ليفربول يعلن رسميا خليفة كلوب    منوبة.. إيقاف شخص أوهم طالبين أجنبيين بتمكينهما من تأشيرتي سفر    رئيس الاتحاد يشرف على اختتام الصالون المتوسطي للفلاحة والصناعات الغذائية بصفاقس    تحويل ظرفي لحركة المرور على مستوى جسري الجمهورية والقرش الأكبر    مطالبة بتوفير 10 مليارات وحصد التتويجات: هيئة «السي. آس. آس» تحت الضّغط    الدّورة الثّالثة لمؤتمر مستقبل الطّيران المدني: وزيرة التّجهيز تقدّم رؤية تونس في مجال الطّيران المدني في أفق 2040    الثلاثاء: حالة الطّقس ودرجات الحرارة    المسابقة العالميّة الكبرى لجودة زيت الزيتون بنيويورك 26 ميداليّة لتونس    ما هي الدول التي أعلنت الحداد العام على رئيسي ومرافقيه؟    المهدية .. الملتقى الوطني لفنون الصّورة والسّينما والفنون التّشكيلية .. عروض ثريّة للإبداعات والمواهب التلمذيّة    رئيس الحكومة في زيارة ميدانية للشمال الغربي للبلاد التونسية    سجن سنية الدهماني .. يتواصل    مع الشروق .. إدانة... بنصف الحقيقة    القيروان: انتشال جثة إمرأة من قاع فسقية ماء بجلولة    رقم مفزع/ من 27 جنسية: هذا عدد الأفارقة المتواجدين في تونس..    هل فينا من يجزم بكيف سيكون الغد ...؟؟... عبد الكريم قطاطة    التضامن.. الإحتفاظ ب3 اشخاص وحجز كمية من المواد المخدرة    الليلة: سحب عابرة ورياح قوية والحرارة تتراوح بين 16 و26 درجة    عاجل: وسائل إعلام رسمية: انتخابات الرئاسة في إيران ستجرى في 28 جوان    فقدان 23 تونسيا في'حَرْقة': ايقاف 5 متهمين من بينهم والدة المنظّم واحد المفقودين    مدير عام ديوان تربية الماشية: النحل يساهم في ثلث غذاء الإنسان    بنزرت تستعد لاستقبال أبناء الجالية المقيمين بالخارج    والي بن عروس: فخور ب"دخلة" جماهير الترجي وأحييهم ب"عاطفة جيّاشة"    أغنية لفريد الأطرش تضع نانسي عجرم في مأزق !    النادي الصفاقسي : اصابة وضّاح الزّايدي تتطلب راحة باسبوعين    إضراب عن العمل بإقليم شركة فسفاط قفصة بالمظيلة    بودربالة يوجه الى نظيره الايراني برقية تعزية في وفاة إبراهيم رئيسي    وزارة التربية: هذه هي الانشطة المسموح بها بالمؤسسات التربوية خارج أوقات التدريس    وزيرة السعادة تحافظ على مركزها ال9 في التصنيف العالمي    أبطال إفريقيا: الكشف عن مدة غياب "علي معلول" عن الملاعب    تقرير يتّهم بريطانيا بالتستر عن فضيحة دم ملوّث أودت بنحو 3000 شخص    سيدي بوزيد: تواصل فعاليات الدورة 15 لمعرض التسوق بمشاركة حوالي 50 عارضا    كيف قتل "رئيسي"..خطأ تقني أم ضباب أم حادث مدبر..؟    