"قضية التآمر".. تفاصيل التهم الموجهة الى الموقوفين    وزارة التعليم العالي تسعى إلى إحداث أول معهد تونسي للذكاء الاصطناعي    تقرير: تغير المناخ سيؤدي إلى خسائر سنوية في إنتاج الزيتون بنسبة 2.3 بالمائة بين سنوات 2022 و2050    منوبة: رفع 741 مخالفة خلال تنفيذ ­­6617 زيارة مراقبة اقتصادية طيلة شهر    منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية يدعو الى وقف مسارات التعاون غير العادل في قضايا الهجرة    الحمامات.. تفكيك شبكة لبيع سماعات تستعمل في عمليات الغش في الامتحانات    قتيل وجرحى في حادث مرور مروع بهذه الجهة..    جمعية القضاة تطالب بفتح تحقيقات حول قرارات التجريد من الخطط القضائية والإيقافات عن العمل.    بحارة منطقة غنوش يحتجون..التفاصيل    حريق بمنزل في هذه المنطقة: وفاة شيخ وهذه حصيلة الاصابات..    عاجل: ايران تهدد مجددا ب"رد قاسي"..    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الثلاثاء 16 أفريل 2024    أبطال أوروبا: برنامج مواجهات الليلة من إياب الدور ربع النهائي    رابطة الهواة 2 (الجولة الثامنة إيابا) أفراح عارمة في منوبة وتبلبو    يورو 2024 : منتخب فرنسا يحتفظ بريادة التصنيف الدولي لأفضل 10 منتخبات أوروبية    وزارة الفلاحة: نحو جلب حشرة للقضاء على الآفة القرمزية    قابس: نجاح تجربة زراعة الحبوب    مرب يتذكر...مختار صخراوي ...مهنة التعليم شاقة ودون مردود مالي !    منوبة ..5075 مترشحا لاختبارات مادة التربية البدنية    ميناء حلق الوادي: حجز 7 كلغ من ''الزطلة'' مخفية بأكياس القهوة    في الملتقى الإقليمي المدرسي للموسيقى بسليانة..إعدادية النفيضة تحصد ثلاثة جوائز    أولا وأخيرا: ربيع النقل السريع    صفاقس ..70 عارضا بصالون الموبيليا وجهاز العرس    تقلص العجز التجاري بعد ارتفاع الصادرات وتراجع الواردات    بالمر يسجل رباعية في فوز تشيلسي العريض 6-صفر على إيفرتون    معز الشرقي يودع بطولة غوانغجو الكورية للتنس منذ الدور الاول    عاجل : خلية أحباء النادي الافريقي بألمانيا تهدد    وزير الخارجية يتلقى دعوة لزيارة صربيا    أول تعليق لرئيس الجمهورية على أعمال العنف في حي التضامن..    فظيع: وفاة كهل جرفته مياه وادي الصابون بفريانة بعد ارتفاع منسوبه..    مع الشروق ..من «الصبر الاستراتيجي» إلى الرّدع ... ماذا بعد؟    إرتفاع أسعار الذهب لهذه الأسباب    طقس الثلاثاء: سحب كثيفة وأمطار متفرقة بأغلب المناطق    الحماية المدنية: 19حالة وفاة و404 إصابة خلال 24ساعة.    تفاصيل القبض على مروج مخدرات وحجز 20 قطعة من مخدر القنب الهندي في سليمان    طهران لإسرائيل: سنرد بضربة أقوى وبثوان على أي هجوم جديد    الأولى في القيادة الأركسترالية في مهرجان «Les Solistes»...مريم وسلاتي مستقبل قائدة أوركستر عالمية    عنوان دورته السادسة «دولة فلسطين تجمعنا يا أحرار العالم»...