عُثِرَ عليه بالصدفة.. تطورات جديدة في قضية الرجل المفقود منذ حوالي 30 سنة بالجزائر    السلطات الاسبانية ترفض رسوّ سفينة تحمل أسلحة إلى الكيان الصهيوني    عاجل: لأول مرة: تونس تصل المرتبة الثانية ضمن التصنيف الدولي للبيزبول    الديبلوماسي عبد الله العبيدي يعلق على تحفظ تونس خلال القمة العربية    في ملتقى روسي بصالون الفلاحة بصفاقس ...عرض للقدرات الروسية في مجال الصناعات والمعدات الفلاحية    يوميات المقاومة .. هجمات مكثفة كبّدت الاحتلال خسائر فادحة ...عمليات بطولية للمقاومة    فتحت ضدّه 3 أبحاث تحقيقية .. إيداع المحامي المهدي زقروبة... السجن    المنستير .. المؤبّد لقاتلة صديقها السابق خنقا    ارتفاع عجز الميزان الطاقي    رفض وجود جمعيات مرتهنة لقوى خارجية ...قيس سعيّد : سيادة تونس خط أحمر    دخول مجاني للمتاحف والمواقع الأثرية    دغفوس: متحوّر "فليرت" لا يمثل خطورة    وزارة الفلاحة توجه نداء هام الفلاحين..    العدل الدولية تنظر في إجراءات إضافية ضد إسرائيل بطلب من جنوب أفريقيا    تعزيز نسيج الشركات الصغرى والمتوسطة في مجال الطاقات المتجددة يساهم في تسريع تحقيق أهداف الاستراتيجية الوطنية للانتقال الطاقي قبل موفى 2030    كاس تونس - تعيينات حكام مباريات الدور ثمن النهائي    الترفيع في عدد الجماهير المسموح لها بحضور مباراة الترجي والاهلي الى 34 الف مشجعا    جلسة بين وزير الرياضة ورئيس الهيئة التسييرية للنادي الإفريقي    فيفا يدرس السماح بإقامة مباريات البطولات المحلية في الخارج    إمضاء اتّفاقية تعبئة قرض مجمع بالعملة لدى 16 مؤسسة بنكية محلية    وكالة (وات) في عرض "المتوسط" مع الحرس .. الموج هادر .. المهاجرون بالمئات .. و"الوضع تحت السيطرة" (ريبورتاج)    طقس الليلة    سوسة: الحكم بسجن 50 مهاجرا غير نظامي من افريقيا جنوب الصحراء مدة 8 اشهر نافذة    القيروان: إنقاذ طفل إثر سقوطه في بئر عمقها حوالي 18 مترا    تأمين الامتحانات الوطنية محور جلسة عمل بين وزارتي الداخليّة والتربية    كلمة وزير الخارجية التونسي نبيل عمار أمام القمة العربية    باجة: باحثون في التراث يؤكدون ان التشريعات وحدها لا تكفي للمحافظة علي الموروث الاثري للجهة    توزر: تظاهرة احتفالية تستعرض إبداعات أطفال الكتاتيب في مختتم السنة التربوية للكتاتيب بالجهة    وزارة الثقافة تنعى المطربة سلمى سعادة    صفاقس تستعدّ للدورة 44 لمهرجانها الصيفي    صفاقس: هدوء يسود معتمدية العامرة البارحة بعد إشتباكات بين مهاجرين غير نظاميين من دول جنوب الصحراء    جندوبة: وزير الفلاحة يُدشن مشروع تعلية سد بوهرتمة    "فيفا" يقترح فرض عقوبات إلزامية ضد العنصرية تشمل خسارة مباريات    هل سيقاطعون التونسيون أضحية العيد هذه السنة ؟    عاجل: "قمة البحرين" تُطالب بنشر قوات حفظ السلام في فلسطين..    106 أيام توريد..مخزون تونس من العملة الصعبة    اليوم : انطلاق الاختبارات التطبيقية للدورة الرئيسية لتلاميذ الباكالوريا    ناجي الجويني يكشف عن التركيبة الجديدة للإدارة الوطنية للتحكيم    سوسة: الإطاحة بوفاق إجرامي تعمّد التهجّم على مقهى بغاية السلب باستعمال أسلحة بيضاء    قيس سعيد يُؤكّد القبض على محام بتهمة المشاركة في وفاق إرهابي وتبييض أموال    المعهد الوطني للإحصاء: انخفاض نسبة البطالة إلى حدود 16,2 بالمائة    سيدي بوزيد: انطلاق الدورة 19 من مهرجان السياحة الثقافية والفنون التراثية ببئر الحفي    رئيس الجمهورية يبحث مع رئيس الحكومة سير العمل الحكومي    عاجل: متحوّر كورونا جديد يهدّد العالم وهؤلاء المستهدفون    ظهورالمتحور الجديد لكورونا ''فيلرت '' ما القصة ؟    