نادي محيط قرقنة الترجي الرياضي: التشكيلة الأساسية للفريقين في مواجهة اليوم    أبطال أوروبا: تشكيلة ريال مدريد في مواجهة بايرن ميونيخ    رسميا: الأهلي المصري يواجه الترجي الرياضي بطاقة إستيعاب كاملة في ملعب القاهرة الدولي    منزل تميم: تفكيك شبكة مختصة في سرقة المواشي    عاجل/ مُحام يتعرّض للطعن بسكين أثناء خروجه من قاعة الجلسة بهذه المحكمة..    حملة أمنية في نابل تسفر عن ايقاف 141 شخصا    الأعلى انتاجا.. إطلاق أول محطة توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية    الندوة الوطنية لتقييم نتائج التدقيق الطاقي الوطني للبلديات تبدأ أشغالها    سيارة Chery Arrizo 5 الجديدة تصل إلى تونس    هام/ تسميات جديدة في وزارة التجهيز..    بطاحات جزيرة جربة تاستأنف نشاطها بعد توقف الليلة الماضية    نجيب الدزيري لاسامة محمد " انتي قواد للقروي والزنايدي يحب العكري" وبسيس يقطع البث    السباح التونسي احمد ايوب الحفناوي يغيب عن اولمبياد باريس    التونسي أيمن الصفاقسي يحرز سادس أهدافه في البطولة الكويتية    ما السر وراء اختفاء عصام الشوالي خلال مواجهة باريس ودورتموند ؟    وزيرة الإقتصاد في مهمة ترويجية " لمنتدى تونس للإستثمار"    انطلاق اختبارات 'البكالوريا البيضاء' بداية من اليوم الى غاية 15 ماي 2024    حجز كمية مخدّرات كانت ستُروّج بالمدارس والمعاهد بحي التضامن..    الحماية المدنية: 12 حالة وفاة خلال ال24 ساعة الماضية    عاجل : قضية ضد صحفية و نقيب الموسقيين ماهر الهمامي    أريانة :خرجة الفراشية القلعية يوم 10 ماي الجاري    قصر العبدلية ينظم الدورة الثانية لتظاهرة "معلم... وأطفال" يومي 11 و12 ماي بقصر السعادة بالمرسى    دورة جديدة لمهرجان الطفولة بجرجيس تحتفي بالتراث    عاجل/يصعب إيقافها: سلالة جديدة من كورونا تثير القلق..    قوات الاحتلال الصهيوني تعتقل 8640 فلسطينيا بالضفة الغربية منذ 7 أكتوبر الماضي..    بطولة مصر : الأهلي يفوز على الاتحاد السكندري 41    سياحة : نحو 30 بالمائة من النزل التونسية مازالت مُغلقة    جرحى في حادث اصطدام بين سيارتين بهذه الجهة..    هل سيشارك أيوب الحفناوي في الألعاب الاولمبية باريس 2024 ؟    عاجل : دولة عربية تلاحق عصابة ''تيكتوكرز'' تغتصب الأطفال بالخارج    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الاربعاء 8 ماي 2024    الاقتصاد في العالم    بأسعار تفاضلية: معرض للمواد الغذائية بالعاصمة    اتحاد الفلاحة: ''علّوش'' العيد تجاوز المليون منذ سنوات    عاجل/ فضيحة تطيح بمسؤولة بأحد البرامج في قناة الحوار التونسي..    حوادث : مقتل 12 شخصا وإصابة 445 آخرين خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية    تراجع عدد أضاحي العيد ب13 بالمئة مقارنة بالسنة الماضية    أخبار المال والأعمال    مدعوما بتحسن الإيرادات الخارجية: ميزان المدفوعات يستعيد توازنه    إلى حدود 6 ماي تصدير 8500 طن من القوارص منها 7700 طن نحو فرنسا    هزة أرضية بقوة 4.7 درجات تضرب هذه المنطقة..    "دور المسرح في مواجهة العنف" ضمن حوارات ثقافية يوم السبت 11 ماي    ومن الحب ما قتل.. شاب ينهي حياة خطيبته ويلقي بنفسه من الدور الخامس    جيش الاحتلال يشن غارات على أهداف لحزب الله في 6 مناطق جنوب لبنان    اعتبارًا من هذا التاريخ: تطبيق عقوبة مخالفة تعليمات الحج من دون تصريح    لأجل غير مسمى.. إرجاء محاكمة ترامب بقضية "الوثائق السرية"    محرز الغنوشي: رجعت الشتوية..    سحب لقاح "أسترازينيكا" من جميع أنحاء العالم    رئيس جمعية مالوف تونس بباريس أحمد رضا عباس ل«الشروق» أقصونا من المهرجانات التونسية ومحرومون من دار تونس بباريس    مصر: تعرض رجال أعمال كندي لإطلاق نار في الإسكندرية    بعض مناضلي ودعاة الحرية مصالحهم المادية قبل المصلحة الوطنية …فتحي الجموسي    المهديّة :ايقاف امام خطيب بسبب تلفظه بكلمة بذيئة    اتصالات تونس تنخرط في مبادرة "سينما تدور" (فيديو)    تونس : 6% من البالغين مصابون ''بالربو''    متى موعد عيد الأضحى ؟ وكم عدد أيام العطل في الدول الإسلامية؟    رئيسة قسم أمراض صدرية: 10% من الأطفال في تونس مصابون بالربو    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    العمل شرف وعبادة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحق العالمي في التفلسف
نشر في الشعب يوم 07 - 10 - 2006


منزلة الفلسفة
« يلزم أن نعتقد أنها هي وحدها تميزنا عن الأقوام المتوحشين والهمجيين. وأن حضارة الأمة وثقافتها إنما تقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها, ولذلك فإن أجل نعمة ينعم الله بها على بلد من البلاد هو أن يمنحه فلاسفة حقيقيين «إنكم لا تستطيعون مجاوزة الفلسفة ونسخها إلا بتحقيقهالا توجد في الفلسفة حقائق من نفس نظام الحقائق الموجودة في العلوم رغم أن الحقيقة هي مقتضى الفلسفة ومقصدها, فالفلسفة بحث وليست تملك فهي علم وحكمة في الآن نفسه وتظهر لنا اليم بمظهر علم العلم ومعرفة أسس المعرفة لأنها تتعالى وتطرح مشاكل يجهلها العلم
.في الواقع يوجد معنيان للفلسفة :
معنى قديم : الفلسفة هي رؤية الناس والمجموعات البشرية للعالم وتصورهم للحياة وأفكارهم وآرائهم عن مكانة الإنسان في الكون والدور الذي يجب أن يضطلع به.
معنى حديث : الفلسفة هي تفكير نقدي في مجموعة من المسائل ومن الأجوبة المقدمة بشأنها من خلال انعكاس الفكر على ذاته وبعبارة أخرى هي تفكير نقدي في أسس المعرفة.
إن التفكير الفلسفي هو قبل كل شيء تساؤل حول الوضع الإنساني وحول المبادئ والقيم التي ينبغي أن ينتظم وفقها الفعل البشري. لقد سبق لديكارت أن بين أن الفلسفة ليست التحوط في تدبير الأمور فحسب بل هي أيضا Sophia دراسة الحكمة و «معرفة كاملة بكل ما يستطيع الإنسان أن يعرفه إما لتدبير حياته أو لحفظ صحته أو لاستكشاف الفنون جميعا...» والحكمة هي الغذاء الصحيح للعقول تبحث في الغايات القصوى والعلل الأولى والمبادئ الواضحة والبديهية والمتميزة ينبغي أن تعم فائدتها الناس جميعا وقد ربط ديكارت بين التفلسف والإبصار وبين معرفة الأشياء ورؤية الظواهر وبين أن الفلسفة هي أعظم خير يمكن أن يتسوق إليه وآية ذلك أنها أشرف الغايات وأعظم الصناعات تستكمل بها الذات وجودها لأن من وصل إلى تحقيق العافية وحصل على الثروة والجاه يظل أكثر الناس لهفة على إدراك ذلك النور الفطري الذي يساعد على معرفة الحقيقة عن طريق عللها الأولى وقد صرح في هذا الشأن : «ولأن يحيا المرء دون تفلسف هو حقا كمن يظل مغمضا عينيه.
