أليس اختزال الموت في نهاية الحياة إفقارا لامكانات فهم اكثر عمقا للوجود الذي يحدّه؟ نعم، لك الحقّ في ذلك، وهو نقطة انطلاق كتابي، الموت أبعد من أنّ يُلخّص في النّهاية الوحيدة للحياة البيولوجية، بل نحن نعلم أنّ في ذلك تجسيدات لا متناهية، في عمق الوجود وفي احدى قصائده الذائعة «الغراب» وضع ادغار آلان بو، الموت في هيئة عصفور مشؤوم لا يعرف الا تلفّظ وترديد جملة واحدة «ابدا» ويعني بذلك أنّ الموت لا يختزل في كلمة نهائية للمسار الانساني بل يعني ايضا كل ما يزيد من نظام «أبدا» هذا، وكلّ ما ينتمي الى اللاّعكسي (irréversible)، بل ويمكن ان يكون انفصالا، طلاقا، منزلا، أو عملا نغادره بلا عودة. فاللاّعكسية في سير الاشياء، تؤشّر لحضور الموت في قلب الحياة نفسها ولهذا ومنذ البدء، أوكلت الفلسفة لنفسها، عند الاغريق، مهمّة التفكير فيه مع قناعة «لا نستطيع ان نحيا إلاّ إذا استطعنا تجاوز مخاوفنا والذي في صلبها، الخوف الاساسي، ان شئنا، هو الخوف من الموت في المعنى الاوسع. هل نستطيع القول إن الاسئلة الفلسفية تصبّ جميعها في معنى واحد: الخشية من الموت؟ * نعم، دون أدنى شكّ... اعتاد المؤرخون ان يميزوا بين تقليدين فلسفيين في المجتمع الاغريقي القديم... من جهة ذاك الذي يبدأ من بارمينيد الى الرواقيين مرورا بافلاطون وارسطو، والذي يرى ان العالم برمّته. «الكوسموس» كما يقول الاغريق هو نظام بديع منسجم، عادل وجميل، كما أنّ الكون بالنسبة اليهم الاهيّ، وبهذا المعنى فإن هذا النظام الذي يتعلق الامر بايجاد مكانه لم يصنعه البشر، فهو إذن متسام بمعنى خارج الانسانية وارفع. ومن اخرى نجد في نوع من الثقافة المضادة أو «الفلسفة المضادّة» تقليدا للذّريين، ديموقريط وأبيكور ويمتد الى لوكراس LUCRCE ويمرّ في جزء على الأقل بالفلسفة السّفسطائية، ويقول إنّ العالم نسيج من الصّدف وليس له من الإلهي شيء، وبذلك نتعرّف على الأطروحات الاولى للمادية والالحاد. وما يجب التأكيد عليه هو أنّ لكلّ من التقليديْن ورغم كل الذي يفصل بينهما، هدفا أسمى في الفلسفة: التخلص من الخوف من الموت وفي هذا يتفق ايبيكتات (Epictéte) وإبيكور. ولا ينيان عن الحديث فيه واذا تعلّق الامر بفهم العالم في النظرية، فليس ذلك لاشباع لذّة ثقافية صرفة بل للعثور على جواب لقلقنا، ومن وجهة النظر هذه يقارنان الفلسفة بالطبّ حيث يجب ان تقودنا الى الحكمة، تعلّمنا أن نحيا وليس فقط أن نشرح أو نوضّح أفكارا ما. عندما صرّح سبينوزا «أن العاقل يموت أقلّ من المجنون» أو أنّ الطفل يموت أكثر من الرّاشد فإنّه يتموضع بوضوح في هذا التقليد الفلسفي الذي يأخذ بنفعيّة الحكمة للحياة الرغدة وبالمثل عند كانط حين يقول «مسموح أن نأمل» او نيتشة «براءة الصّيرورة» كونها اعلى اشكال الحياة. إنّه فقط وحديثا، ارادت الفلسفة ان تكون «تقنية ثقافيّة نقيّة» تتأمل في المفاهيم، أو العالم الاجتماعي، السياسي، أو العلمي، انه خطأ عابر، في نظري، ارتبط بتقانة العالم ولا شيء يجبرنا على اتباعها. * هل يساهم التفكير في الموت في بناء فلسفة السعادة؟ لا أحبّذ كثيرا كلمة «السعادة» لانها تريد قول كل شيء أى لا شيء. وبالمقابل نعم، وبالتأكيد، كل الفلسفات الكبرى هي نظريات في الخلاص وتستحق هذه النقطة تفسيرا: تنزع الحقبة المعاصرة لتعتيم المعنى والغائية الاصليين للفلسفة. «الخلاص» يعني، أن نُنقذ من خطر محدق أو بؤس كبير، وبالطبع الامر يتعلق بالموت أو على الأقلّ بالخوف الذي يثيره وبهذا المعني هو خيط أريان في كتابي، تنطلق الفلسفات الكبرى بما فيها الاكثر إلحادا من سؤال مشترك مع الديانات: كيف نتجاوز مخاوفنا المتعددة المرتبطة بالتناهي الإنساني (finitude). لكنّ الإختلاف النوعي هو أنّ الديانات تعدنا بالخلاص «بواسطة آخر» باللّه، ويفضل الايمان، بينما الفلسفات الكبرى تحثنا على بلوغه «بواسطة ذواتنا نحن» بتمرين «عقلنا البسيط» الشيء الذي تكون فيه الفلسفة في آن: متواضعة ومتكبّرة. متواضعة لانها في اغلب الاحيان لا تزعم حقا تذليل الموت نفسه، بل الخوف الذي يترتّب عنه، بينما الاديان التوحيدية، والمسيحية خاصّة، تعدنا بأن نذهب حقيقة لنعثر على الكائنات التي نحبّ بعد موتها، ومتكبّرة لانها تصنع لنا الوعد الذي نستطيع بلوغه بأنفسنا، دون مساعدة آخر، ولهذا لم يكفّ اوغسطين عن القول عن الفلاسفة إنهم «رائعون»، أناس قليلو المعاشرة حيث خطؤهم الاساسيّ: قلّة التواضع. * هل يمكن القول إن مجتمعنا بحجبه الموت، يتناسى كيفية الحياة؟ في جزء نعم، وللإجابة أفضل، أدعوك للتّأمل في التّالي: علينا في وجودنا، مواجهة كلّ أشكال الخوف: الخوف النفساني وأوّله دون شكّ الخوف من السواد الذي يمكن أن يتحوّل لدى الراشد للا نهاية الرُّهابات الصغرى (Petites phobies) الخوف من الطحالب في أعماق المياه، الخوف من الفضاءات المغلقة، من مرض ما، من حيوان ذي شحنة رمزيّة وهناك ايضا بالتأكيد مخاوف ذات أصل اجتماعي، مرتبطة بما يسمّيه بورديو «العنف الرمزي».. وإن كنت تنحدرين من وسط متواضع وتغرقين فجأة في «وسط مترف» فسوف تحسين بهذا الضغط في اشكال متعددة ويتبدّى الخوف عندئذ في الهيئة الجسدية، وفي اللغة، ونبرات اصواتنا وتوجد مخاوف ميتافيزيقية والتي قال عنها فرويد في رسالة شهيرة الى فليس (Fliess) ان مجرّد التفكير فيها هو علامة المرض. أنا أعتقد العكس تماما ومثل الفلاسفة الإغريق، الذي يبدو لي مرضيّا، هو إخفاء الموت على الدّوام، فعلُ أيّ شيء حتّى لا نفكّر فيه أبدا، إذ أنّ هذا يعوق في النّهاية على العيش الهنيء. تسعى مجتمعاتنا لمجابهة المخاوف الاجتماعية والنفسانية ولا تكفّ عن الحديث عنها في علم الاجتماع والتحليل النفسي مثلا، وربّما ينقلب ذلك أحيانا الى السخرية والضحك، في أبسط عارض نضع «خليّة مساعدة نفسيّة» وكأنّ الأسئلة كلّها ذات نظام نفسي وليس ميتافيزيقيا أبدا. وحين تأمّل مونتاني (Montaigne) القول الرّواقيّ، أكد لنا ان «التفلسف هو تعلّم الموت». وذهب في ذلك بعيدا أكثر منّا نحن اليوم: والذي أراد قوله هو فلنحي حياة هانئة ولنحي سعداء وأحرارا، نستطيع ان نحبّ ونكون كرماء، متصالحين مع ذواتنا وعلينا بالتخلي عن مخاوفنا بما في ذلك تلك المخاوف العميقة ومن وجهة النظر هذه وحدها الفلسفة تستطيع «إنقاذنا». نحن لا نتفلسف للتسلية، أو لممارسة لعبة فكرية، بل لنتعلم كيف نحيا دون خوف. إنّها مسألة بقاء. وبقدر ضياع الايمان الجمعي في العالم الآخر، الذي هو على الأقل، في أوروبا يقود الى خيبة أمل في العالم، فإنّه يضعنا في وضع أحوج ما نكون فيه للعودة الى ينابيع الفلسفة. * هل بإمكانكم، كما فعلتم في كتابكم، إعطاء مثل لإجابة فلسفية كبيرة حول مسألة الموت والخلاص دون الله؟ من أجل وأبسط الاجوبة، الجواب الرّواقي.. وقد قلت لك قبل حين ان الفلسفات الكبرى، كلّ الفلسفات الكبرى بما فيها الأكثر ماديّة مثل فلسفة نيتشة، هي نظريات خلاص دون اللّه.. ويتعلّق الأمر لدى الرواقيين بأن نفهم أنّ العالم ليس فوضى خالية من معنى، بل على العكس هو شبيه بجسم حيّ ضخم، منظّم ومنسّق بإمتياز، وفيه يحتلّ كل كائن مكانه، كالاعضاء في الجسد. وهذه المهمّة النّظرية ليست غاية في ذاتها، فهي تعدّ للطريق الثانية: الاخلاق. ولدى الرّواقيين العدالة هي الانضباط، كل ماهو حقّ، كلّ ما يلائم الطبيعة، الكوسموس، النظام الإلهيّ للعالم والذي كشفته لنا النظريّة، لكنّ ذلك ليس الكلمة الأخيرة للفلسفة، فإذا وجبتْ معرفة العالم، فإن ذلك ليس لرغبة المثقف، أو قلق أخلاقيّ محض، لكن لإدراك الطريق الثالثة طريق الخلاص الذي سينقذنا من الخوف من الموت، هو فهمنا أنّ العالم خالد، وأنّه متطابق مع ذاته، ولسنا فيه إلاّ جزءا، نوعا من ذرّة الأبديّة، وفي هذه الشروط، ليس الموت مطلقا، لكنّه عبور، ولا أدخل في نظريّة الخلاص هذه، لكن لأبيّن كيف أنّ الفلسفة هي بديل «إلحاديّ» لنظريات الخلاص الدينية، وسنجد هذه الطرق الثلاثة عند سبينوزا كما عند كانط، عند إبيكور كما عند نيتشة والتي فيها أن نظريّة براعة الصيرورة ليست إلاّ نظريّة رائعة في الخلاص من دون اللّه. * تبدو الفلسفة المعاصرة قد أضاعت هذا البُعد العمليّ، فما مأتى ذلك؟ كما بيّن بيير هادو (P.Hadot) هو إرث من المسيحية وفي هذه الاخيرة حسمت الاسئلة بالإيمان، هي حقائق «مُوحى بها» وبدءا من هذه اللحظة ستصبح الفلسفة، كونها تمرين العقل، محض «علم كلام»، مادة مدرسيّة تتكفّل بتوضيح المفاهيم، وتساعد على فهم النصوص الكنسيّة، وتفكّك الطبيعة كأثر من آثار اللّه البديعة، لكنها لم تعد مطلقا مخصّصة في «لنتعلّم كيف نحيا»، فالإيمان هو المتكفّل بذلك وبه نذلّل مخاوفنا. وكم سيدهش دون ريب أساتذة الفلسفة لو شرحنا لهم أنّ تعلّقهم ببرامج تتمحور حصريّا في «مفاهيم» إنّما هو إرث مسيحيّ كان قد أضحك إيبيكتات (Epictète) ونيتشة. * هل تصلون إنكار الموت بأزمة المعنى مؤوّلة كونها «خيبة أمل العالم»؟ نعم، بالتّأكيد، لكن هناك أيضا، الخوف من الشيخوخة والموت أضحى بالاحرى، اكبر من حركتين تلتقيان اليوم: من جهة على الأقلّ في أوروبا نحن نحيا تراجع الأديان، إذن خسارة بشباك الأمان التي تسمح لما بمواجهة الموت بأكثر صفاء، ومن جهة أخرى، كما تعقيد الأمور، فإنّنا نعيش صعودا رائعا لقيم الشّعور والحب.. إنّ هذا مفجّر لأنّنا نحن جميعا في هشاشة تجاه الموت لأنّنا أكثر تعلّقا بأقربائنا، وفي نفس الوقت أقل حماية من ذي قبل بفعل غياب المعتقدات الدينيّة المتينة. ليس مفاجئا، في هذه الظروف، أن تكون لمجتمعاتنا اللاّئكيّة نزعة طرد الموت.. الإحالة: Le Nouvel observateur (Hors - Série) N!.62 Avril. Mai 2006. pp.4..7