محمد بوحوش يكتب...أدب الاعتراف؟    الأيام الرومانية بالجم . .ورشات وفنون تشكيلة وندوات فكرية    الخُطوط التُونسية في ليبيا تتكبد خسائر وتوقف رحلاتها.    زلزال بقوة 5.2 درجات يضرب هذه المنطقة..    بطولة اسبانيا : أتليتيكو يهزم خيتافي ويحسم التأهل لرابطة الأبطال الاوروبية    إصدارات.. الإلحاد في الفكر العربي الإسلامي: نبش في تاريخية التكفير    استشهاد 3 فلسطينيين بنيران جيش الاحتلال في الضفة الغربية    أمراض القلب والجلطات الدماغية من ابرز أسباب الوفاة في تونس سنة 2021    أكثر من 3 آلاف رخصة لترويج الأدوية الجنيسة في تونس    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدين بين مطلب العقل وسلطة الإيمان
محمد المزوغي
نشر في الشعب يوم 07 - 04 - 2007

* الفيلسوف، في أمور الدين، إما أن يكون مؤمنا أو مُلحدا ولا ثالث بينهما، لأن أعسرها عليه المكوث بين الطرفين أو محاولة التوفيق بينهما
. ينبغي على المفكر أن يختار أيّهما الأقوم والأصح، واختياره لا يجب أن يكون ناتجا عن اعتباط أو هوى شخصيّ، بل نابعا من فحص عميق للأشياء، وسبر للآراء والمواقف، ومرتكزا على براهين عقلانية وحجج منطقية وعلمية ثابتة. ينبغي الاختيار بين النسق اللاهوتي الإيماني وبين النسق العقلاني المادّي، وهذا أمر هامّ ومحدّد لتخليص العارف من حالة التذبذب والحيرة.
الاختيار المعقول والأكثر علمية، حسب أغلبية الفلاسفة، يذهب إلى الثاني لأسباب عديدة منها هناك فضل منطقي نظري للنّسق المادّي على النسق الإيماني الديني لأنه يسمح بضمان كلّيّة القوانين الطبيعية وإرساء الفضائل الأخلاقية عن طريق الاقتصاد في المبادئ. النسق المادي لا يفترض وجود كائن متعالٍ، مفارق للمادّة، حرّ، خيّر وحكيم ولكن في الواقع وبحسب الكتب المقدّسة يتصرّف دون حرّية، وأفعاله خالية من الحكمة والعناية.
هناك أيضا تفاضل على المستوى تفسير الظواهر الطبيعية: فالمذهب العقلي المادي فقط هو القادر على أن يرسي بانسجام دعائم القوانين التي تسيّر الطبيعة، قوانين حتميّة وضرورية، غير خاضعة للتبدّل والاعتباط الإلهي.
أخيرا النسق المادّي فقط يسمح بإعطاء تفسير محايث عقلاني لوجود الشرّ في العالم، تاركا وراءه كلّ الإشكالات التي تخبّط فيها اللاهوت التبريري (La théodicée) الشرور في العالم مُتأتية مِن تسلسل عَرضي للعلل الماديّة، دون غائية متعالية تسيّرها.
الموقف الإلحادي، حتى وإن صدم دائما حساسية المؤمنين، فهو موقف واضح وصريح من حيث أن العقل، بالنسبة لكثير من الفلاسفة، قادر بمفرده أن يُبرهن على عدم وجود الله، وعلى قدم العالم وفناء النفس. أما الإنسان المؤمن فهو يعتقد جازما في وجود الله، حدوث العالم وخلود النفس، واقتناعه ناتج عن إيمان وتسليم مرتبطان بالقلب وليس العقل. فعلا، المؤمن يعتقد دون اللجوء إلى البراهين العقلانية أو استخدام الحجج المنطقية. وهذا الموقف الإيماني، بالنسبة إليه، أمر جوهري تتمحور حوله كلّ حياته العملية والطقوسية، ذلك لأن الإنسان المؤمن لا يستطيع أن يتوجّه في صلاته وشعائره وطقوسه إلى كائن معدوم الوجود.
