الأوديّون مسرح تفتخر به فرنسا افتخارها بالأُوبرا والكوميدي فرانسيز، ينهض في ساحة كلوديل في الدائرة السادسة الباريسية، مرتديا الأصفر السّاطع، ويقصده زائرو باريس للفرجة والاستمتاع بمشاهدة الاعمال المسرحية الكُبرى كما يؤمّون برج إيفيل أو حديقة اللّكسمبورغ أو اللّوفر أو مقاهي الثقافة والفلاسفة.. ما أروعها هذه باريس، مدينة الحراك المعرفيّ والفكريّ، الغنيّ والمتنوّع، وهكذا وبالأوديون تُفتح صفحة جديدة ناصعة في تاريخ أجمل مسرح فيها. وسيشاهد عشّاق الاعمال المسرحية الكبرى، ومنذئذ، في متعة ولذّة، ما سيجود به مبدعو الفنّ الرابع لترويض العقول وتهذيب النفوس وتطهير الأرواح. والأوديّون، الذي كُتب على جَبْهِيَةِ واجهته: أوديون مسرح أوروبّا، يدخل بأوروبا عصر ثقافة مسرحية لا حدود لها من باريس الى براغ وفيينا وموسكو مرورا ببرلين وروما ومدريد.. دون أن تنسى أعمالا مسرحية من قارات اخرى انفتاحا على تجارب الشعوب المسرحية حيث كان للمسرح التونسي شرف العرض على ركح الأوديون في جوان 2006 مسرحية «خمسون» للثنائي الفاضل الجعايبي وجليلة بكّار، حيث لاقت حضورا كثيفا واهتماما كبيرا ومتابعة جادّة كما حدّثني بذلك «الأمبراطور» الصديق أحمد حاذق العرف الذي عاد منبهرا بباريس وبالأوديّون. هذا الاوديون: مسيرة متنوّعة ومسرح متميز وتاريخ حافل يمتدّ على مدى قرنين من الزّمان في مدينة تتفرّد عن غيرها من العواصم: باريس موليير وراسين وكورناي وصولا إلى الى ما بعد الإيطالي المبدع جورجيو سترهلر (Giorgio Strehler: 1921 -1995) . إنّ مسرح الأوديون (L'odéon) ، والذي فتح أبوابه سنة 1782، هو بلا شكّ المسرح الباريسي الأقدم، تمّ بناؤه على أنقاض فندق كوندي (Hotél de Condé) على يد المهندسَين المعمارييّن: شارل دو ويلّي (charles de wailly: 1730 - 1798) وماري جوزيف باير (M.J. Peyre: 1730 - 1785) ، اللذين ولدا في نفس العام وتمّ تتويجهما بجائزة روما، إنهما يمثّلان الأسلوب الكلاسيكي الجديد، وسوف يساهمان في تعْميمه، ويشتركان في بناء مسرح مجاور لقصر اللّوكسمبورغ. قدّما العديد من المشاريع، لكن سيُقبل منهما مشروع واحد صمم في مجسّمة مستطيلة ، يزين الواجهةَ الرئيسيةَ صفُّ أعمدة مستقيمة، وجسور من كل جانب تقودُ إلى مقاهٍ تقع في المباني الملاصقة للمسرح في الجهة الأخرى من الشارع، ورواق مقنطر (arcade) يشكل محيط الصّرح، وفي الداخل غرفة مدخل مربّعة، قائمة على أعمدة ذات طلاء مذهّب، وتفتح على سُلّمين متناظرين. ويتعلق الامر هنا بأوّل صرح ضخم رُصد للفنّ المسرحيّ، والقاعة على النمط الإيطالي، والأكبر في باريس، يمكن أن تتسع ل 1913 مقعدا، الابتكار الاوّل: لن يكون هناك وقوف او جلوس على الأرض، فالجميع لهم مقاعدهم والثاني هو التنوير بالمسارح (quinquets)، راح بعض المسْتائين يسخرون من «مقلع السكر الابيض» هذا اللون السائد في التزويق، وسوف يُعهد هذا المعلم المسرحي للمسرح الفرسي لمدّة أحد عشر عاما (1782 1793)، ويحتلّ فيه المرتبة الرابعة بعد مسرح الآلات (Salle de machines) في (قصر القراميد 1782 - 1770: Tuileries) ، وقصر مسرحيّي الملك (l'hôtel des Comédiens - du - Roi) نهج خنادق سانت جرمان (1770 - 1689: fossés - Saint - Germain) . وفي الأوديون المستقبليّ عرض الممثلون الفرنسيون سنة 1784، زواج فيغارو (le Mariage de Figaro) لبومارشي، كما عرضوا أيضا شارل التاسع لماري جوزيف شونييه (M.J. chenier) شقيق الشاعر الذي أعدم بالمقصلة) وهي تراجيديا تفضح الملكية ممّا احدث ضجة ولغطا كبيرين، «واذا قضت فيغارو على النّبالة، فإنّ شارل التاسع ستقضي على الملكيّة، هكذا تنبّأ دانتون وهو خارج من المسرح الذي سيغيّر اسمه عام 1789 ليصبح مع نفس الفرقة: مسرح