يترتب عن هذا القول أن الفلسفة حاجة ضرورية في الحياة الإنسانية وأن غيابها يسبب الدمار والخراب وإهمالها يؤدي إلى التقهقر والتخلف الحضاري لكن كيف تبدأ تجربة التفلسف على العكس من ذلك مع الانهيار والسقوط ؟
تبدأ الفلسفة حين تصبح الحياة العامة غير مقنعة وعندما يبدأ العالم الواقعي في السقوط والتفكك ويتكون شرخ وقطيعة بين عالم السماء الفكري وعالم الأرض المادي وحين لا يعود المواطن يقوم بأية مساهمة في إدارة الدولة ولم يعد يرضيه عالم المادة فيهرب إلى عالم الروح. وهكذا لا تشرع الفلسفة في اتخاذ صورة التفكير المستقل إلا في فترة متأخرة عندما لم تعد روح الشعب تجد إشباعها في التجليات الأخرى كالدين والفن والسياسة والأخلاق, يقول هيجل :»يبدو أن الفلسفة تظل متأخرة فهي بوصفها فكرة العالم لا تظهر إلا حين يكتمل الواقع الفعلي وتنتهي عملية تطوره... إن بومة منيرفا لا تبدأ في الطيران إلا بعد أن يرخي الليل سدوله...»24
ويقصد بهذا النص أن الفلسفة هي إشباع الحاجة المشبعة وأن التفكير الفلسفي هو تفكير ثان مضاد للتفكير الأول وهو تفكير العامة. إن التفلسف لا ينطلق مما يقوله الناس أو يتخيلونه أو يتمثلونه ولا مما يكونون عليه في كلام الآخرين وفكرهم وخيالهم وتمثلاتهم بل ينطلق من الناس بما هم لحم ودم ومن حياتهم الواقعية ووجودهم الفعلي وفعاليتهم الحقيقية ونشاطهم المادي وعوض أن تنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض لا بد أن تصعد من الأرض إلى السماء (كما يرى ماركس).
وما تجلبه الفلسفة معها هو تحقيق المصالحة بين المرء وذاته والعالم والآخر وإصلاح الفساد الناشئ في المجتمع عن طريق الفكر وتغيير آليات الإنتاج المادي في الواقع إن الفلسفة عند هيجل نشاط حر وضرب من الرفاهية دون أن يعني ذلك إمكانية الاستغناء عنها فهي أعظم الأشياء ضرورة تتحدد مع روح العصر الذي تظهر فيه لتكون الازدهار الأسمى للروح بحيث «ليس ثمة فلسفة تجاوزت زمانها فكل منها قد أدرك روح عصرها في الفكر», إنها الفكر الذي يفهم نفسها فهما شاملا وهي كذلك الروح المفكر في تاريخ العالم. والحق أن أرسطو كان سباقا في ذلك فهو قد نصص على أن الفلسفة حاجة كمالية وترف معرفي وبرهن على ذلك بأنها نشاط حر غير نفعي وضرب من الرفاهية والاستمتاع بالنسبة لكل إنسان يخرج من حياته الطبيعية وينقطع عن مواقف المصالح المادية ويرضى تفاهات الحياة الحسية, ألم يصرح أرسطو في كتاب مفقود:» إن من يريد أن يكون سعيدا فلابد له أن يتفلسف ألم يقل : «الناس بدؤوا في التفلسف عندما توفرت لديهم مطالب الحياة المادية» ويضيف : «حينما تشبع الحاجات الملحة ينتقل الإنسان إلى طلب الأمور الرفيعة»وبالتالي فإن الفلسفة من الأمور الرفيعة ولا يجوز تركها أو نسيانها ولا محاصرتها أو منع تدريسها وينبغي ألا ننسي أنها «معرفة في خدمة خير الإنسان» كما يقول نيتشه وهو كذلك فن في الحياة والفيلسوف هو طبيب حضارة يعالج سقم الشعوب ولكن أين نقع على مثال لشعب مريض استطاعت الفلسفة أن ترد له عافيته المقصودة ؟
ألم يكن الإغريق هو هذا الشعب الذي استرد عافيته عن طريق الفلسفة في الأمس وربما يحمل العرب مشعلهم في الغد ويضعون المعرفة في خدمة الحياة ؟ ألم يقل نيتشه بشأنهم: « إنهم عرفوا أن يلتقطوا الرمح من حيث تركه شعب آخر لكي يلقوا به إلى أبعد.إنهم جديرون بالإعجاب من حيث فنهم في التعلم بشكل مفيد و علينا أن نحذوا حذوهم في التعلم من جيراننا واضعين المعرفة المكتسبة كدعامة في خدمة الحياة و ليس في خدمة المعرفة الموسوعية التي ننطلق منها دائما لكي نتعالى على الجار...»28
إن ينبوع الفلسفة إذا تفجر وسط شعب معين فإنه يعيد اللحمة إلى أفراده ويشد بعضهم إلى بعض ويلعب الفكر المرح الصافي دور الحماية والخلاص لأنه يشحذ العزائم ويحفز الهمم.
