أرينا سبالينكا تَغِيبُ في أولمبياد باريس    إستخدام الأواني المصنوعة من مادة البلاستيك يؤدي إلى مضاعفات صحية خطيرة    نصائح وتوصيات وزارة الصحة لمجابهة موجة الحرارة    خلال يومين.. احباط 59 عملية "حرقة" وايقاف 24 منظما ووسيطا    معبر الذهيبة : ازدحام كبير جراء ارتفاع عدد العائلات الليبية القادمة نحو تونس    تونسي يتميز في جامعة دايفس بكاليفورنيا الأمريكية    مدخرات تونس من العملة الصعبة تقدر ب 107 ايام توريد    احمد الجوّادي يُتوّج بذهبية سباق 400 متر في بطولة فرنسا للسباحة 2024    سليانة.. تقدم موسم الحصاد بنسبة 45 بالمائة    بداية من الغد: تحذير من ارتفاع درجات الحرارة    وزير الشّؤون الدّينية يتفقّد أحوال الحجيج بمخيّمات المشاعر المقدّسة    الهيئة الوطنية للمحامين تنعى المحامي الدواس الذي وافته المنية في البقاع المقدسة    نحو 16 ألف شخص تعرضوا لإصابات خلال ذبح الخرفان في أول أيام العيد    كأس أمم أوروبا: برنامج مواجهات اليوم والنقل التلفزي    القيروان : زوج يقتل زوجته بطريقة وحشية بعد ملاحقتها في الطريق العام    قرقنة.. وفاة حاج من منطقة العطايا بالبقاع المقدسة    رئيس الاتحاد الفرنسي يحذر مبابي لأسباب سياسية    تنس – انس جابر تحافظ على مركزها العاشر عالميا وتواجه الصينية وانغ في مستهل مشوارها ببطولة برلين    الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج): برنامج مباريات الجولة الختامية..    حجاج بيت الله الحرام يستقبلون أول أيام التشريق    مصرع 6 أشخاص وفقدان 30 آخرين في انهيار أرضي في الإكوادور    عاجل/ الاحتلال الصهيوني يحرق قاعة المسافرين في معبر رفح البري..    قتلى وجرحى بإطلاق نار خلال احتفال في تكساس الأمريكية    بسبب ين غفير.. نتنياهو يلغي مجلس الحرب    المتحدث باسم "اليونيسف".. الحرب على غزة هي حرب على الأطفال    طقس اليوم.. خلايا رعدية بعد الظهر والحرارة في ارتفاع    تراجع الإنتاج الوطني للنفط الخام في أفريل بنسبة 13 بالمائة    بن عروس/ 18 اتصالا حول وضعيات صحية للأضاحي في أوّل أيّام عيد الأضحى..    صفاقس : "البازين بالقلاية".. عادة غذائية مقدسة غير أنها مهددة بالإندثار والعلم ينصح بتفاديها لما تسببه من أضرار صحية.    الإنتاج الوطني للنفط الخام يتراجع في شهر افريل بنسبة 13 بالمائة (المرصد الوطني للطاقة والمناجم)    رئيس الجمهورية يتبادل تهاني العيد مع كل من رئيس المجلس الرئاسي الليبي ورئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية    في ظل انتشار التسممات الغذائية في فصل الصيف، مختصة في التغذية تدعو الى اعتماد سلوك غذائي سليم    استدرجوا امرأة للانتقام منها: صدور حكم بالسجن في جريمة قتل..    العلاقات الاندونيسية التونسية جسر تواصل من اجل ثقافة هادفة، محور ندوة بتونس العاصمة    فرنسا: تصدعات بتحالف اليسار وبلبلة ببيت اليمين التقليدي والحزب الحاكم يعد بتعزيز القدرة الشرائية    47 درجة مئوية في الظل.. الأرصاد السعودية تسجل أعلى درجة حرارة بالمشاعر المقدسة    كأس أوروبا 2024 : المنتخب الفرنسي يستهل غدا مشاركته بلقاء النمسا    انس جابر تشارك الاسبوع المقبل في بطولة برلين للتنس    إخصائية في التغذية: لا ضرر من استهلاك ماء الحنفية..    صفاقس : الصوناد لم تكن وفيّة لوعودها يوم العيد    فرق التفقد الطبي بكامل الجمهورية تقوم بزيارات ميدانية غير معلنة لعدد من الأقسام الاستعجالية    وزارة الصحة السعودية تصدر بيانا تحذيريا لضيوف الرحمان    منسق البعثة الصحية: لا وفيات في صفوف حُجّاجنا    الصوناد: الرقم الأخضر 80100319 لتلقي التشكيات    تخصيص برنامج متكامل لرفع الفضلات خلال أيام العيد    بعد ظهر اليوم.. خلايا رعدية مصحوبة بأمطار متفرقة    أول أيام عيد الأضحى.. الحجاج يؤدون طواف الإفاضة    في أول أيام عيد الأضحى.. الحجاج يرمون جمرة العقبة الكبرى    المطربة المصرية منى عبد الغني تنهار باكية أثناء أداء مناسك الحج على جبل عرفات (فيديو)    أطباء يحذرون من حقن خسارة الوزن    المهدية: مؤشرات إيجابية للقطاع السياحي    رواق الفنون ببن عروس : «تونس الذاكرة»... في معرض الفنان الفوتوغرافي عمر عبادة حرزالله    المبدعة العربية والمواطنة في ملتقى المبدعات العربيات بسوسة    «لارتيستو»: الفنان محمد السياري ل«الشروق»: الممثل في تونس يعاني ماديا... !    "عالم العجائب" للفنان التشكيلي حمدة السعيدي : غوص في عالم يمزج بين الواقع والخيال    جامعة تونس المنار ضمن المراتب من 101 الى 200 لأفضل الجامعات في العالم    الدورة الخامسة من مهرجان عمان السينمائي الدولي : مشاركة أربعة أفلام تونسية منها ثلاثة في المسابقة الرسمية    تعيين ربيعة بالفقيرة مكلّفة بتسيير وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«فهمت البطّال، وفهمت المحتاج، وفهمت السياسي!!!» (الجزء الأول)
❊ بقلم / د. رفيقة بن مراد (❊)
نشر في الشعب يوم 12 - 02 - 2011

لعله من السّّابق لاوانه وتونس تتلمس ثنايا مشروع دولة يكون في مستوى هزّة الكرامة من اجل الحرية والعدالة الاجتماعية، ان نبحث في شروط امكان بناء نظرية قد تمكن من تعميق الفهم وتساعد على تصعيد مرجع الواقع الثائر منذ اسبوعين، الى مرجع نص. فامتداد ترجيع الفاجعة في وقت قياسي، وتتالي الاحداث، وانقلاب الادوار وتداخل النفسي والانفعالي بالموضوعي عبر تدفّق »الميديا«المفاجئ، كان القطر الذي تاقت وتتوق إليه كل صحراء في كبد من اجل دوائر قرار سياسي، ارحب وارحم فلا يطغى.
