هيئة الانتخابات تشرع غدا في تحيين السجل الانتخابي    روعة التليلي تحصد الذهب في اليابان    اليوم : وقفة احتجاجية للتنديد بالتدخل الاجنبي و بتوطين أفارقة جنوب الصحراء    نابل: تضرّر ما يقارب 1500 هكتار : «الترستيزا» مرض خفي يهدّد قطاع القوارص    بفضل صادرات زيت الزيتون والتّمور ومنتجات البحر; الميزان التجاري الغذائي يحقّق فائضا    يهم مُربّيي الماشية: 30 مليون دينار لتمويل اقتناء الأعلاف    صفاقس صالون 14 للفلاحة والصناعات الغذائية تكريم القنصل العام الجزائري ووفد الجزائر    الأونروا: 800 ألف فروا من رفح يعيشون بالطرقات.. والمناطق الآمنة "ادعاء كاذب"    إطلاق نار واشتباكات قرب القصر الرئاسي في كينشاسا    صيف 2024: 50 درجة منتظرة و شبح الحرائق حاضر    علماء يكشفون : العالم مهدد بموجة أعاصير وكوارث طبيعية    إضراب بالمركب الفلاحي وضيعة رأس العين ومركب الدواجن    أخبار النادي الإفريقي .. البنزرتي «يثور» على اللاعبين واتّهامات للتحكيم    طقس اليوم ...امطار مع تساقط البرد    في عيده ال84.. صور عادل إمام تتصدر مواقع التواصل    بغداد بونجاح يحسم وجهته المقبلة    الجمعية التونسية "المعالم والمواقع" تختتم تظاهرة شهر التراث الفلسطيني    اليوم العالمي لأطباء الطب العام والطب العائلي : طبيب الخط الأول يُعالج 80 بالمائة من مشاكل الصحة    بوسالم.. وفاة شاب غرقا في خزان مائي    قبل أسبوعين من مواجهة ريال مدريد.. ظهور صادم لمدافع دورتموند    المجلس المحلي بسكرة يحتجّ    منال عمارة: أمارس الفنّ من أجل المال    عاجل/ صفاقس: انقاذ 52 شخصا شاركوا في 'حرقة' وإنتشال 4 جثث    النجم الساحلي يمرّ بصعوبة الى الدور ربع النهائي    كأس تونس : النجم الساحلي يلتحق بركب المتأهلين للدور ربع النهائي    تمدد "إنتفاضة" إفريقيا ضد فرنسا..السينغال تُلّوح بإغلاق قواعد باريس العسكرية    اتحاد الفلاحين: ''أسعار أضاحي العيد تُعتبر معقولة''    القصرين: القبض على شخص صادرة في حقه 10 مناشير تفتيش    عضو بمجلس هيئة الانتخابات: لا يمكن تجاوز هذا التاريخ كأقصى موعد للرئاسية    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    المهرجان الدولي للمشمش بحاجب العيون في دورته الثانية ...مسابقات وندوات وعروض فروسية وفنون شعبية    قابس: نقل 15 من تلاميذ المدرسة الاعدادية ابن رشد بغنوش بعد شعورهم بالاختناق والإغماء    بقلم مرشد السماوي: كفى إهدارا للمال العام بالعملة الصعبة على مغنيين عرب صنعهم إعلامنا ومهرجاناتنا!    في إطار تظاهرة ثقافية كبيرة .. «عاد الفينيقيون» فعادت الحياة للموقع الأثري بأوتيك    فقدان 23 تونسيا شاركو في عملية ''حرقة ''    القيمة التسويقية للترجي و الأهلي قبل موقعة رادس    وزيرة الصناعة: مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا فريد من نوعه    أبو عبيدة: استهدفنا 100 آلية عسكرية للاحتلال في 10 أيام    نهائي دوري ابطال إفريقيا: التشكيلة المتوقعة للترجي والنادي الاهلي    طقس اليوم: أمطار و الحرارة تصل إلى 41 درجة    العثور على كلاشينكوف في غابة زيتون بهذه الجهة    قانون الشيك دون رصيد: رئيس الدولة يتّخذ قرارا هاما    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    السبت..ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة    ابرام اتفاق شراكة بين كونكت والجمعية التونسيّة لخرّيجي المدارس العليا الفرنسيّة    دار الثقافة بمعتمدية الرقاب تحتفي بشهرث الثراث    داء الكلب في تونس بالأرقام    بينهم طفلان..