المجلس المحلي بسيدي علي بن عون يطالب السلطات بحل نهائي لإشكالية انقطاع التيار الكهربائي    ب 28 مليون مستخدم.. "ثريدز" يتفوق على "إكس" في هذا البلد    عاجل/ نحو إقرار تجريم كراء المنازل للأجانب..    استشهاد شابين فلسطينيين وإصابة اثنين آخرين بنيران الاحتلال الصهيوني غربي "جنين"..#خبر_عاجل    عاجل تلاميذ منطقة الحاج قاسم 2يستغيثون للمرة الثانية في نفس الأسبوع..الحافلة معطلة    عاجل/ الحوثيون يطلقون صواريخ على سفينتين في البحر الأحمر..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    طقس السبت: ضباب محلي ودواوير رملية بهذه المناطق    كيف نتعامل مع الضغوطات النفسية التي تظهر في فترة الامتحانات؟    فاتورة استيراد الطاقة لا تطاق .. هل تعود تونس إلى مشروعها النووي؟    مذكّرات سياسي في «الشروق» (5) وزير الخارجية الأسبق الحبيب بن يحيى... يتكلّم الصادقية حاضنة المعرفة والعمل الوطني...!    "حماس" تعلن تسلمها رد الاحتلال حول مقترحاتها لصفقة تبادل الأسرى ووقف النار بغزة    مع الشروق .. «طوفان الأقصى» أسقط كل الأقنعة.. كشف كل العورات    الرابطة الثانية (ج 7 إيابا) قمة مثيرة بين «الجليزة» و«الستيدة»    مانشستر سيتي الانقليزي يهنّئ الترجي والأهلي    ترشح إلى «فينال» رابطة الأبطال وضَمن المونديال ...مبروك للترجي .. مبروك لتونس    أخبار المال والأعمال    تقديرات بانحسار عجز الميزانية الى 6.6 ٪ من الناتج المحلي    فضاءات أغلقت أبوابها وأخرى هجرها روادها .. من يعيد الحياة الى المكتبات العمومية؟    تنديد بمحتوى ''سين وجيم الجنسانية''    رئيس الجمهورية قيس سعيّد.. المفسدون... إمّا يعيدون الأموال أو يحاسبهم القضاء    ابتكرتها د. إيمان التركي المهري .. تقنية تونسية جديدة لعلاج الذقن المزدوجة    الكاف..جرحى في حادث مرور..    ماذا في لقاء وزير الخارجية بنظيره الكاميروني؟    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    طقس الليلة    تسجيل مقدّمة ابن خلدون على لائحة 'ذاكرة العالم' لدى اليونسكو: آخر الاستعدادات    توزر: المخيم الوطني التدريبي للشباب المبادر في مجال الاقتصاد الأخضر مناسبة لمزيد التثقيف حول أهمية المجال في سوق الشغل    مدير عام وكالة النهوض بالبحث العلمي: الزراعات المائية حلّ لمجابهة التغيرات المناخية    أكثر من 20 ألف طالب تونسي يتابعون دراساتهم في الخارج    وزارة التجارة تتخذ اجراءات في قطاع الأعلاف منها التخفيض في أسعار فيتورة الصوجا المنتجة محليا    الرابطة 1 ( تفادي النزول - الجولة الثامنة): مواجهات صعبة للنادي البنزرتي واتحاد تطاوين    بطولة الرابطة 1 (مرحلة التتويج): حكام الجولة الخامسة    الجزائر تسجل حضورها ب 25 دار نشر وأكثر من 600 عنوان في معرض تونس الدولي للكتاب    المؤرخ الهادي التيمومي في ندوة بمعرض تونس الدولي للكتاب : هناك من يعطي دروسا في التاريخ وهو لم يدرسه مطلقا    كتيّب يروّج للمثلية الجنسية بمعرض تونس للكتاب؟    