فاجعة أطلق عليها الجماليون على مواقعهم الاكترونية في انطباعية الآونة، »ثورة الياسمين«، وهي انطباعية لا تخلو من رمزية، تبعاتها السيميائية تختزل وجه وطن، فالياسمين، من نباتات الزينة الزّاهرة التي يتلاءم تكوينها البيولوجي مع المناخ التونسي، فتتكاثر، وهي من قبيل النباتات العبقة تتسلق عاليا، بزحف افقي على شاكلة الفتوحات الموضعية فلا يضيق بشجيرة الياسمين المكان لبهاء قطوفها من الازهار ناضحة البياض، تٌخصّب، شجيرة الياسمين لاناقتها وجمالها ونضارتها ولطفها، اما عبق الياسمين ورَوحه فمن الفوائح الرومانسية التي يُطيّب بياضها الخيال، يطيّب الخيال كحلم يقظة...
استعارة الياسمين غير بريئة، فالبياض قلّما يسع الدنس والأيادي الدموية بقلمها و ما تَسطُر. زهر الياسمين محبب في المعمارية التونسية، ومكون من مكوّنات مزاجها، يصنّعه الحرفيون ويبعثونه في شكل »مشموم« او »عقد« او »عطر« او »صابون« يعرفه كل من زار تونس و انطبع بهذه الثابتة من ثوابت »الترحاب« و»حسن القبول«. تغنى بالياسمين الموسيقيون ايضا، فمن منا لا يذكر »تحت الياسمينة في الليل« في ترجيع الغنائية التونسية ، حيث »الاغصان عليَّ تميل تمسَحلي في دمعة عيني«؟ ثورة الياسمين، حسب تقديرنا، هي ثورة على عدم »حسن القبول، في العلاقات السلطوية« كرجس تكرّس في البلاد منذ نصف قرن فكان، الاستقلال، كالاجهزة الحكومية، ملك خاص، يطردون كما يشاءون ويتقبلون كما يشاؤون الى حدّ الجريمة بابواق دعاية، وشعارات تُحلّى بها الخطابات.
انّ عدم »حسن القبول«، من امرّ التّجارب، لما تتضمنه من عدم اعتراف وتهديد، ومن احساس بالغبن، ومن ادراك ان الوسط عدائي، يمتلك كل وسائل القمع والاستضعاف والاذلال والتربص العاري من الاخلاق والانسانية، والاّ ما يدفع شابّ في مقتبل العمر ان يضرم في نفسه النار لغرض كهذا؟ انه علّة كافية للثوار من ياسمين ثورة ماكيافيلية ينبغي قراءتها من جهة المستضعف، من جهة الهشاشة لا من جهة دوائر الاقوياء، الهشاشة لما تتكاثف، كثافة الياسمين على افنانه الخضر، تصبح من قبيل كثافة الشعب لما يُطوِّقُ، (بكسر الواو) لما يتكاثف ويكون سرب حمام يطير بالفخ... انقلب الياسمين ثائرا على كل من اخلّ بمحاسن القبول وأدبيّات المجالسة المامول منها والمرتقب، وكذلك انقلاب على كل من لا يؤمن بالناس ويتمعّش من اوجاعهم وآلامهم وكذلك على كل من تعمّدَ عطالة اجهزة السّماع في دوائر القرار ... طار الياسمين بالفخّ...الفخّ؟
دخلت »قوافل الحرية« تلك المدينة في غفلة من اهلها وجاءت المجتمع الدولي من حيث لا يحتسب و كأن العالم يولد لاول مرة، بعد ان جاء مغفور له، شهيد اللحظة التاريخية، محمد البوعزيزي ، يطلب السلطات المحلية وبكل الغضب المقدر فيه ياسمينا، فلم يُتقبّل من صاحب »عجلة الخضار« من حيث تبيّن له يقينا ان اجهزة السّماع، في دوائر السلطان، عاطلة، ولا »اهلا« و»لا مرحبا« بأصحاب الشهائد العليا، فهي لمن جاء و كتابه بيمينه.