لكن المفكرين الذين يتحركون في أفق الإيمان الديني، لا يركنون إلى النتائج التي يفرضها العالم ذي التوجه المادي، ويحاولون التوفيق بين العقل والنقل، أو محو الفوارق بينهما والقول بأن صحيح المنقول يوافق صريح المعقول، بحيث أنه لا تضارب ولا تعارض بل وفاق وانسجام.
فعلا، حسب رأي التوفيقيين، العقل إن جُرِّد من الأهواء والتعصب فسيُفضي بالمرء حتما إلى تبني الإيمان الديني الصادق والركون إليه، نظرا لأن التناقض، إن وجد، فهو فقط ظاهري ولا يخترق النسقين بما هما كذلك.
ويبدو أن هذا التشبّث بقيمة العقل، عند أهل الأديان، ناتج عن عقدة نقص لازمتهم أمام الفلسفة اليونانية وعقلانيتها المستقلة. ثم إن اللاهوتيّين والمؤمنين، في مختلف الملل، يحتكرون صفة المعقولية لأديانهم فقط، ويجعلون منها الوحيدة الموافقة للعقل والمناسبة للطبيعة الإنسانية ومتطلبات العمل الأخلاقي. لا أحد من المؤمنين قادر على تَنْسِيب ديانته لكي تَقبَل الملل الأخرى، أو الاعتراف بأنها تناقض العقل: رجال الدين يخجلون من ذلك ويرغبون في افتكاك العقل من أصحابه والاستحواذ عليه لتطويعه إلى أغراضهم، أي تشويهه. ولكن، إذا ما رفض العقل الانصياع إلى أوامرهم فإنهم يُقصونه أو ويقلّلون من شأنه. لقد تخبّط أهل الأديان في تناقضات جمّة بخصوص العقل ولم يتمسّكوا بمواقفهم منه. فالقول بأن عقائدهم تتماشى مع العقل فيه مخاطر أن ينقض العقل إن تُرك يشتغل بحرّية مزاعمهم جملة وتفصيلا، وهناك أيضا خطر فسخ الأسرار ومَحْو الديانة الشعبية المبنية على التسليم والإيمان بالغيب.
الدين بصفة عامة هو مجموعة من المعتقدات الإنسانية التي تَعتمد على السّماع والتسليم وقداسة أقوال الأنبياء والانقياد لسلطة السلف. ليس هناك فكر فلسفي أو علمي يعترف بالوحي أو بالسمع ويقدم السلطة، أيّ كانت، على العقل. التسليم بمبادئ الرأي دون إعمال العقل، وتنزيه الكتب المدعوة مُنزّلة واعتبار محتواها وحيا إلهيا، هي معتقدات غريبة عن عقل الفيلسوف وبعيدة بعدا سحيقا عن ذهنيته العلمية. ولا يمكن، موضوعيا، للمُفكّر العقلاني أن يُنجِّي، من تعاليم الكتب المقدسة، شيئا حتى وإن عمد اللاهوتي، أو «الفيلسوف» اللاهوتي إلى تَنقيَتِها من التشبيه وإدماجها في شبكة التعاليم الأخلاقية. الدين يتمحور حول الإيمان بوجود كائن متعال، الله، ووجود كائنات غيبية خارقة للطبيعة، غير منظورة، تملأ الكون وتُسيّره بقوّة منحها إياهم الله، ثمّ الاعتقاد في التدخّل المستمرّ للإله في الكون ورعايته للإنسانية وبالأخصّ منها الإنسانية المؤمنة.
إنها أمور متضاربة تماما مع العقل، ومن المحال إطلاقا تطويعها لكي تتماشى مع المبادئ العقلانية أو تكييفِ العقل كي يَنسَجم معها. ولكن من المُمكن الجمع بينهما إن أضعفنا من قدرة العقل، أو إن قُمنا بتشويه الدين وأخرجناه من مَعناه الميثولوجي الخرافي إلى معان رمزية وأخلاقية. وهذا ما فعله دائما المفكرين المؤمنين وأصحاب اللاهوت قديما وحديثا: التقليل من سلطة العقل النظري، ثم تفتيت أوصال الدين وإعادة تركيبه من جديد كي يتوافق مع بعض المبادئ الأخلاقية التي قد يقبل بها الإنسان في فترة تاريخية ما. إن التعارض بين الدين والفلسفة هو تعارض حقيقي وواقعي، لا يُمكن تذليله أو التغاضي عنه اللامعقول هو وكر الديانات جميعا، وإن خَرجت منه وأرادت أن تَجتاح مجالا غير مجالها فإنها تُخطئ في حُسبانها وقد يعود عليها ذلك بالوبال.