البطولة الافريقية للجيدو - ميدالية فضية لعلاء الدين شلبي في وزن -73 كلغ    نابل: الاحتفاظ بشخص محكوم بالسجن من أجل "الانتماء إلى تنظيم إرهابي" (الحرس الوطني)    التوتر يشتد في الجامعات الأمريكية مع توسع حركة الطلاب المؤيدين للفلسطينيين    افتتاح المداولات 31 لطب الأسنان تحت شعار طب الأسنان المتقدم من البحث إلى التطبيق    تضم فتيات قاصرات: تفكيك شبكة دعارة تنشط بتونس الكبرى    عاجل/ إصابة وزير الاحتلال بن غفير بجروح بعد انقلاب سيارته    تراجع إنتاج التبغ بنسبة 90 بالمائة    هام/ ترسيم هؤولاء الأعوان الوقتيين بهذه الولايات..    تقلص العجز التجاري الشهري    الشابّة: يُفارق الحياة وهو يحفر قبرا    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    التشكيلة المنتظرة للترجي في مواجهة صن داونز    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    هرقلة: الحرس البحري يقدم النجدة والمساعدة لمركب صيد بحري على متنه 11 شخصا    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إنّ هدف النصوص البيانية التي أصدرتها الرومانسية الفرنسيّة هو هدم استعلاء الذوق الأرستقراطي
في معنى الخطاب البياني: عماد حفيظ
نشر في الشعب يوم 22 - 05 - 2010

تتصل النصوص البيانية بحقول معرفية كثيرة بما في ذلك حقل الأدب، غير أن التصور المكرس في الممارسة الاجتماعية هو اتصالها بالسياسي فقط، وهو تصور يقصرها على صيغة واحدة من صيغها، هي تلك المعروفة «بالبيانات» Les manifestes ويخلط بينها و بين «الإعلام» و «الدعوة» وغيرها من الأنواع التي قد تتقاطع معها.
فما هي أبرز سمات النصوص البيانية ؟
وما هي الشروط الموضوعية لظهور الخطاب البياني ؟
إنّ هذه الأسئلة هي التي ستحاول هذه الورقة إثارتها دون أن تدعي القدرة على الإجابة.
- إشكال الحد
« يتّحدد البيان بتعارضه مع «النداء» و»الإعلان» و»العريضة» و»المقدمة». فالنداء يدعو إلى الفعل دون اقتراح برنامج. والإعلان يؤكد مواقف دون أن يطلب من المخاطبين الالتزام بها والعريضة مطلب محدّد موقع من جميع المعنيين. أما المقدّمة فتصحب النصّ الذي تقدمه فتشرحه وتبرّره.»1 وفي ضوء تعارض البيان مع هذه الأصناف النصية المجاورة له، تتضح بعض خصائصه، وأهمها:
علاقته الإلزامية بمرسله.
اقتراحه لبرنامج.
- نزوعه إلى توجيه القراءة بهدف تأمين تمثل جيد وموقف مساند للمشروع الذي يقترحه (عبر الدعوة والتحريض).
والجامع بين هذه الخصائص، هو طبيعة البيان القصديّة الواضحة و المطابقة لمقاصد المرسل، والسمة النفعية التي تنتظم في صيغة برنامج معلن يطمح إلى التحقق في الواقع. و هذا يعني ان البيان مفترق خطابات :
خطاب رغبة: وهي الرغبة في إنجاز البرنامج المقترح وإخراجه من حيز الاحتمال إلى الواقع.
خطاب معرفة: بما أن البيان سعي إلى نشر معرفة جديدة. وهذا يتضمن بالضرورة الاعتراف بالمعرفة القديمة، المستقرة، والدعوة إلى التغاير معها والاختلاف عنها.
خطاب السلطة، إذ تشرّع المعرفة الجديدة، التي يمتلكها البيان أو يدعيها ،لاعتراضه على القائم ودعوته إلى ما يجب أن يكون، فتمنحه، بذلك السلطة التي يقتضيها إعلان الانشقاق عن المكرس والقطع معه.