مقتل 5 أشخاص نتيجة قصف إسرائيلي على لبنان    حلوى مجهولة المصدر تتسبب في تسمم 11 تلميذا بالجديدة    كمال الفقي يستقبل رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    نحو 20 % من المصابين بارتفاع ضغط الدم يمكن علاجهم دون أدوية    جندوبة : يوم إعلامي حول تأثير التغيرات المناخية على غراسات القوارص    الصادرات نحو ليبيا تبلغ 2.6 مليار دينار : مساع لدعم المبادلات البينية    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسار العولمة الليبراليّة المدمّرة
من جنون البقر إلى أنفلونزا الطّيور: بقلم: د. عبدالله بن سعد جامعي/باحث
نشر في الشعب يوم 24 - 03 - 2007

إنّ سيادة الرأسمال المالي الإحتكاري في الإقتصاد الرأسمالي
العالمي في الثلث الأخير من القرن العشرين قد أدّت إلى ظهور قضايا
كونيّة لم تكن جليّة أو لم تكن بمثل هذه الحدّة في أوائل قرننا أو إلى
تفاقمها خارق التّفاقم. فإنّ تلوّث البيئة المحيطة ومشكلة الأغذية
ومشكلة الخامات ومشكلة فيض السكّان في المدن الكبيرة ومشكلة فقر
عدد ضخم جدّا من سكّان الكرة الأرضيّة ، كلّ هذا تحوّل إلى خطر يتهدّد
أهل الأرض ويتفاقم من جرّاء تسيير الإقتصاد على أساس الملكيّة
الرأسماليّة والإستغلال الوحشي للموارد الطبيعيّة الذي يرافق شتّى
أشكال السّيادة الإحتكاريّة». روداكوفا
(بصدد مؤلّف لينين «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسماليّة) :
توطئة: لم يسبق للبشريّة ، في ظلّ الرأسماليّة ، أن عاشت وضعا أسوأ (خارج الحروب العالميّة ) من الوضع الذي تعيشه في بداية هذا القرن الواحد والعشرين وذلك على كلّ المستويات الإقتصاديّة والإجتماعيّة والسّياسيّة والثّقافيّة.
فالرأسماليّة التّي بشّرت بالحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان إفتضح أمرها بسرعة ، فالنّتيجة التي أدّت إليها الرأسماليّة بقوانينها وآليّاتها بعد عشرات العقود من ظهورها (وخاصة في ظل العولمة الليبراليّة ) لم تكن سوى حرّية الشذوذ الجنسي والديمقراطيّة التي تصدّر على ظهور الدبّابات. فهل كان إنسان واحد يتصوّر بأن تصبح أولويّة الدول الرأسماليّة في القرن الواحد والعشرين هي إصدار التشريعات التي تسمح بزواج الأشخاص من نفس الجنس. أي نعم فهذه الدولة أو تلك تتباهى بأنّها أوّل من سمح بزواج الشّواذ جنسيّا حيث أصبح في عصر العولمة الليبراليّة بإمكان رجلين شاذّين أو إمرأتين شاذّتين إبرام عقد زواج وبناء «عش زوجيّة» هكذا ) وتبنّي الأطفال أيضا. لكنّنا نسأل أي مستقبل لطفل ) ذكر أم أنثى) يترعرع ويكبر في ظلّ شخصين شاذّين من جنس واحد ؟ وأيّ نفسيّة يمكن أن يكبر عليها طفل (ذكر أم أنثى) لا يجد التركيبة العائليّة الطبيعيّة المتكوّنة من أب ذكر وأم أنثى يحضنانه ويربّيانه ؟ النّتيجة لن تكون إلاّ مجتمعا من الشّواذ. لكن الأخطر من ذلك في عصر العولمة الليبراليّة هو أنّ مخابر البحث في البلدان الرأسماليّة التي تقف وراءها الشركات متعدّدة الجنسيّات ، تخصّص ميزانيّات كبيرة جدّا وتضعها على ذمّة الباحثين لإستنساخ الإنسان (أنظر مقالنا الصّادر بجريدة الشعب بالعددين 397 و398 بتاريخ 24 ماي و31 ماي 1997 تحت عنوان : الإستنساخ بين العلم والميتافيزيقيا). فإستنساخ الإنسان ليس سوى تجسيدا لنظريّة الجنس الرّاقي عبر تكريس الإيديولوجيا الأوجينيّة ومطبّقيها أي لمنظّري العنصريّة والتفرقة بين الأجناس وتدمير بعضها البعض.
