بعد النجاح الذي حققته قناة »نسمة« في برمجتها الرمضانيّة التي إستطاعت من خلالها استقطاب جمهور محترم من المشاهدين التونسيين وذلك بمراهنتها على التميّز والريادة من خلال اختيارها لجملة من الاعمال الدراميّة ذات المستوى العالمي مثل المسلسل الايراني »يوسف الصديق« الذي واصلت بثه بعد شهر رمضان... هذا النجاح الجماهيري دفع بالقناة الى مواصلة السير على نفس النهج الإحترافي القائم على دسامة البرمجة وتميّزها، فاختارت في برمجتها الخريفية أن تؤثث فقراتها بعملين مهمين شدا انتباه المشاهدين: »ذاكرة شعب« »وذاكرة الجسد«العمل الاوّل هو وثائقي في أربعة أجزاء من إنتاج القناة تبثه حصريا مساء كل أحد تحت عنوان: »ليلى خالد: حياة امرأة، ذاكرة شعب«. ضيفة هذا الوثائقي هي المناضلة الفلسطينية ليلى خالد بنت حيفا المحتلة التي أدلت بشهادتها وهي المقاتلة العنيدة التي خطت مسيرتها الكفاحيّة مع جبهة التحرير الشعبيّة الفلسطينية منذ أن كانت صبيّة يافعة.ليلى خالد عرفت بعملية اختطاف طائرة (TWA) الأمريكية من لوس أنجلوس إلى روما، ومرّت بها في إشارة رمزيّة في سماء مدينة حيفا مسقط رأسها.في الجزء الأول من الوثائقي حملتها ليلى خالد معها إلى أيّام طفولتها في مخيمات اللجوء بلبنان، مستذكرة في ألم وغصّة واقع المهجرين الفلسطينيين ومعاناتهم التي لا تنتهي بعد نكبة 1948.أمّا في الجزء الثاني، فتنتقل ليلى خالد الى الحديث عن بداية تبلور وعيها السياسي وتجذر حسها النضالي وانخراطها في المعمع السياسي الفلسطيني مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، مؤكدة على الدور النضالي الذي قدمته المرأة الفلسطينية كمقاتلة في الخنادق الأمامية جنبا الى جنب مع الرجل.في الجزء الثالث: ركّزت ليلى خالد في شهادتها على الحيثيات والتفاصيل التي حفت بعملية اختطاف الطائرة الأمريكية وما أثاره ذلك من ردود فعل دولية سواء على المستوى العربي أو الاوروبي أو الامريكي ومدى مساهمة الحدث في التعريف بالقضية الفلسطينية وايصال صوت الفلسطينيين الى الضمير العالمي الحرّ.ومن المنتظر أن يخصّص الجزء الرابع والاخير من الوثائقي للحديث عن واقع القضية الفلسطينية اليوم والمتغيرات الداخلية والخارجية وتأثيرها على مستقبلها.لقد استطاع هذا الوثائقي الذي أعدته قناة »نسمة« أن يغوص بنا في اعماق القضية الفلسطينية من خلال تسليط الضوء على مرحلة مهمة من الكفاح الوطني الفلسطيني كانت ليلى خالد إحدى رموزها وأبطالها، كما أنّه نجح في كشف عديد الجوانب الإنسانية الحميمة في شخصية ليلى خالد الطفلة التي اقتلعت من أرضها والشابة التي حرمت من صباها والمرأة التي إختارت ركوب مركب السلاح والقتال الذي لطالما ظلّ حكرا على الرجال. »ذاكرة الجسد«العمل المتميّز الثاني الذي كان لقناة »نسمة« السبق وطنيا وعربيا في اقتراحه على جمهور المشاهدين هو مسلسل »ذاكرة الجسد« المأخوذ عن رائعة الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي التي تحمل نفس العنوان (ذاكرة الجسد)، وقد أبدع المخرج السوري نجدة إسماعيل أنزور في إخراجه في رؤية وتصوّر غاية في الشاعريّة والرومنسية الحالمة التي افتقدتها الدراما العربيّة، وفي اتساق مع المعاني التي أكدت عليها الرواية فشدّت إليها القرّاء مما أهلها لاحتلال واجهات المكتبات العربية والعالمية لعدّة سنوات حيث ترجمت الى عدّة لغات.أحداث المسلسل لم تكن بعيدة عن البناء والتصوّر والاحداث التي عرفتها الرواية ولا عن الشخوص والأبطال والفضاء بأزمنته وأماكنه ومدنه.قصّة حبّ بين مناضل ورسام جزائري هو »خالد طوبال« وابنة مناضل جزائري كان صديقا له أيّام الكفاح المسلّح، واستشهد في حرب التحرير، لكنّها قصة حبّ اختزلت في دلالتها ورمزيتها كل آمال وآلام وأحلام واحباطات الجزائرين والعرب عموما من خلال ذاكرة الأبطال الموجوعة والمعطوبة، وقد أبدع الفنان السوري جمال سليمان في تجسيد شخصية (خالد) وكذلك الامر بالنسبة للفنانة الجزائريةالشابة (آمال بوشوشة) التي أدت دور (حياة).الفضاء كان متنوعا حيث دارت الاحداث في كل من مدينة قسنطينة مدينة »الجسور« كما تسميها مستغانمي والعاصمة الجزائر وبيروت وتونس وسوريا، وامتدت الى غرناطة الإسبانية المشبعة بالتاريخ العربي.أما اللّغة المعتمدة في المسلسل فقد كانت العربية الفصحى بشكل رئيسي باستثناء بعض المقاطع التي عمد فيها المخرج الى استعمال بعض الالفاظ أو الحوارات القصيرة باللهجة الجزائرية، ولعل السبب يعود إلى رغبة المخرج وجهة الانتاج الوصول بالمسلسل الى أوسع قطاع من المشاهدين العرب الذي قد تحول اللهجة الجزائرية دون ذلك.اختيار قناة »نسمة« لهذا العمل الدرامي مثّل حقيقة مغامرة تستحق التنويه والشكر، بوصفه تمثل إختيارا لعمل نوعي يخاطب لغة وفكرة أرقى المشاعر والعواطف في أسلوب راق بعيد عن الإبتذال والغرائرية التي سقطت فيما بعض الاعمال الدراميّة، بل إن برمجة هذا المسلسل تعد تكريما للإبداع المغاربي وخطوة في سبيل بناء أرضية لأعمال مغاربية وعربية دراميّة مشتركة لعلّها احدى الاهداف التي نهضت عليها قناة »نسمة«.بين ذاكرتين الأولى وثائقية تاريخية حملت لنا فيها قناة »نسمة« شهادة لإحدى بطلات جبهة التحرير الفلسطينية ليلى خالد، والثانية دراميّة فنيّة تناولت أنبل المشاعر الإنسانية من خلال تداعيات واعترافات (حياة) بطلة الرواية والمسلسل وسليلة أحد أبطال جبهة التحرير الجزائرية، استطاعت قناة »نسمة« أن تجعل من برمجتها الخريفيّة مخصبة بإمتياز.