استعدادات الشركة الجهوية للنقل لولاية نابل بمناسبة عيد الأضحى    120 مليونا: رقم قياسي للمهجرين قسراً حول العالم    برنامج أبرز مباريات اليوم الخميس و النقل التلفزي    اليوم طقس مغيم بأغلب الجهات مع ظهور خلايا رعدية مرفوقة ببعض الأمطار    صديق للإنسان.. جيل جديد من المضادات الحيوية يقتل البكتيريا الخارقة    العدوان الصهيوني على غزة/ هذا ما طلبته حركة حماس من أمريكا..    عاجل/ بشرى لمنخرطي "الكنام"..    هذا ما قرره القضاء في حق رئيس حركة النهضة بالنيابة منذر الونيسي..#خبر_عاجل    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    عاجل/ وفاة عون أمن ومهاجر أفريقي خلال عملية اخلاء لإحدى العمارات بصفاقس..تفاصيل ومعطيات صادمة..    عاجل/ وفاة أمني ومهاجر إفريقي خلال مداهمة عمارة سكنية    السعودية: ولي العهد يعتذر عن المشاركة في قمة مجموعة السبع    "اليويفا" يعلن عن قرار جديد بشأن استخدام تقنية "الفار" في كأس أوروبا    زاخاروفا تعلق على العقوبات الأمريكية.. روسيا لن تترك الأعمال العدوانية دون رد    «غفلة ألوان» إصدار قصصي لمنجية حيزي    سمير سحيمي رئيسا لاتحاد الكتاب التونسيين بسوسة    تستهدف التونسيين القادمين من دول أجنبية ...ملايين من الأورو والدولار المدلّس تباع في بومنديل وباب الجزيرة    «أيّ مدرسة نريد؟»...كتاب جماعيّ ينشد مدرسة المستقبل «الممكنة»    قراءة تأويلية لقصة «الختان» للكاتبة حبيبة المحرزي/ج 1    كتاب «العنف والممكن الإنسانيّ» لعادل الجريدي    بهدوء ...أشرار ... ليس بطبعنا !    الموسيقى والنص /ج 2    منها فتح البوابات الأربع المُشتركة بمعبر راس الجدير: هذا ما تم الاتفاق عليه بين تونس وليبيا    إعادة فتح معبر رأس جدير جزئياً أمام هذه الحالات غدا    تونس تتوج بالمرتبة الأولى عالميا في المسابقة الافرو آسيوية الدولية لزيت الزيتون البكر الممتاز    تونس وليبيا تتفقان على فتح البوابات الأربع لمعبر راس جدير    ديوان الحبوب: هذه أسعار القمح والشعير    اختتام اختبارات الدورة الرئيسية للبكالوريا...اجمالي حالات الغشّ في بنزرت    ألكاراز ونادال يقودان منتخب إسبانيا للتنس في أولمبياد باريس 2024    الدوري الليبي: خماسي تونسي ينافس على لقب البطولة    لاعب التنس البريطاني موراي يثير الشكوك حول مشاركته في أولمبياد باريس    عدد من نواب الشعب يعربون عن عدم رضاهم لاقتصار أشغال المجلس على مناقشة مشاريع اتفاقيات القروض    زغوان: تركيز نقطة بيع الأضاحي من المنتج إلى المستهلك    كأس أوروبا 2024 : موعد المباراة الافتتاحية والقنوات الناقلة    سيدي بوسعيد: القبض على 3 شبان صدموا شخصا بشاحنة خفيفة في محاولة لافتاك أغراضه    صابر الرباعي يُعلّق على حادثة صفع عمرو دياب لمعجب    قابس: اجماع على ضرورة تطوير نشاط الميناء التجاري    الرابطة الأولى: تفاصيل بيع تذاكر مواجهة الدربي    اشتعال النيران في الكويت : أكثر من 41 وفاة وعشرات الإصابات    تونس عاصمة التكامل الاقتصادي الأفريقي    أسعار الخضر والغلال بسوق الجملة بئر القصعة    شيرين تصدم متابعيها بقصة حبّ جديدة    تونس: ''أمير'' الطفل المعجزة...