لذلك فإنّني أعتقد أنّه لا يوجد عاقلان إثنان يمكن أن يختلفا على أنّ الحريّة التي بشّرت بها الرأسماليّة ليست سوى حريّة الشّذوذ الجنسي من ناحية وتدمير الآخر من ناحية أخرى.
أمّا الديمقراطيّة (والمقصود طبعا الديمقراطيّة الغربيّة) التي بنت عليها الرأسماليّة نظريّتها وطالما إعتبرتها البديل الواحد والوحيد لما تعتبره دكتاتوريّة الأنظمة «الشموليّة» فقد إفتضحت في مرّة أولى من خلال الإستعمار المباشر للشعوب والأمم في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاّتينيّة فنهبت خيراتها ودمّرت ثقافاتها وفرضت عليها سياساتها الإستعماريّة.
ثمّ إفتضحت في مرّة ثانية ببروز الأنظمة النازيّة والفاشيّة التي قتّلت وشرّدت عشرات الملايين من أبناء الطبقات المظطهدة في أوروبا وإفريقيا ولم يقع وضع حدّ للتقتيل والتدمير إلاّ بعد البطولات التي قدّمها الجيش الأحمر السوفياتي قدّم ملايين الشّهداء أيضا وتمكّنه يوم 30 أفريل 1945 من دخول برلين ورفع علم الإتّحاد السوفياتي فوق مبنى البرلمان (الرايخستاغ) وإعلان الإنتصار النّهائي على النّازيّة والفاشيّة يوم 8 ماي 1945. وها هي تفتضح مرّة ثالثة لا فقط بمحاولات تصديرها للديمقراطيّة عبر ظهور الدبّابات في يوغسلافيا وأفغانستان وخاصّة العراق ولكن أيضا بدعمها لأنظمة دكتاتوريّة في أشباه المستعمرات كلّ ذلك إضافة إلى قيام الرأسماليّة ، التي تدّعي الديمقراطيّة ، بدعم الكيان الصهيوني رأس حربة الإمبرياليّة في قلب الوطن العربي كنموذج لإستعمار إستيطاني لا يختلف في شيء عن الإستعمار الإستيطاني لأمريكا وأستراليا من قبل الأوروبيين الذين قضوا على السكّان الأصليين لتلك البلدان وإستحوذوا على أراضيهم وبنوا بلدانا كاملة فوق جماجمهم. أمّا عن حقوق الإنسان فحدّث ولا حرج فمن فضائح سجن أبو غريب إلى إرهاب سجن غوانتانامو الذي لم يوجد مثيل له في التّاريخ ، إلى خطف رؤساء الدّول والمواطنين من أيّ بلد كان لمجرّد الإشتباه بعلاقتهم بما تسمّيه الإمبرياليّة إرهابا وأخيرا وليس آخرا إغتيال الرّؤساء الذين لا يسيرون في ركابهم (ياسر عرفات وصلوبودان ميلوزيفيتش الذان ماتا مسمومان وتهديد الرّئيس الفنزويلي هيغو شافاز يالقتل إضافة إلى ما يمكن أن يتعرّض له الرّئيس العراقي صدّام حسين كما عبّر عن ذلك المحامي خليل الدّليمي الذي أبدى خشيته من أن يتعرّض موكّله إلى نفس المصير والبقيّة تأتي). هذه هي الحريّة والدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان التي بشّرت بها الرأسماليّة.
