رئيس الجمهورية يأذن بعرض مشروع نتقيح الفصل 411 من المجلة التجارية على مجلس الوزراء بداية الأسبوع المقبل    عضو هيئة الانتخابات: حسب الاجال الدستورية لا يمكن تجاوز يوم 23 أكتوبر 2024 كموعد أقصى لإجراء الانتخابات الرّئاسية    تونس حريصة على دعم مجالات التعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ( أحمد الحشاني )    مسؤول باتحاد الفلاحين: أضاحي العيد متوفرة والأسعار رغم ارتفاعها تبقى "معقولة" إزاء كلفة الإنتاج    تونس تشارك في الدورة 3 للمنتدى الدولي نحو الجنوب بسورينتو الايطالية يومي 17 و18 ماي 2024    المنستير: إحداث اول شركة أهلية محلية لتنمية الصناعات التقليدية بالجهة في الساحلين    العثور على سلاح "كلاشنيكوف" وذخيرة بغابة زياتين بجرجيس مخبأة منذ مدة (مصدر قضائي)    الترجي الرياضي يكتفي بالتعادل السلبي في رادس وحسم اللقب يتاجل الى لقاء الاياب في القاهرة    كاس تونس - النجم الساحلي يفوز على الاهلي الصفاقسي 1-صفر ويصعد الى ربع النهائي    الحرس الوطني: البحث عن 23 مفقودا في البحر شاركوا في عمليات إبحار خلسة من سواحل قربة    طقس... نزول بعض الأمطار بالشمال والمناطق الغربية    المنستير : انطلاق الاستشارة لتنفيذ الجزء الثالث من تهيئة متحف لمطة في ظرف أسبوع    اليوم العالمي لأطباء الطب العام والطب العائلي : طبيب الخط الأول يُعالج 80 بالمائة من مشاكل الصحة    قبل أسبوعين من مواجهة ريال مدريد.. ظهور صادم لمدافع دورتموند    بوسالم.. وفاة شاب غرقا في خزان مائي    مهرجان «بريك المهدية» في نسخته الأولى: احتفاء بالتّراث الغذائي المحلّي    عمر الغول.. الولايات المتحدة تريد قتل دور مصر بالميناء العائم في غزة    ملتقى وطني للتكوين المهني    المجلس المحلي بسكرة يحتجّ    منال عمارة: أمارس الفنّ من أجل المال    عاجل/ صفاقس: انقاذ 52 شخصا شاركوا في 'حرقة' وإنتشال 4 جثث    عاجل/ ضبط 6 عناصر تكفيرية مفتّش عنهم في 4 ولايات    النجم الساحلي يمرّ بصعوبة الى الدور ربع النهائي    كأس تونس : النجم الساحلي يلتحق بركب المتأهلين للدور ربع النهائي    تمدد "إنتفاضة" إفريقيا ضد فرنسا..السينغال تُلّوح بإغلاق قواعد باريس العسكرية    القصرين: القبض على شخص صادرة في حقه 10 مناشير تفتيش    الإنتخابات الرئاسية: إلزامية البطاقة عدد 3 للترشح..هيئة الإنتخابات تحسم الجدل    آمر المركز الأول للتدريب بجيش الطيران صفاقس: قريبا استقبال أول دورة للجنود المتطوّعين    قريبا.. الحلويات الشعبية بأسعار اقل    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    قراءة في أعمال ومحامل تشكيلية على هامش معرض «عوالم فنون» بصالون الرواق .. لوحات من ارهاصات الروح وفنطازيا الأنامل الساخنة    شبهات فساد: الاحتفاظ بمعتمد وموظف سابق بالستاغ وإطار بنكي في الكاف    بقلم مرشد السماوي: كفى إهدارا للمال العام بالعملة الصعبة على مغنيين عرب صنعهم إعلامنا ومهرجاناتنا!    المهرجان الدولي للمشمش بحاجب العيون في دورته الثانية ...مسابقات وندوات وعروض فروسية وفنون شعبية    ليبيا: اشتباكات مسلّحة في الزاوية ونداءات لإخلاء السكان    القيمة التسويقية للترجي و الأهلي قبل موقعة رادس    تضم منظمات وجمعيات: نحو تأسيس 'جبهة للدفاع عن الديمقراطية' في تونس    وزيرة الصناعة: مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا فريد من نوعه    هذه القنوات التي ستبث مباراة الترجي الرياضي التونسي و الأهلي المصري    أبو عبيدة: استهدفنا 100 آلية عسكرية للاحتلال في 10 أيام    ألمانيا: إجلاء المئات في الجنوب الغربي بسبب الفيضانات (فيديو)    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    السبت..ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة    ابرام اتفاق شراكة بين كونكت والجمعية التونسيّة لخرّيجي المدارس العليا الفرنسيّة    دار الثقافة بمعتمدية الرقاب تحتفي بشهرث الثراث    بينهم طفلان..مقتل 5 أشخاص نتيجة قصف إسرائيلي على لبنان    داء الكلب في تونس بالأرقام    حلوى مجهولة المصدر تتسبب في تسمم 11 تلميذا بالجديدة    كمال الفقي يستقبل رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    نحو 20 % من المصابين بارتفاع ضغط الدم يمكن علاجهم دون أدوية    جندوبة : يوم إعلامي حول تأثير التغيرات المناخية على غراسات القوارص    حفل تكريم على شرف الملعب الإفريقي لمنزل بورقيبة بعد صعوده رسميا إلى الرّابطة الثانية    الصادرات نحو ليبيا تبلغ 2.6 مليار دينار : مساع لدعم المبادلات البينية    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العراق الى أين؟ (1 من 4)
بقلم : سالم الحداد
نشر في الشعب يوم 27 - 01 - 2007

مرت أربع سنوات على غزو العراق تهاوت فيها أركان النظام ومؤسساته الوطنية بداية من جيشه الوطني العمود الفقري للدولة، وأتلفت الثروات البترولية بين السماسرة والمغتصبين، ووقعت تصفية المئات من نخبه الفكرية والعلمية، وهي أثمن ثروة راكمها خلال قرن من الزمن وسقط خلالها مئات الالاف من القتلى والجرحى، بعضهم في مواجهة قوات الغزو الامريكية والبريطانية، لكن الاغلبية كانت في عمليات ثأرية بين الشيعة والسُنّة مما خلف انطباعا بأن العراق على ابواب حرب اهلية ان لم تكن قد دخلتها فعلا، هدفها شرذمة العراق. ويتساءل المتابعون للشأن العراقي لمصلحة من سيمزق العراق؟ هل التقسيم مشروع استعماري امبريالي أم إرادة عراقية او على الاقل ارادة قسم كبير من العراقيين؟ ما هي الاطراف الفاعلة على الساحة العراقية التي بيدها تقرير مصير العراق؟ ما هي علاقة الفصائل العراقية بالقوى الخارجية؟ هل عملية التقسيم صارت أمرا حتميا؟ ام انها دعوة عارضة يرفضها الشعب العراقي ولن يقبل عن وحدته بديلا؟ ما هي خلفية تصفية صدام حسين في هذا التوقيت وضمن هذه الملابسات السياسية؟ وحتى نستشرف مستقبل العراق لابد من ان نتعرف على:
I أهمية العراق الاستراتيجية
II المشهد العراقي والقوى المتصارعة والمتآلفة
III الولايات المتحدة الامريكية بين الاخطار الواقعة والاخطار المنتظرة
IV الخيارات المطروحة أمام الادارة الامريكية للخروج من المأزق
V تداعيات واستخلاصات
I أهمية العراق الاقليمية
يستمد العراق أهميته الاقليمية من ثلاثة عوامل:
1 الموقع الجغرافي
يحتل العراق موقعا استراتيجيا في خارطة المنطقة العربية الاسلامية، فهو يطل على ست دول اسلامية هي: ايران وسوريا وتركيا والاردن والعربية السعودية والكويت، وبين هذه الدول تواصل شعبي وحضاري وديني ومذهبي، وكل تغيير في هذا القطر قد يكون له امتداد في دول الجوار، والسيطرة عليه تجعل احتمالات الخطر مفتوحة عليها. وليس عبثا ان تختاره الولايات المتحدة وبريطانيا في الخمسينات مركزا لحلف بغداد الاستعماري لمواجهة الجمهورية العربية المتحدة التي قامت بين مصر وسوريا سنة 1958 وان يكون اليوم نقطة انطلاق لمشروع الشرق الاوسط الكبير.