تزامنا مع عيد الاضحى : منظمة ارشاد المستهلك توجه دعوة لقيس سعيد    نحو الترفيع في حجم التمويلات الموجهة لإجراء البحوث السريرية    وزارة التشغيل تمدّد في آجال التسجيل في برنامج مساندة المؤسسات الصغرى المتعثرة إلى غاية يوم 16 جوان القادم    فظيع: غرق شخص ببحيرة جبلية بجهة حمام بورقيبة..    الشاعر مبروك السياري والكاتبة الشابة سناء عبد الله يتألقان في مسابقة الدكتور عبد الرحمان العبد الله المشيقح الأدبية    تونس : أنواع و أسعار تقويم الأسنان    انطلقت أشغاله الميدانيّة: التعداد السكاني دعامة للتنمية الاقتصادية    اشادات دولية.. القسّام تتفاعل وإعلام الكيان مصدوم...«دخلة» الترجي حديث العالم    تونس تقدم التعازي في وفاة الرئيس الايراني    دول إفريقية مستعدّة لتنظيم عودة منظوريها طوعيا من تونس    هذه أول دولة تعلن الحداد لمدة 3 أيام على وفاة الرئيس الايراني..#خبر_عاجل    استدعاء ثلاثة لاعبين لتشكيلة البرازيل في كوبا أمريكا واستبدال إيدرسون المصاب    بينهم زعيم عربي.. زعماء دول قتلوا بحوادث تحطم طائرات    تحذير من موجة كورونا صيفية...ما القصة ؟    نهائي "الكاف": حمزة المثلوثي رجل مباراة الزمالك ونهضة بركان    المندوبية الجهوية للشؤون الثقافية بسيدي بوزيد تستعد للموسم الثقافي والصيفي 2024    القصرين : الوحدات العسكرية تشارك أبناء الجهة احتفالاتها بالذكرى ال68 لإنبعاث الجيش الوطني التونسي    المرشح الأول لخلافة الرئيس الإيراني..من هو ؟    4 تتويجات تونسية ضمن جوائز النقاد للأفلام العربية 2024    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    دار الثقافة بمعتمدية الرقاب تحتفي بشهرث الثراث    نحو 20 % من المصابين بارتفاع ضغط الدم يمكن علاجهم دون أدوية    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لن نقول للطاهر الشريعة وداعا بل لرجل عظيم مثلك يعترف الوطن
الطاهر شريعة ❊ بقلم عبد الكريم ڤابوس
نشر في الشعب يوم 20 - 11 - 2010

»الطاهر الشريعة« هذا الاسم سيبقى محفورا في ذاكرة السينما التونسية، جيلا بعد جيل مثله مثل ابناء تونس البررة الذين قدموا الكثير للبلاد والعباد.
فكما في الشعر لا نذكر الا بيتا لكل شاعر يسمى بيت القصيد ففي، ضروب الفن والعلم والثقافة والاقتصاد والسياسة لا تبقى الا اسماء قليلة...
في بلدان متقدمة مثل فرنسا يعترف البلد بخدمات العظماء فيقوم عند الحاجة بتحويل جثامين أولائك الذين خدموا البلاد الى مقبرة خاصة مثل مقبرة »البانتيون« حيث كتب على واجهتها »للعظام الوطن يعترف« لماذا؟
والطاهر الشريعة ترك بصماته كلما مر بتنظيم أو منظمة او ادارة او تظاهرة او نشرية، أو جلسة في مطعم او في بيته... فهو عظيم.
كنا كتبنا في الاعداد السابقة مقالات وشهادات حول مسيرة الطاهر الشريعة غير ان الكثير الكثير لم يكتب...
اضافة الى ما كتبنا حول سيرته سوف نقدم أوجها أخرى من مسيرته.