لكن شتّان بين الرأسماليّة التي تدّعي الحريّة والديمقراطيّة وبين الإشتراكيّة التي تصفها بالديكتاتوريّة والشّموليّة. ففي الوقت الذي يموت فيه آلاف المهمّشين والمعدمين والمشرّدين (Sans domicile fixe) في البلدان الرأسماليّة نتيجة البطالة والفقر والبرد وحتّى الحرارة (مات أكثر من 14 ألف شخص في فرنسا صائفة 2004) كانت البلدان الإشتراكيّة توفّر الصحّة للجميع والتعليم للجميع والمسكن اللاّئق للجميع. فماذا تعني الحريّة والديمقراطيّة في بلد رأسمالي لشخص يعيش البطالة والفقر والتشرّد والموت؟
العولمة والأمراض : تفشّي الأمراض العابرة للحدود
إنّ السّمة البارزة للعولمة الليبراليّة منذ ترسّخها بداية من أواسط الثّمانينات هو تفشّي الأوبئة والأمراض التي تتميّز بطابعها الوبائي لا على مستوى القطر الذي تظهر فيه فقط حيث تعرف بالجائحة المحدودة (Epidémie) إن كانت مرضا بشريّا أو (Epizootie) إن كانت مرضا حيوانيّا وإنّما تنتشر على نطاق عالمي لتمثّل ما يعرف بالجائحة الواسعة (Pandémie) إن كانت مرضا بشريّا أو (Panzootie) إن كانت مرضا حيوانيّا.
فالعولمة الليبراليّة التي إرتكزت على حريّة رأس المال في التنقّل من بلد إلى آخر وبدون أي ضوابط بينما بالمقابل وقع سجن العمّال في بلدانهم الأصليّة ، تميّزت أيضا بحريّة الأمراض الحيوانيّة في التنقّل بين البلدان بسرعة مذهلة وهو ما يجعلنا نعرّف هذه الأمراض ب «الأمراض العابرة للحدود».
إنّ ظهور هذه الأمراض يذكّرنا بظهور الطاعون في العصور القديمة لكن وإن كان ظهور الطاعون ربّما يكون مفهوما نظرا للتخلّف العلمي والتكنولوجي في تلك العصور ، فإنّ الإستغراب يصبح مبرّرا في عصر بلغت فيه العلوم والتكنولوجيا مستوى لم يسبق له مثيل ولم يكن ليخطر على بال. فمن الثورة الفيزيائيّة التي أدّت إلى غزو الفضاء إلى ثورة الهندسة الوراثيّة التي أدّت إلى الإستنساخ مرورا بالثورة البيوتكنولوجيّة التي أدّت إلى المعالجة الجينيّة للنباتات.
فهل يعقل في ظلّ هذا الواقع العلمي والتكنولوجي ونحن في بداية القرن الواحد والعشرين أن يعجز العلم على صنع أدوية لمقاومة أمراض مثل أنفلونزا الطيور والسّارس وحتّى السيدا ؟ ألا يجعلنا هذا الواقع محقّين في إتّهام مخابر البلدان الرأسماليّة التي تقف وراءها الشّركات متعدّدة الجنسيّات (التي تتحكّم في سياسات وإقتصاديّات العالم) بتوجيه أبحاثها لخدمة رأس المال وهو تماما ما عبّر عنه وبكلّ وضوح العالم التّونسي محمّد العربي بوقرّة في كتابه الشّهير «البحث ضدّ العالم الثالث» (La recherche contre le tiers monde) الذي أصدره سنة 1996 ولاقى إقبالا كبيرا في أوروبا. أمّا أكبر مثال على ذلك فهو ما تقوم به الشركات متعدّدة الجنسيّات ومنها شركة «مونسانتو» (المدعومة من الحكومة الأمريكيّة) باستماتة في خلق أسواق لأغذيتها المعدلة وراثيا (OGM) بأساليب الإرغام والإفساد رغم رفض أغلبيّة الباحثين الذين يحترمون أنفسهم لأغذية الهندسة الوراثية لأسباب صحية وبيئيّة في نفس الوقت وخلافا لما تروّج له هذه الشّركات من أنّ الأغذية المعدّلة وراثيّا هي الحلّ الوحيد للقضاء على المجاعة في العالم نظرا لوفرة إنتاج هذه الأغذية فإنّنا نؤكّد بأنّ تلك الأغذية تلبى حاجة جوع الشركات العملاقة للربح الوفير أكثر من إشباعها لجوع الفقراء في العالم.