لكنّنا ما زلنا نسمع إلى الآن، من كلّ صوب وحدب، أن الدين يوافق الفطرة والعقل، ولقد كتبَ أحد علماء الإسلام منذ سبعة قرون كتابا ضخما زعم البرهنة فيه على موافقة صحيح المَنقول لصريح المعقول(1) . وكذلك فعل أيضا اللاهوتيون في العالم الغربي اللاتيني في القرون الوسطى كتوماس الأكويني مثلا في خلاصته اللاهوتية . وهذا الأمر إن بقي محصورا في مجال ذهنية القرون الوسطى ومؤطرا في حقلها الإبستيمولوجي، فهو لا يؤثر شديد التأثر فينا، لأنه يبقى من مجال تاريخ الأفكار لا يتعداه. ولكن أن يطلع علينا اليوم لاهوتي مسيحي ويقول بالتوافق العميق بين ما هو يوناني عقلاني، وبين ما هو مسيحي فهذا أمر مزعج حقا، ويستثير إلى حدّ بعيد حساسيتنا الفلسفية، بل قد تكون لأقواله استتباعات ثقافية واجتماعية في غاية الخطورة (2)
لقد قال البابا بنديكت السادس عشر في المحاضرة التي ألقاها بجامعة ريغنزبورغ أعتقد أن في هذه النقطة بالذات يتمظهر التّوافق العميق (der tiefe Einklang) بين ما هو إغريقي في أحسن معانيه وبين ما هو إيمان بالله على أساس الكتاب المُقدّس»، ثمّ يضيف قائلا بأن « الالتقاء (das Zusammentreffen) بين رسالة الكتاب المقدس والفكر اليوناني (des griechischen Denkens) لم يكن مجرّد صدفة (kein Zufall)
فالمسيحية، حسب هذا الزعم، هي ديانة تحترم المبادئ العقلانية، والعَقل ذاته مذكور في الإنجيل، لقد ابتدأ يوحنا إنجيله بهذه الكلمات « في البدء كان اللوغوس». ولكن أيّ لوغوس هذا؟ هل يَعني به العقل المنطقي؟ هل يعني به مبادئ البرهان والقياس النظري كما عرضها أرسطو في التحليلات الأولى والثانية؟ أم أنه يعني «عقل العالم» عند الرواقية، أي العقل المحايث للكون؟ لا هذا ولا ذلك، إنه أبعد ما يكون عن العقل النظري والمنطق. فكلمات يوحنا، إن قسناها بمعايير المنطق العقلاني، فهي متناقضة سواء في المقدّمات أو النتائج، لأنها تحمل على اللوغوس صفتين متناقضتين « في البدء كان اللوغوس، واللوغوس كان عند الله. وكان اللوغوس هو الله. هو كان في البدء عند الله (إنجيل يوحنيا) .
لكن الرأي النقيض، أعني ذاك الذي يقول بأن المسيحية، ككل الأديان الأخرى، في تناقض تام مع مقومات العقل ولا ترقى إلى مرتبة العقلانية، يأتي من المفكرين الغربيّين أنفسهم. يقول الفيلسوف الفرنسي بيار بايل بخصوص اللامعقولية التي تهيمن على التعاليم المسيحية: إذا اعتبرنا البداهة المعيار اليقيني للحقيقة (criterium veritatem)، فالمسيحية هي أول الأديان التي تخرق بتعاليمها هذا القانون». فعلا، من البديهي بذاته مثلا أن «الأشياء التي لا تختلف عن ثالث، لا تختلف في ما بينها (Qua sunt idem uni tertio sunt idem inter se)؛ إنها قاعدة تفكيرنا وعليها نَبنِي براهيننا العِلميّة وقياساتنا العقلية، إلاّ أن معتقد الثالوث، كما يرى بايل، يؤكد لنا أن هذه البديهية خاطئة. وهو يتحدى كلّ اللاهوتيين في المسيحية بخصوص هذه النقطة ويقول: لتصطنعوا كلّ أنواع التمييزات والتقسيمات التي ترغبون فيها لن تستطيعوا البرهنة إطلاقا على أن هذه البديهية لا تتعارض مع سرّ التثليث». ثم من البديهي أيضا أنه لا يوجد فرق بين فرد وطبيعة وشخص: لكن نفس هذا