خُلق ليتكلّم الإنقليزية    سوسة: الاحتفاظ ب 5 أشخاص من أجل تدليس العملة الورقية الرائجة قانونا    زغوان : دعوات إلى إحداث إدارة جهوية للسياحة    83% من التونسيين لديهم ''خمول بدني'' وهو رابع سبب للوفاة في العالم    بالفيديو: ذاكر لهذيب وسليم طمبورة يُقدّمان الحلول لمكافحة التدخين    83 بالمائة من التونسيين لديهم خمول بدني    شيرين عبد الوهاب تعلن خطوبتها… و حسام حبيب على الخطّ    عاجل/ الكشف عن سبب اندلاع حريق منتزه النحلي    اليوم انعقاد منتدى تونس للاستثمار: التفاصيل    علي مرابط يشرف على إطلاق البوابة الوطنية الجديدة للتلقيح    وفاة الطفل ''يحيى'' أصغر حاجّ بالأراضي المقدّسة    وزارة الصحة: جلسة عمل لختم وتقييم البرنامج التكويني لتنفيذ السياسة الوطنية للصحة في أفق 2035    ديوان الإفتاء: مواطنة أوروبية تُعلن إسلامها    دار الافتاء المصرية : رأس الأضحية لا تقسم ولا تباع    العاصمة: عرض للموسيقى الكلاسيكية بشارع الحبيب بورقيبة في هذا الموعد    موعد عيد الاضحى: 9 دول تخالف السعودية..!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"ثلاثية الاستقلالية والحرية والديمقراطية،
شروط الحياة الثقافية..." خميس الخياطي
نشر في الشعب يوم 18 - 09 - 2010

يعمل في الحقل الثقافي التونسي والعربي والفرنسي منذ ستينات القرن الماضي بصفته صحفيا وناقدا وكاتبا مزدوج اللغة (عربي/فرنسي). له عديد الإصدارات باللغتين حول الإشكاليات المتعلقة بالصورة المتحركة) سينما/تلفزة) في العالم العربي وعلاقتها بالثقافة العربية-الإسلامية، كما عرف عنه دفاعه عن النهج العلماني واستقلالية المثقف وحريته ورفضه الانضواء تحت راية حزبية، مهما كان هذا الحزب ومهما كان موقعه على الخارطة الوطنية التقيناه بمناسبة هذا الملف فكان معه الحديث التالي:
كيف تقيمون الحركة الثقافية التونسية؟
سؤال جوابه صعب. غير أنه نزولا عند طلبك، أحاول أن أسوق بعض الملاحظات "شيلة بيلة". نلاحظ بصفة عامة أن الساحة الثقافية التونسية اليوم تعيش حراكا لا يمكن نكرانه... في الحقيقة، أنظر دائما إلى نصف الكأس الفارغ، لأن النصف المملوء هو من تحصيل الحاصل ومن واجب مؤسسات الدولة. ومما نجد في النصف الفارغ غياب العلامات الواضحة والناطقة للتصور الكامل والمستقبلي على المدى البعيد لحركتنا الثقافية وإلى أي أفق هي متجهة على مستويات عدة مثل النشر والسينما والأروقة وما إلى ذلك إضافة إلى ما يمكن تسميته بالمشروع المجتمعي... ننشر كتبا، نعم. ولكن أغلبها دواوين شعرية على نفقة الشعراء... هذه علامة غير صحية... الروايات؟ أن يكون سعر الرواية التونسية أكثر من 10 د.ت، فإنك لن تمس القارئ، هذا دون النظر في محتوى وقيمة الرواية... كذلك دور النشر عندنا أشبه ب"حوانيت الحمّاصة"، فأنت تجد الشيء ونقيضه، مما يعني غياب سياسة في الإصدارات... والبعض منها لا يحترم عقود النشر مع المؤلفين ولا توجد هيئة لها الصلاحية القانونية للنظر في التجاوزات، قبل اللجوء إلى القضاء... الأمر ذاته موجود في ميدان الفنون التشكيلية... لقد غابت الأروقة وتقلصت العروض الفنية إلا من نشاط بعض "المهبّلة" الذين لا يلوون على شيء وبهم تعيش الساحة التشكيلية في تقطير مستمر... ولك، لمعرفة الميادين الثقافية الأخرى، أن تقيس على هذا...