الأمّة. وعلى الركح يواجه «الثّوريون» يقودهم تالْما (Talma) «السّود» الرجعيين الذين سوف يتمّ ايقافهم وسجنهم وفي هذا المرسح عُرضت «استعباد السود او الغرق السعيد» لاوليمب دي غوج (Olynpe de Gouges) وهي نسوية ثورية ستنتهي أخيرا على منصّة الاعدام. أغلق مسرح الامّة يوم 3 / 12 / 1793، ولن يفتح أبوابه إلاّ بعد سنة تحت اسم مسرح المساواة مجهّز بمدرّج كبير على النمط القديم يحتوي مقاصير وشرفات. وفي 1796 مع الديركتوار (Le Directoire: وهو نظام حكم فرنسا في الرابع من برومّير السنة الرابعة / 26 / 10 / 1795، الى الثامن عشر من برومّير العام الثامن / 9 / 11 / 1799 / المعرّب) سوف يختفي هذا المسرح، ولن يسمى بعدئذ إلاّ الأوديّون، والذي سَيُحرق سنة 1799 ويهجر طيلة ثمانية أعوام. أمر نابليون بإعادة بنائه على يد شالغران (Chalgrin) مهندس قوس النصر، فبدأ بتخفيض السّقف، وتوسعة جدار الداخل واعادة زخرفة المبنئ بالكامل حيث أدْخل صفّ أعمدة من الرّخام الاصفر غير الحقيقي، وفتح بناية مستديرة بإقامة تماثيل نسائية (Cariatides) كدعائم هندسية عمودية من معجون المرمر، وتوصل الى أين ركّزت مدفأة «عودة مصر» وسيحمل المسرح الذي كان يسمّى مسرح الامبراطورة اسم المسرح الملكي عند قيام «لا ريستوراسيون» La Restauration (وهو النظام السياسي في فرنسا من افريل 1814 الى جويلية 1830 / المعرّب)، وسيلْغي المعماري باراغواي (Baraguay) الذي أعاد بناء الاوديّون، الجسْرين الصغيرين اللّذين يصلانه بدور نهج كورناي ونهج موليير (سمّي اليوم روترو Routrou)، وفي احتياط حكيم ضدّ الحرائق، أقام جدارا لإسناد قاعة العرض. واصل الاوديون وجوده الحركيّ، وإذا ربح فيكتور هيجر في 1830، معركة هرنان (Hernant) في الكوميدي فرانسيز (نهج روشليو) فإنّ الفريد دوميسّيه (A. de. Musset) خسر معركة الليلة البندقانية (La Nuit Vénitienne) في الاوديون حين قوبل بالصّفير، وبالمقابل نجحت عام 1843 مسرحية «لا لوكراس» (La lucrèce) لبونسارد (1867 / 1814 Ponsard) (ولوكراس هذه / 509 ق م، امرأة رومانية قتلت بعد أن تمّ اغتصابها من أحد أبناء تركان البهيّ Tarquin le Superbe وكان ذلك مناسبة لسقوط الملكية في روما / المعرّب). وهي تراجيديا نيوكلاسيكية مع رومانسية قديمة، وكتبت جورج صاند (François le Champi) وأدموند د ي قونكور (الماريشالة La Maréchale) وألفونس دوديه (جاك) لعرضها في الاوديون، وبعد ان تحول هذا المرسح الى إسعافيّة خلال حرب 1870، وجٌدّد في 1875 على يد دوكان (Duquesne) عايش الأوديّون طويلا الأروقة المقوّسة التي تحيط به والتي احتلها باعة الكتب. وسيظلّ انطوان (1858 1943) مؤسس المسرح الحرّ سبع سنوات على رأس الاوديون (1906 1914) قدمت فيه 364 مسرحية، واحدة كلّ أسبوع من تارثيف (Tartuffe) موليير الى رامونتشو (Ramuntcho) لُوتي (Loti)، وقام بترميمات كبيرة، حيث الغى 300 مقعد لم تعد صالحة للاستعمال، مهيّئا الأوركستر المنحدر، وأعاد دهن قاعة الألوان، «الورقة الميّتة» و»الذهب العتيق» وقدّم شكسبير خاصة في «وصوله» (يوليوس قيصر Jules César) مع ماكس في الدّور الرئيسي، وجرّب أجهزة متحوّلة في (كوريولان Coriolan) و»روميو وجولييت»، ونوّع في المشاهد المسرحية، وسيتولى بعده «وصيفه الجموح dauphin rétif»، فيرمين جيمييه (1933 - 1869: Firmin Gémier) مؤسس المسرح الوطني الشعبي، الاوديون (1922 1930). ومن 1946 الى 1959، سوف يصبح الأوديون «القاعة الثانية، قاعة اللوكسمبورغ» للكوميدي فرانسير، وما إن عّين اندري مالرو وزير الشؤون الثقافية في حكومة ديغول حتى بادر بعهد الاوديون الذي اصبح اسمه مسرح فرنسا الى جون لوي بارو (J.L. Barrault) ليظلّ على رأس ادارته تسع سنوات ويقدم