في سنوات(زين العرب). كانت قد دنّست ووقع ابتلاعها وتدجينها حتى أصبحت ظلاّ باهتا لزمان جميل فرض فيه المثقّفون وجودهم وأفكارهم ورؤاهم وتطلّعاتهم الفكريّة والثقافيّة بقوّة الفعل والإرادة لا بمنّة من الدولة كما يخال بعض أيتام بورقيبة فالعارف بأيام الجمر متأكّد أنّ بورقيبة هو من أسس للجهل والتصحّر الثقافي لتكون الثقافة في زمانه بوق دعاية لسياساته وطموحاته السياسيّة للبقاء على كرسيّ السلطة حتى نهاية عمره. لكن إصرار ونضال المثقّفين بجميع خلفياتهم الفكريّة والأيديولوجيّة ومشاربهم العقليّة والروحيّة العضويّة كرّست العمل الثقافي المحرّك لوعي الجماهير. وغلبت الحركة آنذاك الحصار الذي فرض عليها من خلال محاولة احتوائها وفرض ظلّ الدولة عليها من خلال المتاجرة معهم في مسألة الدعم حتى تطوّر إلى صراع وجود فرغم تكريس الدولة لمبدأ دعم إفراز أفكارها(أي حزبييها ومجنّديها وتابعيها)على حساب معارضيها الذين لم يصمدوا طويلا في ظلّ هذا الحصار واتجهوا إلى .إمّا التعاون مع السلطة.أو الاستقالة. وهنا غابت ولسنين طويلة. وتعرّت ساحتنا الثقافيّة. ورتع فيها أشباه وأشباح ونماذج معرقلة لكلّ من يقطع طريقها بفضل تكوينه أو موهبته أو حتى محاولته لإثبات الجدوى من طموحه. إذ أنّ مجنّدي الدولة من الكتبة وغيرهم في مجالات الثقافة وميادينها كانوا تحت رعاية حتى الأجهزة الأمنيّة(وهنا وحتى لا يغيب عنّي الصدق أأكد على نسبيّة هؤلاء رغم غالبيتهم ظهورا على الساحة وغنمهم من أموال المجموعة الوطنيّة ليكونوا يد السلطة من لخبطة يدّعون أنها عمل و(منتوج) ثقافيّ» «وهنا لا يفوتني أن أتحدّث فيما بعد وأشرح أسباب تحوّل العمل الثقافي لمنتوج عند بروز فكرة تصنيع وتسليع الثقافة حسب رؤية رأسماليّة تجعل من الثقافة حكرا على من يدفع في وطن لم يجد فيه المواطن ما يأكل».وكان هؤلاء من أشباه وأشباح المدينة من «ثقفوت» يلعبون أدوارًا مهمّة في إعاقة العمل الإبداعي الحقيقي ويعملون «حتى لا يذهب الدعم لغيرهم»دور السلطة من خلال ربطهم بجهاز الأمن ومنه الأمن الثقافي الخاص الذي أوجدته السلطة لقمع وقتل المبدعين سواء في العاصمة أو من داخل الجهات على السواء. فكان للمسرح أسماء أوهمونا أنها وحدها ما نمتلك في ساحتنا المسرحيّة لذلك كان كلّ الدعم والرعاية موجّهَيْن إليهم وقتل غيرهم تدريجيّا وكذلك السينما والأدب عامة وهنا لا يفوتني أن أسأل عن كمّية ما نشر من كتب وما نشر من أفكار وإبداعات لكلّ من عارض علنيّا أو ضمنيا النظام ولم ينجُ، حتى الفنون التشكيليّة رغم توصّل بعض فنانيها إلى الرواج بحكم اقتراب هذا الفنّ من الملكيّة الخاصة. ولم يروّج جماهيريّا ونمّط بحيث أصبح من كماليات قصور الأغبياء وفي أفضل الحالات تطوّرا جماليّة النزل السياحيّة فأبعد قسرًا عن علاقته الأصليّة والعضويّة