كانت لرئيسة صندوق النقد الدولي الفرنسية كريستين لاقارد ونائبة رئيس البنك العالمي أخيرا زيارة لتونس قابلتا خلالها رئيس الحكومة. وقد اكدت الاولى خلال هذه الزيارة ان صندوق النقد الدولي مستعد لمساعدة تونس عبر اسنادها قروضا، أما الثانية فقد أعلنت عن موافقة البنك العالمي اقراض تونس 500 مليون دولار... السؤال المطروح : كيف لمؤسسات مالية ساندت بن علي ماديا واعلاميا بالترويج لتونس المعجزة الاقتصادية ان ترجع الآن بثوب المنقذ او الشريك وان يكون لها دور في تونس بعد 14 جانفي؟ كيف لمؤسسات مالية كان لها في العقود الاخيرة الدور الاساسي في تخريب اقتصاديات البلدان النامية وتفقير الشعوب من الأرجنتين مرورا بالبلدان الافريقية وحتى اليونان، البلد الاوروبي، ان تحظى بثقة الشعب التونسي التوّاق الى الحرية والعدالة الاجتماعية؟ كيف لهذه البنوك باعتبارها المساند الرسمي للأنظمة الدكتاتورية في العالم وعبر التاريخ والفارض للسياسات غير الشعبية وغير التنموية ان تكون في تونس مساعدتنا في التنمية والتشغيل والعدالة بين الجهات؟ كل هذه الأسئلة وغيرها تمنيت ان أطرحها على السيدتين كريستين لاقارد وإنقر أندرسون... ولكن دعونا نرجع معا ونحلل تاريخ هذه المؤسسات المالية التي كانت دائما متكاملة في سياساتها. هاتان المؤسستان أنشئتا سنة 1944 عشية الحرب العالمية الثانية وقد كانتا ممثلتين ومدافعتين على مصالح الدول الاستعمارية المصنعة الكبرى وكانتا مؤسستين غير ديمقراطيتين في هيكليتهما وأخذ القرار داخلهما. ومن الاولويات التي وضعتاها اثر موجة التحرر الوطني التي بادرت بها الكثير من البلدان في الخمسينات والستينات وقف تطور هذه الحركات التي قطعت مع الهيمنة الامبريالية واتخذت الاشتراكية نهجا اقتصاديا واجتماعيا.. ومن بين الأمثلة الكثيرة على ذلك نذكر تأميم قناة السويس في مصر واجراءات اخرى اتخذتها كوبا والجزائر. والجدير بالملاحظة ان لهذه المؤسسات أجندات سياسية قبل كل شيء وكانت استراتيجيتها ترتكز على دعم الحكومات اليمنية واضعاف الحكومات اليسارية او الاشتراكية عبر الضغط عليها دون إيلاء الجانب الانساني واحترام حقوق الانسان اي أهمية فهذه البنوك تتميز بتاريخ أسود في هذا المجال بدعمها للدكتاتوريات التي تتماشى والسياسات الليبرالية ومصالح رأس المال العالمي في ايجاد موطأ قدم في المناطق الغنية بالثروات الطبيعية والبشرية وتوسيع دائرة أسواقها... وتكثر هنا الأمثلة من الزايير ونظام موبوتو والفليبين مع ماركوس مرورا بنيكاراغوا مع سوموزا والحزب الوطني في جنوب افريقيا في سياسة الفصل العنصري وصولا الى الشيلي مع بينوشي ورومانيا مع تشاوسسكو. ففي الشيلي من سنة 1970 الى سنة 1973 لم تتمتع الحكومة المنتخبة ديمقراطيا بأي قرض في حين بينوشي وبعد انقلابه العسكري في 1973 قدّر صندوق النقد الدولي والبنك العالمي فجأة ان البلد يستحق المساعدات والقروض... ونفس الشيء بالنسبة الى نيكاراغوا بدعمهم للدكتاتور سوموزا، وتواصل ذلك الى أن أطاحت به انتفاضة شعبية. وكانت استراتيجيتهم واضحة وهي أولا إغراق البلد بالديوان وارشاء الحكام وخلق وضع من التبعية تصبح معه الدولة غير