اليوم، هناك نشاط ثقافي تقوم به جمعيات كثيرة ومتعددة... والمفارقة الغريبة أن الثقافة لا تنتعش من نشاط هذه الجمعيات، بل كأننا أمام "اجترار ثقافي" يحل محل سياسة ثقافية... في السابق، ودون الحنين إلى الماضي، كانت هناك سياسة ثقافية لا تساهم في وضعها الدولة لوحدها عبر وزارة الثقافة بل هناك جمعيات مؤثرة وفي علاقة جدلية مع الواقع وصداميه في بعض الأحيان مع سلطة الإشراف... وهذا الصدام لم يفسد للود قضية، بل انتفعت منه الحركية الثقافية... وأعني هنا نوادي السينما، السينمائيين الهواة، المسرح المدرسي، مسرح الهواة وما إلى ذلك من الجمعيات الموازية في أنشطتها لسياسة الدولة دون أن تكون موالية لها رغم أن الدولة تمولها من المال العام... وهو ما أعطى للإنتاج الثقافي للستينات والسبعينات والثمانينات كثافته وقيمته وإشعاعه محليا وعربيا ومتوسطيا... هذه العلاقة الجدلية منعدمة اليوم وكأني بالجمعيات الثقافية، رغم كثرتها، قليلة البركة...
كذلك، ما جدوى وجود مدينة للثقافة بالعاصمة في حين البنية التحتية الثقافية في كامل تراب الجمهورية ليست متهرئة فقط، بل انعدمت... جميل أن تكون لنا مدينة للثقافة بذاك الحجم، ولكن إذا أراد مواطن ما من داخل الجمهورية مشاهدة عرض مسرحي أو عرض فيلم، هل عليه أن يأتي إلى تونس ثم يعود بعد ذلك باللوّاج إلى قريته مساء؟ نفعية هذه المدينة لن تكون إلا إذا صاحبتها سياسة ثقافية تنظر في البنية التحتية ليس من جانب توحيد الجهود بين دور الثقافة ودور الشعب فقط، بل النظر في شبكة دور الثقافة نظرة جذرية تأخذ بعين الاعتبار المعطيات الجديدة من إنترنيت وفيسبوك وأسطوانات مضغوطة وقنوات فضائية مختلفة المناهج وما إلى ذلك من تقنيات الاتصال والتعبير الجديدة وحتى الأمكنة التي توجد بها هذه الدور والتي لا تسمح للشباب بارتيادها لأسباب عدة يعرفها أهل المهنة...
ورغم وجود قرارات رئاسية هامة لدعم الثقافة... ونقاط تهم الثقافة في برنامج سيادته المستقبلي، إلا أن هذه القرارات وهذه النقاط تنكسر في مجملها أمام جدار الواقع ومقاومة الإدارة وروتينية المندوبيات الثقافية التي تأتمر بأوامر المسؤولين المحليين الحزبيين والإداريين... وهؤلاء، الثقافة لا قيمة لها في نظرهم إلا بمردودها السياسيوي... وحين تمسك المصالح السياسوية بالثقافة، فالخاسر الأول هو الثقافة. ناهيك عن أن الجانب الثقافي لدى أحزاب المعارضة البرلمانية وغير البرلمانية جانب مناسباتي أو حتى غير موجود تماما لدى البعض منهم...