المهرجان الدولي للمونودراما بقرطاج يحطّ الرحال بنابل    أستراليا: الهجوم الذي استهدف كنيسة آشورية في سيدني عمل إرهابي    عاجل : دولة افريقية تسحب ''سيرو'' للسعال    آخر زلات بايدن: أشاد بدولة غير موجودة لدعمها أوكرانيا    قيس سعيد: لابد من دعوة عدد من السفراء الأجانب لحثّ دولهم على عدم التدخل في شؤوننا    معرض تونس الدولي للكتاب 2024: القائمة القصيرة للأعمال الأدبية المرشحة للفوز بجوائز الدورة    دار الثقافة بمساكن تحتضن الدورة الأولى لمهرجان مساكن لفيلم التراث من 19 الى 21 افريل    البطولة الافريقية للاندية البطلة للكرة الطائرة - فوز مولدية بوسالم على النصر الليبي 3-2    تونس: 25 دولة ستُشارك في معرض الكتاب    موعد أول أيام عيد الاضحى فلكيا..#خبر_عاجل    الدورة السادسة لملتقى "معا" للفن المعاصر بالحمامات يستضيف 35 فنانا تشكيليا من 21 بلدا    أنس جابر تبقى في المركز التاسع في التصنيف العالمي لرابطة محترفات التنس    نصائح للمساعدة في تقليل وقت الشاشة عند الأطفال    المؤتمر الدولي "حديث الروح" : تونس منارة للحب والسلام والتشافي    ايطاليا ضيف شرف معرض تونس الدولي للكتاب 2024    تونس: التدخين وراء إصابة 90 بالمائة من مرضى سرطان الرئة    مفاهيمها ومراحلها وأسبابها وأنواعها ومدّتها وخصائصها: التقلّبات والدورات الاقتصادية    أولا وأخيرا... الضحك الباكي    تونس تحتضن الدورة 4 للمؤتمر الأفريقي لأمراض الروماتيزم عند الأطفال    فتوى جديدة تثير الجدل..    الزرع والثمار والفواكه من فضل الله .. الفلاحة والزراعة في القرآن الكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخصوصية والكونية او في الأسس الايتيقية والحقوقية لحوار الثقافات
فلسفة
نشر في الشعب يوم 05 - 05 - 2012

إذا كان اللقاء بين التجمعات القومية والثقافية أن يكتسي المعني والدلالة ضمن غائية الأفق لمسار تحقق القيم الإنسانية –الكونية فإن هذا اللقاء لا يمكنه أن يستقيم معياريا وأكسيولوجيا في ظل التشكك والارتياب في واقعية التشريعات الايتيقية والحقوقية التي من شأنها التأسيس للمبادئ والقواعد والقوانين المشتركة بين بني البشر وذلك بقطع النظر عن اختلافهم وتنوعهم العرقي واللغوي الديني الحضاري.ومن ثمة، كيف يمطن تمثل جملة الشروط الايتيقية والحقوقية الكونية لبناء جسور اللقاء العقلاني والابداعي بين الهوية والاختلاف او الخصوصية والمغايرة وتحديدا ضمن واقع الكثرة في الوجود اللغوي، القومي،والرمزي-الثقافي المساوق للتجمعات البشرية التي تسكن عالم اليوم؟
لمكافحة هذا السؤال الراهني، تجدر الاشارة الى خصوصية الارضية الفلسفية-الوجودية والحقوقية والانثروبولوجية-الانسانية، هذه الارضية التي تشرع لمنظومة من القيم والمعايير والغايات لهدف واحد وهو اكساب اللقاء بين الامم والشعوب رهانات ايتيقية وحقوقية ، على الرغم من العوائق والاسوار المنيعة التي تكرسها المعتقدات الايديولوجية، وما تنشره من معتقدات ساذجة ونسقية تبرر التمثلات الكاذبة والزائفة للمركزية العرقية، الشوفينية القومية، النرجسية الحضارية، الاصولية والتطرف الديني.