»اصطدم الارهاب بالارهاب« حيث ضاق بالفقيد الاطار فالتهب امام مركز السلطان بسيدي بوزيد، مركز الولاية اساسا كاعصار شموس ثائرة لا تغيب، تزحف في المرابع ، تدلّل على مغاور المُلك القائم على القهر مغارة، مغارة،، هي مغاور »عصابة السرّاق« ومنها الى ما تناسل منها هنا وهناك في الخضراء، عصابة كان زعيمها قد اقسم قرآنا وفي مناسبات متجددة على ان يؤدي »مهمة قيادة التونسيين بامانة«، وانتهى، بعد ثلاثة وعشرين عاما، في الاستمتاع والمقابسة، الى اعلان الجحيم على المنتجع وياسمينه وفرّ مخافة ان يكون في الدرك الاسفل من النار ... ثار الشعب ثورة المخدوع، وكانه كان مسحورا او ثريّا الى درجة انه لا يدرك ما يُسرق منه...
ومنها، من نار البوعزيزي الحامية، كان لا »سلام هي، حتى مطلع الفجر« ردّ فعل قولي تبناه كل خرّيج جامعة من جيله، وانتفض الشعب وعلا صوت الفاجعة ب »اذا الشعب يوما اراد الحياة« معلنا ان الكارثة البيئية الكبرى انما هي انقراض الثوار، بحيث تيمّمت »قوافل الحرية« من بقايا عربة الخضار للبوعزيزي و»ميزانها« المنتفض، انتفاضة المهان والمظلوم، وقد لا تستوي كفتا ماتقوم به العدالة الا متى كان »الوزن يومئذ الحق« اقسم الثوار انه لا »عدل الا متى تعادلت القوى« لتلهب البيت السّياسي نارا دامية من اجل »الكرامة« و»العدالة الاجتماعية« و الحق في الثروة الوطنية... وما هي الا صيحة نوعية وكمية واحدة مما توفر من الاطر المؤسساتية للنقابات ورابطات المحامين وعمادته في كامل تراب الجمهورية حتى تم اقتحام الساحات العامة والشوارع باسم الحق والقانون، باسم الشعب وباسم »محام لكل فقير«، و»حقوقي لكل أليم« و»فضاء عمومي«.. لكل اجير، والتهب على السلطان ما كان بردا وسلاما اليه...
قامت واقعة، واقعة حقا، رافعة حسب تقديرنا ولكنها في الاصل خافضة للمقربين المقربين من عائلة فقيد تونس المفقَّرة، تونس المنهوبة، تونس وقد ظهر عليها العدم، حيث عرّى الاعلام كاشفا اين تذهب ثروات تونس الياسمين...، امسى وضع الفقيد البوعزيزي ومازال وضع مئات الاف من العاطلين عن العمل من خريّجي التعليم العالي في مختلف المقاطعات التونسية... تآلفوا و تكاملوا فطوقوا، ذاك الذي تكوّرذات مساء يبكي بكاء من يخشى لقاء ربه، بلا متّسع وقت لهم لمباحثة الم بُطْء ملكة الفهم فيه: »تَقبّض، ارحل«... وهذا اقلّ الايمان، فلا ضرب سلام، الا لشهداء الواقعة.
اصابت الرجفة ذلك الفنن الذي غدر بثماره، وهو فنن ليس مثل الافنان، هو القائد الاعلى للقوات المسلحة، وهو رئيس المجلس الاعلى للقضاء، وهو ايضا رئيس الحزب و رئيس الجمهورية، وصاحب ميداليات في كل المجالات الحقوقية والنضالية والرياضية والنظريات الخلاقة في المحافل الدولية... فرّ الجنرال تاركا بقاياه على لحن قول: »كيف ذاك الحب امسى خبرا؟« وسرعان ما نما الانكاري الى خيبة امل ومنها الى ازمة ثقة تعاظمت فيها مباهج الثورة الشعبية بقيم الفرق بين القوة ووهم القوة ، قوة هي مجموع القوى المتطلعة قوى المراة، وقوى الشباب وقوى العمال وقوى الاطفال بحضور قوى المنظمات الحقوقية وقوى اتحادات النقابات التي كثيرا ما تكسرت اجنحتها، وقوى الاحزاب النّاشئة، وقوى الرابطات وقوى الهيئات وقوى المواطنين العاطلين عن العمل وقوى اهالي المساجين والمبعدين والمغتربين والمنفيين وكذلك قوى الشرائح فاقدة السند من الموظفين في القطاع العام والخاص... رابطت مجتمعة امام مقرّات ما كان يضمّ مختلف سيناريوهات الخديعة واسباب المبايعة...، ماذا تريدُ؟ »ارادة الحياة« ما هي وسائلها »الاعتصام حتى يسقط النظام« الشعب يريد الحياة حيث لم تعد تعنيه مختلف الحساسيات والألوان والتجارب السياسية بقدر ما باتت تعنيه جوهر حركة شعب، حراك سياسي غير معهود، يفتش له فيه عن قواسم مشتركة تستخرج من عمق الحدث بوحدة قيمية متفردة تقوم على »جديد لا سلفية له« بحيث لا مرجعية لهذه الثورة سوى منطلقاتها: التحرّّر من كل الشبكات الاخطبوطيّة لعلاقات الشدّ الى الخلف...
تاججت احتجاجات الشعب باكمله بفعل الاعلام بالصوت والصورة، ودون استثناء بما في ذلك »التجمّعيون« الوطنيون الذين اخذتهم البهتة لفداحة الحقائق ووقاحتها في السلب والنهب، فقد لا يتباطأ الوطنيون الثوريون منهم في اعلان رغبتهم في مقاضاته بتهمة »خيانة مؤتمن«، هي قضية نشطاء حقيقيين قد تنمو لتصبح قضيّة مجتمع... وهذا بصفته رئيس الحزب ورئيس الدولة. اين الذين يعلمون من »المعارضة« التي سمحت بفائض القيمة الوظيفي سواء في مستوى تمثيليتها البرلمانية او في مستوى حضورها في الاجتماعات المناسباتية في القصر الرئاسي؟ فائض قيمة وظيفي، يقوم اليوم كاحد اهم اسباب الخلف المنهجي في »حكومة الانقاذ الانتقالية« دون الدخول في تفاصيلها اعتبارا للتفاوت في تقدير اوزان العناصر المؤثرة فيها من النظام السابق، والتي كانت من اهمّ اسباب التصادم مع منطلقات »ثورة الياسمين«: »جديد لا شيء قبله« حتى ولوكانت لجنة حكماء »والتي كادت تغرق بدورها توجّهات الثورة العمليّة الميدانية في المثاليات بناء على قول لصاحب »العقد الاجتماعي« »جان جاك روسو« ان الاوّل، من بادر الى تسييج قطعة ارض، و»قال هذه لي« كان قد وضع، عبر مجرد فعل قولي، غير مسؤول، اسس الملكية الخاصة.