وعلاقة البيان بالأقانيم الثلاثة: المعرفة والسلطة والرغبة، هي التي تشده، بالضرورة، إلى مجال مخصوص، وإلى سياقات أيديولوجية وتاريخية محددة.
وهذا يعني أن البيان لا يظهر في، أغلب الأحيان، إلا في سياقات تاريخية موسومة بالبحث عن الإبدالات السياسية أو الاجتماعية أو الفنية أو الجمالية.
فلحظة حضور البيان هي لحظة تأزم في مجاله الخاص، لحظة طفرة كمية، تتوج بتحول نوعي بالضرورة.
إن البيان إذ يعلن برنامجه، يعلن في نفس الوقت معرفته واعترافه بالمعايير القديمة المكرّسة في مجال ما. أعني المعايير التي يحصل بمقتضاها الإلحاق بالمتراكم في ذلك المجال ( معايير الكتابة الشعرية في حالة بيان يتعلق بالشعر مثلا) والتي تكونت وتكرّست في ضوء عملية المراكمة ذاتها (مراكمة إنتاج النصوص الشعرية ومراكمة قراءتها) وتحولت إلى سلطة، لا يتقرّر الإذعان لها أو التمرّد عليها ذاتيّا ( لا يقرّره أيّ شاعر وفي أي لحظة ) وإنما في إطار ظروف المجال الخاصة والعامة. وتعني ظروف المجال الخاصة مدى المراكمة الذي بلغه ذلك المجال، وتحدده التناقضات بين كم العناصر التي تلحق بالمؤسسة وتدمج في نظامها . وهي عناصر تتوفَر على المعايير المكرسة أو تلتزم بها، وكم عناصر الهامش وهي عناصر غير قابلة للإدماج في المؤسسة. أما ظروف المجال العامة، فتعني علاقاته ببقية المجالات وتحديدا بدوائر السلطة فيها، والتي قد تكون من طبيعة مغايرة (كأن تعمل السلطة السياسية على تعطيل مشروع أدبي لأسباب غير أدبية وغير جمالية). فهذه الظروف، إما أن تكون ملائمة، تدفع باتجاه تأزم المجال وتقوي من احتمال حدوث التصدع، فيظهر البيان ويكتسب، لحظتها، سلطة تتوسع شيئا فشيئا فيترجم البيان إلى لغات عديدة أو يصدر في طبعات الجيب* أو ينتقل إلى فضاءات أخرى تقوي من احتمال تداوليته ( شبكة الانترنيت )**.
وإما أن لا تكون ملائمة، فلا يظهر البيان أصلا أو يظهر دون أن يكتسب سلطة، فيختفي دون أن ينجز مهمته أو يعدَّل أو يتنكر له مرسله، وقد يعطَّل في انتظار الظروف الملائمة ليبدأ في الاشتغال.
وعليه، يمكن القول أن البيان لا يرتبط بسيكولوجية مرسله، بقدر ارتباطه بمجاله الخاص والإطار الثقافي والاجتماعي الذي ينتمي إليه ذلك المجال. فهو كما يشير إلى ذلك أبستادو : « الفضاء الملائم الذي تقرأ فيه برغماتية مجتمع ما»2.
والعلاقة الجدلية التي تربط البيان بمجاله الخاص والحقل الذي يندرج ضمنه، تيسّر رصد تحوّلات هذا المجال، وتعرّي الأسس الحقيقية التي يدور حولها الجدل ويقوم بسببها الصراع.
فالبيان، حلبة للأيديولوجيات المتناقضة، والعلاقات السجالية التي تعكس الصراع بين المركز والمحيط، بين الهامش والمؤسسة، بين المتحول الذي ينزع إلى الثبات والثابت الذي آن له أن يتحوّل، بين من يطمح إلى السلطة ومن يمتلكها و يمارس الإقصاء والإدماج ليحافظ عليها.
