ألا يكون القصور في التنمية الزراعية هو أحد مصادر تعثر التنمية الشاملة عند الكثير من أهل الجنوب؟ أهو صحيح أنّ أقل نجاعة من زراعة الدول الصناعية؟ هل تنمو الزراعة عند أهل الجنوب في غياب التنمية الثقافية والمعرفية لسكان الريف، أم أنّ النهوض الريفي بجميع مظاهره شرط أساسي لتطوير الزراعة؟ عن أي نمط من الزراعة يتحدثون؟ تشكل القوى العاملة الزراعية، التي تضم شريحة السكان الزراعيين « 15 64 سنة»، في البلدان النامية حوالي 52,6 في المائة من إجمالي السكان الزراعيين الذين يبلغ عددهم حوالي 2510 مليون نسمة خلال العشرية الأولى للألفية الجديدة، مقابل 51,6 في المائة من إجمالي السكان الزراعيين في البلدان الصناعية والبالغ عددهم 95 مليون نسمة. أمّا اليد العاملة الزراعية في البلدان النامية فهي تقارب 53,7 في المائة من إجمالي القوى العاملة في كافة القطاعات الاقتصادية والبالغ عددها 2460 مليون نسمة، مقابل 7,3 في المائة من إجمالي اليد العاملة في كافة القطاعات في البلدان الصناعية والبالغ عددها670 مليون نسمة. السكان الزراعيون والقوى العاملة السكان الزراعيون (1) العمالة في كافة القطاعات(2) العمالة في القطاع الزراعي(3) النسبة المئوية (3على2) النسبة المئوية (3على1) الدول الصناعية الدول النامية الدول العربية 95 2510 88 670 2460 99 49 1320 25 7.3 53.7 25.2 51.6 52.6 28.4 الوحدة: مليون نسمة المصدر: منظمة الأممالمتحدة للأغذية والزراعة والمشكلة، هو أنّ محرك إنماء ظاهرة التخلف عبر أطروحات الرأسمالية المحيطة التي تغافلت عن أهمية النهوض بالقطاع الزراعي، لم يؤد دوره التنموي بالنسق المطلوب. فعوض البحث عن شرح متجانس فكري لظاهرة التخلف في البلدان السائرة في طريق النمو وتقديم مقاربات متماسكة لنمط الإنتاج؛ تكتفي مدرسة الرأسمالية التابعة، التي طرحت توسيع قطاع الصناعة فيما بين 1948 1976 كمخرج من نفق التخلف مؤهلا للبقاء لجميع الاقتصاديات النامية، بحصر حالة التخلف في تعايش قطاعين متناقضين للغاية: واحد ديناميكي رأسمالي «القطاع الحديث أي الصناعة» وآخر قديم ومهجور وغير قابل للتطور التكنولوجي «القطاع التقليدي أي الفلاحة». وثمة حزمة متماسكة من العناصر التي تعالج تعثر الزراعة وتداعيات تهميش هذا القطاع عند أهل الجنوب، قد نلخص أهمها فيما يلي: أولا: اختلاف أنماط الزراعة، صحيح أن وفرة الإنتاج الزراعي مرتبطة بنوعية التربة وتغير المناخ وأنواع المشاتل والتقنيات الزراعية المستعملة، لكنها مرتبطة أيضا باختلاف أنماط الزراعة الناتجة عن اختلاف العادات والتقاليد والثقافات وتفاوت الموارد المالية، وكلها تركة من مخلفات الإرث الاستعماري. ففي العديد من بلدان الجنوب، وبوجه خاص في إفريقيا جنوب الصحراء، المنطقة المتصحرة والجافة، وحيث الحيازات الزراعية الصغيرة هي الأكثر انتشارا، لا يزال أغلبية سكانها يستغلون الفلاحة البدوية مع تربية بعض الأغنام، وهى موجهة بالأساس إلى الاستهلاك العائلي. في حين تمارس الزراعة الكثيفة في جهات تتميز بالاستغلال المستمر للتربة وما يصاحبه من تعمير مكثف للأرياف، وهى منتشرة في معظم بلدان آسيا وأمريكا اللاتينية والبلدان العربية. ويستثمر المزارعون في هذه الجهات في غراسة وزراعة الزيتون والقطن والبطاطا والأرز والكروم والقهوة والشاي والفواكه والخضر والحبوب، إضافة للثروة الحيوانية والسمكية عند البعض منهم، ونجد قسما من هذه المنتجات الزراعية موجها للغذاء المحلي، بينما يشكل القسم الآخر مواد أولية للصناعة الغربية. وفي المقابل نجد جل البلدان الأوروبية وأمريكا الشمالية متخصصة في الزراعة التوسعية التي تتطلب مساحات شاسعة وتضاريس مناخية ممطرة وباردة، وأحيانا تمارس عندهم الفلاحة في ما يعرف بنمط التناوب في الزراعة قصد السماح للتربة بالاستراحة وتجديد خصوبتها. ويستخدم المزارعون في هذه المناطق أحدث التقنيات الزراعية كالتجفيف والسقي والأسمدة، زيادة عن الاستغلال الميكانيكي المكثف. وكانت المحاصيل الزراعية في الغرب الصناعي والمتميزة بالوفرة مخصصة في البداية للاستهلاك