ومن ثمة قد تكون معطيات الواقع الموضوعي متكيفة على أزماتها وأحكامها المسبقة ومعتقداتها الواهمة لكن ذلك وإن كان يبعث عن القلق بالارتياب في قدرة بني الإنسان على تجاوز العراقيل والصعوبات تجاوزا فعليا لاسيما في اللحظة التاريخية الراهنة فإن التفاؤل الفلسفي ينبعث من رماد التشاؤم لتحقيق التلازم بين المعايير الايتيقية والمبادئ الحقوقية لإكساب اللقاء بين الثقافات المتعددة المعنى الذي هي به جديرة . ضمن هذا السياق يؤكد بول ريكور أن نسيج القيم والمعايير الايتيقية يستمد صلاحيته العملية والوجودية من تناغمه مع الرغبات الإنسانية التي تتوافق مع إرادة الحياة السعيدة إذ يبرز من خلال قوله التالي أن جميع بني البشر يريدون أن يعيشوا سعداء «أعرف الأخلاق بالمعني العام للفظ وهو الرغبة في العيش الحسن مع ومن أجل الآخرين وفي مؤسسات عادلة «.ومن ثمة فإن جميع الأفراد والتجمعات البشرية على تفردها وخصوصية رؤاها ومعتقداتها وذاكرتها الحضارية تريد أن تعيش في سياق الحياة الخاصة أو المشتركة وفقا لمقتضيات الرغبة في الاكتمال السعيد «.ومن الملاحظ أن ريكور يؤكد في هذا السياق أن الرغبة في الاكتمال السعيد على الصعيد الأممي والكوني لا يمكن أن تتحقق إلا ضمن منظومة من المبادئ والقيم الايتيقية المشتركة التي توحد البشر حول غاياتهم الوجودية –الكونية على الصعيدين الأخلاقي والاجتماعي –الثقافي.
إن الرغبة في الاكتمال السعيد تفترض ايتيقيا حضور إرادة الحوار والتواصل بين الأفراد والتجمعات البشرية سعيا لبلوغ غاية التفاهم المتبادل في ظل اختيار تحديات العيش معا وما يستدعيه ذلك من إرادة ايتيقية للحد من سوء التفاهم أو الفهم الخاطئ للاختلافات والفروق اللغوية أو العقائدية أو الثقافية.ولتأكيد قدرة الإرادة الجماعية على المستوى اللغوي والحضاري لتحقيق التعايش المثمر والإبداعي بين الأمم والشعوب يؤكد بول ريكور على مدى أهمية الوظائف التي قد تضطلع بها الترجمة كوسيلة إجرائية قادرة على نقل الرموز اللغوية والثقافية من نسق إجماعي إلى نسق آخر مثلما يتجلى ذلك في سياق قوله التالي:»إن التأمل حول اللغات المتعددة مظهر أساسي لتعدد الثقافات التي يمكن أن توصلنا إلى تحليل مهم بالشكل الذي تم به حل المشاكل المطروحة من قبل الظاهرة المكثفة للغة لا توجد في أي مكان بشكل كوني.بل داخل التجزيئات للعالم اللساني فقط»...
لقد بقيت لنا الترجمة كمصدر يستحق العناية أكثر بدل أن تكون معاملتنا لها كظاهرة ثانوية تمكننا من توصيل رسالة من لغة إلى أخرى . هذا يعني أنها ظاهرة عالمية ترتكز على شكل آخر لتوصيل الرسالة نفسها ضمن الترجمة فالمتعلم باستعمال أي لغة يتحول داخل عالم لساني لنص غريب عنه وعند العودة يستقبل داخل فضائه اللساني كلام الآخر . هذه الظاهرة اللغوية المضيافة يمكن استخدامها كنموذج لكل فهم يتضمن ذلك الغياب للذي يمكن أن نسميه «الثالث» .
وإذا كانت إرادة العيش الحسن والتثاقف بين الأمم والشعوب ضمن الهوية والاختلاف تقتضي ايتيقا الحوار والتواصل فإن التحقق الفعلي والملموس لذلك يقتضي وفقا لتصور ريكور التأكيد على كونية القيم الايتيقية التي تتجاوز معنى القناعة الشخصية بأهمية الحوار على المستوى الذاتي لتأسيس الفضاء الإنساني المشترك الكفيل بتحقيق الإعتراف المتبادل بالهوية والاختلاف والخصوصية بين الأمم والشعوب لمواجهة تحديات إرادة العيش معا على المستوى الكوني .