السرّ، أعني سرّ الثالوث يحاول إقناعنا بأن الأشخاص يمكن أن تتكاثر دون أن تكفّ الأفراد والطبائع على أن تكون واحدة. ومن البديهي بذاته أن الشرط في تكوّن إنسان مكتمل الشخصية هو أن يتمّ الجمع بين جسم ونفس عاقلة، لكن سرّ التجسّد يعلمنا بأن هذا غير كاف وبالتالي لا نحن ولا أنتم قادرون على التأكّد من أننا أشخاص. فقد تكون الشخصية المتفرّدة، مجرد عرض طارئ يمكن أن يرفعه الله متى يشاء. ثم إنه من البديهي أن جسما إنسانيا ما لا يمكن أن يكون في نفس الوقت في أماكن مختلفة، وأن رأسه لا يمكن أن يتداخل مع أجزائه الأخرى في نقطة غير قابلة للقسمة، إلاّ أن سرّ الإفخرستية يعلمنا أن هذا يحدث كلّ يوم؛ النتيجة هي أنه لا أنا ولا أنت يمكننا التيقن من أننا مختلفان عن الناس الآخرين وأننا لا نوجد الآن بالباب العالي في القسطنطينية، في كندا، في اليابان، في أي مدينة من مدن العالم، أو في أي مكان آخر تحت أوضاع مختلفة. هل سيخلق الله، الذي لا يفعل شيئا عبثا، أناسا عديدين، في الوقت الذي يَكفيه خلق إنسان واحد ووضعه في نفس الوقت في أماكن مختلفة وبأحوال متعددة إن سرّ الإفخرستية لا ينكر ذلك أبدا. لكن هذه الفكرة تُدمّر يقينيّاتنا الرياضية؛ لن نعرف ما معنى العدد اثنان وثلاثة، ولن ندري ما الهوية وما الاختلاف. حينما نحكم على زيد وعمر أنهما شخصان متغايران، نقوم بذلك لأننا شاهدناهما في مكانين مختلفين، وأدركنا بالحس والعقل أن أحدهما لا يملك نفس أعراض الثاني. لكن بالنسبة لعقيدة الإفخرستية أساس هذا التمييز فاسد. وربما لا يوجد في هذا الكون إلاّ مخلوق واحد متعدّد بتعدد الأماكن وباختلاف الصفات ونحن نخترع قواعد الأعداد والجبر والرياضيات كما لو أن هناك أشياء عديدة مختلفة (3).
هذه هي البعض من المجالات التي تطرحها تعاليم المسيحية على العقل النظري، لكن إذا انتقلنا إلى الجانب العملي الأخلاقي فإن المحالات لا تقلّ خطورة وحِدّة من البديهي بذاته أنه يجب علينا مَنع الشر إن كنا قادرين عليه، وإلاّ فإننا سنُذنب إن كان بمقدورنا منعه لكننا سمحنا به. إلاّ أن علماء الكلام يقولون لنا بأن هذا خطأ جسيم: لأن الله يسمح باقتراف الشرور على الرغم من أنه قادر على منعها. ثم إنه من البديهي أيضا أن كائنا غير موجود لا يمكن أن يَصدر منه عمل شرير، وأنه من الظّلم عقابه على فعل اقترفه مخلوق آخر، إلاّ أن عقيدة الخطيئة الأصليّة تبيّن بطلان هذه البديهية، فالله عاقب ذرية آدم وأنزلهم إلى الأرض بذنوب لم يقترفوها. ثم إنه من البديهي بذاته وجوب تفضيل الصِّدق على المصلحة الشخصية، وبقدر ما تكون العلة أقدس بقدر ما يكون اختيار الصدق على المنفعة في أعلى درجاته وأتمّها، لكن لاهوتيّينا يقولون بأن الله في اختياره بين عالم مُحكم التنظيم، تهيمن فيه الفضيلة، وبين العالم الحالي أين الفوضى والرذيلة والشرور مستفحلة، فضّل هذا على ذاك، لأنه وجد فيه مصلحة عزّته(4)..
إذا تركنا جانبا خصوصيات الدين المسيحي (الثالوث، التجسد، الإفخرستية) فإن هذه المحالات التي عدّدها بيار بايل، يمكن أن نطبّقها على جميع المعتقدات الدينية لا شيء في تعاليمها (العقائدية والأخلاقية) ينسجم مع العقل، ولا يمكن للعقل أن يركن لأي منها.