2 البعد الحضاري
ان العراق يعتبر مصدر اغلب الحضارات والاديان التي ظهرت على الساحة العالمية، لم يستطع الزمن ان يمحوها، وكانت تتعايش مرة وتتصادم اخرى، لكنها تواصلت ولم تندثر. وكانت لها امتدادات على مستوى الجيران تتأثر بها سلبا وايجابا. لذا لا غرابة ان نجد دول جوار العراق تتباين مواقفها من الاحداث التي هزت العراق، وليس من المستبعد ان تعمد هذه الدول الى إذكاء الفتنة بين السُنة والشيعة حتى تثبت فاعليتها على الساحة الاقليمية والدولية.
3 الثروة البترولية
تتوفر بالعراق ثروة بترولية هائلة، عمل النظام السابق على توظيفها في تحقيق تنمية شاملة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والصناعي والعلمي، والاهم من ذلك المجهود الجبار الذي قام به العراق لاكتساب اسلحة استراتيجية تؤمن سلامة الامة العربية وتحد من خطر التفوق الصيهوني.
لقد جعلت هذه العوامل العراق محل اهتمام دول الجوار، فهي تراقب وتتابع كل ما يحدث فيه من تحولات بل انها تتدخل فيها لاحتوائها او لتوجيه مسارها، وقد شهدت العقود الثلاثة الاخيرة اربع حروب دامية لم تكن دول الجوار بعيدة عنها سواء بتفجيرها او بإذكاء لهيبها. ألم تهدد ايران العراق بتصدير الثورة الشيعية اليه مما اضطره الى خوض حرب كادت ان تدمر الطرفين؟ ألم تعمد الكويت الى تخفيض ثمن برميل النفط مما دفع النظام العراقي الى عملية الاجتياح الجنونية؟ ألم ترفع دول الخليج وفي مقدمتها السعودية صيحة فزع نحو الولايات المتحدة لحمايتها من نظام صدام حسين؟
هذه الاسباب وغيرها جعلت القطر العراقي مستهدفا ومحل صراع وتجاذب بين قوى محلية واقليمية ودولية مصالحها متباينة، وارادتها بين الاختلاف والائتلاف ففي ما يتمثل ذلك؟ فما هي هذه القوى؟ وما علاقتها بمصير العراق؟
II المشهد السياسي في العراق والقوى الاقليمية
يعيش القطر العراقي وضعا مأساويا على جميع المستويات، فالدولة قد انهارت كل مؤسساتها العسكرية والسياسية والادارية والاقتصادية، وصارت تحت رحمة المليشيات التي تتحكم فيها احزاب طائفية، بل ان الاجهزة العسكرية والامنية التي وقع انتدابها لتأمين سلامة الدولة المحافظة على وحدتها تحولت الى غطاء تتسلل من خلاله فرق الموت التي تحاكم المواطنين حضوريا انطلاقا من هويتهم، فتعذب وتنفذ حكم الاعدام ثم توري ضحاياها في مقابر جماعية. وهذا حوّل العراق الى جحيم مستعر تكتوي بلظاه كل شرائح المجتمع، وأخطر ما يواجهه المواطن العراقي هو حالة الرعب التي سكنت كل بيت واستوطنت كل مؤسسة وزرعت في كل شارع، وانتهكت كل الحرمات بما في ذلك حرمة المؤسسة التربوية فتحولت رموز العراق العلمية والفكرية الى اهداف سهلة يتصيدها الموت في المؤسسات التربوية ويجندلون على مرأى ومسمع من طلبتهم وتلامذتهم، بل ان بيوت الله الآمنة التي يلتجئ اليها المروعون بحثا عن الامن والآمان صارت مستهدفة، وتتساوى