يولد البيان،إذن، في دوائر الهامش الذي تفرزه، بالضرورة، كل مؤسسة أثناء ممارستها لسلطتها، فالهامش، هنا، هو حصيلة عمليات الإقصاء المتراكمة. ولذلك يتسم بالمرونة والانفتاح مقارنة بصرامة المؤسسة وانغلاقها.
وهذا يعني أن الهامش هو الرحم المناسب، الذي يتشكّل فيه المشروع البياني، ويستمدّ منه شرعيّة حضوره، وهي شرعية تدعمها طوباوية ذلك المشروع، فالبيان لا يبشر بإعادة بناء مجاله وفق نظام أكثر مرونة وانفتاحا وعلى أنقاض سلطة المؤسسة في ذلك المجال وحسب، بل يعد، غالبا، وإن ضمنيا، بتقويض كل سلطة. لكنّ المشروع البياني ولكي لا يبدو مجرّد تمجيد للفوضى، أو ممارسة مجانية، عابثة، ولكي لا تعتبر دعوته إلى الانشقاق عن المؤسسة عملا تخريبيا و حسب، فإنّه يضطرّ إلى التنازل عن مرونة الهامش وانفتاحه لمّا يشرع في التنظير للبديل الذي يقترحه. وهكذا تبدأ عمليّة تحويل الهامش إلى مؤسسة...
إن ما تقدم يثبت أن البيان نظام ثنائي الحلقات، تنعقد حلقته الأولى، وهي حلقة الهدم، حول تقويض المكرس والمستقر في نسق ما المكرس الذي يعطل حركة التقدم المطردة في ذلك النسق لأنه امتلك سلطة تخول له إقصاء العناصر الجديدة، أو تمنحه حصانة خاصة تبقيه بعيدا عن كل مساءلة سواء كان ذلك المكرس نظاما أو قوانين أو معايير أو رؤى. وتنعقد الحلقة الثانية، وهي حلقة البناء، حول تأسيس بديل يلائم الشروط الجديدة التي فرضتها تطورات النسق. وإن سمات البيان الخطابية، التي تتحقق في مستوى الملفوظ، هي ترجمة لوظائف حلقاته، أو سماته الوظيفية المذكورة. فسعي البيان إلى هدم أسس البرامج السابقة عليه، والمكرسة يترجم إلى خطاب سجالي، وملفوظات عنيفة، ويترجم عرض البرنامج أو الدفاع عنه، إلى نبرة تعليمية وملفوظات استمالة وترغيب، و ربما نزوع إلى التغريب والإدهاش والإثارة (تنويع الوسائط أو الأنساق الدلالية، استعمال أنماط كتابة متعددة أو المراوحة بين الكتابة والتصوير...).
الرومانسية ونصوصها البيانية ( الرومانسية الفرنسية نموذجا):
كانت فاتحة القرن التاسع عشر، التي شغلت عقوده الثلاثة الأولى، مشهد صراع عنيف بين الجمالية الكلاسيكية والجمالية الرومانسية. أس الأولى المبادئ والأساليب الإغريقية والرومانية، و القواعد النقدية التي وضعها أرسطو، وما إنضاف إليها بمحاولات إحيائها إبان عصر النهضة*. وأسُّ الثانية «النقد الموجه نحو غزو المؤسسات الضابطة للمجتمع وعلائقه وإنتاجه واعتقاده»3***
ولكي يفهم خروج الرومانسيين عن القواعد الأدبية والجمالية للذوق الكلاسيكي أو المؤسسة الكلاسيكية فهما مناسبا، و لكي لا يعتبر مجرد عمل شكلي، فارغ من المعنى، ولكي لا يفسّر بمحدودية الموهبة أو عدم القدرة على إنتاج أعمال ملتزمة بالمعايير الكلاسيكية، «الكاملة والمطلقة»، كان لابد من نصوص موازية للعمل الإبداعي، وظيفتها توضيح معالم المشروع الرومانسي والتأكيد على جدته وفرادته وعمقه التأسيسي، من ناحية، وإبراز تهافت أطروحات الكلاسيكيين، وعدم ملاءمتها « لروح العصر»، من ناحية ثانية.