هناك من يرى أن ضعف الحراك الثقافي يعود إلى الضعف الحاصل في النشأة داخل المدرسة والجامعة، ما تعليقك؟
هذا الرأي صائب بعض الشيء رغم أن محاولات قيمة يقوم بها مهرجان أفلام الشباب بسوسة مع وزارة التعليم لإعادة نوادي السينما إلى الحلبة المدرسية والتجربة لم تعطي أؤكلها بعد... قد يكون الأمر صعبا لأن الحاجة للثقافة اليوم ليست كما كانت بالأمس. بالأمس، حاجتنا للثقافة ومن وراءها للمعرفة والتحاور هي التي دفعت واحدا مثلي آت من الشمال الغربي ينخرط في جمعية نوادي السينما لينتخب عضوا في مكتبي أثنين من نوادي سينما العاصمة... في هذه النوادي، كنا، إضافة للسينما، نتعلم أدبيات المحاورة مع من ليسوا لا من ثقافتنا ولا من ديننا ولا من جنسنا... وهو ما أعطانا مناعة ضد الانغلاق الحاصل اليوم وثراء معرفيا كان زادي في تنمية وإتمام دراستي في علم الاجتماع بجامعة "نانتير" وفي اللغة العربية بالسوربون الجديدة بفرنسا، بل كان زادي المهني في ممارستي النقد السينمائي في إذاعة فرنسا الثقافية... إن أصبحت مدرسة اليوم فضاء للتلقين وليس للتفكير، فالثقافة غائبة عنها بالطبيعة... مدرسة الأمس كانت مشروعا حضاريا فيما مدرسة اليوم غيبت الحضارة وأصبحت فضاء لتعليم الأبجديات في أقل وقت ممكن... بالتالي، جهات أخرى تولت مهمة غرس بذور مشروع لا يتماشى البتة مع عصرنا وحاضرنا، بل يعود بنا إلى الخلف... الطبيعة تكره الفراغ. فحينما تترك الدولة هذا الجانب، فإن أناسا آخرين يستغلونه... وبالمناسبة جمعيات نقاد السينما والتشكيليين وإتحادات الكتاب والموسيقيين وما إلى ذلك لا يمكن لها أن تعارض هذا المشروع الماضوي لقلة الإمكانات ولغياب فضاءات الحوار الوطني الجاد... الخارطة الثقافية التونسية تغيرت بالكامل عما كانت عليه بالأمس، سواء على مستوى نمط العيش الذي أصبح حضريا بنسبة كبيرة، وسائل الاتصال تطورت ووسائط المعرفة تعددت... تصور أن السبب الرئيسي الذي جعلي أرفض الاستقرار حيث عينت كمعلم من خريجي ترشيح المعلمين كان عدم وصول جريدة "لوموند" الفرنسية إلى تلك القرية؟ الأمر غير متصور اليوم لأن المعلومة موجودة في كل مكان تغطيه الشبكة الكهربائية وهي بنسبة 99 في المائة ببلادنا... حينما ترى اليوم أن معلما لا تهمه إلا ساعات التدريس الخصوصية وأن أستاذا يقضي وقته في المقهى، والاثنان لا يطالعان كتابا، بل يكتفيان بما تمن به عليهم القنوات التلفزية المتواجدة على "النايل سات" أو الجرائد التونسية الصفراء التي من عناوينها الرئيسية يخيل إليك أنها تصدر في العراق أو فلسطين أو جنوب لبنان، ماذا تطلب إذا من جهاز التعليم؟
عموما، ألاحظ سطوة الجانب الكمّي والوفرة على جانب الجودة... والمطلع على أسئلة السادة النواب الموجهة لوزراء الثقافة ببلادنا وأجوبة هؤلاء عن استيضاحات اللجنة الخاصة الخامسة لمجلس النواب في أكثر من دورة، يخلص أنها ناتجة عن عدم دراية بالموضوع وبواقع الثقافة وبالأجوبة "المغلوطة" المقدمة من طرف بعض الوزراء مثل أن تونس تنتج 365 مسرحية في السنة) أي بمعدل مسرحية في اليوم(، وأنها تمتلك أكثر من 500 نقطة عرض سينمائي) أي بمعدل نقطة عرض ل20 ألف مواطن(، وأننا ننتج 4 أفلام في السنة... فتؤمن أن ثقافة بلادنا "جنة وفيها بريكاجي"... السياسة الثقافية لدينا قائمة على الأرقام وهذه الأخيرة يمكن