في ذلك الكنائس والمساجد، مساجد الشيعة ومساجد السنة على حد سواء وأبسط دلالة على هذه الممارسات اللاأخلاقية هو ان المخططين والمنفذين قد تجردوا من كل القيم الوطنية والدينية والانسانية التي كانت تجمع المواطنين العراقيين، وصاروا مسكونين بهواجس عدائية لا مبرر لها الا الثأر، لكن اي ثأر انه ليس الثأر من عدو استعماري اجتاح العراق لنهبه بل من عدو ديني أو مذهبي او وطني، كان بالامس القريب أخا عزيزا، فقد تفجرت الاحقاد التاريخية بين الاديان والمذاهب والاعراق التي تراكمت في النفوس على مر التاريخ. والسؤال هو: لمصلحة من يصل العراق الى ما وصل اليه من تفكيك نسيجه الشعبي وانهيار كيانه؟ حتى نتوضح ذلك علينا ان نستحضر الاطراف الفاعلة فيه ونوعية العلاقة التي تربط بينها.
القوى الفاعلة على الساحة العراقية
1 المقاومة : فصائل وأهدافا
أ أهداف المقاومة
تكاد تكون كل فصائل المقاومة متفقة على النقاط التالية:
1 انسحاب قوات الاحتلال من العراق من خلال جدولة زمنية متفق عليها
2 تشكيل حكومة وطنية وقتية تتولى تسيير شؤون البلاد في انتظار اجراء انتخابات ديمقراطية.
3 إلغاء الدستور الحالي الذي تعتبره المقاومة دستورا طائفيا سنّه اصحابه لتمزيق العراق. وطموح المقاومة بكل فصائلها ان يستعيد العراق عافيتها ويسترجع مكانته كدولة مستقلة ذات سيادة بل ان طموح البعض يذهب الى اكثر من هذا، فهو يتوق الى تحويل العراق الى دولة مركزية قوية، ليس كما كان في عهد صدام حسين فحسب بل كدولة عربية اسلامية قدمت عطاء حضاريا للمسلمين وللانسانية.
ب فصائلها
من الصعب على المتابع للشأن العراقي ان يلم بصفة دقيقة بمكونات المقاومة العراقية وولاءاتها ومصادر تمويلها وفاعليتها على الساحة العسكرية، لكنه يستطيع ان يحيط بأهم ملامحها من خلال بياناتها ومواقعها في الانترنت والتقارير الصحفية.
وهي على العموم تتراوح بين ثلاثة ابعاد: اسلامي وقومي ووطني وان كان الطابع الاسلامي السني هو السائد. وقد سبق للاسلام ان شكل الخلفية الدينية لحركة التحرير في البلاد العربية والاسلامية وكان حافزا للمقاومة والتصدي للغزاة، غير انها في العراق اخذت تطرح عدة اشكالات، فهي من ناحية حافز للمقاومة والتعبئة ولكنها من ناحية اخذت طابعا مذهبيا كان سببا في ما يعيشه العراق من فتنة داخلية، فالمقاومة تكاد تكون منحصرة في انصار المذهب السني.
وبالاضافة الى الطابع المذهبي للمقاومة فقد انعكست عليها تباينات المذهب السني فهي بين الاعتدال (مثل الجيش الاسلامي وثورة العشرين وجيش الفاتحين) والتطرف (تنظيم القاعدة...).
واخطر ما في هذا الاختلاف هو موقف تنظيم القاعدة من انصار المذهب الشيعي الذين يشكلون الاغلبية السكانية، فهذا التنظيم يرفض حتى مجرد الجلوس الى نفس الطاولة مع الامريكيين وحلفائهم ويعتبر القيادات الشيعية حركة صفوية رافضة ومن اصحاب البدع.