بل إنّني أذهب أبعد من ذلك وأجزم بأنّ الرأسماليّة تعتمد على سياسة صحيّة طبقيّة بكلّ ما في الكلمة من معنى. فمرض مثل السيدا ، على سبيل المثال ، الذي يقضي على عشرات الملايين من الأشخاص في السّنة الواحدة هو مرض لا يصيب إلاّ الفقراء والمعدمين في أوروبّا والبلدان الإفريقية (50 % على سبيل الذكر لا الحصر من سكّان أوغندا يحملون الفيروس) والآسيويّة والأمريكيّة.
فهل يعقل أنّ يبقى هذا المرض الذي ظهر منذ بداية الثّمانينات والذي وقع تحديد الفيروس المتسبّب فيه منذ بداية ظهور المرض دون علاج في الوقت الذي تتلاعب فيه مخابر الشّركات متعدّدة الجنسيّات بالجينات والخلايا والأنسجة فتغيّر الخصائص الوراثيّة للنباتات وتخلق نباتات جديدة تحتوي «بجين» (جين منقول) قاتل يمنع نموّ الحبّة التي وقع حصادها وهو ما يعرف ب»البذور النهائيّة» Terminator والهدف طبعا هو إحتكار الشركة التي تنتج هذه البذرة لسوق البذور وبالتّالي وضع الفلاّح الفقير تحت رحمة رأس المال (إقرأ كتاب الدكتور سمير بسباس : خلايا في المزاد العلني علم مجنون في خدمة أرصدة لا تشبع). كلّ هذا يجعلنا نلخّص ما تقوم به هذه المخابر بجملة واحدة «إنتصار قانون الرّبح على قانون الحياة». لكن المسألة لا تقف عند هذا الحدّ فهناك أمراض أخرى موجودة في البلدان المتخلّفة لا تدخل هي أيضا في دائرة إهتمام مخابر البلدان الرأسماليّة ولا تقوم بأيّ بحوث حولها ومنها على سبيل الذكر لا الحصر مرض الملاريا الذي يقتل طفل كلّ ثلاث ثوان ، نعم كلّ ثلاث ثوان يموت طفل إفريقي نتيجة الملاريا التي تتسبّب فيها بعوضة (أي نعم بعوضة تقتل ملايين الأطفال الفقراء في إفريقيا) ولا يوجد إلاّ مخبر واحد في العاصمة الماليّة باماكو يقوم ببحوث جادّة للقضاء على هذا الخطر بإمكانيّات بشريّة ومادّية محدودة جدّا هذا مثال لمرض يصيب الإنسان أمّا الأمراض الفلاحيّة فيمكن ذكر مرض يصيب النّخيل في بلدان المغرب العربي وقد قضى على واحات كاملة للنّخيل بالمغرب والجزائر وهو يتنقّل ببطء نحو واحات تونس ويعرف بإسم «البيّوض».
إنّ ما سبق ذكره يجعلنا نؤكّد بأنّه إلى جانب السّياسة الصحّية الطبقيّة التي أشرنا إليها سابقا (Politique de classe) تعتمد الرأسماليّة أيضا سياسة صحيّة إستعماريّة (Politique coloniale) .
فما هي أهمّ الأمراض العابرة للحدود التي ظهرت في السّنوات الأخيرة ؟
يعتبر جنون البقر مرض العولمة الليبراليّة بدون منازع وذلك لسببين إثنين :
* أوّلا لم يكن هذا المرض موجودا بالمرّة قبل أواسط الثّمانينات أي قبل ظهور النّظام العالمي الجديد أو العولمة الليبراليّة.