❊ ❊ ❊
التكريم ... والأعتراف
كنا عزمنا في جريدة »الشعب« وذلك منذ شهر جويلية الماضي على تخصيص عدد من »منارات« للدورة 23 من »مهرجان ايام قرطاج السينمائية« ولما كان ديدن منارات ومنهجها هو التنوير والخروج عن القوالب الجامدة فكرنا محمد العروسي بن صالح وأحمد الحاذق العرف ومحبّر هذه السطور في اعداد ملف حول مسيرة من سميناهم »الفرسان الثلاثة« الذين كانوا أول من وضع أسس السينما التونسية وبنوا صرحها لبنة لبنة وهم الطاهر الشريعة العرّاب والراعي ورأس الحربة والنوري الزنزوري ذلك الجميل العفوي والطوبوي والقدرة الخرافية على العمل والمثابرة والايمان بالسينما والمنصف بن عامر صاحب الذاكرة الخرافية والدقيق الدقيق في كل ما يفعل والذي يجمع كل من عرفه على نزاهته وتواضعه وتفانيه الذي يستحق اكبر وسام شغل في تونس وفكرنا في التكريم... وأعددنا الميداليات وانتقلنا الى صيادة ثلاثتنا للقاء الطاهر الشريعة لتحديد ما يجب اعداده »لوجستيكيا« لأن الطاهر الشريعة كان يشكو من آلام كبيرة ولا يتحرك الا على كرسي نقال... وكانت جلسة جميلة وطريفة تحدثنا فيها لمدة ساعتين حول العديد من المواضيع والتثبت من بعض المعلومات لإعداد ملف يكرم الطاهر الشريعة نشرناه في العدد 1098 من جريدة الشعب، واكتشفنا ان الهيئة المديرة لأيام قرطاج السينمائية كانت تعدّ تكريما ولم نستطع تحديد تاريخ التكريمين لان سي الطاهر طلب ان لا ينتقل من صيادة الا مرة واحدة... واقترحت أن نقوم بالتكريم في صيادة... غير أننا لما حضرنا التكريم في المسرح البلدي يوم الاربعاء 27 اكتوبر، رأينا انه من قبيل التكرار والحشو ان نقوم بتكريم ثان، اذ ان المرحوم لمّا اقترحنا عليه مكان التكريم، رغب ان يكون في مبنى ضريح فرحات حشاد... وان لا يقع ذلك التكريم هناك فليكن في ساحة محمد علي... قررنا نهائيا ان نرجئ ذلك التكريم الى يوم 5 جانفي عيد ميلاد المرحوم وشهر جانفي هذا، حافل بالذكريات النقابية والوطنية ففيه ذكرى 18 جانفي ذكرى اندلاع الثورة الوطنية و 19 جانفي (1925) ذكرى تأسيس جامعة عموم العملة التونسية و 20 جانفي (1946) ذكرى تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل وذكرى الخميس الأسود (26 جانفي 1978) وكذلك ذكرى ميلاد السينما التونسية في جانفي 1961 حيث سنحتفل فيها بمرور 50 سنة على بعث ادارة السينما بوزارة الثقافة على يد الطاهر الشريعة وهذا ما سوف نعد له.
لكن الزمن لا يرحم وغاب سي الطاهر الشريعة جسديا إلا أنه باق ككل العظام، فالنداء لكل محبي السينما والذين ينتمون الى منهج الطاهر الشريعة وتلاميذه الاتصال بنا للمشاركة في المهرجان الذي سوف تنظمه الشعب احتفاء بمسيرة الطاهر الشريعة.
❊ ❊ ❊
وان كنت قد أتيت على جوانب عديدة من مسيرته فإن المزيد والمزيد من الحديث عن مسيرة هذا الرجل طويل وهنا اذا كان لابد للملف الذي نشرنا من متابعة، فها هي ذي بعض الأوجه الاخرى عن الطاهر الشريعة.
❊ ❊ ❊
الانسان ... ابن الشعب الذي بقي على العهد
ان كان من يعرف الطاهر الشريعة عن طريق هيئته في السينما فإن الذين اقتربوا منه والذين غطاهم بعباءته واصبحوا من مريديه يعرفون عنه اشياء اخرى وها كم بعض الأوجه التي لا يعرفها الا النرز القليل.
الطاهر الشريعة تلك الشخصية الشهيرة والمعروفة اعلاميا ذو العلاقات العديدة والمتعددة عبر القارات الخمس هو في الحقيقة انسان معزول ومنزو في حياته بين الزاهد والمتعوي يعرف كيف يعطي للحياة معنى، فقد كان وإن لم ينفصل عن أسرته يعيش وحيدا في بيته بمدينة الزهراء بعيدا عن صخب المدينة قريبا من البحر ومنغمسا في التأمل... يقسم يومه بين القراءة وهو قارئ ممتاز والكتابة التي يتلذذ بها وكأنه يمارس الجنس مع الجملة باللغتين والعمل اليدوي.