خلالها «رأس من ذهب» لكلوديل عملا تدشينيّا والذي على إثره اسرّ الجنرال لوزيره قائلا: «كلوديل هذا انه يصنع الطاجن ragoût» لكنّ بارّو قدم أيضا يونسكو (وحيد القرن rhinocéros، المترجل الطائر le piéton de lair)، وصاموئيل بيكيت (آه أيتها الايام الجميلة Oh les beaux jours ودوراس Duras (أيام بكاملها بين الاشجار Des journées entiéres dans les arbres وبطبيعة الحال جون جينيه (الستائر Les paravents) والتي ستثير فضيحة، ويعاد عرضها تحت الحماية الامنيّة. وبحلول 1968 وشهر ماي الجميل صار الاوديون المحتلّ مسرح الفرجة المهولة والمرتجلة على النّمط الامريكي الذي يفرض مشاركة حيويّة للجمهور (happenings). ولمّا غادر بارّو، صار الأوديون «مركزا تجريبيّا» مكلّفا بإستقبال فرق الأقاليم (les Provinces) أو الفرق الأجنبيّة. وستستعيد الكوميدي فرانسيز في 1971 تحت ادارة بيير دوكس P.Dux مسرح الأوديون وسيُدعى سنة 1975 ايطاليّ متوهّج هو جيورجيو سترهلر G.strehler مدير بيكولو تياترو ميلان لعرض «ولدوني «Goldoni وبعدها سنشاهد «Vitez» وروجيه بلين R.Blin»، لكن جاك لانغ سيضع حدّا لهذا الغموض، وهو وزير الثقافة في حكومة ميتران عام 1983، ويعهد به، لجورجيو سترهلر ليصنع منه: الأوديون مسرح أروبا 'L'Odéon-théâtre de l'Europe)، ليعقبه لوي باسكال (LIuis Pascal) في 1990، وبعده لافودان (Lavaudant) عام 1996، وبهذا سوف يعيش هذا المسرح عشرين عاما دون أن يغيّر من مراسمه الاحتفالية.. يا لهُ من عمل باهر للأوديّون. *** (وللعرب حكاياتهم مع الأوديّون) (2) لباريس حكايات مع مثقفين عربا ذهبواإليها للدراسة والتحصيل العلمي العالي، ويها عاشوا حكاياتهم الحميمة، طه حسين وأيّامه، سهيل إدريس وحيّه اللاّتيني، لكن لتوفيق الحكيم، «عصفور من الشرق»، حكاية عاشقة عاش فصولها مع «مداموازيل سوزي» عاملة في شباك تذاكر «تياترو الأوديون»... يقول محسن بطل «عصفور من الشرق» متحدّثا عن تجربته: .. أراها في شبّاكها، تشرف على الناس بعينين من فيروز، وهم يمرون أمامها الواحد تلو الآخر، من كلّ جنيس ومن كل طبقة فيهم الفقير مثلي، وفيهم الموسر مثل ملك من الملوك، يمرّ بين يديها كلّ يوم هذا الموكب وهي تبسم من شبّاكها بين آن وآن دون أن يعرف أحد سرّ قلبها... في شبّاك التذاكر! «تياترو» الأوديون من هو المجنون يا «سوزي»؟ لست أعرف بعد من يكون، اعتاد أن يأتي كلّ يوم الى هذا الشباك، فينتظر حتى ينفضّ الناس ويخلو المكان، فيتقدّم إليّ قائلا: «بونجور ماداموازيل» فأردّ عليه التحيّة، فيقف يطيل إليّ النظر صامتا، ثمّ يتحرّك قائلا: «أروفوار مادموازيل»، ويمضي لشأنه. ... لبث «محسن» في مجلسه من المقهى الذي أمام الأوديون، يحتسي قدحا من القهوة ممزوجة باللبن، ويتأمّل تلك الأعمدة العظيمة التي يقوم عليها بناء المسرح الفخم.. ثمّ يخرج الى مطعم «الأوديون» بجوار المسرح ينتظرها فيه لتناول الغداء، ثمّ يبقى معها حتى موعد فتح شباك التذاكر في منتصف الثالثة، فيتركها ليعود إليها ساعة العشاء في ذلك المطعم، ثمّ يذهبان وقد فرغت من عملها الى «سينما» الحيّ، فيجلسان متلاصقين، يتبادلان القبلات في الظلام، كما يفعل من بجوارهم...» هو الأوديون! مسرح وحبّ وإقبال على الحياة.. وهي باريس! مدينة الفنّ والإبداع والجنون.. ولوجوه ثقافية عربية كبيرة فيهما وبينهما حكايات عاشقة، جميلة، تروي بعض فصول الزّمن الذاهب في الذكريات والموغل في النّوستالجيا. ------------------------------------------------------------------------ الإحالات: (1) Emmanuel DE ROUX: Le monde: 26.04.2006. Dossier: ODEON (2) توفيق الحكيم: عصفور من الشرق / مكتبة مصر، القاهرة ودار سحنون / تونس 2004 (بتصرّف : الفصول 4/5/6/7).