والثورة، كل ثورة يلهبها خمير من عجينها يحتاج الى مساحة من الوقت، لتتحدد لاحقا كذلك. فالثورة على نقيض الانتفاضة لا يمكن احتواؤها او اخمادها، الثورة تندلع وتتحدد باسلوب حراكها وبنتائجها وبفاعليتها مستقبلا كاسلوب حياة و كثقافة تضيف الى المواطنة في بعدها الكوني وتغذّيها ثورة الياسمين، اعلنت ان »الانسان حضن للانسان« بما يمنح قيمة اجتماعية، وحضارية للطّابع الثوري للياسمين الزاحف . وهذه مقدمة اخلاقية، لا تتحرك في ما يجب ان يكون افتراضا، بل هي من عمق الثورة، بالصوت والصورة وهي، مقدمة لم تتحقق في التاريخ السياسي سواء للدولة او للثورات من حيث ان دولة الثورة ستجد نفسها مدعوة الى ادماج اضعف الفئات الاجتماعية وحمايتها رفضا للتهميش، وكأنّ العنف، عنف الدولة، يتقيّد ليضبط في التاريخ.
انفرط العقد و اعتذرت الاجهزة الامنية الى الشعب تطالب لاول مرة في تاريخ الدول العربية ب »نقابات« و»رابطات حقوقية تراعي الجانب الانساني« لاعوان »العنف المشروع«، عنف الدولة، وتآلفَ الجيشُ مع الثائرين في موقف حياد، بدا في تمييزه القويّ والرشيق بين قوة حضوره للدفاع عن الدولة وهيبتها وبين انتصار الى نظام استبداد »امّه هاوية«، وكانه العتيد متظلع في العمران وفي قوانين العمران ونواميسه. كان ومازال موقفا مشرّفا تجلت فيه ارقى مقامات الرويّة العسكرية و الاحترافية الوظيفية للجيش الوطني، بقدرة على التنظير لا قبل للشعوب بها، تربط بين العمران والمعرفة بخصوصياته.
وقد كانت عدسات مختلف القنوات ثبّتت عبر الصور البطيئة، فوهات الدبّابات وهي تشهد ممكن الشعب التونسي في تحويل فوهة الرشّاش الى مزهرية وهذه سيميائية اخرى عن اناقة الايحائية الخلاقة لبائعي الزّهور وتجارها وما توفر لديهم من وحي اللحظة امام مقر »وزارة الداخلية« عشيّة فرار »الفهيم« ساعة اصابته الذُلّة... فكيف ل»صانع التغيير، ازاء المتحول الجذري، ان يقول في لحظة ارتباك قصوى، وبعد ثلاثة وعشرين سنة فهمتكم، وفهمت البطّال، وفهمت المحتاج، و فهمت السياسي«؟ كيف له ان يفهم وفاقد الشيء لايعطيه؟ لو كان قرأ »الملك لير« لشكسبير، لقال لنا: »انتم جعلتموني ملكا، فانا مثلكم بالخبز احيا وبالماء اعيش، واحتاج الى صداقات...ايها الشرطي النذل، ارفع يدك الدموية عن تلك المرأة، لماذا تجلدها؟ أمن اجل الزّنى! عَرِ الشبق الملتهب فيك وانت تجلدها!... اما عباءات الحكّام... ايها الصيدلاني، قليلا من عطر الزّباد اطيّب به خيالي...«
الفجوة عميقة بين القائد الاعلى للقوات المسلحة و قوّاته المسلّحة فعلا، خاصة عندما خرج قائد الاركان، الجنرال رشيد عمار ونزل الى ساحة الشعب وهو مرابط، امام »ساحة الحكومة«، وبعد اسبوع ممّا تناثر من فوضى الثورة، يروّض بصفة واعية او غير واعية ارتباكه أو ما بدا انه ارتباك، يحذر الشعب من المجازفة بالثورة الجميلة، وينبهه إلى »مخاطر الفراغ السياسي« الا ان الشعب الابيّ، وبعد اسبوع من الواقعة الرّافعة لا يتنازل، فيحذّر بدوره، من مغبة الفراغ الفكري للثورة، وكانه واضع مبادئ البرنامج الاممي: »الحكم الرشيد« يركضه مقنع »الكفاءة« ويحفزه مطمح »الجودة«، كقيم اسس، حتى يرى مشروعه السياسي الثوري، ياخذ ثناياه من »الفضاء العمومي« أو »الحيّز العام« إلى مشروع »الدولة الثورية، الاخلاقية«، بحيث يقوم »الترشيد« في المستوى التاسيسي الافتتاحي لأي مشروع مجتمعي، تنمويا كان أو اقتصاديا او معماريا فنّيا ويشكّل المستوى الاول للجودة التي تقوم بدورها على شرط »الكفاءة« داخل النظام الانشائي ككل، وذلك بوعي »المعرفة وصناعتها«، و»العولمة وشموليتها« و»البيئة وحمايتها« في العمران البشري، مهما تباعدت المسافات الجغرافية وتفاوتت مساحات النمو فيها... دولة ثورية تقوم على الذائقة الشعبية لسلطة الشعب، والتي قامت على الرغبة الحميميّة في التطهير بالمعنى الجمالي، والطبّي، والاخلاقي، والبيئي بحماسة الى المبادرات الايجابية لتنظيف المكان وتأمينه... بل كان مطلب الامن و عودة الاستقرار، والوعي بعدم المساس بمنشئات الدولة من الاولويات في سلم قيم الثورة على »الفهيم« المستبد »فهمتكم« ماذا فهمت؟.