لكن ينبغي أن نتفلسف من أجل الحضارة والحياة وأن نحلم بجمهورية العباقرة وأن نعرف كيف نميز بين فلسفة مدرسية وفلسفة كونية كما فعل كانط : فالفلسفة بالمعنى المدرسي هي نسق من المعارف العقلية قائمة على التصورات وترمي إلى الحذق تكتفي بتحصيل رصيد من الحقائق وتعمل على تنظيمها والربط بينها من خلال فكرة الكل أما الفلسفة بالمعنى الكوني فهي علم بالغايات الأخيرة للعقل البشري ترمي إلى النفع وتشمل العلم الذي له علاقة مع كل معرفة وكل استخدام للعقل بالغاية القصوى له, إن الفلسفة تشمل كل شيء والعلم الأوحد الذي لا يستمد قيمته إلا من ذاته, لا يمكن تعلمها إلا بتعلم التفلسف, يقول كانط «الفلسفة هي العلم الوحيد الذي نحصل بواسطته على ذلك الرضا الباطن لأنها تزود العلوم بالنظام والترتيب...»29
ولن يقدر أحد على التفلسف إلا إذا قام بترويض عقله واستخدامه بنفسه وشحذ قريحته واستحوذ على البراعة في استخدام كل الوسائل لبلوغ كل الغايات من خلال الاعتناء بالمنهج لا بالمذهب. والفيلسوف الحق عند كانط ليس فنان العقل الذي يطلب المعرفة النظرية وحسب بل هو مشرع العقل الفيلسوف العملي الذي يعلم الحكمة بالفكر والأمثولة ويتدرب على استخدام عقله لا بشكل تقليدي آلي بل بطريقة شخصية حرة, لكن هل يحق لمن يحسن استخدام عقله أن يمنع غيره من استخدامه ويحرمه من حقه في ممارسة التفلسف؟
التفلسف بين الواجب والحق :
« Il nous faut réfléchir à ce que peuvent être les conditions concretes du respect et de l'extension du droit à la philosophie»30
أين يكون طرح سؤال الحق في الفلسفة ممكنا ؟ أين يطرح هذا السؤال ؟ من هو القادر على طرحه ؟ ولمن يوجهه؟
إن مشكل هذا السؤال : الحق في الفلسفة هو مشكل طارحه والمكان الذي يطرح فيه والذي ينبغي أن يكون له الشرعية لطرحه والجمهور الذي يتوجه إليهم هذا الطرح, فهل يطرح داخل المؤسسات التابعة للدولة : الجامعة مثلا أم داخل الجمعيات غير الحكومية وداخل فضاءات المنظمات التابعة للأمم المتحدة والتي تعني بالثقافة مثل اليونسكو؟
إن الحديث عن الحق في الفلسفة من وجهة نظر كوسموبولتية يدفع المرء إلى أن يأخذ بعين الاعتبار نمطين من العلاقة :
1) العلاقة بين المؤسسات الجامعية ومراكز البحث والجمعيات العالمية للثقافة والتربية والعلوم الحكومية منها وغير الحكومية.
2) العلاقة بين المناهج المتعددة التي تنتسب إلي الفلسفة والفنون والعلوم الإنسانية والصناعة التقنية.