إن التأسيس لإرادة العيش معا ولحسن الضيافة ضمن الالتزام الكوني بالاعتراف بالغيرية الثقافية ليس مسألة سهلة وبديهية وإنما هي مغامرة تواجه صعوبات وعراقيل وتحديات الاختلاف في الحكم والفهم والتأويل و التنافس حول المصلحة والملكية والتناقضات العقائدية والايديولوجية و اللاوعي الحضاري والتاريخي والسياسي .ولهذا السبب يؤكد بول ريكور أن الكوني –المنشود يتجسد في الإلتزام الشخصي والقومي والكوني بالمبادئ التالية التي تتحدد وفقا لتعبيراته في:
-أتسامح مع قناعة الآخرين كما أحب أن يتسامح الآخرون معي.
-رغم نقدي وشجبي للكيفية التي ترى بها الأمور إلا أنني أحاول جاهدا أن أفهمها واستوعبها .
-التنوير والعمل على خلق الشروط التي من شأنها أن تعزز حرية التعبير عن الآراء والقناعات المتضاربة :حرية الرأي،حرية النشر، حرية التعبير، حرية التعليم. فالتحدي يكمن في التسامح بالتعبير العام عن القناعات التي ليست بالضرورة محل اتفاق . يقول اوليفي مونجان في»الالتزام والقيمة» :»في قناعات الآخرين هناك مجال لاقتسام جزء من الحقيقة الإنسانية .ان المشترك الإنساني محل اتفاق وفي كل التجارب باستثناء تلك غير المتسامحة هناك مشترك إنساني يملك الاتفاق عليه إنه المستوى الأكثر تطلب ذلك الذي من دون أن أتخلى فيه عن قناعتي الخاصة لا أجد غضاضة في الاعتراف بالقيمة الإنسانية لقناعات الآخرين «.
مما تقدم نخلص إلى أن التأسيس لايتيقا الحوار والاعتراف بالغيرية والالتزام بالتسامح في سياق تبادل منظورات الهوية والاختلاف تبادلا غائيا يستهدف التجسيد الفعلي لوحدة الانتماء للحقيقة الإنسانية يمثل في الحقيقة مسارا صعبا وشاقا .إن تنزيله في سياق الواقعية –التاريخية والخصوصيات العينية للهويات القومية والثقافية يكشف حسب الرؤى الفكرية والفينومينولوجية لبول ريكور أن اللقاء بين الثقافات المتنوعة على أرضية الحوار المتكافئ ليس ترسبا لليوطوبيا والتمثلات الخيالية بقدر ما هو بحاجة إلى تجديل الاستعدادات والقيم الكامنة في الإنسان سواء أتعين في قدراته الذاتية-الشخصية أو في رهاناته وانتظاراته الايتيقية والحقوقية –الكونية .
وضمن هذا المسار الديناميكي قد تتحقق المصالحة المنشودة بين الاستعداد للإبداع ضمن الانتماء للهوية اللغوية والقومية –الثقافية بشكل لا يتعارض مع المساهمة في الإثراء للحضارة العالمية التي بإمكانها أن تكون مضيافة ومستقبلة للجميع دون إقصاء ,تفاوت أو هيمنة .وعليه فإن إيتيقا الاعتراف الكوني بالهوية والاختلاف بين الأمم والشعوب تبقى على الرغم من كل الظروف التاريخية الصعبة التي مرت بها رهينة استعداد كل أمة للمساهمة الإبداعية في إثراء الحضارة العالمية والتعايش في تفاهم ووفاق مع الحضارة الثقافية.
