإدخال الحبيب عاشور لقلب الموازين نحو الصفاقسية .
ما هي العوامل التي دفعت بأحمد التليلي أن يقبل الآمانة العامة للإتحاد العام التونسي للشغل إثر الإنقلاب ضد أمينه العام أحمد بن صالح خلال زيارته للمغرب الأقصى ؟
منذ سنة 1956 حسب الوثائق لم يكن أحد قادراً على تحمل إنشقاق داخل الحزب وداخل إتحاد الشغل ، القضية المصيرية كانت كيف يمكن الخروج من الإنشقاقات الداخلية وتوحيد الشعب التونسي . وكان أحمد التليلي في الديوان السياسي وأمين مال الحزب أي الشخصية الثالثة في الدولة ومن المنطقي أن يطلب منه بورقيبة مساندة الحبيب عاشور .
هل طرحت الوزارة على أحمد التليلي ؟
طرح عليه منصب وزاري في حكومة الإستقلال لكنه كان مسكوناً بالهاجس النقابي فلم يقبل المنصب
لماذا لم يقدم أحمد التليلي إستقالته ؟
الإستقالة ؟ من أين ؟ من الحزب أم من الإتحاد ؟ كان عيبه الأساسي إيمانه بأن الحركة الوطنية مهما كان وضعها الداخلي ستفضي في النهاية إلى حركة ديمقراطية ، لكنه أخطأ في تحليله السياسي ، وككل القياديين كان متشبعاً بمفهوم التنظيم الحزبي المركزي ، وهو يشترك في هذه المواقف والمباديء مع جل المناضلين من جيله .
لكنه كان من القلائل الذي لم يتول منصباً وزارياً ؟
حسب شهادة السيد محمد عز الدين أنه سنة 1954 عندما وقع إنشقاقاً بين الإتحاد العام التونسي للشغل والإتحاد العام للشغل ، كان هناك خلافاً داخلياً أشار إليه أحمد التليلي في رسالة إلى بورقيبة ورسالة موجهة إلى إقبال ، وكان من الممكن أن يبقى هذا الخلاف داخلياً دون تدخل من الحزب بما أن الجميع كانوا مخلصين للحزب الدستوري ، لكن بعد الإستقلال لم يعد للحزب نفس الدور ، فقد وقع تنصيب وزراء من بين التونسيين ، وكان للإتحاد نصيبه الأوفر في الوزارة ، فمن بين النقابيين كان عز الدين العباسي ، محمود الخياري ، عبد الله فرحات ومصطفى الفيلالي ، وقد إعتمد الحزب على النقابيين لأنهم كانوا أكثر دراية بالمشاكل الكبرى للبلاد ، وقد نجحوا في المهام التي شغلوها ، و في عام 1957 ، كان للجامعة القومية للبريد فرع في الإتحاد العام وآخر في الإتحاد التونسي ، وكان موقف أحمد التليلي مع توحيد الإتحاد وإتفق مع الحبيب عاشور للقيام بالتوحيد وهذا ماتم إنطلاقاً من القواعد عبر الإنتخابات ، كان هناك أربع نقابات في الجامعة : نقابة العملة ، نقابة الفنيين ، نقابة التوزيع ، نقابة المصالح العامة ، وهنا أيضاً كان موقف أحمد التليلي واضحاً ومفاده أن ما تفرزه الإنتخابات هو الذي يتعامل به ، وقد طلب نفس الشيء في المؤتمر الموالي ، لكن الأمور لم تكن دائماً حسب ما يراها ، كانت الفترة مابين 1962 حتى 1965 الفترة الأصعب لأحمد التليلي فمجرد أن تنحى عن الكتابة العامة لم يعد يتصرف معه الإتحاد كما يجب ، تناسى البعض ماضيه قبل الإستقلال وبعده ، لقد دافع عن بلاده وضحى بعائلته وأبنائه ، وفي تلك الظروف الصعبة جاء المؤتمر العام للمتوظفين ولم يكن على إتفاق مع الحبيب عاشور ، كان يسير الإتحاد آنذاك السيد محمود بن عز الدين وصالح القلعاوي ومحمد بن عبد القادر ، وقد ترشح آنذاك بوبكر عزيز وإبراهيم الشاوش وأحمد التليلي ، وكان يرأس الإجتماع الحبيب عاشور ، وقد إنسحب البعض من الترشح بسبب مواقف البعض الآخر ومن بين المنسحبين كان أحمد التليلي