إن قسم الفلسفة من المنظمة العالمية للتربية والعلوم اليونسكو هو حسب جاك دريدا المكان الشرعي والمناسب لإعلان وإن الوقت لمناسب لمثل هذا الإعلان, وهذه المنظمة العالمية قد طرحت السؤال وينبغي أن تتحمل مسؤولية الإجابة عليه وتطبيقه على أرض الواقع لأنه كما يقول دريدا : «Ce que je dis ici de la philosophie peut se dire aussi bien, et pour les mêmes raisons, du droit et de la démocratie»31
وقد سبق لكانط أن أعلن في :
Idée d'une histoire universelle au point de vue cosmopolitique 1784
عن ضرورة قيام مؤسسات وهيئات عالمية تدافع على فكرة الحق العالمي وأوصى بضرورة أن تحترم كل الدول مثل هذا الإعلان العالمي إذا كانت منضوية تحت لواء الأمم المتحدة وقياسا على ذلك أكد دريدا على إلزامية احترام كل دول العالم لحق الإنسان في التفلسف ورأى أنه من المفروض أن ترعي جميع المؤسسات الحكومية هذا الحق في الفلسفة من وجهة نظر كوسموبوليتية وأن تعمل على تفصيله على صعيد الواقع بإزالته كل العراقيل والمعاندات والمعارضات التي تحول دون تبلور وتطور التفكير الفلسفي من قبل الأحكام المسبقة الثقافية والدينية أو من خلال القرارات السياسية والتوجهات الاقتصادية.
إن الحديث عن ليس شأن يخص أوروبا بوصفها القارة القديمة ولا تحديا حملته إلينا التيارات الباردة القادمة من العالم الأنجلوساكسوني بل يخص أيضا بلدان العالم النامية وكل الدول التي عرفت في تاريخها وحضاراتها التي مرت بها فلسفات أم لم تعرف بما فيها الشعوب العربية الإسلامية.
اللافت للنظر أن التفلسف عندنا بما هو نظر واعتبار هو واجب شرعا وليس مجرد أمر مباح وجائز. فقد طرح ابن رشد في كتابه المثير للجدل فصل المقال الإشكالية التالية : هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع أم محظور أم مأمور به إما على جهة الندب وإما على جهة الوجوب ؟ ومن أجل ذلك حدد فيلسوف قرطبة أطروحته وفق ما يلي : «إن كان فعل التفلسف ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع... وكان الشرع قد ندب على اعتبار الموجودات وحث على ذلك فبين أن ما يدل عليه هذا الاسم إما واجب بالشرع وإما مندوب إليه» وقد انتهى به الأمر إلى الإقرار بأنه يجب بالشرع النظر في الفلسفة وفي كتب القدماء الخاصة بها لأن : «الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة... وهما المصطحبتان بالطبع المتحابتان بالجوهر والغريزة». ونتبين من هذا النص أن الفلسفة على رأس المأمورات وواجبة شرعا لقول حكيم الفردوس المفقود : «وإذا تقرر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها... فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي. وبين أن هذا النحو من النظر الذي دعا إليه الشرع وحث عليه هو أتم أنواع النظر بأنواع القياس وهو المسمى برهانا» وقد اتضح بالتالي أن التفلسف واجب وفريضة على كل إنسان أن يؤديها وأن أفضل أنواع التفلسف هو البرهان 32.
يجب علينا إذن أن نصبح فلاسفة وأن نسعى إلى تحصيل هذه المعرفة وتطبيقها بطريقة ملائمة إذا أردنا أن نشكل حياتنا الخاصة و العامة بطريقة نافعة, ذلك أن الفلسفة وحدها تنطوي على الحكم الصحيح و التبصر المعصوم من الخط و التعقل الحكيم الذي يملك القدرة على تحديد ما ينبغي أن نفعله و ما لا يصح فعله.
أما عند دريدا فالفلسفة حق إنساني ينبغي أن نضمه إلى لائحة الحقوق التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ليوم 10 ديسمبر 1948 :
المادة18
لكل شخص الحق في حرية التعبير والضمير والدين ويشمل هذا الحق حرية تغيير الديانة أو العقيدة وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء كان ذلك سرا أو مع الجماعة.
المادة 19
لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير ويشمل هذا الحق حريته اعتناق الآراء دون أي تدخل واستقاء الأنباء والأحلام وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية.
المادة26
لكل شخص الحق في التعلم وأن يكون التعليم مجانا إلزاميا ويجب أن يكون القبول في التعليم على قدم المساواة التامة للجميع وعلى أساس الكفاءة.
المادة 27
1 لكل فرد الحق في أن يشترك اشتراك حرا في حياة المجتمع الثقافي وفي الاستمتاع بالفنون والمساهمة في التقدم العلمي والاستفادة من نتائجه.