بهذا تحقق طابع النصوص البيانية السجالي والتعليمي في نفس الوقت. و بهذا يفسّر توقها إلى التداول وطبيعتها النفعية وعلاقتها الإلزامية بمرسليها.
وتعتبر المقدمات التي وضعها «فكتور هيجو»((V. Hugo الشاعر والناثر والمؤلف المسرحي، وبعض أعماله، أهم سلسلة نصوص بيانية حول الرومانسية الفرنسية.
مقدمات» هيجو»
أرفق هيجو أشعاره الموسومة ب «الغنائيات» في الطبعة الاصلية (Odes)أو «غنائيات وموشحات»(Odes et ballades) في الطبعات الموالية بمقدمات مختلفة، كانت تعتبر خطوات متتالية في التنظير للرومانسية: فلقد أكدت مقدمة طبعة1822 ضرورة التوافق بين عمق الكائن الفرد، والقفزة الفجائيةsoubresaut)) النوعية، التي يقوم بها المجتمع. أما مقدمة سنة1824 فقد خصصها للدفاع عن حقوق الخطاب الشعري اللامحدودة والتي لا يمحوها الزمن، إذ لا وجود حسب هيجو لمناطق ممنوعة أو مواضيع محرمة على الشعر. وطرحت مقدمة 1826 إشكالية وظيفة الشاعر في ضوء التناقض الحاد بين «الشعر النضالي «الملتزم بقضايا اجتماعية أو سياسية معينة، و»الشعر الخالص».
أما مقدمة «كرومويل» ( Cromwelle)1827 فقد حظيت باهتمام لم يحظ به العمل ذاته، إذ حولته إلى مجرد ذريعة يستند إليها حضور نص المقدمة. وقد ربطت مقدمة كرومويل بين الفن والتاريخ. وأكدت إمكانية تقهقر البشاعة والصلف الظاهرين اللذين ميزا الأزمنة الحديثة. ودعت إلى إقحام الطبيعة كلها في الفن. و إلى تجديد الأجناس الأدبية: التراجيديا والكوميديا خاصة. و ألحت على ضرورة توافق أو تصالح الشعر والحقيقة.
كما مثل العمل المسرحي الموسوم ب»هرناني (Hernani) 1830، ومنذ عرضه الأول، بيانا يزدري الذوق والجمهور الكلاسيكيين. و تتالت بعده النصوص البيانية في صيغة، مقدمات مثل: مقدمة أوراق الخريف،) feuilles d automne)1831، ومقدمة الأصوات الداخلية (les voixintérieures)ومقدمة الأشعة والظلال (les rayons et les ombres) 1840 وغيرها.

ورغم الأهمية الخاصة التي ميزت مساهمة « فكتور هيجو» في صياغة مشروع الرومانسية الفرنسية
فانه لم ينفرد بهذا العمل، فقد كان إلى جانبه كل من «ألفريد دي موسيي»(de Musset و»ألفونس دي فيني» (de Vigny) وغيرهما. وإن كانت مساهمتهما بدرجة أقل4.
2 -1- 3 إن هدف النصوص البيانية التي أصدرتها الرومانسية الفرنسية (والإنجليزية والألمانية) هو هدم استعلاء الذوق الأرستقراطي (الكلاسيكي)، وتأكيد حضور ذوق جديد، ورؤية جمالية جديدة، يختزلها الموقف من الموروث اليوناني والروماني القديم الذي كان إلى حد ما مقدسا وهو موقف ينبني على البحث عن المحجوب في ذلك القديم والعمل على إتمام نقائصه، بهدف القبض على «المطلق الأدبي» أو ما لم يقل وما لم يصل إليه نص بعد5.