ما سبب الخلاف بين أحمد التليلي والحبيب عاشور ؟
حسب الشهادات فإن الخلاف كان سببه بورقيبة الذي دعا الحبيب عاشور لتأسيس الإتحاد العام للشغل بهدف شق الإتحاد الذي كان مهيكلاً ، لم يكن الإنشقاق طبيعياً بل كان سياسوياً ، فإن إستطاع الحزب مقاومة الإستعمار لم يكن بإمكانه تسير البلاد دون الإعتماد على الإتحاد فمن كان بإمكانه القيام بالإضرابات غير الإتحاد عبر العمال والطلبة ، والبلدان التي لا تخدمها عمالها وطلبتها لا يمكن أن تتقدم ، لقد كان الإستقلال شيئاً مجهولاً يحلم به الجميع ويتغنوا به :
إن لم يجمعنا الإستقلال ففي الفردوس تلاقينا
لكن الإستقلال أتى ولم يكن فردوساً للحالمين ، وخاصة أحمد التليلي ورفاقه المخلصين ، في نوفمبر 1962 كان الحبيب عاشور يهيء نفسه لتعويض أحمد التليلي ، وبدأ أحمد يشعر بالضيق ويصرح بأسباب الخيبة فإشتد الغضب ضده ، وقد وضح ذلك في المؤتمر الجهوي للتعليم بقفصة ، وتعلق الإتحاد العام التونسي للشغل والدستوريين النقابيين بالحرية وبالديمقراطية ، ثم أتت مؤامرة 62 وبدأ الخلاف يبرز بين الحبيب عاشور وأحمد التليلي ، وأخذت مجموعة الحبيب عاشور تتقرب من رفاق أحمد بن صالح الذين كانوا يعتبرون أحمد التليلي سبباً في إقصاء أحمد بن صالح عن أمانة الإتحاد ، وحدث تحالف جديد ضد التليليين ، وفي 2 جانفي وبمناسبة إحياء ذكرى تأسيس الإتحاد شدد أحمد التليلي في لهجته المحتجة ، ثم جاء مؤتمر 1963 وسلطت على أحمد التليلي قسوة رهيبة ، كان مريضاً وحوله أقلية ، نقابة البريد ونقابة التعليم فقط ،
هل فقد أحمد التليلي دوره الريادي في الحركة الوطني ؟
يمكن أن نطرح أسباب عدة لإبتعاد أحمد التليلي عن دور الريادة في الحركة الوطنية في تونس ، منها إزاحة أصدقائه من الزعماء المدنيين في الجزائر في تلك الفترة التاريخية بعد إنتصار الجيش خاصة أنه كان دوماً يندد بالمواقف العسكرية وبالنظام المؤهل للحزب الواحد ، وكان وبوضياف وآيت أحمد وبن بركة من أنصار ديمقراطية المغرب العربي ، وإلى جانب الإنقلاب العسكري في الجزائر ، قرر الملك الحسن الثاني سنة 1965 أنه من أجل التنمية في المغرب لا بد من قيادة قوية ومركزية ، فوقع حل البرلمان في المغرب مع تطبيق الفصل 35 من الدستور حول الحالة الإستثنائية وأصبح بذلك المصدر الوحيد للسلطة ، وفي عام 1964 أصبح الحزب الحر الدستوري الحزب الإشتراكي الدستوري والحزب الحاكم المهيمن . تشابه النتائج في المنطقة غيرت الهياكل السياسية بأكملها وتغير جيل كامل حيث تم الإنتقال من جيل الإستقلال إلى جيل التنمية الذي أفرز ظاهرة الحزب الواحد والقيادة السياسية الواحدة والفكر الواحد رغم ما يحمله من إيجابيات ،
ان أحمد التليلي من بين المترشحين لرئاسة السيزل ؟
كان أحمد التليلي في مؤتمر أمستردام عازماً على الترشح للرئاسة نظراً لموقعه في السيزل ، وكان يتوقع أن الخلافات بين النقابات الأوربية والأمريكية ستساعده على النجاح ، لكن رغم مساندة الدول الإفريقية والنقابات الإسكندنافية لم تسانده الحكومة التونسية ، ورفض الغرب إمكانية ترأس المنظمة العالمية زعيماً من العالم الثالث غير موال للغرب ، وتأخر أصدقائه من أميركان وفرنسيين وبلجيكيين من مساندته ، ثم توالت الضغوطات من طرف تونس والمغرب والجزائر ومصر وليبيا لمنع ترشح أحمد التليلي لذلك لم يتم إنتخابه .