2 لكل فرد الحق في حماية المصالح الأدبية والمادية المرتبطة بإنتاجه العلمي أو الأدبي أو الفني. 33
وعلى نفس المنوال يترتب عن هذه المبادئ ما يلي لكل شخص الحق في حرية التفكير الفلسفي وتعلمه ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون تدخل لأي سلطة خارجية والمساهمة في تقدم الفلسفة وإذاعتها بأي وسيلة كانت مع حماية المصالح الأدبية والأدبية المرتبطة بالإنتاج الفلسفي للأفراد.
يقول مطاع صفدي : «أن أجهر وأجاهر بالحق في التفكير بحق الفلسفة كرديف لحقي كإنسان بالحب ذلك يعني ألا يفكر أحد نيابة عني مثلما لا يقدر أحد أن يحب بديلا عن حبي»34
أما جاك دريدا بوصفه فيلسوف الاختلاف ومؤسس لأحد أهم جمعية فلسفية في العلم تعنى بتدريس الفلسفة فإنه يؤكد في نفس المعنى :
La philosophie est la chose du monde la mieux partageable. Personne ne peut en interdire l'accès... Pour philosopher, on n'a essentiellement besoin d'aucun appareil d'écriture ou d'enseignement, les murs d'école sont aussi extérieur à l'acte de philosopher que l'édition, la presse, les médias. Aucun interdit, aucune limitation ne peut toucher la philosophie elle-même,aucune censure, aucune marginalisation. Des agressions peuvent certes atteindre les phénomènes publics de la philosophie, les publications, les appareils d'école(...), mais non l'intérêt pour la philosophie.... Cette philosophie ne redouterait aucune attaque, elle n'a pas besoin d'être justifiée ou défendue, en tous cas par autre chose qu'elle-même. C'est à elle qu'il revient en propre de dire ce qui lui est propre, et donc d'assurer sa propre défense et sa propre justification»35
إن البحث الفلسفي العقلاني النقدي الحر والتعليم والتكوين على صعيد الفلسفة وتأليف الكتب الفلسفية ونشرها مهما كان متداولا على أرض الواقع لا يشينه أن تكفله الدساتير وتنص عليه القوانين ولا يضره أن توجد أقسام فلسفة في كل الجامعات وأن تدرس الفلسفة بالنسبة لجميع الأعمار والمستويات والشعب والاختصاصات ولا يتقاعس عن نشر الثقافة الفلسفية والتحلي بالخلق الفلسفي عبر كل الجمعيات والهيئات و لذلك ينصح أن يلعب الإعلام دورا بارزا في ذلك وأن يعتمد سياسة تربوية شاملة ومتكاملة للإنسان, كما أن تطور العلوم والتقنيات ليس حصة مضادة للفلسفة بل على العكس يوفر وسائل تواصل كوني ويعبد أمام الفلسفة الطريق حتى تفرض حقها في الانتشار العالمي على مستوى ممارستها وتدريسها كما أن استقلالية الفلسفة عن الأنماط الثقافية ورؤى العالم مثل الدين والعلم والثقة هو أمر جوهري وشرط ضروري لصيانة واحترام وفرض الحق في الفلسفة بشكل كوسموبوليتي.
إن ماهو مطلوب من الفلاسفة هو تفكيك وهم التمركز حول الذاتEgo-centrisme
والكف عن اعتبار الفلسفة ملكة العلوم و التعامل مها كحقل معرفي مليء بالألغام ينبغي أن نحذر عند استعماله ولحظة الالتجاء إليه. ضمن هذا الإطار يقترح دريدا وصيتين :
1 ينبغي أن يأخذ أي شخص يسعى إلى احترام وتأييد ونشر الحق في الفلسفة بشكل عالمي بعين الاعتبار ما هو كائن وأن يراعي الخصوصيات الثقافية ويقدر التراث الفكري القائم وألا يختزله إلى مجرد نتاجات ماضية مليئة بالأخطاء وينبغي أن يتوقف عن المناداة بضرورة إحداث قطيعة معها والتخلص منها.