وقد بلغ الامر بالزرقاوي امير القاعدة الى حد تكفير الشيعة تحت عنوان الرافضة، وهو ما يبيح قتلهم وتخريب مؤسستهم الدينية. وقد نزل تدمير المرقدين الشيعيين (الهادي والعسكري) في سامراء في هذا الاطار بالرغم من ان الفاعل بقي مجهولا. ولكن اتهمت به المقاومة وهو ما أجج نار الفتنة الطائفية في العراق.
والمذهب الرافضي في نظر السلفية لا يقل خطرا على الاسلام والمسلمين من الغزاة، لذا كانت تشن هجماتها عليهما معا.
اما فرق المقاومة الاسلامية السنية المعتدلة فقد اضفت على خلافها مع الشيعة بعدا سياسيا لا يخلو من نزعة دينية لها مرجعية تاريخية، فالخلاف في نظرها ليس مع جمهور الشيعة بل مع بعض القيادات المرتبطة بالجمهورية الايرانية التي «ورثت أطماع الفرس» وكانت على الدوام تحاول السيطرة على الجنوب العراقي من خلال تسهيل تسلل الشيعة الفرس تحت غطاء أئمة المذهب الشيعي. فالشعب العراقي على مختلف أديانه ومذاهبه في نظرها يواجه عدوين: المحتل الامريكي و»دولة الفرس وذراعها الشيعي الصفوي» (نسبة الى اسماعيل الصفوي مؤسس الدولة الصفوية الشيعية بإيران بالرغم من انه تركماني الاصل) لذا فهي تقاتل على جبهتين: جبهة التحالف الاستعماري الامريكي الانليزي الذي غزا العراق تحت عنوان «قوات التحالف الدولي» و «جبهة التحالف الصفوي» بين ايران وذراعها الصفوي في العراق.
وقد سجلت المقاومة حضورها على الساحة العراقية منذ الايام الاولى من الاحتلال في بغداد، فما كاد الرئيس بوش يعلن عن نهاية العمليات العسكرية دون ان يؤكد انتصار قواته النهائي حتى برزت المقاومة المسلحة على الساحة العراقية كبديل للجيش التقليدي الذي لم يكن قادرا على مجابهة التحالف الاستعماري المدجج بأحدث المعدات وأخطرها. وقد استخفت القوات الغازية في البداية بعمليات المقاومة المحدودة وشنت عمليات عسكرية مضادة مروعة مصحوبة بحملة موجهة اساسا للشعب الامريكي حتى توهمه ببطولة ابنائه وسداد نظر قيادته التي استبقت الاخطار وقضت على الارهاب في المهد قبل ان يبلغ مداه الولايات المتحدة.
ومع تواصل صمود الشعب العراقي تحولت المقاومة من مرحلة الدفاع الى مرحلة الهجوم وكبدت فيالق الجيش الامريكي والانليزي خسائر باهظة في الارواح خاصة، اهتزت لها مشاعر الامريكيين وذكرتهم بهزيمتهم في الفيتنام.
وحتى تؤكد القيادة الامريكية سيطرتها على الوضع العسكري في العراق قامت بعدة عمليات بهلوانية مفاجئة، فاستحضرت سرا في اكثر من مناسبة شخصيات امريكية فاعلة في مقدمتهم الرئيس بوش لترفع من معنويات قواتها المنهارة ولتوحي للشعب الامريكي بنجاح مهمتها. لكن كل هذه المسرحيات لم يكن لها الا نجاح محدد ينتهي بانتهاء الحملة الاعلامية التي تصاحب كل تحرك.
ولم تترك هذه القوات الغازية اية وسيلة يمكن ان تساعدها على تحقيق اهدافها الا واستخدمتها، فكانت تشن الغارات الجوية التي لم تسلم منها حتى الاحياء السكنية الآمنة، وتعمد الى تمشيط المدن وتخريبها وتهجير أهلها كما وقع في مدينة الفالوجة وبعقوبة والرمادي وغيرها، وتمارس مختلف اساليب التعذيب الوحشية على الاسرى والمساجين فلم تكتف بالنيل من اجسادهم بل طالت شرفهم وهو عمق وجودهم.