كما شكّلت،هذه النصوص، أسا ونموذجا، لكمّ هائل من النصوص البيانية التي أطلقت باسم حساسيات وحركات فنية و أدبية،انسلخت عن الرومانسية أو عارضتها، وقد تفاقم تناسل هذه الحركات، حتى أصبح، مع بداية القرن العشرين، سمة جوهرية من سمات أدب وفن الحداثة، وملمحا مميزا من ملامح أزمنة الحداثة عموما.
2-2 بيانات ما بعد الرومانسية
يتعذّر تحديد الحركات الأدبية والفنية التي عرفتها أوروبا، والعالم الغربي عموما، تحديدا زمنيا دقيقا. ومن العسير ضبط حدود فاصلة بين معايير ومبادئ هذه الحركة أو تلك، أو تعيين مجال ولادة هذا التوجّه أو ذاك. فقد تكونت الرمزية، مثلا، في رحم الرومانسية، ثم أعلن بيان الشاعر جان مورياس المنشور بصحيفة» الفيجارو» الفرنسية بتاريخ 18 سبتمبر 1886 ميلاد هذه الحركة6. ومهدت الرمزية بدورها لظهور المستقبلية، وهي الحركة التي صاغ الشاعر الإيطالي فيليبو مارينتي (Marinetti) بيانها الرسمي، وقد صدر في صحيفة «الفيجارو» في شهر فيفري 19097. وللرمزية والمستقبلية تأثيرات بارزة في السريالية، التي أعلن ظهورها أندري بروتون (Breton) عبر سلسلة البيانات(بيانات السريالية) التي أصدرها، تباعا، منذ سنة 19248. رغم أن إرهاصات السريالية تعود إلى الشاعر أبو لينار (Apollinaire) الذي أطلق مصطلح السريالية ليصف مسرحيته(Mamelles de Tirésias) مؤكدا قطعها مع مبادئ الواقعية. وللسريالية صلات وثيقة بالدادائية والتكعيبية ويرهما من مدارس وحركات الفن الحديث.
والملاحظ، أن مبادئ هذه التوجّهات والحركات عامة ومرنة جدا، على نحو سمح بانتقالها أو هجرتها من مجال فني إلى آخر، من الشعر أو الرواية إلى الرسم والنحت والعمارة... ومن الرسم إلى المسرح والموسيقى أو الشعر...و لا يعنينا، هنا، استعراض تاريخ هذه الحركات أو تفصيل القول في الأسس التي قامت عليها أو بحث أساليبها وتقنياتها، بل حضورها الفاعل في المجال الثقافي الغربي ودلالات هذا الحضور****.
وقد تجلى وعي هذه الحركات بنفسها، أساسا، في إصدار النصوص البيانية، الوسيلة الرئيسية التي أعلنت بواسطتها عن تمايزها واختلافها عن السائد والمكرس، ورفضها، بل وازدرائها له، فقد عبرت، كل حركة من تلك الحركات، عن نيتها في تقويض ذلك السائد واستبداله ببرنامجها الخاص.» لذلك يبدو برنامج البيان جماليا وفلسفيا وسياسيا، في نفس الوقت»9. ولذلك يرد البيان، عادة، « في صيغة الخطاب التعليمي الشامل، مؤسس القناعات، وموزع «النقاء» و «المذهب»«10.
ويكشف هذا الخطاب، الرغبة الجامحة في الانفصال الجذري عن المعايير والقيم المستقرة والطموح إلى تأسيس مشروعية ذاتية، مستمد من الحضور ذاته. ذلك أن النص البياني يستمد مشروعيته من سياقه المشروط بنزوعه إلى الإبدال، ومن حضوره المشروط بالتفرد، ليحقق الفاعلية والتأثير المطلوبين، ثم يوسع هذه المشروعية لتشمل وجود الحركة التي أطلقته ( أدبيا واجتماعيا).