فالطاهر الشريعة طبّاخ ماهر... خاصة في اعداد السمك المشوي، ونجار ماهر... فأمام مدخل غرفته يتربع مشغل نجّار محترف... والمرات القليلة التي استدرجته فيها لأعطائي نصائح وانا ابني بيتي كنت أعده بقطع من الخشب، وهو كذلك من ابرع صانعي التريكو... ذات مرة رافقته في رحلة من باريس الى بغداد كان قد اشرف على انهاء تريكو طرزه في الطائرة وروى لي مرة أخرى انه قد نسج »تريكو« لابنته بلقيس اكتشفته »فلّة« صاحبة دكاكين الموضة فقالت له انها مستعدة لشراء عشرات »تريكوات« من ذلك النوع بأثمان باهضة لو وفّرها لها.
والطريف أنك لو تأملت مليّا في يد الطاهر الشريعة فستلحظ أنه عوضا عن خاتم الزواج يربط خيطا من الصوف حول بنصره... قال انها تحية لابيه النساج... والطاهر الشريعة دقيق في تربية الحيوانات »وكم تلذذنا بالحمام« الذي كان يربيه وهو كذلك بارع في البستنة فقد طوّع العديد من النباتات التي أتى بها من افريقيا فزرع نباتات أعطت الثمار »الباباي« و »ثمرة العشق« والسيترونبل« و »القطن الوردي« هذا علاوة عن »القوافة«... الا »المنڤا« لم تفلح معه... وان كانت لي حسرة فهي انه كان قد زرع لي شجرة »باباي« وكل مرة أزوره فيها يقدمها لي ولما أينعت قال لي متى ستنقل شجرتك ولم أفعل... سأزرع اليوم شجرة باباي يا سي الطاهر وأتذكرك.
... من خصال الطاهر الشريعة ، تذوقه لخيرات الارض فهو حريص على سلامة ولذة ما يأكل... وكلما دعاني في باريس الا واكتشفت مطبخا جديدا... وهو اختصاصي في التعرف على المطاعم ذات المعادلة الجميلة بين السعر واللذة... هكذا عرفني على مطعم في »كان« »مطعم الكاركاسوني« الذي كنّا نؤمه يوميا مع »عصمان صمبان« و »بولان فييرا« وفريد بوغدير...
... غير انك اذا جلست معه وكان مطعمنا »تونتون فيل« في نهج بوغسلافيا في تونس وتتناول معه سمكا فلابد ان تتنازل له عن رؤوس السمك فهو يستولي عليها ويقترح عليك ان يقايضك جسد السمك مقابل رأسها... وهو بطل عالمي في شواء السردين...
كل هذه الخصال... تجعلك تنبهر به خاصة انه يفعل ما تراه وهو يتحدث.
❊ ❊ ❊
حديث الطاهر الشريعة... نبع من المعرفة والتراث
اذا جلست الى الطاهر الشريعة فعليك ان تتعلم كيف تتكلم وكيف تسمع فإن كان بعض الاغبياء يرون في حديثه طولا فذلك لعدم فهمهم لقاعدة يعرفها أهل الذكر والمعرفة... فقد سمعت من والدي ان شعار سيدي مصطفى خريّف وكان صديقه هو : »إن كنت جالسا مع شخص أقل منك معرفة وتجربة فاسكت واستمع، وان كنت جالسا الى شخص أقل منك معرفة وتجربة فتكلم كل الوقت« والجلوس الى الطاهر الشريعة فيه لذة ونفع... فهو وان كان يتحدث طول الوقت فهو لا يثرثر ولا يهذي فتارة يُعْلِم... وأخرى يُعَلِّم ومرة أخرى يتذكر... وفي بعض الاحيان يندّد لكن لا يشتكي وأخرى يحلل ويقارن ويقارع الفكرة بالاخرى، ودوما يخطط لمشاريع جديدة وأحلام طوباوية واقتراحات كثيرا ما تكون مغرية ومشاريع كتب لم يتوصل الى انجازها...