المحلي، قبل أن يتحول فائض الإنتاج الزراعي إلى التسويق الخارجي حين سيطرت الاقتصاديات الصناعية على الأسواق النامية بدءا من أواسط القرن ال 20. ثانيا: محدودية التكوين وندرة الموارد المالية والمائية، تتمحور أيضا إحدى المشاكل الرئيسية التي اصطدمت بها الفلاحة لدى عدد لا يحسد عليه من بلدان الجنوب مع حذف استراليا وزيلا ند الجديدة ، حول الاستغلال الزراعي بطرق تقليدية، بسبب تمسك سكانها بالعادات والتقاليد، وانتشار الأمية، وشح الموارد المالية والمائية. فمن الصعوبات الاقتصادية التي تعرضت إليها البلدان السائرة في طريق النمو، خلال النصف الثاني من القرن ال 20، ولا تزال بعضها قائمة عند العديد منهم إلى يومنا هذا، والتي تشكل إحدى المفاصل الرئيسية لشلل جسم مقاربات الرأسمالية التابعة، نجد ما هو مرتبط بندرة الموارد المالية وبتشعب التكنولوجيا أمام بيئة اجتماعية خصبة بالأمية والجهالة العلمية ومليئة بالفقر. ولسائل أن يتساءل كيف إذن لزراعة البلدان النامية أن تتطور وتنمو والحال أنّ التكوين التقني الملزم والمفروض للنهوض بالفلاحة والاستثمار في المشاريع الزراعية الواعدة يفرض بدوره ومسبقا مستوى معرفي وتربوي معين لا يمكن لاستغناء عنه؟ ومن هنا يظهر عنق الاختناق الناتج عن الأمية والجهالة العلمية وندرة الموارد المالية. ثالثا: ارتباط الزراعة النامية بماكينة هيمنة الصناعة الغربية، يعود التفاوت في إنتاجية العامل الزراعي في الدول الصناعية وفي البلدان النامية إلى العوامل المناخية ومدى جودة الأراضي الزراعية والبني التحتية المتاحة، وإلى السياسات الزراعية والاستثمارية والسعرية، وإلى إمكانات المزارع ومدى توفر الإحاطة الصحية والسكنية والتعليمية للمزارعين وتوفير الخدمات الأساسية، كالماء والكهرباء. ورغم التأثر الإيجابي لعديد البلدان النامية بتطبيق التقنيات الزراعية الغربية الحديثة كاستخدام البذور المحسنة وتقنيات الري المتطورة، لم يرتق مردود المحاصيل الزراعية في البلدان النامية إلى النسق المطلوب، ولم يسطر مزارعوها على تكاليف الإنتاج. ومع ارتباط الزراعة عند أهل الجنوب بماكينة التقدم والتحول في الدول الصناعية المحتكرة للتمويل والتكنولوجيات العصرية والعلوم الحديثة وتهميش المزارعين في البلدان النامية، لعب الاستعمار الجديد منذ خمسينات القرن الماضي دورا هاما في الضعف النسبي لمردودية الزراعة لدى أهل الجنوب وعدم تحسن دخل المزارع واتساع الفجوة الغذائية بهدف خلق التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية والسيطرة على التجارة الدولية. متوسط إنتاجية بعض المحاصيل الزراعية للفترة 2000 2007 الوحدة: كغم في الهكتار متوسط الإنتاجية الحمص القمح الشعير القطن البطلطا البلدان الصناعية البلدان النامية البلدان العربية 926 730 550 5700 2320 1970 2970 1680 557 2185 1357 2104 16970 12760 15240 متوسط العالم 750 2800 2300 1620 15630 المصدر: منظمة الأغذية والزراعة الدولية، بيانات الإنتاج الزراعي 2008 تداعيات ضعف المحاصيل الزراعية في البلدان النامية: تنامي الهجرة الريفية واتساع الفجوة الغذائية أفرز النمو السكاني السريع في الدول النامية خلال العقود الأربعة الأخيرة فائضا هاما في اليد العاملة وبوجه خاص في الأرياف ، قاد إلى ارتفاع البطالة الديمغرافية، إضافة للبطالة الهيكلية الناجمة عن محدودية التكوين التقني والجهالة الثقافية وندرة البحوث العلمية والزراعية. ومع نمو فائض القوى العاملة الريفية وعدم تطور المحاصيل الزراعية وتدنى دخل العامل الزراعي وازدياد الفقر في الأرياف؛ وعندما لم تحظ قرى عالمنا المتخلف اقتصاديا ومعرفيا باهتمام مناسب في برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حيث كانت ولا تزال معظم الأرياف تعاني من التهميش في التشغيل والإهمال في الرعاية الصحية والسكنية والتعليمية ونقص في الخدمات الأساسية، كالماء والكهرباء والمسالك الزراعية ومراكز التكوين التقني والنقل بكلفة مقبولة؛ كل هذه العوامل لعبت دورا هاما في ازدياد منسوب الهجرة