3 - النصوص البيانية بيان حداثة
لعله من الوجيه أن نعود، الآن، إلى مصطلح «الأزمنة الحديثة»، وتحديدا إلى الاستعمال الهيجلي لهذا المصطلح، فهيجل (Hegel) حسب «هابر ماس» هو أول فيلسوف طور على نحو واضح مفهوما محددا للحداثة، فقد كان استعماله لمصطلح «الأزمنة الجديدة» و»الأزمنة الحديثة» استعمالا خاصا، يتجاوز الدلالات الزمنية في استعمال المؤرخين11.
و يلاحظ «هابرماس» أن المبدأ المؤسس للأزمنة الحديثة، عند هيجل، هو مبدأ الذاتية (subjectivité) ويتضمن أربعة مفاهيم أساسية:
الفردانية: ففي التفرد والتمايز والاستقلالية، تكمن مشروعية الادعاءات.
الحق في النقد:إنتاجا وتقبلا، وقد وقعت الإشارة في بداية هذا الفصل لارتباطه بمبدأ المزاحمة الحرة، وما ترتب عنه من مراجعة مستمرة ومتابعة متواصلة لطرق ووسائل الإنتاج
استقلالية الفعل.
الفلسفة المثالية: فالفلسفة التي تمسك بالفكرة التي لها وعي بذاتها هي نتاج الأزمنة الحديثة12 .
والمفهوم الأخير، و يكثفه متصور» الروح المطلق» في الفلسفة الهيغلية، يزيح الشروط التي جعلت الحداثة تعي ذاتها، يغلق النسق الهيجلي.
وتكفي الآن مقارنة بسيطة بين منطق حضور النص البياني في الثقافة الغربية ودلالات هذا الحضور، والمفاهيم الهيجلية المحددة للأزمنة الحديثة، لنرى كم هي متطابقة :
الاستناد إلى استقلالية تامة، مزعومة، بهدف الحصول على مشروعية تضمن رواج الادعاءات.
البراغماتية.
إدعاء الشمولية والصدور عن نزعة توسعية ونفس استبدادي.
التّأَسُسُ على مفارقات تكوينية: الأزمات.
وبالاستناد إلى ما تقدم، يمكن القول، أن النصوص البيانية ليست سمة بارزة من سمات الحداثة أو نتيجة حتمية لها، بل هي صورتها منعكسة في ممارسة خطابية مخصوصة. ولا يعني الانعكاس هنا علاقة سلبية بين واقع الحداثة والنصوص البيانية التي تعكسه. فلهذه النصوص، وسواء كانت أدبية أو سياسية، تأثيرات فعلية قد تبلغ حد العصف بواقع الحداثة وتفضي إلى تجاوز حدوده. و لعل أكثر الأمثلة وضوحا وتعبيرا عن قدرة النص البياني على التأثير في الواقع عمليا، ما حققته الثورة البلشفية في الاتحاد السوفياتي سابقا، بما هي محاولة لتنفيذ برنامج البيان الشيوعي.
لعل ما تقدم، يؤكد ارتباط البيان باعتباره نمطا مخصوصا من أنماط الخطاب بسياق تاريخي وثقافي، أبرز سماته التوجّه إلى الإبدال والتحويل. وأن هذا السياق الذي تحكم في تشكيل مقومات الخطاب البياني، هو أهم شروط حضوره، سواء تعلق بالواقع السياسي أو الثقافي، وسواء أمضي من قبل حزب سياسي أو حركة أدبية... فهل يتوفر هذا الشرط للحديث عن خطاب بياني عربي؟
.
1 Claude ABASTADO, introduction à l'analyse des manifestes, littérature N 39 /1980
2 ABASTADO, ibid.
* بحسب جيرار جينات : طبعات الجيب علامة من المصاحبات النصية التي تقع عادة تحت مسؤولية الناشر وهي علامة مرادفة للتكريس ، تدل على قوة النص التداولية (p26/Gérard genette, seuils, coll.»Poétique», ed du seuil, paris 1987)
** يخصص موقع « جهات الشعر»( com .www.jehat/ /) و هو موقع يشرف عليه الشاعر قاسم حداد، صفحة من صفحاته لنشر البيانات الشعرية و يتضمن أرشيف بيانات.