2 إن احترام وانتشار حق الكل إناثا وذكورا في الفلسفة يفترض أيضا امتلاك وإتقان لغات أساسية وأصلية مثل الإغريقية واللاتينية والألمانية والعربية ورغم أن الفلسفة تطلب منا التحرر من ظواهر الدغمائية والسلطة التي تفرضها علينا اللغة الأم إلا أنه من الضروري أن يحصل المتفلسف على قدر مقبول من المهارة في التعامل مع اللغات العالمية. يقول دريدا في نفس المرجع : «إن الفلسفة ينبغي أن تطبق وفق مسالك داخل لغات لها علاقة قرابة مع جذورها»36
من هذا المنطلق يدافع لوكور عن حاجتنا الأكيدة للفلسفة و الفيلسوف في هذا العصر بقوله:
Jamais peut-etre la philosophie n'a,depuis un demi-siècle, suscité autant dصintérêt quaujourdhui
on voit médecins et juristes, par eصxemple, se tourner vers elle pour tenter vers d'élucider les questions de déontologie, d'ethique et de politique que le génie génétique a mises à l'ordre du jour;...la qualité de Philosophe, parait à ce point estimable que bien des écrivains et des journalists croient devoir à l'occasion s'en décorer pour livrer aux medias leurs pensées sur le monde.37
خاتمة :
إن هذا ال-ما-يكاد- هو الفلسفة كلها فالفلسفة مثلها مثل الموسيقى موجود بالكاد. يمكن الاستغناء عنها بسهولة فائقة : ومن دونها شيء ما ينقص... العيش من دون ال-ما-لا-أعرف-ما-هو كما يمكن العيش من دون فلسفة ولا موسيقى ولا فرح ولا حب ولكن ليس حقا بصورة حسنة»38 .
يجدر بنا في نهاية المطاف أن نعترف بأن الفلسفة موجودة بالكاد ولكن حقيق علينا أن نقر أيضا أن الحياة بالنسبة للإنسان دون فلسفة هو أمر لا يستقيم ووضعية عرجاء تفتقر إلى المنبع الذي يمدها بالمعنى والوهج الروحي.
إن الدرس العظيم الذي يمكن استخلاصه من محنة سقراط منذ الإغريق وابن رشد منذ العرب ومن أزمة تعليم الفلسفة لدينا هذه الأيام يتمثل في أن الدفاع عن الحق في الفلسفة هو دفاع عن حقوق الإنسان الأساسية وعن إلزامية استعمال الفرد لعقله بطريقة شخصية حرة هادفة كما أن الأفكار الفلسفية تحمل على أجنحة الحمام وتجتاز كل الأسوار وتحطم كل القيود لتتغلغل في الجماهير وتكون «أداة جماعية للإنعتاق». وإن لم تنظر المؤسسة إلى الفلسفة بعيون الاحترام والتبجيل وإن لم تعمل الجهات الرسمية على صيانة فإنه ستتلقفها شرائح المهمشين العاطلين وسيجعلونها سلاحهم من أجل الثورة وتجد فيها حركية المجتمع تعبيرا عنها وليأتين زمن جميل يرد فيها الناس الاعتبار للعقل وللفلسفة دون أي تحفظات وأي اختزالات.
صحيح أن الفلسفة بألف لام التعريف لا وجود لها في الواقع مثلما يرى سارتر وأن ما هو موجود هو مجرد فلسفات تظل ناجعة طالما يبقى البراكسيس الذي أنشأها لأول مرة حيا ولكن صحيحا أيضا أن «فلسفة ما هي قبل كل شيء طريقة معينة تمكن الطبعة الصاعدة من الوعي بذاتها»39 وأنه لا يوجد في عصر واحد سوى فلسفة واحدة حية تكون في عنفوانها لها حركة وذات تأثير على المستقبل أما بقية الآراء الفلسفية فهي أشياء جامدة وإيديولوجيات مفلسة , مهمة هذه الفلسفة هو فهم الماضي و نقد الحاضر وصنع المستقبل.
المبدأ عند غرامشي هو:» أن كل البشر فلاسفة (...) الفيلسوف الاختصاصي هو أقرب إلى سائر الناس من الاختصاصيين الآخرين (...) لأننا نستطيع أن نتخيل عالما مختصا في الحشرات من دون أن يكون جميع البشر علماء حشرات (...) ولكننا لا نستطيع أن نتصور إنسانا لا يكون فيلسوفا ولا يفكر لأن التفكير هو بالضبط خاصة الإنسان من حيث هو إنسان»40.