وهذا ما كشفت عنه فضائح سجون المخابرات الامريكية «أبو غريب» في العراق وغوانتنامو في كوبا وفي السجون السرية المنتشرة لدى حلفاء امريكا، وقد برهنت هذه الممارسات اللاانسانية على مدى تدهور القيم الاخلاقية لجيش الاحتلال الذي هزمته المقاومة فلجأ الى اساليب الجبناء، وهو ما زاد في تعرية الاهداف القذرة لهذه الحرب، تلك اهداف المقاومة وتلك فصائلها المتعددة. فما هي الفصائل التي تقف على الضفة الاخرى ما نوعية الروابط التي تشدها الى ايران؟ ماذا تنشد من غايات؟ كيف تبررر علاقتها بالمحتلين؟
2 الفصائل الشيعية الداعمة للنظام
أ أهدافها
لم تكن للفصائل الشيعية اهداف محددة، فقد ظهرت على الساحة كردود فعل على بعض الاحداث والتصرفات التي رأى فيها الشيعة اعتداء عليهم وانتهاكا لحرماتهم. ففيلق بدر كان ذراعا عسكريا لحزب الدعوة تدرب في ايران لمجابهة النظام. ولذلك فان طموحه السياسي لا يتجاوز في البداية هذا الهدف، وقد وجدت قيادته ضالتها في احتلال القوات الامريكية للعراق، التي اسقطت نظام صدام حسين الذي يعتبره الشيعة عدوهم الاول، ومكنتهم من السيطرة على الحكم باعتبارهم الاغلبية السكانية وهو ما لم يكونوا يحلمون به منذ امد بعيد، والاهم من كل ذلك هو ان المحتل وفر لهم فرصة الانتقام والتشفي من رموز السلطة وفي مقدمتهم صدام حسين والقيام بعمليات ابادة وتطهير ضد الطائفة السنية التي تمثل مصدر سلطة الانظمة الحاكمة في العراق عبر التاريخ.
غير ان رغبات هذه الفصائل لا تنحصر في اعادة الاعتبار للطائفة الشيعية بل انها سارت خطوات ابعد حيث حاولت ان تؤمن المستقبل، ولتحقيق هذا الهدف دعت الى اعادة صياغة العراق على شكل فيدرالي، فهي من ناحية تريد ان تستأثر بالجنوب وبالقسم الاعظم من بغداد كمقاطعة خاصة بالشيعة، وهي من ناحية اخرى تريد ان تحتفظ بالعراق في اطار فيدرالي يضم ثلاث مجموعات شيعية وسنية وكردية، تكون لها فيه الكلمة الاولى. وليست على استعداد لان تسلم للأكراد منطقة كركوك الغنية بالثروات النفطية. وليس من طموحها ان تحول العراق الى دولة محورية تنافس الجمهورية الاسلامية في ايران. فقيادة المنطقة يجب ان تبقى بيد الشيعة ودولتهم.
ب الاذرع المسلحة
في العقود الاخيرة ظهرت مجموعة من التنظيمات الشيعية التي لم تكن في معظمها افرازا للاحتلال بل انها اعدت اساسا لمحاربة نظام صدام حسين باعتباره معاديا للثورة الاسلامية في ايران وللشيعة في العراق، واهم هذه التنظيمات «منظمة بدر» الجناح العسكري لحزب الدعوة الاسلامية. وقد سهر على تدريبها العسكري وتكوينها الايديولوجي حرس الثورة الايرانية، ولعلها كانت ردا مباشرا على منظمة «خلق» المعارضة لنظام آيات الله والتي وجدت ملاذا لها في العراق، وقد وضع الامريكيون حدا لوجودها منذ وطئت اقدامهم ارض الرافدين، وليس من المستبعد ان يكون ذلك نتيجة لصفقة سياسية مع القيادات الشيعية العراقية التي رافقت الاحتلال.