ليس ثمة واقعة بمقدورها تشتيت الوفاق وجسور الحوار بين الأمم والشعوب مثل الحرب إنها مغامرة إنسانية وتجربة تاريخية تدمي المصيرين الفردي والجماعي .انها المذبحة المعممة للبشرية كما يقول غاندي.ليس من المبالغة في شيء الإقرار بأن الحرب تؤثر تأثيرا تراجيديا في العلاقات بين الأمم والشعوب ولتشخيص آفات الحروب وانعكاساتها الدرامية على اللقاء بين الثقافات يقول ريمون آرون «يدوس التاريخ جثث الثقافات كما يدوس جثث البشر».إن وجود ظاهرة الحرب وديمومتها المتجددة في الوجود الاجتماعي –الحضاري شكل منطلقا للتساؤل حول التباين في الوجود البشري بين التطور المدني والتقدم الأخلاقي والحقوقي للعلاقات الإنسانية بين الأمم والشعوب على المستوى الثقافي -الكوني .
وعندئذ لسائل أن يتساءل ما الحكمة من التقدم الحضاري إذا كان لم يفلح في وضع حد للنيران التي تلتهم العالم؟
وإذا كان الناس في الحروب يسخرون إلى حد التهكم «الكوميدي» من معاهدات السلم وعقلانية الحوار الديبلوماسي والمراهنة على الحوار في تصريف العلاقات حتى في آتون الأزمات العاصفة التي تشهدها العلاقات بين الأمم والشعوب هنا وهناك فماذا عندئذ يبقى للمصير البشري سوى مواجهة واقع عودة الحروب على مسرح الحضارة الإنسانية ؟إن الاكتواء بآفات الحروب الطاحنة تخصيصا في اللحظة التاريخية للقرن العشرين وبدايات القرن الجديد تطرح على بساط النقد مدى نجاعة الهياكل التنظيمية والتشريعية الأممية ودورها في كبح جماح الاندفاعات الرغبات والحماقات إلى العنف السياسي والعسكري كأداة قصوى لإدارة الأزمات الطارئة على العلاقات الإنسانية .
وإذا كان التاريخ المعاصر يكشف لنا أن تأسيس «عصبة الأمم» ارتبط باستراتيجية سياسية وديبلوماسية لمنع حدوث حرب جديدة بعد الحرب العالمية الأولى ولكن رغم ذلك فقد حدثت الثانية واكتوى بجحيمها المصير البشري –الكوني،فانه يبدو أن الواقع البشري وحاله هذه يمثل منطلقا للفيلسوف لكي يفكر في الحرب بالكشف عن زيف شرعيتها واستدعاء نقيضها أي التأسيس لفكرة إقامة سلم دائمة .ومن ثمة النظر فيما إذا كان التشريع لمثل هذه الفكرة هو انعكاس لتسرب الخيال وإغراءات المثل الطوباوية التي تسكن أدمغة الفلاسفة أم أنها مطلب إنساني له صلاحيته الايتيقية والحقوقية الكونية .
ضمن هذا المنظور كيف للفيلسوف بكل ما أوتي من قدرة على الجدل أن يواجه كل الخطابات الايديولوجية التي تسوغ» شريعة الحرب « في السر والعلانية والمتحصنة دوما وراء منظري الواقعية الآداتية والواقعية النفعية الرافعة للشراعات التالية:»إذا ما رغبت في السلم «فاستعد للحرب» إن الحرب امتداد للسياسة « «إن الحق عند أفواه المدافع « «لا مساومة على المجال الحيوي « «لا تنازل أو مقايضة على الأمن القومي» .
لمعالجة هذه المسائل الشائكة «بحذر منطقي وجدلي « يمكن تنزيل النص التالي لرائد العقلانية النقدية ايمانويل كانط والذي يؤكد فيه على ضرورة التزام الفيلسوف بالتفكير جدليا ونقديا ضد وقائع التاريخ المفزعة والمرعبة في انسجام وتناغم مع مبادئ وقيم التنوير الايتيقية والحقوقية –الكونية.