والحديث عنده ذو شجون كثيرة واعتبر نفسي كما اعتبر كل من جالسوه قد كانوا محظوظين إذ تعلموا الكثير... والجميل في حديثه انه ينتقل من العربية الى الفرنسية بسلاسة، فهو دوما يبحث عن العبارة الصحيحة والجملة الدقيقة والتعبير الأمثل يردفها بحركات يديه الشهيرة...
هذا عندما يتحدث، وهو كما يكتب ملك الاستطراد...
❊ ❊ ❊
يكتب ... يكتب ... يكتب
... الطاهر الشريعة قادر ان يجلس ليلا على مكتبه ساعات طويلة ويكتب... فهو ملك كتابة الرسائل... وتحرير الرسائل هو فن عند العرب... مثل ابن القارح والمعرّي... ومثل تلك الرسائل الشفوية التي أتت في أحد أجمل الكتب التي وصلتنا، أعني »الامتاع والمؤانسة« لأبي حيان التوحيدي... رسائله جميلة ومليئة بالاستطراد... فقد أهداني أخيرا سمير فريد جلّ الرسائل التي أرسلها له الطاهر الشريعة، وقد أمنتها عند منتج اختلف معه الآن وأملي أن لا يتلفها وآمل يوما ان نجمع كل الرسائل التي بعث الطاهر الشريعة وننشرها لأنها تتراوح بين العتاب والمحبة، والثقافة، والحلم، والتدقيق... كل مرة أتسلم رسالة من الطاهر الشريعة نصفها حبّا ونصفها شتما وكان يناديني يا جريدي وأنا على فكرة كنت لا أعرف لماذا لا أناديه الا بإسمه »يا طاهر« وهو أعلى مراحل الاحترام فأنت لا تستطيع ان تنادي »فولتير« سي فولتير أو »عم بيرم التونسي« للعظام اسم ولقب...
... بين الرسالة والرسالة... يكتب شعرا او يترجم شعرا او يجتر خواطر أو يشرع في اعداد تقرير ولابد من جمع كل ذلك التراث وخاصة تقاريره عندما كان يسهر على مصير السينما الفرنكوفونية في صلب منظمة الفرنكوفونية، والطاهر الشريعة كان يتمتع قبل المرض بذاكرة خرافية... غير انه هو الذي لم أسمع منه يوما كلمة سيئة في سمعة احد... بل انه اذا اختلف مع شخص ينساه واكتشفت انه ينسى اسماء أشباه المثقفين وكذلك المسؤولين الرسميين والذي يسترعي الانتباه لدى الطاهر الشريعة خطه الواضح كل الوضوح بالعربية والفرنسية وهو قليلا ما يقوم بشطب كلمة... وهو كذلك يحب الاقلام الجميلة والورق الجميل.
... غير انه يتمتع بخصال جميلة فهو ان قرر ان تكون من الذين يتدثرون بعباءته يفاجئك على الأقل مرة في الشهر برسالة او طرد تجد فيها وثائق وجدها في مهرجان أو ندوة فكّر انها تساعدك على عملك... وأطرف من ذلك انه حريص على قراءة ما يكتب حول السينما فكان يتابعنا، عبدكم الحقير وخميس الخياطي وفريد بوغدير ومحمد الكامل والمرحوم محمد محفوظ ومن قبلنا محمد عزيزة. وهو كثيرا ما يرسل ببطاقة يطلب فيها احد مقالاتك.