باعتباره تعبيرةً فنيّة فكريّة شعبيّة ناتجة عنها ومردودة إليها. ولا أنسى ما حلّ بالكتاب والكتّاب من إقصاء حتى أنّ في مراجعة بسيطة للعناوين المنشورة وأصحابها ممن تمتّعوا بدعم الدولة كفيل بالتعرّف على الحيف والظلم لعديد الكتّاب والمبدعين الذين لا يمتلكون القدرة على نشر نتاجهم الأدبي والفكري. وكانت تدّعي الجهات التي كانت مسؤولة أنّ هذا الناتج الثقافي لا يروّج لأنّ الشعب لا يقرأ. والحال أن المسؤول عمّا وصل إليه المواطن من عزوف عن تناول الكتاب وشرائه هي الدولة من خلال الإقصاء وحصر الدعم على قلّته وبساطته في أسماء أثبتت أنها بوق دعاية ليس أكثر ووجودها يمثّل مساحيق لسلطة قبيحة المنظر والفكر والقلب.إلاّ من رحم ربّي ممن كانوا يفرضون وجودهم بأموالهم أو بتاريخهم الذي لم يفت السلطة احتواءه لتلميع وجودها في الخارج والداخل غصبا عنه. ولا يفوتني أن أذكر مثالين عن ميدانين مختلفين ليعرف القارئ ما بلغته الساحة الثقافيّة من مهازل. ففي ميدان الشعر ثمة لوبيات تُستدعى لأمسياته ذات الدفع الفوريّ من المال العام لمن هم من أتباعه فقط والمدينين له بالولاء. وقل ما تشاء من لخبطة لا يهم المهم أن المندوب ومدير الفضاء الثقافيّ يسجّل في دفتر نشاطاته الأمسية وينشر ذلك على أعمدة الصحف التي هي أيضا لا تعرّف بغير هؤلاء خدمة لأجندة الحاكم وحتى بمنشوراتهم التي دفعوا دمهم وعرقهم وقروضهم لتبليغ صوتهم للشعب وليس للحاكم. والشعرور يقبض ويتعشّى ويشرب على حساب المجموعة الوطنيّة التي هربت من ضحالة ما يقدّم على أنه شعر.وأيضا العروض المسرحيّة التي تستلم شهادة عرض دون أن تعرض والسبب غياب وعزوف الجمهور عن ما يدّعون أنه مسرح وهو منهم براء. وغير ذلك كثير نتركه لمن يريد أن يستزيد من مهازل من هم الآن بصدد تجميع وفرض وجودهم مرّة أخرى وبمهازلهم التي يضنّون بعد أن أقنعهم النظام البائد أنهم مبدعون.وما قصّة حياة وموت الشاعر رضى الجلّالي والذي لم يكرّم حتى الآن(ليس بمهرجان هزيل كما فعلوا)لكن بأن ينشر نتاجه الشعريّ الذي أقصاه عاملان الأول السلطة التي لم تتمكن من احتوائه.والثاني حسد الحاسدين الشعارير من قوّة حضوره الإبداعي في قصيدته التي لو قدّر لها أن بلغت الشعب كان حتما أن تغيّبهم وتحرمهم من ما فاض عن اللجان المحلّية والمهرجانات السحريّة منها من دعم وتكريس للرداءة الثقافيّة التي تحجب بصيص النور ممن يحاولون بأسلوب فيه من السياسة العفوية ما يوجدهم على الساحة. كما أصبحت الفضاء الثقافيّة بالضرورة فضاء للتعبئة للحزب الحاكم وأقصي منه كلّ مخالف ومبدع ومبتكر تفوح منه رائحة المعارضة حتى وإن كانت عفويّة. ثمّ أسقط على ساحتنا الثقافيّة رؤيا برجوازيّة.من فكرة الناتج الثقافي إلى مقولات المستهلك للمادة الثقافيّة...