«ينبغي أن لا يكون هناك حرب البتة لا بيني وبينك في حالة الطبيعة ولا بيننا كدول إذ لو تأكد أننا نحيا على الصعيد الداخلي وفقا لشريعة الحرب فإننا نجد أنفسنا على الصعيد الخارجي وتخصيصا في سياق علاقاتنا المتبادلة في حالة انعدام كلي للقوانين ومن الملاحظ أنه ليس بهذا المسلك يمكن لكل واحد أن يضمن حقه .ضمن هذا المنظور فإن المسألة لا تتعلق بمعرفة ما إذا كانت فكرة السلم الدائمة شيئا واقعيا أو محض تهويمات خيال كما لا يتعلق الأمر بالنظر فيما إذا كنا على خطأ في حكمنا النظري .عندما نثبت حقيقة السلم يجب أن نتصرف كما لو أن الشيء الذي يمكن أن يكون وإن لم يحدث فعليا يجب أن يتحقق .فلأجل تأسيس السلم ينبغي أن يكون هناك ضرورة تأسيس دستور هو أحق بالقدرة على وضع حد لسلوك الحرب هذا السلوك الذي يبدو عاريا عن كل خلاص.
إن وضع حد للحرب يمثل غاية سامية تستعد له كل الدول على الصعيد الداخلي وإذا كان مصيرنا يتوقف على تجسيم هذه الغاية فذلك لأنها تبقى دائما أمنية متسمة بالورع إننا لا نخطئ يقينا عندما نسلم بهذه القاعدة وأن نعمل من أجلها دون هوادة بوصفها واجبا .» (كانط «نظرية في الحق») .
من الواضح حسب سياق النص أن الحاجة إلى ميثاق كوني للسلم يبقى على الصعيد الوجودي رهين مواجهة الإنسان لاختيار يثبت من خلاله جدارته لمحمولات العقل ,الحرية والعدل .ومن ثمة فإن التفكير العقلاني النقدي ضد الحرب يضع كل استعدادات الإنسان على الصعيدين الفردي والجماعي موضع سؤال بغية الوقوف على الإحراجات والتناقضات التي تعصف بالعلاقات الإنسانية عندما ترتهن لميولات العدوانية ,العنف الجماعي وكراهية الآخر مما يفضي إلى انتهاء قواعد التعايش السلمي والمقتضيات الأخلاقية والحقوقية لاحترام مبادئ الوجود معا .
وإذ يقف الفيلسوف ملتزما بالتأسيس للقيم الإنسانية ,الكونية فذلك لأنه يدرك يقين الإدراك أن الإرادة الإنسانية قادرة على التحول من الفظاظة إلى الثقافة ومن الحرب إلى السلم ومن اللاإجتماعية إلى الاجتماعية غير أنه من الملاحظ أن الفيلسوف يدرك أيضا ما تثيره الحرب من التباس في ذهنه إذ قد يميل إلى استفظاع الحرب وتجريمها ولكنه في المقابل قد لا يستبعد اللجوء إليها لرد العدوانية ومقاومة الظلم أو استعادة الحقوق المهدورة بواسطة قوة الحديد والنار أي البطش والهيمنة .وعندئذ يصبح التفكير في العلاقة بين سلوك الحرب ومصير التعايش الجماعي بين الأفراد والمجتمعات مسألة مربكة إذ كيف العمل لإيجاد حل ملائم لوجود الحرب في العلاقات الإنسانية ؟ولماذا يمثل حضور الحرب في بعض الأحيان مسألة قابلة للفهم ومسألة عصية على الحل ؟
للوقوف على مظاهر الالتباس التي يخلفها سلوك الحرب واللجوء إليه في واقع العلاقات الإنسانية يؤكد كانط علي حقيقة الازدواجية والتضارب الكامنين في الطبيعة البشرية إذ يقول في هذا الصدد :»
«للإنسان دافع للاجتماع بغيره إذ في هذه الحالة يشعر أنه أكثر من إنسان وذلك عبر تطوير استعداداته الكامنة لكنه يظهر أيضا ميلا كبيرا للانفصال والانعزال عن الآخرين وتبعا لذلك يجد خاصية اللاجتماعية التي تدفعه إلى تحويل كل شيء لصالحه...فتحت تأثير دافع الطموح وغريزة الهيمنة والجشع يكتسب تدريجيا مكانة بين أمثاله الذين يتحملهم رغما عنه ولكنه غير قادر على الاستغناء عنهم.(كانط:» فكرة تاريخ كوني من وجهة نظر كسمولوجية)».بهذا التحديد المفارقي للطبيعة البشرية يدرك كانط بحسه النقدي الواقعي مدى انفتاح الوجود الإنساني على مملكة الميولات والغايات .إن المفارقة تكمن في الوعي بتباعد المسافة بين غائية الميولات الحسية والاندفاعات الرغبوية الفوضوية وغائية الغايات الأخلاقية والمبادئ الحقوقية المنزهة عن كل شيء له علاقة بالرغبة .وفي الحقيقة فإن التضاد بين غايات العقل واندفاعات الأهواء والرغبات يكشف بالضرورة على تباعد المسافة على الصعيد العملي بين واقع الحرب ومطلب السلم الكونية .