قراءتها من ألف زاوية غالبيتها لا تعكس الواقع الحقيقي للإنتاج الثقافي ببلادنا بل تستجيب لأغراض سياسوية... أن تنشر 20 الف عنوانا فيما ثلث الشعب التونسي لم يفتح كتابا في حياته والمكتبات العمومية ترتاد لغير أغراضها) المطالعة(، فذلك أمر كفكائي... أن تنتج معدل فلم ونصف الفيلم في السنة بصفة موضوعية ولا تملك أكثر من 12 قاعة سينما في كامل تراب الجمهورية غالبيتها غير صالحة للإستعمال وبها كرسي واحد لكل 1772 مواطن، والتلفزات التونسية) العمومية والخاصة) ترفض المساهمة في الإنتاج رغم قرار الدولة بذلك، فذلك أمر كفكائي... لقد قرر رئيس الدولة أن تكون سنة 2010 سنة السينما، ونحن اليوم في الشهر التاسع من هذه السنة وليس لهذا القرار أي منفذ على الواقع إلا بعض الأنشطة السينمائية-الكشفية، حتى أن بعض المسؤولين اسروا إلي أنهم بوغتوا بهذا القرار ولم يتوقعوه... كذلك، نحن على أبواب ايام قرطاج السينمائية في دورتها 23... ما هي القاعات التي ستحتضن المهرجان فيما نرى قاعات تحول وضيفتها رغم التوصية الرئاسية في عدم تحويل وجهتها إلا بقرار من... وزير الثقافة. وحولت قاعات فيما بقيت أخرى مغلقة... المسألة عويصة وشائكة وأعترف أن الأمر ليس بيد سلطة الإشراف فقط... لكن، آمل أن القرارات الرئاسية الأخيرة الثمانية في الشأن السينمائي تجد طريقها الصحيحة نحو التنفيذ ولي كامل الثقة في أن السيد رؤوف الباسطي سيحاول ذلك، وهو ابن الثقافة هيكلا وممارسة... ومن حاول وأصاب، فله أجران... كذلك وعبر أسبوعية "الشعب"، أعبر عن تمنياتي بمشاهدة الرئيس بن علي يفتتح الدورة المقبلة لأيام قرطاج السينمائية لأن السينما كما المسرح والموسيقى مثل الكتاب، عناصر من عناصر الثقافة وبناء المشروع الحضاري لبلادنا، فلماذا يفتتح سيادته معرض الكتاب ولا يفتتح ولو مرة واحدة إحدى التظاهرات الأخرى؟ فبهذا الفعل، سيرفع سيادته من قيمة المهرجان ومن الأفلام التي ستعرض ضمنه وبالتالي سيحيطه الجمهور باهتمام أكبر عن مشاهدة المثال المقدم من أعلة هرم السلطة في بلادنا...
لماذا لا يحاول المثقفون بناء نهج ثقافي وفرضه كقاطرة تجر الواقع الثقافي وتتبعه الدولة؟
قبل كل شيء يجب تعريف الثقافة والمثقف. الثقافة هي ذاك الممر المؤدي إلى كل غرف المنزل، فإذا أغلق الممر، لا يمكن ولوج أيا من الغرف... الثقافة هي الأجوبة التي يجدها المثقف والمسالك المؤدية إلى حلول الإشكاليات التي تؤرق المجموعة الوطنية وقد تفك تماسكها الاجتماعي... يجب المحافظة على هذا الممر وتركه مفتوحا دائما لكل التحركات في نطاق احترام القانون حتى ولو كان قانونا تعسفيا... نحترمه ثم نعمل على تغييره... ومن هو "المثقف"؟ بحسب رأيي، المثقف ليس وعي المجموعة فقط، بل هو وعيها الشقي بجميع معاني الشقاء والشقاوة، أي ذاك الذي لا يدخل الصف إن رأي فيه اعوجاجا. بالتالي، فهو ذاك الذي يضيء بصفة إستشرافية الأخطاء والمنعرجات والمسالك الموازية والقصيرة التي تؤدي إلى إسعاد المواطن... هو الذي إن جمعته روابط بمجموعة ما، فهو ليس أسيرها لأن في قرار قلبه هو مستقل عنها... هذا المثقف ليس العضوي كما يعرفه "غرامشي" ولا التقليدي الذي احتككنا به في بلادنا لأكثر من فترة... استقلاله ليس أنانية بقدر ما هو مقدار كامل من الحرية لاستجلاء الأمور التي ليس له فيها مصلحة فردية...