إلخ. محاولة للفكاك من الثقل الماديّ الذي يجب أن يتوفّر للعمل الثقافي والذي تطالب به مبدعينا ومبدعتنا من جهة. والذي هو ضروريّ ليس للاستمرارية فقط. وإنما الإشعاع داخليّا وخارجيّا «وهذا ما يرنوا إليه كلّ مبدع وهو أصل طموحه المشروع.ومن جهة أخرى إلى خلق وتكريس ثقافة الدعاية للسلطة الحاكمة.فتحدّثوا كثيرا عن سوق ومنتوج ثقافيّ وأقاموا مهرجانات(كراكوزيّة) للغرض. ثمّ يعودون عند شعورهم بنقص فادح ولخبطة يدّعون أنها حراك ثقافي. ما خلق هوّة ما فتئت تتسع بين المبدع ومتلقي إبداعه. ليس على مستوى الكم بل على مستوى المعروض بحكم غياب الدراية والموهبة والتربيّة والتعلّم المرتبط بالميدان الثقافي وهي الشروط التي يجب أن تتوفّر في مبدع هذا الزمن الذي نعيش. وغياب(والحقيقة استقالتهم الجماعيّة حتى ظنّا منهم بذلك لن يدنّسوا ويتسخوا بوضع فيه من القذارة ما يكفي للرحيل بعيدا حتى لا تكون قذرة أو يصبح المثقّف الحقيقيّ قذرًا) الذين يقودون المسيرة ليعطوا للشباب النموذج الحرّ والمسؤول والشكل الحقيقي للعمل الثقافي وأساليبه في الالتصاق بهموم دافع الأموال الحقيقي والذي يغطّي مراحل وجودهم فينا ماديّا ومعنويا ليكونوا أحد أهمّ صوت وجوده وكينونته. الذي يبلّغ بأشكال لا تغيب عن مادته الثقافيّة جماليّة ولا طرافة ولا إبداع مبدع مثقّف متشبّع بالوطن وما عليه وفيه ولا يخلو إبداعه من طرح فكريّ نتاج رؤيا خاصة وفكرة حرّة يقدّمها للناس. وهو ما يخافه كلّ نظام دكتاتوريّ قمعيّ سارق. إذ لم يكتف بسرقة أموال وثروات الوطن. بل سرقوا منه الجدوى من وجود الثقافة بلغت حدّ المال أو نصيب الثقافة من الميزانيّة العامة. الموجّهة للعمل الثقافيّ. وحتى ترويجه عبر وسائل الإعلام الخاصة والعامة على السواء. تخصيص مجموعة مستفيدين يرتزقون من هذا المال العام مقابل تلميع السلطة وفي أفضل الحالات لقاء الترفيه عن الناس بأعمال ستذهب إلى مزبلة التاريخ. وكلامي هذا ينسحب على جميع واجهات العمل الثقافي والأدبي الإبداعيّ. وحين نطرح السؤال عن الجدوى من الثقافة حتما سيكون بعث روح المواطنة والوعي الجماهيري هما على رأس القائمة وما أحوج هذا الشعب في أيام ثورته إلى صوت يعبّر عن تطلّعاته وهمومه الجديدة القديمة بأسلوب راقي ومسئول وملتزم وعضويّ. لذلك فواجب تضمين أسس التعامل مع المثقف والمبدع على خلفيّة ما يقدّمه لا على قاعدة ولائه هي أوّل مطلب يجب تضمينه في الدستور وحرّية وجوده فينا ذاتا وإبداعا أيضا.وهنا لا يفوتني سوى أن أذكّر بالبنود المقترحة لتضمينها في الدستور فيما يخصّ العمل الثقافي الوطني الحرّ والثوريّ. - حرّية التفكير والتعبير والخلق والإبداع. وحماية حقوق المبدع. - اعتبار الثقافة حقّ مثل الصحّة والتعليم. - حماية الحقوق الماديّة والأدبيّة للمبدع والفنّان. - الحفاظ على التراث الثقافيّ للبلاد بتنوّعاته. والثورة مستمرّة.