هذا، وقد تحولت مساحات الاعلاميين التونسيين بالفضائيات التونسية والقنوات العربية الخارجية الى »مراكز نداء« و»مَسبّات« des dژfouloirs ومنابر مفتوحة ل »المثقفين« و»المنبريين« و»الجامعيين« والجماهير التي هبّت وتداخل فيها الاتهام والوعظ والارشاد والوعد والتوعد والمحاسبة غير المشروعة لما يقارب ثلاثة ملايين منخرط ومنخرطة في »الحزب الحاكم« والدعوة الى »حله« في الآن والهُنا بمنشطي ومنشطات برامج كانوا البارحة القريبة ساكنين الى يقينهم »بالامن و الامان يحيا هنا الانسان« فاذا الكثير من بعضهم نحلٌ استبيح اطمئنانه فتظاهر في عماء منهجي لم تسعفه حلاوة الشهد الذي توفر لهم منه بطريقة او باخرى في انتظارمن اين لك هذا؟ كيف لتونس ان تكون »بلد الفرح الدائم«، فالشيء اذا ما بلغ حده مال الى ضدّه.
تاريخ ذلك الحزب ولمدة 23 سنة مازال يشهد كيف وظّف »حزب الاغلبية« في مرة اولى »اليسار« ضد »التطرف الاسلاموي«، وكيف عمد في ايامه الاخيرة الى توظيف »الاسلامويين« ضد »اليسار المتطرّف«، كان يتمعّش من صدام الايديولوجيات و من الانتهازية الفكرية للنخب التي كثيرا ما كانت متباكية، تحتج متباكية على عدم تكريمها باوسمة السّابع من نوفمبر بجميع اصنافها، وفيهم من النخب الاكادمية التي تدعي »الطهارة« الان، من برّرت و فسّرت »دواعي مناشدتها لبن علي (منذ 2004) فما بال المفاتيح تتنكر هكذا لاقفالها؟ اين تسونامي التكفير؟ اين »مبروك عليك التكفير او سيّاح اليمن« كما عبرت »الموقف« في احد أعدادها غير البعيدة عن زمن اندلاع الثورة؟
وفي الوقت ذاته يتصاعد صوت الفاجعة ورائحة الخديعة مُمْتدًّيْنِ الى ساحات عربية اخرى حريقًا لا يطوّق لجماله، حيث تكتلت المنظمات الاقليمية والجهوية وكل مكونات »الفضاء العمومي« الدولي متطلعة، بحب اطلاع معرفي، جمالي الى فوائح ياسمين يتمرّد، كان فيها امتحان لجملة سياسية من »البيان« الافتتاحي للسابع من نوفمبر 1987 و»قد عوّلنا على وعي الشعب التونسي«! اتضح ان البنية الدلالية لهذه الجملة بقدر ما كانت استراتيجيا ساعتها تستشري مُبايعة، تقوم اليوم مركز ثقل، انقلب فيه السّحر على السّاحر. فاين ذاك »العقل في زمن العاصفة«؟ وهل سيعود حنبعل؟ الروائية التونسية مسعودة ابو بكر، حدثت عن »عودة حامورابي«، وعن »ياسمين الحمامات« ولم يقرأ لها احد...
في مرحلة العبور الى الثورة على بن علي، وهي مرحلة طالت نوعا ما على الجائع و الجائعة - الشهائد العلمية تُعطى وتسحب ويعزل بمقتضى ذلك صاحبها أو صاحبته من وظيفه ويُنكّل به ويُتشفى فيه وتمارس عليه تحرشات وعنف... ولا احد يتكلّم، يُغتصب مستقبل الناس من طرف جامعيين كان المفروض ان يكونوا ضمير الامة و عقلها النقدي لكنهم، كثرٌ يعملون بالتوازي خارج دوائر القانون في مؤسسة المعرفة باسم البحث العلمي، ليس هنا حيّز لالتقاط ما انفرط من عقد الياسمين لما يُتقبّل من احدهم و لا يُتقبّل من الاخر او الاخرى في مؤسسات المعرفة و في الادارة العامة للتعليم العالي التي كثيرا ما ترفع شعار »التعليم العالي رهان التنمية« ، كيف يكون ذلك و الرؤوس تُقطف متى اينعت، فلا حضور الا للمقربين، المقرّبين من »قبائل الازواج« التي فرّخت في مؤسسات المعرفة، و حدثت عنها الصحف و مختلف مواقع الانترنيت ولا أحد يتابع أو يتقصى حقائق... فإذا ما كانت الشهائد تٌسحب، وتشترى، والنٌّقَلُ يُساومَ، فكيف نهتم بخريجي الجامعات؟ لقد علمتنا التجربة ان من أهم أسباب التخلف نزول النخب الاكاديمية إلى الجهالة والتجني على القوانين، اما عن جهل بها او عن تجاهل لها ... وهذه دولة العصابات .