ومع الأسف وانطلاقا من هذا التعريف، لا يمكن القيام بأي عمل ثقافي جاد وجدير بالاحترام إلا "خارج الصف"، اي صف وإن كان حزبيا أو عقائديا او إفكاريا. كأننا بالمجموعة هي التي تحكم والفرد هو الذي يستسلم... إن المنطق الذي تتعامل به بعض الجهات الرسمية وغير الرسمية مع الشأن الثقافي هو منطق "إن لم تكن معي، فأنت ضدي". والثقافة لا يمكن لها أن تترعرع في جدلية ال"مع" وال"ضد" وقيمتها البنيوية في خروجها عن الصف وإلا لأصبحت شرحا لمعطيات سياسوية... إني من القائلين بثقافة "أنا معك... ولكن"... وخصوصيتي وإثرائي لأرضية المجموعة الوطنية الثقافية والإعلامية تكمنان في تلك ال"لكن"... غير أن مؤسساتنا الثقافية والحزبية بالتحديد تأخذ هذا التحفظ من الجانب السلبي وكأنني معارض لرؤيتها... ما دامت هناك "لكن"، فالعروة منكسرة في نظرهم، وهو مخالف للصواب... أنا مثلا مع غالبية النقاط الثقافية للبرنامج المستقبلي للرئيس بن علي و"لكن" هناك نقاط في هذا الجانب لا استسيغها... الأمر نفسه ينطبق على البرامج الثقافية لأحزاب المعارضة، ما عدا الأصوليين الذين أرفض برنامجهم جملة وتفصيلا، إن امتلكوا أصلا برنامجا غير القرآن والسنة... وهذا الرأي يؤمنه لي دستور بلادي... بل أذهب إلى أكثر مما سبق. أعتبر أن الأحزاب السياسية بأجملها في بلادنا (سلطة ومعارضة) تعج بالدكاترة المنخرطين فيها ولكنها تفتقر إلى مثقفين يتكلمون باسمها ويعبرون عن رؤاها ويتجادلون فيما بينهم... لقد أخرج المثقف قصرا من دائرة الشأن العام، من الحياة العامة مثل ما حدث لهشام جعيط أو عياض بن عاشور وتوفيق بكار والقائمة طويلة... قد تجد في هذه الأحزاب دكاترة أفذاذا ومحترمين، لكن تأثيرهم على الأجيال الجادة والشارع يعادل الصفر أو يكاد. كيف يمكن إذا أن تكوّن قاطرة والسكة أصلا غير مثبتة، إن لم تكن غير موجودة أصلا؟
وماذا عن تجربتك الثقافية داخل الجامعة التونسية؟
لم تنطلق تجربة ممارستي الثقافية مع دخولي الجامعة، بل كانت قبل ذلك بالمعهد الثانوي بالكاف في ناديه السينمائي وكذلك على صفحات مجلة "فايزة" الشبابية التي كانت تصدر باللغة الفرنسية وبعد ذلك في معهد "ستيفان بيشون" ببنزرت. فحينما جئت العاصمة، كانت لي علاقات صداقة ثقافية مع الجامعة التونسية لنوادي السينما إضافة لكوني من خريجي ترشيح المعلمين حيث للثقافة العامة) موسيقى، مسرح، سينما) مكانة عالية إضافة للتكوين الأكاديمي وهنا أقدم تحياتي لكل من السيدين "عبد الرزاق الحليوي" في مادة اللغة العربية بالكاف و"محمد الكراي" في مادة الفلسفة ببنزرت... إضافة للجامعة، كانت هناك المقاهي... فيما يخصني كنت أرتاد مقهى "لابولوت" الموجود بنهج "سربيا" وكان به أهل السينما لأنه قريبا من الساتباك. فكنت تجد به من سيكونون من علامات السينما والمسرح التونسيين مثل الفاضلين) الجعايبي والجزيري(، المرحوم الحبيب المسروقي وتوفيق الجبالي، عبد اللطيف بن عمار وغيرهم من الشعراء مثل المنصف غشام أو المهتمين بالتراث مثل علي سعيدان والصحفيين الناطقين بالفرنسية من بينهم المنصف بداي وغيرهم كثير من الأوروبيين والأمريكان... كان المقهى بمثابة خلية نحل تناقش فيه ? بصفة عرجاء ولكن كانت تناقش - آراء الوجودية