أسدل الستار يوم 31 أكتوبر 2010 على الدورة 23 لأيام قرطاج السينمائية بعد قرابة 10 أيام بلياليها من العروض السينمائية، هذا المهرجان الذي يقام مرة كل سنتين وتشرإب له أعناق محبي السينما في تونس والسينمائيين العرب والأفارقة قصد عرض ابداعاتهم في هذا المهرجان الذي يساهم ايضا في تنشيط الحياة الاقتصادية بالشارع الرئيسي والشوارع المتفرعة عنه التي تضم ما تبقى من قاعات العرض السينمائي، هذا فضلا عن إتاحة الفرصة لمختلف وسائل الاعلام لتغطية مساحات هامة من البرامج الاذاعية والتلفزية وصفحات الجرائد... إلا ان الدورة الاخيرة أثارت جدلا كبيرا وطرحت العديد من الأسئلة الحارقة حول ايام قرطاج السينمائية سواء قبل انطلاقها او أثنائها في أروقة القاعات وداخلها، بل ان هذه الأسئلة ازدادت حدّة بعد الاعلان عن نتائج الافلام المتوجة. كل هذه الأسئلة وغيرها حامت حول ضحالة المضامين التي عرفتها الدورات السابقة ومن المتسبب فيها؟ لجنة إنتقاء الافلام أو السينيمائيين أنفسهم؟ الانتظارات من الدورة الجديدة التي كان يتمنى محبّو السينما مشاهدة أفلام تصور وتؤرخ ما عاشته المنطقة العربية والافريقية من اضطرابات اجتماعية في السنوات الاخيرة، أحداث الحوض المنجمي تونس ، احتجاجات سكان الاحياء الشعبية العاصمة الجزائر ، أحداث سيدي إفني المغرب وغيرها من الاحداث التي عاشتها عديد البلدان العربية والافريقية. وللاجابة عن كل هذه الأسئلة يجب التذكير بأن ال "JCC" ومنذ انطلاقتها سنة 1966 الى غاية أواخر الثمانينات كانت توفر مجالا سانحا لمحبي السينما مشاهدة افلام غالبا ما تكون مرآة عاكسة للواقع السياسي، الاقتصادي والاجتماعي وكذلك المخزون الثقافي والمجالي للبلدان المشاركة، كما كانت معظم هذه الافلام سهلة الفهم والهضم وذلك لإنتماء مخرجيها الى مدرسة سينمائية تعتمد على المباشرتية في طرح القضايا المنحازة الى الفئات الاجتماعية المفقرة والمعدمة من ذلك فيلم »عمال عبيد«، »سوداء فلان«، »عزيزة«، »السفراء«، »حلاق درب الفقراء«... الخ. إلا أن التحولات السياسية والاقتصادية التي شهدها العالم منذ بداية التسعينات ألقت بظلالها على هذا المهرجان العريق في دوراته الاخيرة والدورة 23 على وجه الخصوص لم تكن في منأى من هذه التحولات بل امتدادا لحالة الوهن والترهل التي بات عليها ال "JCC" جراء حياد القائمين عليها عن الثوابت والأهداف التي من أجلها أسس المرحوم الطاهر الشريعة ورفاقه هذا المهرجان الذي أضحى يقدم أفلاما متعالية على ثقافة المتلقي العادي البسيط وتجنح الى اعتماد لغة سينمائية معقدة لفكّ رموزها وطلاميسها يتعين عليك ان تكون متضلعا في السينما ومدارسها، افلاما تحلق بعيدا عن الواقع المعيش من هموم وآلام وآمال السواد الأعظم من الجماهير. واستعاضت هذه الافلام عن المضمون الجاد بالصور الجميلة التي تنقل اهم المناظر الطبيعية والاثرية الى حد يخيل فيه انك في احدى الوكالات السياحية التي تسوّق للمنتوج السياحي لبلادها... ولكي لا أكون حاملا لنظارات خشبية وعدميا فإني أعتبر الفيلم الجزائري »رحلة الى الجزائر«والتونسي »شارع النخيل الجريح« رغم أنهما لم يلامسا الابداع والروعة في عكس الواقع الى أنهما كانا كالصرخة في واد سحيق وكالنجمة في السماء الداكنة في الدورة الاخيرة واعتقد ان هذين المخرجين وغيرهما لو تتوفر لهم ظروف العمل الموضوعي من الدعم المالي غير المشروط ودون وصاية والحرية في الابداع عندها سنرى سينما ملتصقة فعلا بهموم الناس والوطن وسيعاد لل "JCC" بريقها وستعود لها جماهيريتها الفعلية المحبة للسينما وليست جماهير الاستعراض والمناسبات والمدفوعة لتأثيث القاعات كما اصبح لا يخفى على احد التدخل السافر لوزارة الاشراف في كل كبيرة وصغيرة فيما يتعلق بأيام قرطاج السينمائية من اختيار مضامين الافلام حتى توجيه الجوائز، فأفلام المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة لهذه الدورة تعرضت في معضمها لمسألة التأثيرات النفسية والاجتماعية للحروب الوطنية والاجتماعية بعد انتهائها على شعوبها وما تخلفه من فوضى وجريمة من ذلك فيلم »حالة عنف« و »شيرلي آدامس« من جنوب افريقيا »إماني« من أوغندا »مرة أخرى« من سوريا ومحاولة توجيه رسائل لمستهكلي هذه الافلام مفادها ان الحروب سواء كانت عادلة او غير عادلة لا تخلف الى المآسي والكوارث وحجب الوجه الآخر الناصع البياض للحروب العادلة وهي تحرير الشعوب من ربقة الاستعمار والاستبداد... ولجعل هذه الدورة 23 متناغمة مع السنة الدولية للشباب وكأني بالادارة إرتأت تخصيص هذه الدورة المنقضية للشباب حتى تنسجم مع روح الاحتفالات للدولة التونسية صاحبة الاقتراح لذلك أعطيت الفرصة لبعض المخرجين الشباب ليقدموا باكورة أعمالهم السينمائية الروائية الطويلة في المسابقة الرسمية مثل »جواد سعيد« من سوريا مخرج فيلم »مرة أخرى«، »ديما الحرّ« من لبنان مخرجة فيلم »كل يوم عيد«، »آلفي هومانوس« من جنوب افريقيا مخرج »شيرلي آدامس« فضلا عن العدد الهائل من المخرجين الشباب المشاركين في مسابقات الافلام القصيرة والوثائقية وهو أمر إيجا بي في حد ذاته، اما في ما يتعلق بالحضور الجماهيري اللافت والذي ميز هذه الدورة حقا، اعتقد ومن خلال قربي من هذا الجمهور الذي تابعت معه اكثر من أربعين فيلما بين طويل وقصير من مختلف أقسام المهرجان انه ثمة جهة سياسية معينة دفعت ووفرت اشتراكات لمنتسبيها من تلاميذ وطلبة معاهد السينما والملتيميديا والفن المسرحي، كما ساهم حضور العديد من الافلام التونسية في مختلف المسابقات في الدعاية لأيام قرطاج السينمائية وحضرت العائلات والاصدقاء وأولاد الحومة وهو ما أضفى أجواء خاصة داخل قاعات العرض وخارجها بل حتى الجوائز حسب اعتقادي تم تكييفها مع الاحتفالات بالسنة الدولية للشباب، لذلك تم إسناد التانيت الذهبي لفيلم »الميكروفون« لمحمد عبد الله من مصر لا لشيء الا لتطرقه لموضوع مجموعة من الشباب المهوس بفن »الراب« وهذا التتويج فاجأ كل من تابع المسابقة الرسمية وشاهد كل افلامها بل انه فاجأ ايضا البعض من اعضاء الهيئة المديرة للمهرجان وأثار استياءهم تماما مثل ما هو الشأن في الدورة 18 عندما لم تسند جائزة للفيلم المغربي »علي زاوا« الذي