الإنسان يحتاج إلى تعلم العديد من المهارات و الصنائع الضرورية للمحافظة على حياته وتنميتها نحو الأفضل وأهم هذه المهارات و الصنائع هي التفلسف وميزة الفيلسوف هي أنه ينجح في التسرب إلى ما ليس بفلسفة ويجعلها في خدمة الحياة اليومية للإنسان وأنه ينظر إلى التجارب المبتذلة و الاستدلالات الخاطئة والنظريات التافهة على أنها تخفي معان نفيسة وحقائق راقية ومستترة. الفيلسوف الحق لا يحكم إلا بعد التحري ولا يضع قدمه إلا بعد التثبت من رسوخ قدمه و لا يتوانى في تدبير الطرق التي تسهل عليه حفظ صحته وكسب الفضائل طالما أن غرضه في علمه هو إصابة الحق و في عمله العمل بالحق (كما بين الكندي في رسالته عن الفلسفة الأولى)
الفلسفة اليوم نظرية نقدية للواقع قصد تفكيك كل أشكال الاغتراب وفن من أجل فهم الماضي قصد تحقيق المصالحة معه وتملك واستعادته على نحو آخر وذلك للتحرر من عقده وانحرافاته وهي كذلك إستراتيجية لصنع المستقبل قصد السيطرة عليه وتوجيهه نحو غايات الوجود الأصيلة.
وقد عبر عن ذلك هانس جورج غادمير بتأكيده :
le jargon qui exerce une fonction dصexclusion, en ce qu'il présente un langage et un monde expressif déjà préformés et auxquels on se tient, me parait être actuellement un danger pour la philosophie, tout autant que l'invasion des nomenclatures techniques est un danger pour le parler des hommes entre eux. Qu'il s'agisse de formes remontant à l'idéalisme spéculatif et romantique...ou bien du jargon de la phénoménologie qui cherchait à organiser son système conceptuel avec les moyens du néo-kantisme, ou encore du jargon de la théorie positiviste ou de celui du marxisme, ou enfin du jargon de l'authenticité ou de l'inauthenticité(Heidegger), on perd toujours le contact immédiat avec la réalité. On peut donc affirmer que la tache générale de la pensée philosophique est aujourd'hui de résister à ces aliénations, de les refondre au creuset d'un authentique effort de pensée. Ainsi, me semble-t-il, l'aliénation réciproque, qui a eu lieu entre la méthode des sciences et les anticipations de notre expérience du monde, pourrait se clarifier et se purifier 41
لنر من ينهض بمهمة التفكير من حيث هي أخص ما يخص الكائن الإنساني ويبدع فلسفة للمقاومة توفر لنا الأسلحة النظرية التي تحررنا و تشفينا من الاغتراب و الضياع في الوجود وتعيدنا إلى العالم في علاقة مباشرة بما يحدث و لنر من يقدر على اصلاح نمط التفلسف الوحيد الذي بحوزتنا حتى يكف عن أن يكون مجرد تبرير ماهو سائد وتأويل ما هو كائن ومن يتجشم على تهذيب الطريقة التي كانت الأمة قد أبدعتها في مستوى علمها الخاص بنفسها وأسلوبها الخاص في تعليم نفسها ومن يضطلع أيضا بمسؤولية الإجابة عن مثل هذا السؤال الذي يطرحه دريدا :
«Au lieu de se cramponner à la défense-de-la-philosophie, pour savoir dans les deux cas, avec le même pathos, les mêmes intérêts, ne faut-il pas travailler à imposer, de façon audacieuse et offensive, de nouveaux programmes, de nouveaux contenus, de nouvelles pratiques «42
فلنكف عن التذمر والشكوى ولنقتل اليأس والتشاؤم ولنصغي إلى ما قاله هيجل عن الآتي البعيد : «إننا على أبواب عصر مهم, عصر من التخمر, عندما يتقدم الفكر قفزة فإنه يتعالى على شكله السابق ويتخذ شكلا جديدا. إن مجمل التطورات والتصورات والمفاهيم السابقة التي تربط عالمنا تنحل وتتلاشى وكأنها لوحة في حلم...هناك مرحلة ذهنية جديدة تتهيأ فعلى الفلسفة بشكل خاص أن تستقبل ظهورها و تتعرف إليها


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.