كانت الحركة النقابية التونسية مستقلة منذ بداياتها ولم تكن يوما مرهونة لأي جهة أو حزب أو إديولوجيا، هذه التجربة التي انطلقت مع محمد علي الحامي الذي تمكن من التعريف بمنظمته في وقت وجيز جدا والتي سارع في الإنخرط فيها عديد المفكرين والمثقفين أمثال الطاهر الحداد وغيره من الوطنيين المنخرطين في الحزب لأنهم كانوا يفتقدون لمثل هذه المبادرات الوطنية الاجتماعية التي ايقضت فيهم روح التضامن والتآزر وبقدر ما سخر محمد علي الحامي ورفاقه أنفسهم لخدمة هذه المنظمة الوليدة. بقدر ما لاقت المضايقة من الوطنيين وبالتحديد من الحزب الوطني الذي لمس في هذه التجربة مزاحما له على مستوى التحكم في الشارع وإستقطاب مكونات المجتمع وكانت حرب المستعمر شرسة لدرجة تشريد روادها ونفيهم للإجهاض على التجربة بكاملها، وبما أنها كانت من منطلقات وطنية معادية للمستعمر هدفها الأول كرامة الفرد التونسي والخروج به من الخصاصة والمذلة التي بسطها الاستعمار عنوة على كامل التراب التونسي أعاد بلقاسم القناوي إحياء التجربة سنة 1937 التي كانت على نفس الخطى ونفس الأهداف لتلاقي نفس المصير الذي آلت إليه تجربة محمد علي حيث عمد بورقيبة ورفاقه لاغتصاب المنظمة واقتحام مقرها عنوة لأن القناوي رفض الرضوخ لمطالب تسييس المنظمة وتدجينها لصالح الحزب رغم إنتمائه له وكانت هذه الحركة العدائية من الحزب للتجربة النقابية الوطنية الثانية بتونس مطابقة لرغبة المستعمر لإخماد أنفاس هذا المارد المستيقظ بعد سبات دام عقدا من الزمن ظنه الحاقدون قد ذهب بلا رجعة لكن هيهات لاجتثاث هذه الشجرة المباركة التي أصبح أصلها ثابتا وفرعها طال عنان السماء دون أن يتفطن له من لهم قلوب لا يفقهم بها لأن تجربة محمد علي ضربت في عمق أرض الوطن لتثمر من جديد ظهور شباب ثائر رافضا الرضوخ للظلم والقهر مستمدا قوته من قربه من الشعب ومتعضا من التجربتين السابقتين وظروف إجهاضهما، لكن آليتي القمع مازالتا متواجدتين في الساحة: المستعمر الحاقد على الفكر النقابي الوطني والحزب الرافض لكل مزاحم له لاستقطاب الشعب ولم شمله لكن حشاد فوت الفرصة على الجميع لأنه لامس خوالج الفرد التونسي في حقه في العيش الكريم. لقد أحسن حشاد توظيف منظمته وجعلها في خدمة الوطن بالتوازي مع خدمة الفرد فكان أول من فتح بوابة التعريف بالقضية التونسية لدى الأوساط الدولية سواء نقابية كانت أو سياسية وتزعم توفير الدعم السياسي والمادي والمعنوي للقضية التونسية فلم يجد الحزب الجديد من بد سوى التعاون معه بشيء من الاحتشام لأن ضغوطات المستعمر كانت تمارس على عناصر الحزب لضرب حشاد ومنظمته الصامدة التي تعاظم شأنها من سنة لأخرى داخل أروقة المنظمات الدولية. كان زعماء الحزب في تلك الفترة يصطفون ورائه ومما زاد في قوة حشاد ومنظمته هو عدم انتمائه سياسيا لأي تنظيم سياسي بالبلاد بما فيها الحزب الجديد المنشق على الحزب الأم بصفة انقلابية وهو الشيء الذي حرره من التقيد بسياسة الحزب ووجوب الامتثال لها ولما لم يجد المستعمر بدا من إجهاض هذه التجربة الثالثة في الشأن النقابي بالبلاد عمدت لآلة الغدر والاغتيال الذي كان يوم 5 ديسمبر 1952 فخلفه بطل حوادث 5 أوت 1947 الحبيب عاشور الذي ساند الحزب وقدم له المعونات بسخاء منذ الاستقلال ومن أنبل ما تقدم به قادة الإتحاد هو وقف الإضرابات لمدة معينة دعما للاقتصاد الوطني، لكن «العرق دساس» فقد انقلب بورقيبة ونويرة لما استقر لهما الأمر على عاشور مثل ما فعلا بالقناوي من قبل لتتواصل سلسلة الأزمات فكانت الأولى سنة 1965 ثم أزمة 1978 التي استقال قبلها عاشور من اللجنة المركزية للحزب الذي كان يعمل لابتلاع المنظمة وتدجينها وإخضاعها لإرادته لتليها أزمة 1985. هكذا كان الإتحاد العام التونسي للشغل متمما للتجربة النقابية بالبلاد واقفا على مسافة معينة من الأحزاب سواء كانت حاكمة أو غيرها وهو ما جعل هذه المنظمة في المقدمة ومدعومة بتوافق جماهيري كبير وتحظى باحترام كل مكونات المجتمع المدني والسياسي وهي ملاذ المظلومين باختلاف مشاربهم وانتماءاتهم السياسية وغيرها لكن دون أن تعطي الفرصة لأي طيف سياسي أن يخفي علامته المميزة وسوف تظل على هذا المنهج مهما حاول البعض استمالتها سياسيا أو توظيف قدراتها البشرية وثقلها على الساحة الوطنية باعتبار أن الإتحاد يمثل قوة اقتراح وصمام الآمان للبلاد فهو شجرة مباركة لا شرقية ولا غربية وضع بذرتها محمد علي قبل تغريبه ورواها حشاد بدمه عند استشهاده وتضحيات توارثتها من بعدهما الأجيال، جيلا بعد جيل بعيدا عن أي توظيف أو احتواء لفائدة أجندات سياسية فئوية لا تخدم مصلحة الوطن وسيظل كذلك في فترة ما بعد الثورة رغما عن بعض المحاولات اليائسة من هذا الطرف أو ذاك.