إذن القضية تتجاوز شخص أحمد التليلي ؟
القضية تندرج ضمن إطار عام مغاربي سياسي ، إطار يرتكز على موقع سياسي مهم يربط الغرب والشرق ودعوة للحرية ، فعلى سبيل المثال لم يساند الإتحاد العام للشغل بورقيبة ضد بن يوسف ، إنتمائه إلى السيزل أخذ يموقع القيم النقابية الغربية ولم يترقب الصراع بين الرجلين ليساند أحدهما ضد الآخر ، كانت كل إطارات الإتحاد تعلم أن القضية قضية صراع بين الإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة من خلال عبد الناصر وبورقيبة ، وخرافة الشعوب كانت تحويل هذا الصراع إلى نظرية القومية العربية ، لم يتدخل الإتحاد العام للشغل في هذا الصراع لأنه حاول منذ ذلك الوقت تركيز العمل النقابي على أسس شبيهة بتلك التي تقوم عليها النقابات الإسكندنافية .
لماذا فشلت المحاولات لبناء مشروع تجمع ديمقراطي لبلدان المغرب العربي ؟
التيار التنموي أدى إلى تشتيت الحركات الوطنية والأحزاب السياسية وتشتيت المجتمع المدني ، فإنغلقت الدائرة وربما كان إنتهاء هذا التيار في كل المنطقة بداية نهاية نوعية إختيارات أحمد التليلي وبداية الصراعات والإقصاء والهجرة ، وكان ذلك شبيه بما أصاب بوضياف وآيت أحمد وكريم بلقاسم إضافة إلى إغتيال بن بركة ، هذه المجموعة التي تم ترحيلها من المغرب العربي نحو فرنسا قامت بأهم المحاولات لبناء مشروع تجمع ديمقراطي لبلدان المغرب العربي ، لكن بعد إغتيال بن بركة وقعت الحكومة الفرنسية في إحراج وطلب الجنرال ديغول ترحيل هذه المجموعة عن فرنسا خشية تصفيات شبيهة بمصير بن بركة .
مازال السؤال قائماً حول موت أحمد التليلي ؟
بالنسبة لهذا السؤال هناك وثيقة يقول فيها أحمد التليلي : « أعرف من جهة أخرى أنهم في الوقت الذين يحاولون فيه التفاوض معي ، يحاولن أضاً تصفيي تصفية جسدية ، لقد حاولوا ذلك عدة مرات ، كانت المحاولة الأولى بدس السم لي ثم أعقبتها مطاردة البوليس الفرنسي لأحمد التليلي في باريس وهي مؤامرة مدبرة ، وأريد أن ألاحظ في النهاية أن أحمد التليلي وأحمد بن صالح تفطنا إلى أن الوضع لن يدوم ، فوقع الإتفاق في الأسبوع الثاني من ماي 67 على عودة أحمد التليلي إلا أن أحداث جوان أدت إلى خروج مظاهرات هامة في تونس ، فتراجع النظام في كل ما إتفق عليه مع أحمد التليلي حول توسيع الحريات والديمقراطية وعودة العمل النقابي إلى ما كان عليه ،وقد أتى الحبيب عاشور بالإتفاق من مستشفى سان أنطوان حيث كان أحمد التليلي ، إلا أن الجيش التونسي خرج لأول مرة ضد المتظاهرين وتغير النظام .حتى في الموقف من الإشتراكية ، بداية من هذه الأزمة الشعبية حصل تغير مهم في الوضع في تونس ، حيث تراجع بورقيبة عما سبق أن وافق عليه ،


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.