التحقت منظمة «بدر» بالاراضي العراقية مباشرة بعد الاحتلال الذي سمح للمجلس الاعلى للثورة الاسلامية باستحضارها والذي قيل ان عددها في تلك الفترة بلغ 15 الفا وبلغ الان 120 الف، ولم يكن الامريكان اغبياء حتى يسمحوا لهذا الفيلق المسلح بعبور الحدود العراقية الايرانية دون ان تكون هناك خطة متفق عليها بينهم وبين قيادة هذا المجلس. وقد اكدت الاحداث ان هذا الفيلق مارس في البداية ثلاثة مهام كانت مجملها في خدمة الاحتلال:
1 حماية القيادات الشيعية
2 ضبط الامن داخل المناطق الشيعية
3 ملاحقة خلايا المقاومة خاصة في المناطق الشيعية وتهميش دورها وتخفيف الضغط على قوات الاحتلال وفي مرحلة لاحقة تجاوز هذا الفيلق دوره الوقائي ليدخل في عمليات تصفية مع عناصر المقاومة ومع تصاعد العمليات الانتقامية بين الطرفين تحلت التصفية الى الفعاليات الدينية والسياسية بل والعلمية، ثم ظهرت فرق الموت التي تنفذ حكم الاعدام على الهوية في عموم المواطنين.
بالاضافة الى هذا الفيلق الذي صار اكبر حليف لأمريكا فقد برز في الوسط الشيعي فريق اخر عرف بالتيار الصدري نسبة الى العائلة الصدرية التي تتهم النظام السابق باغتيال بعض قياداتها الدينية وفي مقدمتهم محمد باقر الصدر ابو مقتدى الصدر. وقد اسس ذارعا عسكريا وهو المسمى «جيش المهدي» وبالرغم من ان هذه المليشيا اضطرت تحت ضغط المرجعيات الى عقد صفقة مع القوات الامريكية وسلمت اسلحتها الا انها عادت وتسلحت واصطدمت من جديد مع المحتلين.
هذا التيار وان كان لم لم يعلن تحالفه مع الغزاة، وكثيرا ما كان يصدم معهم في النجف او في كربلاء او في مدينة الصدر، فانه يلتقي مع الاحتلال في عدة اهداف منها: المطالبة باجتثاث البعث من اجهزة الدولة ومحاكمة قيادته، معاداة المقاومة وخاصة القاعدة وتحميلها مسؤولية الفتنة الحاصلة في العراق، وقد طالت اتهامه حتى هيئة جمعية العلماء «التي لم تصدر فتوى ضد قتل الشيعة» وقد نسب لهذا التيار ابشع عمليات التصفية التي مورست ضد السُنة مواطنين ومؤسسات دينية بل انه لم يتورع من مهاجمة الاحياء السكانية ويهجر أهلها قسرا. وقد حضر بعض انصار هذا التيار تنفيذ حكم الاعدام في الرئيس صدام حسين محاولين التشفي منه بما اطلقوه في وجهه من صيحات منادين بمقتدى وبأبيه مححد باقر. وقد رد عليهم بكل هدوء وثبات «أهذه هي الرجولة»؟
هذه الفعاليات الشيعية اعتبرتها المقاومة حليفا للمحتلين بصفة مباشرة كما هو الحال مع عبد العزيز الحكيم او غير المباشرة مع مقتدى الصدر ووجهت لهانيران اسلحتها.
3 الفصائل الكردية بين الاختلاف والائتلاف
أ أهداف الأكراد
المسألة الكردية هي قضية العراق المزمنة والتي استمرت طوال القرن العشرين وبداية القرن لواحد والعشرين وانهكت الانظمة المتعاقبة لكنها استفحلت مع نظام صدام حسين الذي اتهم باستعمال الاسلحة الكيميائية ضد المدنيين لإخماد حركة التمرد بالرغم من انه هو الذي توصل مع الاكراد الى اتفاقية الحكم الذاتي قبل ان يصبح رئيسا للجمهورية، وهي الحادثة التي عرفت «بالأنفال».