* ثانيا ، وهذا هو الأهمّ ، المرض هو إحدى الإفرازات المباشرة للعولمة الليبراليّة وهو ما سنعمل على تأكيده حين نجيب على السّؤال التّالي : كيف ظهر جنون البقر إلى الوجود؟
في البداية نوضّح بأنّ الإسم الحقيقي لمرض جنون البقر هو ما يعرف بالفرنسيّة بإسم
LEncéphalopatie Spongiforme Bovine (ESB) الذي يمكن ترجمته كالآتي : المرض الدّماغي الإسفنجي البقري (أنظر مقالنا الصّادر بجريدة الشعب بتاريخ 31 مارس 2001 تحت عنوان : جنون البقر ، 136 ألف شخص قد يصابون به إلى حدود سنة 2010). يعود تاريخ ظهور مرض جنون البقر إلى سنة 1986 حيث وقع التصريح بوجود أوّل حالة في بريطانيا. وهو ناتج عن إستعمال الطّحين الحيواني (Farine animale) الذي يضاف إلى العلف الحيواني لتسريع نموّ الحيوانات.
أمّا كيفيّة الحصول على الطحين الحيواني فتتمثّل في جرش فواضل هياكل الحيوانات (العظام) ، بعد ذبحها أو بعد نزعها من الحيوانات الميّتة ، للحصول على جزئيّات يتراوح حجمها بين 10 و15 مليمتر ، أمّا المرحلة الثانية فتتمثّل في وضع هذه الجزئيّات تحت درجة حرارة تتراوح بين 100 و140 درجة. ثمّ بعد ذلك تأتي مرحلة العصر للحصول على الشّحوم لتنتهي بالمرحلة الأخيرة المتمثّلة في إعادة عمليّة الجرش الذي يؤدّي إلى الحصول على الطّحين الحيواني المعروف. هذه هي الطّريقة العلميّة للحصول على الطحين الحيواني لكنّ الجشع الرّأسمالي (أي إنفلات الرأسماليّة من تحت عقّالها في ظل العولمة) أدّى بأصحاب معامل صنع الطحين الجيواني إلى تغيير هذه الطّريقة وبالتالي غلّبوا مصلحتهم الذاتية بأن فكّروا في أرصدتهم البنكيّة على حساب صحّة الإنسان. فقد عمد الصّناعيّون الأنقليز إلى حذف بعض المراحل في عمليّة صنع الطّحين الحيواني بغية التنقيص من كلفة الإنتاج فقاموا بحذف المذيبات (Solvants) إضافة إلى التخفيض في درجة الحرارة إلى مستوى أقل بكثير ممّا هو معروف وهو ما أدّى إلى بقاء «الهيولينات الغريبة» (Protéines) التي إنتقلت عبر العلف إلى الأبقار وتسبّبت في ظهور مرض جنون البقر الذي يصيب الحيوان والإنسان الذي يستهلك لحوم الحيوانات المريضة. هذا المرض إنتشر في مختلف أنحاء العالم (وهو ما يجعل منه مرضا عابرا للقارّات بدون منازع) بعد أن ظهر في أوروبّا وخاصّة إنقلترا وأصاب عددا غير معروف من الأشخاص نظرا للتعتيم الإعلامي الذي صاحب ظهور المرض نظرا لأنّه مرض جديد وأعراضه تتشابه مع بعض الأمراض الأخرى. غير أنّ فريق البحث الأنقليزي الذي يقوده الأستاذ روا أندرسون تكهّن بأن يبلغ عدد المصابين بهذا المرض من هنا إلى حدود سنة 2010 بين 63 ألف و136 ألف مصاب لكن في صورة إثبات أنّ هذا المرض يمكن أن يكون وراثيّا فإنّ عدد المصابين سيتضاعف عشرات المرّات.
مرض الحمّى القلاعيّة
جنون البقر ثمّ الحمى القلاعية ، ما كاد يخف هاجس المرض الأول قليلا حتى أفاق الفلاّحون على جائحة أخرى تصيب المواشي وتفتك بها ألا وهي مرض الحمى القلاعية.
فالحمى القلاعية (أي مرض القدم والفم) هي مرض فيروسي شديد العدوى يصيب الحيوانات ذات الحافر مثل الأبقار والخنازير والأغنام والماعز ، وتصاب أظلاف الحيوان المصاب وفمه بالبثور التي تؤدي إلى العرج وزيادة سيلان اللعاب ونقص الشهية. وسرعان ما يفقد الحيوان المصاب الوزن وينقص إدرار الحليب عنده ثمّ يموت. ويعتبر هذا المرض من أخطر الأمراض المعدية عند الحيوان .