***- بحسب بعض المؤرخين، يمتد عصر النهضة الأوروبية من أوائل القرن الرابع عشر إلى أواخر القرن السادس عشر، وقد تعززت في هذه الفترة العناية بالمؤلفات الكلاسيكية تحقيقا وشرحا، مما دفع حركة الترجمة(ترجمت أثار يونانية كثيرة عن العربية )، وتزايد الاحترام للفنون والآداب. وكان النظر بشغف إلى الماضي الذي بلغ فيه الفكر الإنساني ذروته حسب اعتقاد مثقفي النهضة سببا بارزا من أسباب ظهور حركة ثقافية عرفت ب»الإنسانية»، أساسها الأيمان بقدرة الإنسان على الخلق والإبداع، ما يؤهله للتفكير بنفسه في شؤون حياته. وكانت «يوتوبيا «السير توماس مور(1516) احد أهم المؤلفات التي عبرت عن التوجّه الإنساني، وهي مخطط للجمهورية المثلى، التي تقتضي أقامتها حسب مور» تعليم الرجال والنساء على حد السواء، والتسامح الديني. وهي الدعوات التي أطلقها رواد النهضة العربية أواخر القرن التاسع عشر، ومازال الجدل حول بعضها (تعليم المرأة ) لم يحسم بعد، في أقطار عربية كثيرة.
3 محمد بنيس:الشعر العربي الحديث، بنياته و إبدالاتها، الرومانسية العربية، ط2، 2001، دار توبقال، الدار البيضاء، ص20.
4-Dictionnaire des littératures de la langue française J-P. de Beaumarchais et autres .bordas .paris.1984. (les manifeste). P 1390/1392
5 محمد بنيس:الشعر العربي الحديث، بنياته و إبدالاتها، الرومانسية العربية، ص
6 معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مادة الرمزية ص- ص181-182.
7 ميشال سليمان،المستقبلية، جذور الحداثة الشعرية، كتابات معاصرة، ج4، ع 13، فيفري/مارس1992.
8 épreuve de la nomination dans le premier manifeste de surréalisme. P 47, littérature n 39. Nicole Boulestreau,
**** يقول ريموند وليامز، تعليقا على حضور هذه الحركات في المجال الثقافي والاجتماعي الأوروبي (طرائق الحداثة): «نستطيع أن نميز ثلاث مراحل رئيسية كانت تتطور بسرعة اواخر القرن التاسع عشر. في البدء كان ثمة جماعات مجددة تعمل على حماية ممارساتها داخل السيطرة المتنامية لسوق الفن، وضد لا مبالاة الأكاديميات الرسمية. و قد تطورت هذه إلى بديل، تمثل في تجمعات أكثر راديكالية من حيث التجديد، تعمل على توفير التسهيلات اللازمة لإنتاجهم وتوزيعه وإشاعته. وأخيرا، تحولت إلى تكوينات معارضة تماما، مصممة، ليس فقط على تنمية إنتاجها ، بل كذلك، مهاجمة أعدائها في المؤسسات الثقافية، ومن ورائهم كل النظام الاجتماعي الذي حاز أعدائهم السلطة فيه، وراحوا يمارسونها ويعيدون إنتاجها. ومن ثم، أصبح الدفاع عن لون خاص من الفن يعني في المقام الأول إدارة ذاتية أو استقلالا لنوع جديد من الفن، ثم هجوما على نحو حاسم باسم هذا الفن على نظام ثقافي واجتماعي شامل .»
9 Abastado, ibid. p6
10 Jean-marie Gleize, manifestespréfacessur quelques aspects du perspectif, Littérature N39, P14
11 - محمد نور الدين أفاية، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة ، ص125


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.