والبنيوية والشعر الأمريكي والمخدرات وتأثيرها على المبدعين مثل "أرتو" و"بروتون" أو "مجتمع الفرجة" للكاتب "غي ديبور" وتأثيرات الفيلسوف "كيركغارد"... هذا إضافة لأساتذتنا في الجامعة التونسية مثل فرج السطنبولي وخليل الزميتي وبول صباغ والسيدة حداد أو الفرنسيين مثل "ميشيل فوكو" و"جان دوفينيو" و"جورج لاباساد" وغيرهم مهمين جدا نسيت أسماءهم... هذا الغليان كان بالنسبة ل"راستينياك" القادم من قصور ال"زيروويت" أفضل من الجنة الموعودة... منها، دخلت يومية الحزب الإشتراكي الدستوري "لاكسيون" لأدير صفحة السينما والفنون التشكيلية ايام رئاسة تحريرها من المنصف جعفر) الله يذكره بالخير(، إضافة إلى شهرية "الطالب التونسي" الناطقة بالفرنسية والتابعة للإتحاد العام لطلبة تونس... لم تكن هناك حواجز بين الجامعة والمقهى ومكتبة العطارين وقاعات السينما والشارع رغم أن الأحزاب ممنوعة، كانت الثقافة التونسية في أوجها الجدلي لا فرق فيها بين مؤمن وملحد، بين تونسي وأجنبي. كل له الحق في الكلمة... كانت هناك فوارق أيديولوجية حاسمة بين اليسار والدساترة و"هز يدك مالطبق" وقد ساهم اليساريون بقسط غير قليل في تأسيس وإثراء السياسة الثقافية التونسية لتلك الفترة وكانت الدولة تطلب ودهم عبر وزراء كانوا مثقفين ولم يكونوا "تكنوقراطيين" ومتحزبين بصفة بدائية...
ما هو تصورك للحراك الثقافي التونسي وما سبل تجسيمه؟
لست بقادر بمفردي على إيجاد اي حل وقد لا تلائم الحلول التي قد أقترحها... يجب أن يكون هناك جدالا ونقاشا عموميان لكل المقترحات من جميع الجهات... أما عن الحراك الثقافي، أرى أن أهم شروطه هي ثلاثية الاستقلالية والحرية والديمقراطية إضاقة إلى الحق في تلك ال"لكن" التي حدثتك عنها منذ حين... أنا لست معارضا. ونفترض أني كذلك، يجب الاستماع لما اعرض ما دمت أحترم قوانين البلاد... لكل المواطنين الحق في التعبير والاختلاف دون إقصاء... فالثقافة لن تقوم لها قائمة إذا كان أساس بنائها المنع. والحمد لله أن "الإيداع القانوني" كما كان معمولا به سابقا قد ألغاه الرئيس بن علي... ولو لم يلغ ذاك القانون لما صدر، على سبيل المثال، كتابي الأخير العاشر وعنوانه "من بلدي- مذكرات مواطن عادي" وهو باللغة الفرنسية... المفارقة الغريبة أن الدولة أصبحت أكثر تقدما وتفتحا من أشباه النخب الشعبية ومن الشعب نفسه الذين يكفرونك لمجرد تشكيكك فيما يعتبرونه بديهية عقائدية... هي حالة غريبة... رغم أنه شعب متعلم بنسبة كبيرة وحضري بنسبة عالية وشبابي بنسبة محترمة، إلا أنه أقام الحصار على عقله... إلا أنه إنغلق ثقافيا ولا يقبل إلا بما يؤكد بديهياته، وهو ما لا يقوم عليه الفعل الثقافي الذي هو بالأساس انتفاء للبديهي... إن أول عدو للمثقف هي البديهية. يعارضونك بقولهم : "الأمر هكذا ولا نقاش في ذلك". هذا غلق لباب التفكير والإبداع والتثقيف، أو ما يسمى دينيا ب"الاجتهاد"، تثقيف أو إجتهاد لا يترك المواطن فريسة الإعلام المخرب للأدمغة. وقد يتم ذلك عبر تطوير مستمر لمنظومة المفاهيم والمضامين وتحريرها، خاصة في وسائل اتصال جماهيري مثل التلفزة (عمومية/خاصة) ووسائل الإعلام بجميع أجناسها...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.