الفاجعة عميقة و لكن الاهم الثورة، ثورة حاصل المعرفة وحاصل المدرسة و حاصل فعل التنوير، وحاصل التنوير الاعلامي ، وحاصل سرعة انتشار المعلومة عبر »جمهورية الفايس بوك« والاعلام الالكتروني و حاصل اجهزة مؤسساتية بات فسادها من الموضوعات المطروحة في مستقبل تاريخ الثورة التونسية الحادثة وشاهدا على اعلان نهايته داخل الممكن القانوني اذا ما سعى الى تحييد كل قابلية ل »تجاوز السلطة«، سلطة القانون طبعا او الانحراف بها كاهم مؤشرات الفساد المؤسسي تتحفظ عليه الثورة... حيث عمّت الفوضى واحتار الجميع يباحث حيرته المعرفية و المنهجية حيال الواقعة الرّافعة: كيف نقرا اللحظة؟ ما هي الآليات العملية؟ كيف نتعايش؟ وزكّى الجميع انفسهم بمسح الايدي في »التجمع«: كيف نٌخرج الاطر الاجتماعية الفاسدة للحزب الواحد من جلدنا؟ من ملحنا ؟ من ارضنا ؟ من...؟ من...؟ و كثرت بيانات الموالاة للثورة في اشكال برقية، و لعله صوت الخوف يتكلّم فيهم و الحال اننا في عمق الثورة، لا ضابط، و لا مرجع سياسي، ولا مرجع امني ولا اداري... فحتى الحكومة التي أعلن عنها »مؤقتة«، و»انتقالية« لم تستقر تركيبتها الا يوم 27 جانفي 2011 فلمن ينشر الاكادميون، الذين باتوا مصفّقين جُدُدًا بياناتهم، لعلهم احتاروا الان اين يلقون تصفيقهم، وهي طريقتهم في المبايعة وترويض عقمهم المعرفي الذي كثيرا ما تداخل فيه الاداري بالعلمي فكان تشويها... الم يدركوا ان عهد تضخيم الاسماء قد ولّى، وأنّ بُنًى وأطرًا اجتماعية و ثقافية »صرّخت في عروقها الدماء« وفي حاجة الى اكسيجين ؟ فلا يفيد الجيش مديح: »الجيش حصن للوطن« و»استفيد« فقد كان من اول مبادرات »الحكومة المؤقتة« حل مؤسسات الامن الجامعي »لتموت« »استفيد« و»الرسائل مجهولة المصدر« وكنش »حتى لا انسى«، أضعف المخلوقات له اليوم من القوة ما لم تفكّر به النخب الاكاديمية والسياسية بعد؟ قد ياتي دورها في »ديقاج« بقوة قوانين المحكمة الادارية التي لم تنفّذ وبقوة الاجراء الفوري ل »الحكومة المؤقتة« وصوت الثورة إلى السماء: »استقلال القضاء«، و»استقلالية لجان متابعة التجاوزات« والحق في مقاضاة من الحق ضررا بغيره؟ وكذلك باقرارها »للجنة تقصّي الحقائق« و»فصل الاحزاب عن الحكومة«: وانت تحمي نفسك بالبيانات ساعة قيام الساعة على الاستبداد، فكّر بغيرك من افقدتَه الحق في الكلام؟ بعبارة لشاعر القضية / الوطن، محمود درويش. أين سيواري سوآته كل من فكّر بالاجهزة البيروقراطية و غلق الابواب؟ فالفضاء بات مفتوحا موضعيا واعلاميا، ودوليا، وكل قضية هي شأن وطني خاص وعام اذا ما تعلق الامر بسحب الشهائد العلمية والمتاجرة حولها ... من اهم الحاجات المؤكدة إلى الديمقراطية، هو الاعتراف بالخطأ وبقابلية التصحيح الواعي، كما حدّث عن ذلك، علي المزغني وسليم اللغماني، في الكتاب المشترك: القانون والحداثة، فما تفيد البيانات، والمبايعات والثورة قائمة تريد ان تستاصل جدور المبايعة؟
كاد الياسمين أن يغرق في ضجيج الألسن والحال ان الحث على الاستعداء، والتحريض عليه يمثل جزائيا جناية. فالنهج الدستوري قائم، وبمقتضاه وقع تنصيب »رئيس الجمهورية المكلف«، فكيف يسمح اغلبية الاعلاميون لانفسهم بتوريط كل هؤلاء و اخذهم في صور بطيئة بلا وازع و لا سلطان لا معرفي و لا خبري تجريبي؟ قد يكون لهذه اللعبة خطرها الباهظ من الناحية النفسية، لكن من الناحية الموضوعية و النظرية اساسا، يبقى الجانب النفسي، بكل تراكماته وما افرزته من انفعالية، وغضب، وسخط خارجيا، لان التبعات الفكرية و المنهجية تنبئ بانبثاق افق تحرري، مدني، سياسي عميق، ملامحه ضبابية الان لكنها متاكدة كقوة مؤثرة جديرة بالارتقاء الى مستوى نظري بما انه توفرت شروط امكانها تجربةً قائمةً تتميز بمنطق حديدي، منطق »اللاّتنازل« الذي يبرز من خلال ظاهرة »الاعتصام« بفعل المرابطة الجماعية وفي وحدة صف و وحدة هدف تذوب فيها العلاقات الفوقية و منطق القيادة، ظاهرة ستنمو الى سيمائية، على معنى فلسفة الرمز، أي الى »علامة« بدلالة تجعل »الاعتصام« لا يسافر - نظريا متفرّدا بحيث لابد للاعتصام، من حيّز موضعي يقوم فيه، لا على معنى الشارع، فلا معنى عندئذ ل »نبض الشارع«، وانما على معنى »الفضاء العمومي« l'espace publique وعاءً حاضنًا لهذا الحراك الجماعي المؤسس في هيئات ومنظمات وأحزاب وجمعيات هي منظمات »المجتمع المدني« المفتوح كذلك - في تجربة تونس على حضور غير متاسس لشرائح الهوامش الاجتماعية التي يتمركز فيها الفقر و الحاجة و كل مظاهر الاستلاب والاغتراب والضياع والتأزم واحراجات وجودية اليمة. حيث ايقنت هذه الشرائح الكادحة انه عليها ان تقبل في قدرية مقيتة ان البطالة ، ظاهرة بنيوية من ظواهر المجتمعات المعاصرة ولا حق في المطالبة بالتشغيل... ايحاء تتكبده هذه الشرائح الجريحة من حيث انه »لا حضور لها في دوائر الحقوق المدنية و لا تمثيلية لها في هياكل المجتمع المدني« والذي يتبيّن انه مجتمع مدني لا يخدم كلّ أبنائه وشرائحه و فئاته... ويقوم مثال على هذا، في ردّات فعل هذه الشرائح على المنابر التلفزية ، لما اعلنت، »حكومة تسيير الاعمال المؤقتة«، عن »صرف منح« للعاطلين عن العمل من خريجي الجامعات، و قام سؤال: »ما حال البطّال خارج دوائر المتمدرسين الناجحين«؟ اليس لهذه الشرائح الحق في التحرر من الفقر؟ اليس لها ان تحلم؟ ومن يربّت على كتف هؤلاء ازاء تحديات المعيش، وضيق الاطر وغلاء الاسعار وصعوبات الاستشفاء وازاء مؤسسات الاشهار الاستهلاكية والمغازات العملاقة التي بقدر ما تغري، تقصي؟
ان ما يقوم هنا، هو تغيّر مفهوم »المجتمع المدني«، وذلك بناء على انبثاق »الفضاء العمومي« على المعنى الذي اوردنا وكذلك بناء على الاجراء الحكومي العميق المتعلق ب »فصل الحكومة عن الاحزاب« والذي يتغير بمقتضاه او ينتفي معه المركب النعتي »المنظمات غير الحكومية« و»الحزب الحاكم«، فتبعات الثورة كما بيّن السيد وزير التنمية المحلية والجهوية، تتفرع الى »مسائل هيكلية« تتطلب وقتا واخرى »ظرفية اجرائية« عاجلة قد تجد سياقها الترتيبي إبان تنفيذها، اطارها المعرفي والمفهومي لابد ان يتشكل داخل منابر الحوار بما يفيد فلسفة ثورة الياسمين التي هي بصدد اكتساب صفة الانموذج لما هو حاصل الان في مختلف السّاحات العربية التي نرجو ان تسير مراكبها الى مرافئ الامان على النهج الديمقراطي بما ينفع الناس جميعا في الوطن العربي الكبير و يبقى في الارض. فالشعوب هي التي تقرّر بقوة »الفضاء العمومي« بكل الرمزية التي تختارها الشعوب للمرابطة و الاعتصام، حتى تفتح الابواب... و يكون حسن الاستعداد و الحماسة لخدمة الناس؟
فهذا الاعتبار للبطالة، سوف يقوّي من دوار التهميش الاجتماعي بادفاق الفقر و الرذيلة و الاحتياج و العنف والجريمة والشعور بانسداد الافق و الاحباط والخوف من المجهول... وسؤال البطال، يبقى مركزيا، فالفرد هنا يبحث عن موقعه في »كلّ اجتماعي« لا يرى فيه هذا »الكلّ« لاَ مواطنا ولا انسانا ولا يعتبره موجودا، وهذا معنى الشعور بالغربة، شعور يتفاقم الى وعي بالاقصاء وبرغبة في الانتقام، قد تؤول الى الرغبة في نفي »المجتمع المدني« او مقدمة لنفيه اذا لم تقم تباعا لمنطق هذه الشرائح - مراجعة او مزيد فتح الافق لجمعيات ومنظمات تمثل كل هؤلاء، لذلك بدت هذه الثورة، ثورة هذه الشرائح من الناس، التي هبت الى »الفضاء العمومي« ووجدت مساندة من النقابات اساسا ومن عمادة المحامين ومن نشطاء المنظمات الانسانية التي ادت دورا رئيسيا في تاطيرها اكثر من الاحزاب السياسية كما وجدت تعاطفا من الشعب باعتاره مجموعة افراد ارتقوا الى افق المواطنة بحضور مكثف »للميديا« ينتفي معه بنية ثقافية كاملة: احتكار الحكومة لوسائل الاعلام و الضبط...
