انّ الوفاء لتضحيات الشهداء والرواد الأوائل هو سر ديمومة حركتنا النقابية. وهذا الوفاء ليس من باب التقديس والتباهي بالأمجاد، بل هو لاستخلاص الدروس والعبر، وضمان التواصل بين الأجيال، وانصاف كلّ من أهم في صنع تاريخ شعبنا. فحشاد اغتيل وهو لم يتجاوز الثامنة والثلاثين من عمره.. وقد يحتار المرء في استيعاب ذلك العطاء الغزير وتلك الملحمة التي لا تزال تلهم الأجيال المتعاقبة. انّ حشاد ليس أسطورة.. بل هو حقيقة.. وقد تطوّر فكره ونضاله وفق مسار تصاعدي.. ولا يمكن فهم مسيرة حشاد دون ابراز المعادلات الصعبة والثنائيات الحادة التي نجح في كسبها.. لقد تطوّر فكر حشاد من النقابية إلى الوطنية ثمّ العالمية.. وتوفق في الربط بين المطلبية والمقاومة السياسية. بين العمل النقابي والنضال التحرّري، بين الكفاح الوطني والتحرك السياسي والديبلوماسي الدولي، واستطاع أن يضع الاتحاد العام التونسي للشغل أمام رهانات متشابكة: رهان التقدم الاجتماعي ورهان الاستقلال ورهان الحرية والديمقراطية. لقد تجاوز حشاد حدود الطبقة العمّالية ليتبنى قضايا الوطن بأسره، وانتقل في ظرف سنوات من قائد منظمة عمّالية إلى قائد حركة مقاومة وطنية وزعيم شعب. وهذه المرحلة هي التي ساعدت حشاد على الخروج من المحلية الضيقة إلى العالمية الواسعة. فالمسيرة الحشادية، بالرغم من قصر عمرها نسبيا، شهدت عديد المراحل الكبرى. لقد تميّزت الفترة الأولى التي تواصلت حوالي ثماني سنوات بنضاله في صلب منظمة (س.ج.ت) من 1936 إلى 1944 ثمّ استقال من أجل بعث حركة نقابية مستقلّة بعيدا عن أي غطاء سياسي أو حزبي. وامتدّت مرحلة التأسيس لمنظمة وطنية نقابية مستقلة سنتين كاملتين من 1944 إلى 1946 وتوجت بتكوين الاتحاد العام التونسي للشغل في 20 جانفي المناضل محمد علي الحامي والتي اضطلع الطاهر الحداد ببلورتها وتعميق أسسها الاجتماعية في مؤلفاته، كما عايش فشل التجربة النقابية الثانية التي قادها المناضل بلڤاسم الڤناوي وقد أدّى وعيه بطبيعة المرحل الى ضرورة تأطير الطبقة الشغيلة التونسية وصهر نضالها في المعركة الوطنية والاجتماعية وإلى الكفاح من أجل الاستقلال والحرية، وهذا التمشّي أربك الاستعمار الذي وجد نفسه في مواجهة حركة عمّالية صاعدة. لقد استطاع حشاد أن يقحم العمّال والفئات الشعبية الواسعة في المعركة الوطنية ممّا أضفى عليها بُعدًا جماهيريا غير مألوف وقد أثبتت السنوات الموالية ان ميلاد الاتحاد العام التونسي للشغل كان بمثابة المنعرج الحاسم في تطور الحركة التحرّرية مثلا شكّل حشاد نقلة نوعية في الزعامة الوطنية نتيجة قوة ايمانه بالشعب ومراهنته عليه كقوة ضاربة لدحر الاستعمار. إنّ خطّة حشاد المتمثلة في وحدة العمّال واستقلالية منظمتهم على أسس ديمقراطية ونضالية جعلت الاتحاد منذ انبعاثه منحازًا الى قضايا الفئات الشعبية التي تعاني من الاستغلال والاضطهاد وملتزمًا بالنّّهج التقدمي والوطني الهادف إلى تحقيق الاستقلال. وقد كانت المرحلة الموالية التي عقبت تأسيس الاتحاد قاسية وشرسة حيث سالت فيها الدماء وسقطت مئات الضحايا ويمكن وصفها بمعركة فرض الذات واقتلاع الاعتراف بتمثيلية الاتحاد للعمّال التونسيين. لقد شهدت هذه الفترة معارك عنيفة في جبل الجلود وفي مناجم ڤفصة وفي غيرها من المدن والقرى وشكلت معركة 5 أوت 1947 التي اندلعت بصفاقس اثر قرار الاتحاد بشنّ أول اضراب عام في تاريخ البلاد تحوّلا حاسمًا في مسار المقاومة الشعبية، وأهم معركة خاضها التونسيون ضد الاستعمار في الأربعينات. كما برزت فيها رموز نقابية ووطنية كان لها دور حاسم في تعبئة العمّال وتجذير النضال الوطني وفي مقدمتهم المناضل الكبير المرحوم الأخ الحبيب عاشور. وقد خرج الاتحاد منتصرًا من هذه المعارك ونجح بالخصوص في إفشال مخطط الاستعمار الهادف الى تصفيته وحلّه نهائيا وأصبح في نهاية الأربعينات ممثّلا للطبقة الشغيلة التونسية وقاد سلسلة من الاضرابات الهادفة الى تحسين أجور العمّال وتطوير تشريعات العمل. ومنذ سنة 1949 دخل الاتحاد مرحلة متطورة في نضاله وهي مرحلة الكفاح الوطني حيث نجح حشاد في ترسيخ مفهوم الجبهة الوطنية لمقاومة الاستعمار كما تميّزت هذه المرحلة بالتوجه نحو المحافل الدولية لكسب تأييد الحركة النقابية العالمية والرأي العام الدولي المناهض للاستعمار كما سعى حشاد الى احتضان كفاح الطبقة العاملة في بلدان شمال افريقيا لخلق جبهة مغاربية لمقاومة الاستعمار الفرنسي. لقد كانت الحرب الباردة على أشدّها بين الشرق والغرب وكان حشاد يسعى إلى أن يكون الاتحاد ممثّلا نقابيا على الصعيد الدولي وقد نجح في كسب هذه المعركة وإفشال مخطّط منظمة امتدّت تقريبا من 1947 إلى 1949 مواجهات دامية بين العمّال وقوّات الاستعمار وحصلت فيها 1946. لقد كان حشاد مدركا لأهميّة التجربة الأولى التي خاضها. إنّ غاية هذا المؤتمر هي س.