وعليه فلا شيء يعادل في الفظاعة الإحساس ببرودة موت الآخرين وفي المقابل لاشيء يعادل في الإجلال قيم الإرادة الأخلاقية في تجسيدها لمبادئ احترام الكرامة البشرية في التعامل مع «الغرباء»أو «الأجانب «وفقا لمعايير «حسن الضيافة».
نستنتج مما تقدم يكون مطلب التعايش السلمي حاجة إنسانية كونية فإذا كانت الحروب تبرر النزوع إلى التشاؤم العبثي والعدمي فإن التأسيس للسلم يتناغم مع إرشادات التفاؤل التي تستند إلى مبادئ انطولوجية وأخلاقية وبراغماتية .وهوما يؤكد أن وراء تعدد الأفراد والمجتمعات والدول هناك حقيقة الكلي الإنساني ومقدمات وجوده الذاتي الكامنة في العقل الإرادة والحرية.
كما تتاكد من وراء ذلك وحدة الغايات الأخلاقية والحقوقية إذ ان كل الذوات الفردية والجماعية قادرة على مقاومة الرذائل والشرور والفظاعات والإنصات لنداء الأوامر القطعية واحترام المواثيق القانونية باعتبارها غير قابلة للمساومة والمقايضة التنازل والإغتراب. وهو ما يعني وحدة المنفعة إذا كان الكل يخضع رغباته وميولاته الحسية –الطبيعية لمنطق حساب الخسائر والأرباح ,الأضرار والمنافع ,الآلام واللذات .
فإن جدلية الحرب والسلم وفقا لهذا المسار تلزم الجميع بضرورة ترجيع الاختيارات التي تتوافق مع منطق الرفع إلى الحد الأقصى من الأرباح والتقليص ما أمكن من الخسائر وعندئذ فإن «شريعة السلم «تنتصر على «شريعة الحرب» في تعريف شؤون العلاقات بين المجتمعات والدول التي «تستوطن «كوكب الأرض».
وبهذا المنحى في التفكير والسلوك الجماعي يتحدد ميلاد «الدستور الكوني» والميثاق الأخلاقي والسياسي العالمي الذي من شأنه أن يدين كل لجوء إلى القوة والتدخل السافر في شؤون المجتمعات لتبرير الهيمنة ,الاستعمار التقليدي أو الجديد الاستغلال الاقتصادي والتفوق الحضاري .
وبالاستناد إلى ذلك تنشأ الأرضية الملائمة لعلاقات الحوار والتثاقف بين الأمم والشعوب في سياق المساواة والعدل اللذان يفتحان مسالك الاعتراف المتبادل بالهوية والاختلاف أو بالوحدة والكثرة، وبتحديدها لإثراء الحضارة العالمية باعتبارها الفضاء الفكري والتاريخي الذي سينصف الجميع دون استثناء أو تمييز بحكم الانتماء العرقي أو اللغوي أو الديني أو الاجتماعي-الاقتصادي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.