كان مرشحا للحصول على التانيت الذهبي ثم ذهبت لغيره وهو ما حصل ايضا في دورات سابقة اخرى، فالجميع كان يرشح في هذه الدورة »الجامع« من المغرب و »شيرلي آدامس« و »شارع النخيل الجريح« و »مرة أخرى« و »رحلة الى الجزائر« للحصول على جوائز بتفاوت طبعا. وهو ما يؤكد من جديد ان لجان التحكيم لها قوانينها وضوابطها ونواميسها الخاصة بها يتداخل فيها الثقافي بالسياسي، والترضيات لرتق ما مزقته علاقات إهتزت بسبب حادثة مباراة رياضية أو تصريح غير مسؤول ومحسوب لمسؤول سياسي الخ... أعتقد ان قرارات لجان التحكيم هذه لم تعد تنطلي على محبي السينما والسينمائيين التونسيين الذين استمدوا ثقافتهم السينمائية وتربوا عليها في نوادي السينما التي كانت ولا تزال رغم تراجعها الكبير والمفزع تؤمنها الجامعة التونسية لنوادي السينما والجامعة التونسية للسينمائيين الهواة وجمعية النهوض بالنقد السينمائي، والدعوة اكثر من ملحة لفتح دور الثقافة والشباب في وجه هذه الجمعيات ومنسبيها حتى يتسنى لهم إحياء وبعث نوادي سينمائية تساهم في نشر ثقافة سينمائية في صفوف الشباب بمختلف فئاته من خلال الشاشة الكبيرة التي تبقى لها متعتها، لأن مثل هذه النوادي تبقى وحدها القادرة على تزويد الساحة الثقافية السينمائية بجمهور نوعي ذواق للسينما وقادر على فهم وتفكيك ما يقدم له من مادة سينمائية قد تساعد على فهم وتفكيك مختلف مناحي الحياة اليومية، وكذلك نفض الغبار على آلات العرض التي دفعت فيها المجموعة الوطنية أموالا كبيرة لشرائها وقد يكون أصابها الاهتراء والصدأ جراء عدم استعمالها والاستفادة منها كما يمكن ان توفر هذه النوادي منابر للحوار قد تساعد الشباب على ايجاد حلول لمشاغله بعيدا عن الحرقة والحلول اليائسة الأخرى. ❊ هوامش من ال "JCC" حضر المرحوم الطاهر الشريعة في حفل تكريمه في كرسيه المتحرك وهو عاجز عن الحركة إلا ان عقله كان في عنفوان شبابه حيث ألقى كلمة دعا فيها السينمائيين العرب والافارقة الى الصدق في أعمالهم مع أنفسهم وان يضعوا وجدانهم وهواجسهم كلها في أعمال سينمائية هادفة كما يريدون هم أنفسهم دون تأثيرات خارجية أو تدخلات الآخرين. السينما المكسيكية وفيلم »خارج عن القانون« لرشيد بو شارب كان لهما صدى ايجابيا في الدورة الاخيرة. تردد في كواليس المهرجان ان قاعة »المونديال« حاليا و »هاني جوهرة« سابقا ستغلق قريبا لتتحول الى مشروع تجاري. يبدو ان بعض آلات العرض السينمائي لم تدخل عليها الصيانة اللازمة قبل انطلاق المهرجان مما جعل بعض العروض تشهد تقطعا في متابعة الافلام وتململا في صفوف المشاهدين. توافد على ال "JCC" جمهور من مختلف جهات البلاد، العديد منهم خصص جزءا من عطلته السنوية لهذا المهرجان أما الاقامة في العاصمة وأحوازها فقد أمنها لهم الاصدقاء والاقارب وفي النزل المتواضعة. الجامعة التونسية لنوادي السينما كانت وفيّة لما دأبت عليه منذ الدورة الاولى لأيام قرطاج السينمائية والمتمثلة في ادارة نقاشات افلام المسابقة الرسمية وبحضور مخرجي هذه الافلام. ❊ محسن الخلفاوي ناشط سابق بالجامعة التونسية