ج.ت والانضمام الى »الفيدرالية النقابية العالمية« ولكنّه سرعان ما قرّر الخروج منها بعد أن تأكد بأنّها لم تكن سوى أداة لتنفيذ سياسية الكتلة الشرقية وأنّها تعمل في الظاهر على تحرير الشعوب ولكنّها في الحقيقة تهدف أولا وبالذات الى تكريس الأهداف الايديولوجية وبما أنّ حشاد كان يعطي الأولوية للمسألة الوطنية فقد قرّر الانضمام منذ سنة 1950 إلى الاتحاد الدولي للنقابات الحرّة بوصفه منبرًا ملائما للدفاع عن القضية الوطنية والسيادة التونسية وبالعودة الى المقالات التي كتبها حشاد حول هذه المسألة والخطاب الذي ألقاه في مؤتمر النقابات الأمريكية في سبتمبر 1951 يتأكد لنا أنّ خيار الانضمام الى السيزل هو خيار الانضمام الى الديمقراطية والحرية وتغليب خيار الاستقلال الوطني. ولا غرابة بعد هذه النجاحات السياسية والدبلوماسية التي حققها الاتحاد العام التونسي للشغل في الداخل وفي الخارج أن تتصدّر المنظمة الشغيلة طليعة المقاومة الوطنية ضد الاستعمار وأن تؤول مسؤولية قيادة الكفاح الوطني والمقاومة المسلحة إلى الزعيم فرحات حشاد في بداية الخمسينات. لقد حاولت اختزال مسيرة حشاد في بعض المنعطفات التاريخية الحاسمة وسوف أترك المجال للأخوة المحاضرين والمؤرخين للحديث عن فكر حشاد ومذهبه ان صحّ التعبير في السياسة والاقتصاد وغيرها من قضايا التنمية والتحرّر. ويبقى ضروري التطرّق بايجاز الى جملة من المبادئ والأبعاد الفكرية والسياسية الجوهرية التي نستلهمها من مسيرة حشاد الكفاحية ولعلّ ما يشدنا أولا هو ايمانه بالطبقات الشعبية وحرصه على نشر الفكرة العمّالية في المجتمع وتثبيت التيار الوطني المستقل والحفاظ على استقلالية الحركة النقابية عن الأحزاب السياسية وتحقيق التوافق بين البعد المطلبي والوطني والمغاربي والدولي والأممي في مسار العمل النقابي، الى جانب تواضعه ورفضه للشخصنة والزعامتية وحرصه على تشريك جميع الهياكل في أخذ القرارات وفي حقيقة الأمر فقد شهدت البلاد في منتصف الأربعينات ميلاد أول مدرسة للديمقراطية تتجاوز حدود النخبة الى عموم التونسيين. لقد كان حشاد واعيا بعلوية الحرية الانسانية وبأهميّة الديمقراطية في حياة الشعوب ولم يكن انضمامه الى السيزل، كما أشرت آنفا من باب الدبلوماسية فحسب، وإنّما كان انخراطا في مسار التقدم والحريات وقد دافع بجرأة عن مواقفه السياسية التقدمية وكان يؤكد باستمرار انّ الاستقلال السياسي بغير الرقي الاجتماعي وبغير الديمقراطية هو اغراء خادع. نفس البريق إنّ مكانة حشاد تتجاوز الفضاء الجغرافي والسياسي الوطني لتمتدّ الى الفضاءات المغاربية والدولية ولم يكن في وسعه أن يحتلّ هذه المكانة البارزة ضمن كبار القادة النقابيين في العالم في ذلك الوقت لولا إخلاصه للقضية النقابية ووفائه للوطن. وبفضل هذا الرصيد الذي تركه حشاد استطاع الاتحاد العام التونسي للشغل أن يواصل مسيرته بثبات وقد أسهم في بناء ادولة الوطنية الحديثة وفي ترسيخ نموذج التنمية المتوازنة وتعزيز مقومات المجتمع المدني كما ناضل بحزم في سبيل العدالة الاجتماعية وارساء دعائم الحياة الديمقراطية ورغم انقضاء أكثر من نصف قرن على تأسيس الاتحاد فإنّ منظمة حشاد لا تزال تحافظ على بريقها واشعاعها النضالي وهي اليوم تواصل مسيرتها الكفاحية في المجالين الاجتماعي والوطني تماما مثلما فعل حشاد ورفاقه ومثلما أشرت في بداية مداخلتي فإنّ وفاءنا المتجدّد لمبادئ حشاد وتضحيات الشهداء والرواد الأوائل هو سرّ بقاء وتطوّر هذه المنظمة العتيدة وهو مفتاح نجاح وتواصل هذه التجربة النقابية الأصيلة رغم تغيّر العالم وانهيار الايديولوجيات والكتل وتهافت الكثير من المنظمات والحركات الاجتماعية والسياسية في أنحاء كثيرة من العالم، ورغم رياح العولمة وتحدّيات العصر.