وكان الفلاحون والبياطرة يعتقدون أنّه وقع القضاء عليه تماما في أوروبا إلا أن الجائحة الأخيرة التي اجتاحت بريطانيا ثمّ أغلب بلدان أوروبّا كذبت تلك الظنون. وهو دليل آخر عمّا قلناه حول الآثار المدّمرة لتفكيك هياكل الرّقابة والمتابعة في عصر العولمة الليبراليّة وفتح الباب على مصراعيه أمام الجشع الرأسمالي الذي ليس له حدود ولا ضوابط.
ورغم أن المرض لا يشكل خطرا على الإنسان إذ أنّه مرض حيواني بالأساس ، إلا أنه شديد العدوى لحيوانات مثل الماشية والخراف والماعز والخنازير ويؤدي إلى موتها. وقد قامت فرنسا بقتل نحو 20 ألف رأس من الأغنام المستوردة من بريطانيا ، كما أعلنت ألمانيا وغيرها من الدول اتخاذ التدابير الصحية الصارمة. وطبعا كما أكّدنا آنفا فإنّ أكبر المتضرّرين هم الفلاّحون الفقراء في البلدان المتخلّفة الذين إمّا أنّهم لا يملكون الإمكانيّات اللاّزمة لمداواة حيواناتهم أو أنّ دولهم غير قادرة على توفير الدّواء الذي تبقى عمليّة تصنيعه حكرا على مخابر الدّول الرأسماليّة. فإذا قامت فرنسا على سبيل الذكر بالتخلّص من 20 ألف رأس من الأغنام للتخلّص (بطريقة راديكاليّة) من المرض ، وهي التي تملك كلّ الإمكانيّات الماديّة والتكنولوجيّة للتصدّي ، لكم أن تتصوّروا ماذا يمكن أن تفعل دولة فقيرة في مثل هذه الحالة.
المتضرّرون إذا هم الفقراء بإعتبار وأنّه من المعروف أنّ الإقتصاد العائلي في الريّف يرتكز على تربية 2 أو 3 أغنام وماعز التي تمثّل المصدر الرّئيسي للبروتينات والحليب أو هي أيضا مصدرها الوحيد للرزق ، ألا يقول المثل بأنّ «العنزة هي بقرة الفقير». ولكم أن تتصوّروا الحالة التي تصبح عليها عائلة ريفيّة تحرم من مصدر رزقها هذا.
ينتقل المرض عن طريق الحيوانات المصابة أو عن طريق المربّين والعملة المباشرين للحيوانات (إحتكاك الحيوانات الحاملة للفيروس ببعضها البعض أو بواسطة أناس يرتدون لباسا أو حذاءا ملوثا بفضلات حيوانات مصابة بالمرض كما يمكن أن ينتقل الفيروس عن طريق لحوم الحيوانات المصابة أو منتجاتها عندما تتغذى بها حيوانات معرضة للإصابة كما أنّه يمكن أن ينتقل بواسطة ذرات الغبار في الهواء).
وهناك لقاح للوقاية من هذا المرض ، ولكنه نادرا ما يستخدم في اغلب الدول لثمنه الباهظ ولتخلّي أغلب الدول عن القيام بحملات الوقاية التي كانت تقوم بها قبل تطبيق برامج الإصلاح الهيكلي. ويقول الأطباء البياطرة إن إعطاء اللقاح للحيوانات قد يمنع حدوث الأعراض عندها ، ولكنها تظل حاملة للفيروس ، وتنقله إلى الحيوانات الأخرى .
ولهذا فإن الدول الخالية من هذا المرض ترفض استيراد الحيوانات التي أعطيت اللقاح خشية استمرار حملها للفيروس وإمكانية نقلها للمرض إلى ماشيتها ، رغم عدم وجود أية أعراض عندها. ولهذا فإن البياطرة يعتقدون أن أفضل طريقة لإيقاف انتشار الحمى القلاعية هو قتل قطيع الحيوانات المصابة وحرقها ، وعزل المزارع المصابة بهذا المرض. وهذا هو مربط الفرس ، فالنيوليبراليّة الشرسة والمتوحّشة تهدف أساسا إلى ضرب القاعدة الإنتاجيّة للعائلات الرّيفيّة من أجل ربطها كلّيا بآليّات السّوق وهو ما سنعود للتأكيد عليه لاحقا عند الحديث على أنفلونزا الطّيور.