الريفية نحو المدن الصناعية المكتظة بالسكان والملوثة بثاني أكسيد الكربون بحثا عن تحسين أوضاعهم المادية والمعرفية والاجتماعية. وقاد نمو هجرة الشباب الريفي إلى المدن، بصورة غالبا ما تفوق إمكانات استيعابها وتتجاوز فرص العمل المتاحة في بقية القطاعات الاقتصادية، إلى تفاقم البطالة بين النازحين القرويين بشكل أقوى من وتيرة تفاقم البطالة لدى أبناء المدن، خاصة والاقتصاديات النامية مصابة خلال العقدين الأخيرين ببعض الركود النسبي مما أدى إلى تسريح الكثير من العمال وإتلاف بعض الشركات الاقتصادية وتدهور الأجور، وهو ما شكل بيئة خصبة لتوسع وتنوع رقعة العنف والسرقة والفساد. كما شكلت هذه الهجرة المتنامية عبئا متزايدا على مرافق الخدمات في المناطق الحضرية، في وقت تعيش فيه المؤسسات الحكومية حالات من التقشف. في مقال له تحت عنوان البحث العلمي في الدول العربية: عوائقه ومقتضياته بمجلة شؤون عربية عدد 131 خريف 2007 يقول على محسن حميد، مدير إدارة التربية والتعليم والبحث العلمي بجامعة الدول العربية: «والحديث عن دور التكنولوجيا في التنمية لا ينبغي أن ينسينا أهمية الزراعة، كأحد صمامات الأمن الاقتصادي وأحد مرتكزات الاستقلال التي لا يجب أن تهمل في خضم التركيز على الصناعة أو السياحة التي يبالغ في دورها في ظل التنمية المحدودة حاليا...والزراعة لن تزدهر إلا بتوفير أحدث التقنيات ليكون لدينا إنتاج أوفر ينتجه عدد أقل من القوى العاملة وفى مساحات أقل، مما يسهل إطلاق طاقات ريفية إلى الصناعات في الجهات الداخلية، وخلق نوع من التوازن في الثروة الوطنية، وتوزيع عادل نسبيا لمشاريع التنمية، تحول دون الهجرة المستمرة إلى العاصمة هربا من الفقر والبطالة، وبحثا عن حياة أفضل فيها». ومن جهة أخرى، يعود أيضا اتساع الفجوة الغذائية وتدهور علاقات التبادل التجاري عند الدول النامية إلى ظاهرة اكتظاظ السكان وضعف إنتاجية القطاع الزراعي وهيمنة الغرب الصناعي على الاقتصاديات النامية. فما إن ازداد حجم السكان في الدول النامية بنسق أسرع من نسق النمو الاقتصادي ومع تصاعد وتيرة الاستهلاك وضعف المحاصيل الزراعية، حتى سجلت البلدان النامية نقصا هاما في الأمن الغذائي، لتلتجئ في نهاية المطاف إلى استيراد المواد الغذائية من الغرب الصناعي قصد تلافي نواقص الإنتاج المحلي، زيادة عن استيرادها للتجهيزات الصناعية و...هذا ما أدى إلى إصابة موازين التجارة الخارجية في معظم البلدان النامية بالعجز المزمن والثقيل. والملفت للانتباه هو أنّ مع تنامي حجم الدعم الذي تقدمه حكومات الدول الصناعية لمزارعيها، ومع ازدياد وفرة المحاصيل الزراعية الغربية المعدلة وراثيا، ومع تراجع تكاليف النقل والشحن والتحكم في الأسعار العالمية للمنتجات الزراعية، حتى هيمن الغرب الصناعي على وعلى التجارة الدولية؛ وباتت الدول المتقدمة، صناعية وزراعية معا، وتصدر التجهيزات الصناعية والتكنولوجيا الحديثة مثلما تصدر الحبوب واللحوم الحمراء. تطوّر التجارة العالمية والعربية الفترة 2004 2008 2004 2005 2006 2007 2008 معدل التغير السنوي % الصادرات العالمية 9133 10371 12005 13809 15735 14,6 الواردات العالمية 9477 10748 12449 14093 16169 14,3 الصادرات العربية 403 560 681 792 1050 27,0 الواردات العربية 289 349 401 531 702 24,9 المصدر: صندوق النقد الدولي القيمة: مليار دولار على الدول النامية أن تعالج اليوم أكثر من أي وقت مضى الاختلال بين التنمية الصناعة والتنمية الزراعية، والعمل على ربط الزراعة بالصناعة لتوسيع الرقعة الزراعية. وهذا يتطلب معالجة الاختلال التنموي بين المناطق الريفية والحضرية، وتنمية القرى، وتحسين أوضاع سكان الريف، السكنية والصحية والتعليمية، وتوفير الخدمات الأساسية، ومساعدة صغار المزارعين غير القادرين على الاستثمارات الكبيرة، وتطوير مناخ المزارعين، والنهوض بالمشاريع الزراعية الواعدة، وتحديث مراكز التكوين والبحوث الزراعية؛ قصد دفع حركة التنمية الشاملة ورفع القدرة التنافسية وخلق فرص عمل جديدة في الأرياف وتوفير الأمن الغذائي.