قادرة على تسديد القروض الا بقروض اخرى. وهكذا تدخل الدول في حلقة مفرغة من التداين تنتهي بعجزها عن الايفاء بوعودها، تلك هي الخطوة الاولى من المخطط، أما الخطوة الثانية فهي ارساء سياسات اقتصادية تبدأ بخوصصة القطاعات العامة وتحرير العملة وفتح البلاد على سوق عالمية لا تستطيع فيها مسايرة القوى الكبرى المصنعة والمصدرة وفرض قوانين تسهّل استغلال الشركات العالمية للثروات المحلية لتصل أحيانا الى التدخل في تحوير البرامج التعليمية ومناهج التربية (ونظام أمد في الجامعة التونسية مثال على ذلك). كما تفرض سياسة التقشف التقليص الكبير في النفقات الاجتماعية من صحة وتعليم ودعم للمواد الاولية لعامة الشعب. وبذلك تكون الطبقات الفقيرة والمتوسطة هي المتضرر الوحيد في ظل غياب العدالة الجبائية وتمعّش رؤوس الاموال من التسهيلات وفساد الادارة والسياسة.. ولم تكن تونس استثناء في هذه البلدان فمخطئ من يعتقد ان بن علي كان يضع السياسات الاقتصادية و «التنموية» باستقلالية تامة عن هذه المخططات. فقد كان نظامه التلميذ النجيب للبنك العالمي وصندوق النقد الدولي اللذين كانا لا يخفيان اعجابهما ب «نسق تحرر الاقتصاد التونسي» ودخوله في العولمة. فبن علي لم يكن يعتمد فقط على اعلامه البنفسجي لتسويق صورة مغلوطة عن نظامه، فهذه المؤسسات المالية كانت المساند الرسمي لنظامه الفاسد اعلاميا ولكن ماديا خاصة. ففي فترة حكم بن علي تمت مضاعفة حجم الديون ست مرات لتبلغ في شهر جانفي سنة 2011 مقدرا 30 مليار دينار. لقد تم ذلك رغم الطابع الدكتاتوري المافيوزي للنظام والفساد المالي والاداري الذي كان متفشيا في البلاد وهو معلوم من قبل هذه الجهات.. لم يكن بن علي ليستطيع حكم تونس اكثر من 23 سنة دون الدعم والتشجيع اللذين لقيهما من الولاياتالمتحدة والاتحاد الاوروبي ليبيع الوطن ويرتهن أجيالا وأجيالا بديون لم توجه لمصلحة الشعب. لو رجعنا الى الشعار المركزي لهذه الانتفاضة والذي كان «الشعب يريد اسقاط النظام» لذكرنا هذه المؤسسات المالية، الشريك في جريمة نظام بن علي، بأنها ضمن من انتفض عليهم الشعب وعلي سياستهم التي اتبعت اسلوبا ممنهجا في سلب ثرواتنات وتفقير الطبقات الضعيفة وتهميشها. وان كانت فعلا تريد مساعدتنا فعليها أولا ان تعلق الديون غير المشروعة التي ساعدت بن علي على اضطهادنا واستلابنا كما تنص على ذلك عديد القوانين الدولية الى حين التحقيق فيها ومراجعتها والغاء النصيب الذي لم يذهب في مصلحة عامة الشعب والأمثلة هنا عديدة من بولونيا بعد الحرب العالمية وصولا الى الاكوادور التي ألغت من طرف واحد الديون المتعلقة بذمتها. ختاما أردت التأكيد على ان البديل الاقتصادي الذي نحلم به في تونسالجديدةتونس التي نريدها افضل لن يكون عبر البنك العالمي او صندوق النقد الدولي أدوات الامبريالية في السيطرة على الشعوب واستغلالها وسلب ثرواتها وايهامها بأنها لا يمكنها العيش دونها ودون قروضها المسمومة... مسألة الديون والسياسات الاقتصادية التي انتفض الشعب كي تكون تنموية شعبية وعادلة هي محور المسار الثوري وبوصلة القوى التقدمية عموما واليسارية خصوصا يجب ان تكون دائما موجهة نحوها...