هل هي »شعوبية« اجتماعية، يستنكرها »القطاع الخاص« بالمفهوم الاقتصادي فلا تخدم توجهاته في التعامل مع الناس؟
بقدر ما قامت الثورة على هذه الشعوبية فلا يمكن اعتبارها من الجهة الاخلاقية الاتيقية ثورةً على الاستبداد فقط، من حيث شحنتها السياسية ، هي ثورة سياسية على نظام يحتكر كل معايير »البراكسيس« من اقتصاديات و سياسيات وحقوقيات و مدنيات فيحتكر الفضاء العمومي بالمعنى الثقافي للعبارة و يكرّس »الموالاة فهذه شعوبية« متحضّرة، »عقلانية« قائمة على نسب عالية من التمدرس، الذي راهنت عليه العائلات التونسية و استثمرت فيه فلا تاتي ثماره، شعوبية مستنيرة ترمي الى قيام دولة الحق، و دولة الحق لا يمكن لها ان تكون الا دولة ثورية لانها تقوم على مبادئ لا على اشغاص والا لا معنى لرمزية »الميزان« سواء في مبادئ النظام الجمهوري او في شعار »قصور العدالة« و »الدوائر القضائية«، العدالة تلك الفضيلة السامية التي باتت كبنات القصور تتناوم كثيرا في دولة الاستبداد، من هنا تكون صورة الميزان المقلوب على عربة خضار الشهيد البوعزيزي ثورة على دولة »اللاّحق« لابد ان تكون اختزالا لمرحلة العبور الى الثورة على »متسلطة قرطاج« وزوجها الذي مكنها من هذا السلطان عليه و على شعبه الذي بات يستشري الورد من مقامها في المخيال العربي كله لمّا مكنتها »الجامعة العربية« من »رئاسة المنظمة العربية للمراة« والتي لا خبر عن هذا الشان الوطني العام من جهة العلاقات العربية العربية وخدمة البعد الاجتماعي فيه. فكيف تفرّ رئيستها دون اختتام الفترة النيابية لتونس، واين رائدات مقترحات »القانون الدولي الانساني« و»ميثاق التضامن الرقمي الانساني« للمراة العربية، فالنظريات لا تموت بموت باعثيها وباعثاتها ؟
ان ما جاءت به الثورة التونسية، هو ميلاد »الفضاء العمومي« على هذا النحو الذي اطاح في مرحلة اولى براس النظام، ومازال »معتصما« يتلمّس مسالك الى التطهير الكلّي، من بقايا انفاس النظام السابق بناء على توجيهات الثورة: »جديد لا شيء قبله« فلا يمكن لهذه الثورة ان تسع ما هو ليس من نار مواقدها، بحيث تتقدم افاق الثورة على الدولة المشروع، فلا مرجعية لها الا ثوريّتها، و لا آلية لها الا آلية »الفضاء العمومي« كمركز ثقل الثورة، و امّا ما سواه فهباء لا يبقى في الارض. ومركز الثقل هذا، يسنده ايضا جمّاع اجهزة الاعلام المحلية والدولية، كقوة معنوية نافذة والتي استمدت مشروعية وجودها، من علنيّة »الفضاء العمومي« ومن عموميته، والتي تعمل شبكات الاعلام السريعة و العاجلة على انتشارها و اذاعتها بما يطعّم او يؤجج قوّة الضغط بقوة الحضور السلمي و الاعتصام المتواصل والهتافات الصارخة بشعارات هادفة لا تهدأ الا متى تمت الاستجابة الى ارادة كل ياسمين ثائر قصد رفع الحضر عن اجهزة السّماع العاطلة كما يسند مركز ثقل »الفضاء العمومي« الى المنظمات الدولية، و اجهزة الراي العام الدولي التي تابعنا معاينة - كيف تخرج في مظاهرات واعتصامات امام السّفارات و تقوم قوى ضغطٍ على حكوماتها سواء لمراجعة مواقفها او سياساتها الخارجية حول المستجد في هذا الفضاء العمومي او ذاك وتساهم في بناء راي عام دولي، قد لا يتباطأ في ان يصبح شأنّا عاما من شؤون المجتمع الدولي بمحاكم دولية في جانبها الحقوقي الانسان من شان المنظمات الحقوقية ، ومن هنا يكتسب »الفضاء العمومي« »ما فوق حدودي« يتجاوز الانظمة السياسية والسيادات الوطنية بل يتغير بمقتضى هذا مفهوم السيادة الوطنية دولة ونظام حكم . وهو ما حدث في »ثورة الياسمين« التي تحوّل بها حدث ، يبدو للانطباعيين، بسيطا، »عدم حسن القبول« الى قضية دولية، قضية شرائح من الناس التفّ حولها الشّعب ليتشكّل الفضاء العمومي بملفات بدعوى في كل مرّة، تنظيميا، طلب الترخيص بالتجمهر والتظاهر السلمي حول ملف/ قضية هو في الاصل ملف/فضيحة تخرج الى العلنية والعموميّة أي الى قوة الراي العام الذي يعود اليه الراي بما هو راي عام وعلني ينتفي معه مفهوم الشعوبية بالمعنى التقليدي . في »الفضاء العمومي« تذوب الفوارق الاجتماعية ويتكسر مفهوم »الطبقة« بالمفهوم البرجوازي - الايديولوجي ليحل محلّه مفهوم »الراي العام« بالمفهوم المدني الحقوقي وتستقيم الاطر الاجتماعية للجمهورية: نظام / عدالة / حرية بدولة، ستكون دولة »الفضاء العمومي« و»الراي العام« .
وبناء عليه حسب تقديرنا فالدولة المرتقبة، التي تعمل »حكومة تصريف الاعمال التونسية«، المؤقتة على تمهيد الطريق اليها، لا يمكن لها الاّ ان تكون دولة، اخلاقية، ثورية تقر المساواة المدنية ناموسًا عامًا افرزته وحدة الصف ووحدة الكلمة حتى لا نعود الى عبارة »اتفاق« في نظريات »العقد الاجتماعي« في الفلسفات السياسية الحديثة. ان ما ستقوم هي دولة الحق، لا دولة القانون، لان الحق، في السياقات الحقوقية، اشمل من القانون، لذلك هو يحتويه كاحد مكوناته الجوهرية، لكنه ليس المكون الجوهري، فالمكون الجوهري هو »الانصاف« على معنى القيمة الاخلاقية السامية، ف »المنصف« هو من يصحح القوانين و يراجعها تعقبا لثغراتها و اعتبارا للحالات الخاصة والاستثناءات التي لا يشملها القانون، ومن هنا يكون »المنصف« فاعل تطوير للقوانين و يقوم حارسا على فاعليتها. فالسياق كما المرجعية الفكرية ليس سياق نشاة »الدولة« بفرضية »الحالة الطبيعية« كما نظرت لها الفلسفات السياسية للحداثة.
(❊) أستاذة الفلسفة و حوار الحضارات
المعهد العالي لأصول الدين/ جامعة الزيتونة تونس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.