وان كنت اتذكر فإن »هملت« عندما سأله أحدهم ماذا تكتب أجاب كلمات ... كلمات ... كلمات... غير ان الطاهر الشريعة يكتب معان... معان... معان... وأرجع الى الذاكرة وأحمد الله على ذلك اليوم الذي وصلتني فيه بطاقة بريد... يعلن فيها انه داخل المستشفى لإجراء عملية... يختمها بأن أحتفظ بتلك البطاقة لعلها اخر ما كتب... فهرعت بحثا عنه واكتشفت ان البطاقة وصلت مؤخرا وان العملية نجحت وقررت في الصيف الموالي ان أسجل ذكرياته وكنت آمل ان أسجل ساعتين أو ثلاث وهو أمر كبير فكنا نسجل »شريطا في اليوم« ودام التسجيل من 10 جويلية الى عشرين أوت... سجلت فيها 22 شريطا اي 22 ساعة... وتركت له الأشرطة وآلة التسجيل فقام بتسجيل نفسه في أربعة أشرطة أخرى... وفي الصيف الموالي أجّرت مكتبا لمدة شهر عند احد الاصدقاء وطلبت من طالبتين كنت قد تابعت رسالتهما في البحث تفريغ »الكاست« مقابل مبلغ مالي وهو ما فعلتا فرقنتا المحتوى على الورق وبدوري قدمت للطاهر الشريعة للمراجعة... وأجابني انه وجد نفسه في موقف اعادة كتابة كل ذلك من جديد... ماذا فعل... لا أدري لأنني لم أجد ناشرا خاصة ان الباهي الادغم كان مازال على قيد الحياة ولم يكن الطاهر الشريعة مرنا مع الباهي الادغم الذي قام معه بالتحقيق في قضية »سجن الطاهر الشريعة« عام 1968 وكان من شروط النشر ان لا تحذف كلمة من موضوع القضية والتصرف في الباقي، ومازلت أحتفظ بالمخطوط... وأملي ان تصدر هذه المذكرات يوما. وهنا أنشر صورة لفهرس الحديث شريطا، شريطا بخط يد المرحوم والذاكرة ليست في الشريط فقط، فالموروث الذي تركه الطاهر الشريعة غزير وثري...
وآمل ان نرجع الى أرشيف وزارة الثقافة ونعيد قراءة التقارير التي كان يحبرها وكأنه يكتب دراسات أدبية في لغة جميلة وأرقام مدققة وكذلك التقارير التي قدمها لليونسكو عندما كان خبيرا غير متفرغ لدى اليونسكو وفيه دراسات متعددة ثم التقارير المتعددة التي آمل أن تساعدني ابنته وأختي أنيسة برّاق تلك المرأة التونسية الرائعة التي تسهر اليوم على ادارة الاعلام بمنظمة الفرنكوفونية...
... عندي البعض من تلك الدراسات بل يجب جمع الكل في كتب بالصور والوثائق كذلك الكتاب الجميل الذي خصصته ابنة الشاعر الفرنسي الكبير »روني شار« وسمته في »مشغل الشاعر«... فما أحوجنا الى كتب تسمى في مشغل أب السينما، الذي يستحق اكثر من تكريم...
❊ ❊ ❊
التكريمات... هي في الاعتراف والتخليد
عندما طرحنا عليه تكريما يقوم به الاتحاد العام التونسي للشغل قال كرمت ألف مرة... وعندي كيلوات من النياشين... غير ان هنالك تكريمات من تكريمات... فأشعر بنخوة لما يكرّمني الاتحاد العام التونسي للشغل عن طريق جريدة »الشعب«... ولعلمكم لما كنت تلميذا في الصادقية كنت أكتب في جريدة الشعب (هل هي جريدة أخرى أم الذاكرة)... وأهم تكريم حدثنا عنه هو تكريمه من طرف الرئيس »توماس سنكارا«... رئيس »البوركينا فاسو« لما قلّده في نفس الدقيقة هو و »عصمان صمبان« بأكبر صنف من الأوسمة في »بوركينا فاسو« وهي »نجمة ناهوري«... اعترافا لهما بما فعلاه للسينما الافريقية...
❊ ❊ ❊
وافريقيا... للطاهر الشريعة... تعترف بالجميل
ناضل الطاهر الشريعة في سبيل السينما الافريقية فهو الذي كان وراء تأسيس فيدرالية السينما الافريقية التي بدأت بذرتها في الحمامات اثناء المائدة المستديرة الأولى عن السينما الافريقية في الدورة الثانية لمهرجان ايام قرطاج السينمائية... ثم انطلقت الدراسات لتخليص السينما الافريقية وشاشتها من ربقة الاستعمار واعترفت منظمة الوحدة الافريقية بالفيدرالية وتم بعث مهرجان »واغادوغو« وأشرف على دورتيه الاوليين وجعله بالتداول مع ايام قرطاج السينمائية وهو يؤكد »أن كل سنة يجتمع سينمائيو جنوب الصحراء مع سينمائيي شمالها في السنوات الزوجية في قرطاج وفي السنوات الفردية في واغادوغو، وفعلا اشتد عود مهرجان واغادوغو وها هو اليوم حسب رأي الطاهر الشريعة عشر مرات اكبر واهم من مهرجان ايام قرطاج بتونس... لانه بقي افريقيا... وشعبيا...