و رغم تحذير منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة ( الفاو ) عند ظهور المرض من أن الحمى القلاعية قد تصيب دولا عديدة في مختلف أنحاء العالم حيث دعت المنظمة إلى فرض قيود أشد على المهاجرين والسياح الذين يزيدون من مخاطر إنتشار المرض نظرا لسهولة إنتقال الفيروس إلاّ أنّ هذا المرض الفيروسي عبر الحدود بسرعة كبيرة وإنتشر في الأغلبيّة السّاحقة من بلدان العالم. هذا المرض مازال موجودا إلى اليوم (ونحن في شهر مارس 2006) بالعديد من الدّول الآسيويّة (بنغلاداش ، تايلندا ، الفلبين...) وقد قضى على مئات الآلاف من الحيوانات وخاصّة في المزارع العائليّة التي تمثّل الرّكيزة الأساسيّة لتربية الحيوانات في إفريقيا وآسيا خاصّة وحيث أنّ عدد السكّان في هاتين القارّتين يمثّل أكثر من نصف سكّان العالم فلكم أن تتصوّروا حجم المأساة الإقتصاديّة وحتّى الإجتماعيّة في هذه المنطقة من العالم. وللتأكيد على ما نقول صرّح الدكتور بيتر رودر خبير الصحّة الحيوانيّة لدى منظّمة الأغذية والزّراعة قائلا : على سبيل المثال فإن عدداً كبيراً من المزارعين في جنوب شرقي آسيا يعتمدون على الجاموس في عمليات إعداد الأراضي لزراعة الأرز. وبدون هذه الحيوانات فإن المزارع قد يفقد ما يصل إلى نصف إنتاجه من الأرز. وقبل بضعة أعوام أشارت حساباتي إلى أن إحدى جائحات الحمى القلاعية في كمبوديا كلَّفت الأسرة الزراعية المتوسطة نحو 60 دولاراً ، وهو ما يزيد على دخلها السنوي المتاح للإنفاق».
نمرّ الآن للحديث عن أنفلونزا الطّيور لأنّ حدود هذا المقال لا تتّسع إلى جرد كلّ الأمراض العابرة للحدود التي ظهرت في عصر العولمة الليبراليّة والتي تصيب الإنسان والحيوان على حدّ السّواء حيث نتذكّر جيّدا أيضا مرض «السّارس» (SARS) أو «السراس» (SARS) : Syndrome respiratoire aigu sévère) الذي سبّب حالة من الهلع على مستوى العالم حيث أصبح الأشخاص لا يتنقلون إلاّ بالكمامات الواقية خاصّة وأنّ المرض ناتج عن فيروس يتنقّل بسرعة البرق بين الأشخاص.
مرض آخر أصبح حديث أجهزة الإعلام ظهر هذه الأيّام في بعض الجزر الإفريقيّة وخاصّة جزيرة «ريينيون» (Réunion) المستعمرة من طرف فرنسا ، جزر موريس ، جزيرة السيشل ومدغشقر وتم كذلك الإبلاغ عن هذا الداء في جنوب شرق آسيا وجنوب الهند وباكستان حيث تنقّل مرض ذو إسم غريب هو مرض شيكونغونيا (Chikungunya) بسرعة البرق بين الجزر المذكورة.
وينتقل داء شيكونغونيا، وهو مرض فيروسي (لاحظوا بأنّ كلّ الأمراض التي تحدّثنا عنها ما عدى جنون البقر هي أمراض فيروسيّة والمعروف أنّه سهل جدّا خلق الفيروسات في المخابر) ، إلى البشر عن طريق البعوض وهو من جنس الزاعجة المصرية في العادة ولكن هناك أجناساً أخرى من البعوض يمكنها أيضاً نقل المرض. وينحدر اسم شيكونغونيا من اللغة السواحيلية ويعني «المشي منحنياً» ويعكس ذلك حالة المرء المصاب بالمرض.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.