وللأكراد أهداف بعيدة واخرى قريبة. وهم يتحركون انطلاقا من الظروف الاقليمية والعالمية الحافة. فطموحهم البعيد هو ان يقيموا دولة قومية على كامل المناطق التي يتواجد فيها الاكراد في كل من العراق وايران وسوريا وتركيا. غير ان المهمة الراهنة هي الاستقلال الذاتي الكامل للاقليم بما في ذلك مدينة كركوك الغنية بالثروة البترولية، وهذه النقطة بالذات كانت محل جدل بين الاكراد وكل مكونات المشهد السياسي العراقي من السنة ان الشيعة او التركمان. وهم يسعون الان لاستكمال كل مؤسسات الدولة بما في ذلك البرلمان والحكومة وقوى الامن، بل انهم ذهبوا الى ابعد من ذلك عندما رفضوا رفع علم الدولة العراقية فوق المباني الرسمية، وهم يعولون في تحقيق اهدافهم القريبة على الولايات المتحدة الامريكية، وخاصة على مشروع الشرق الاوسط الكبير الذي يشرذم المنطقة.
ب فصائلهم: الباشمرقا
هذه المسألة افرزت مع الزمن حزبين سياسيين كرديين: هما الحزب الوطني والكردستاني بزعامة جلال الطالباني وحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البرزاني، ولكل من الحزبين مليشيا عسكرية سميت «بالباشمرقا» وقد لعبت دورا تخريبيا في مدينة كركوك خاصة بعد ان اتحصر عنها الجيش السابق، فعمدت الى السرقة والنهب وطرد بعض العائلات العربية بل والتركمانية من المدينة بدعوى انها ليست اصيلة المنطقة، بل زرعها النظام في اطار سياسة اعادة توزيع السكان حيث وقع تهجير العديد من العائلات الكردية وتعويضها بعائلات عربية.
ويتهم الحزبان حتى قبل الغزو بإيواء اجهزة المخابرات الصيونية والمخابرات الامريكية والسماح لهما بأنشطة تجسسية تمهيدا للاحتلال وتسهيل مهمته اقتناعا منهما بأن هناك هدفا مشتركا يجمع بينهما، ألا وهو التخلص من النظام المركزي القوي في بغداد، وهذا ما سيوفر لهما امكانية الاستقلال بالاقليم استقلالا ذاتيا في مرحلة اولى في انتظار فرصة اخرى افضل لتحرير بقية الاقاليم الكردية، ولذلك فهما لا يعتبران الجيوش الاجنبية جيوش احتلال بل جيوش تحرير.
وقد تجاوب حزب الدعوة الشيعي مع الاكراد في دعوتهم في الاستقلال الذاتي لكن في اطار اعادة بناء العراق ضمن النظام فيدرالي يسمح لهم ايضا بإقامة اقليم في المناطق الجنوبية وبذلك يتأكد الهدف الاستراتيجي الذي أخفته الادارة الامريكية، وسربته مجلج القوات المسلحة التي اشارت الى ان العرق سيقسم انطلاقا من الهوية الثقافية لكل مكون من مكوناته السكانية فستظهر ثلاث دول: دولة في الشمال للاكراد كردستان (ارض الاكراد) تكون نواة لدولة كردية كبرى، دولة في الوسط للسنة «سنستان» (ارض السنة) وشيعستان (ارض الشيعة) للحزبين الكرديين ولحزب الدعوة الشيعي وللادارة الامريكية. وقد اتفق الفريقان على رفض العلم العراقي باعتباره يرمز الى العروبة وهي الخلفية الايديولوجية لحزب البعث لكن النظام اجل هذه المسألة في انتظار فرصة اكثر ملائمة.
غير ان الاحتلال افرز حركة مقاومة لها مرجعية اسلامية على النقيض من الحزبين الاخرين، هي منظمة «أنصار السنة»، فشنت هجماتها على الامريكان بدرجة اولى كما وجهت عدة ضربات موجعة للحزبين الكرديين الحليفين لقوات الغزو، وقد شكلت هذه الحركة جزءا من المقاومة العراقية النشطة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.