ولو كنت رافقت الطاهر الشريعة في واغادوغو وهو يختال بجبته وقبعته الشهيرة والنيشان على الجبة لأكتشفت مدى شعبيته، الكل يعرفه ويعزه ويحترمه من بائع السجائر الى أكبر موظف ويحيونه: »تحية أيها العميد« وهي أعلى رتبة اجتماعية في بوركينا... وكم كان صديقا لرئيس الدولة سانكارا فقد جرت العادة منذ عشر سنوات أن يجتمع عمداء السينما الافريقية على طاولة قرب المسبح بالنزل وهم الطاهر الشريعة وعصمان صمبان وبولان فييرا والسينمائي المناضل »غحغان« صديق مانديلا والذي دافع بأفلامه عن مانديلا طيلة 20 سنة وديزري ايكاري... وكنا نسميها طاولة »الشيوخ«... وفي العاشرة ليلا يأتي »سنكارا« رئيس الدولة على دراجة وعلى كتفه ڤيتارة وينضم الى الشيوخ... ويشرع في العزف...
ما أحلاك يا افريقيا
يا افريقيا بلد الأحلام التي ساهم في تحويل العديد منها الى واقع الطاهر الشريعة.
❊ ❊ ❊
عودة... فلاش باك... حلم
بعد أن قرر الطاهر الشريعة الرجوع الى البلد في سن التقاعد، اكتشف ان منحة التقاعد من تونس كانت 245 دينارا وحكى لي مع أحد أصدقائه المقربين انه كان يتصور الامر ففي شبابه اقتنى بيتا لم يخبر عنه أحدا... وقال لي انه سيسوغه وسيواصل بثمنه المشوار.
واصل التنقل والعمل فكتب سيناريو للمخرج الموريتاني »محمد عبيد هندو« الذي كان يأتي كل سنة يقضي في بيت الطاهر الشريعة شهرا وأكثر يكتب ولا يعرف أحد انه في تونس وكتب له الطاهر سيناريو الفيلم... غير أن مشاكل الانتاج دائما صعبة فحصل خلاف بينهما وحتى وفاته لم يتحصل الطاهر الشريعة على حقوقه وهي 10 الاف دينار.
رغم ذلك واصل الأمل والعمل في اطار اهتمامه الأوحد وهو متابعة الافلام والسينما العربية والافريقية. لكن في السنة الأخيرة، أصرّ على ان يتحول الى مدينة صيادة التي قال انه منذ عشرات السنين لم يزرها الالماما فعاد إليها عاد مثل كل العظماء ليتشبث بالارض التي مشى فوقها خطواته الأولى... ولما سألته في الهاتف لماذا ذهبت الى صيادة أجاب بسخريته الذاتية المعهودة »لأخفف عنكم وزر نقل جثماني... وأود أن أكون أقرب ما يمكن الى موقعي الحقيقي ذلك المقر المقابل للبحر في صيادة«. وفعلا تقع مقبرة صيادة قبالة البحر.
»يا طاهرًا انك أقرب الى القلب والذاكرة ولن ننساك...«.
نقسم بالبصر والبصيرة أن نناضل ونواصل ونحاول ان نحقق حلمك المتمثل في بعث مركب ثقافي في صيّادة يحمل اسمك الذي هو باق »كباق الوشم في باطن اليد« على حدّ تعبير لبيد الذي كنت تدرسه.
لا أقول مع تلاميذك وأصدقائك ومريديك وداعا ورحمة الله عليك فحسب بل نقول: »لرجل عظيم مثلك يعترف الوطن«.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.