والكثير من المثقفين، في العالم الإسلامي والعالم المسيحي، مازالوا مقتنعين بالعكس، وفكرة راتسينغر من أن هناك « التِقاء بين الإيمان والعقل، بين التنوير الأصيل والدين»، مازالت مُتجذِّرة في وعي اللاهوتيين الكاثوليك، وبالأخص منهم أتباع التوماوية الجديدة (5) . ولكنهم أخيرا ذهبوا بها إلى مدى أبعد وأخطر، أعني القول باحتكار العقلانية في تلك الخلاصة التي استطاعت أن تقوم بها المسيحية الغربية بين الإيمان والعقلانية اليونانية، وبالتالي فإن الإرث العقلاني وَجَد أخيرا مكانه الطبيعي في أوروبا، الوريثة الأصلية لروما وأثينا. لقد بَرهنتُ من قبل على فساد هذه الأطروحة، وقد تركتُ الكلمة لبيار بايل (Pierre Bayle)، وهو الذي بيّن بالبرهان والحجة أن أكثر الأديان التي تتضارب تعاليمها مع العقل هي الديانة المسيحية، دون استثناء الديانات الأخرى بما فيها ما يسمى بالديانة الطبيعية ولا فائدة في التكرار.
لكن من المحتمل جدّا أن الهدف الأساسي من هذه الهجمة اللاهوتية الجديدة هو تغييب وشطب الدّور الكبير الذي لعبه العرب في تطوير العلوم ونقل العقلانية اليونانية إلى العالم الغربي. هناك مقصد جدّي، مضمر أو صريح، لإبعاد حضارة الإسلام من اقتصاديات إنتاج المعرفة العلمية. إنها محاولة إيديولوجية صرفة تبغي إزاحة العالم العربي من حقل العقلانية، وقطع تواصله مع الفكر اليوناني كما تريد أن تفعل التيارات المسيحية المتشدّدة التي لا تعترف بأي مساهمة للعرب والمسلمين في التقدّم الحضاري. لكن التاريخ يفنّد مزاعمهم ويُبطل آراءهم بصيغة قطعية.
يا قوم! إني لست أقول إن حِكمَتكم هذه الإلهية أمر باطل ولكن أقول إني حكيم بحكمة إنسانية (6)، كيف علّق أحد حُذاق القوم من مؤرخي الفلسفة الإيطاليين على قولة ابن رشد هذه؟ يقول إن الإنسانية الجديدة، التي أيْنَعت في عصر النهضة، وُلِدَت مِن هنا (7). إنه اعتراف صريح بأن أعزّ ما يَفتخر به الغرب، أعني عصر النهضة، قد نشأ من روح الرشدية، وهذا الاعتراف لا يصدمنا كثيرا لأننا نعلم الآن أن فلسفة ابن رشد وابن سينا هي المنبع الأصلي للثورة النظرية والفلسفية التي اجتاحت أوروبا منذ القرن الثالث عشر. الحضارات ليست في ذاتها مجموعة من المونادات تُولد وتموت دون أن تُأثر وتتأثر بمُحيطها، فكما أن العرب تقبّلوا الإرث اليوناني وطوّروه وساهموا في تقدّمه، كذلك الحضارة الغربية فعلت مع العقلانية الإسلامية. ثم إن النظرة العقلانية لم تكن في يوم ما حِكرا على حضارة دون أخرى، أو صفة مميّزة لشعب دون آخر، بل هي عامل مشترك وجوهري في طبيعة الإنسان ذاته، يميّزه عن بقيّة الكائنات الأخرى.
لكني لا أودّ السكوت عمّن يَعمدُ، لأجل الدفاع عن دينه، إلى تهميش صناعة الفلسفة العظيمة أو الحطّ منها وجَعلها خادمة للاهوت، أو يُفاضل بين دين وآخر، على أساس مجرد استيهامات وأحكام مسبقة. الأطروحة التي يحامي عليها راتسينغر (بنديكت السادس عشر) ليست جديدة العهد في تاريخ الفكر المسيحي، والأمثلة في هذا الشأن عديدة. فأشد المدافعين عنها في الغرب، هم أولئك الذين ينتمون إلى تيار الفلسفة المسيحية الجديدة، أو ما يسمون بالتوماويّين الجُدد (les Néothomistes). ولقد كان من بين مشمولات أعمالهم إظهار الجدّة والثورية النظرية التي أحدثتها الديانة المسيحية ونسقها اللاهوتي بالمقارنة مع الفكر الفلسفي اليوناني.
ومن بين هؤلاء الدارسين يتألق اسم إيتيان جيلسون (Etienne Gilson) أحد المختصين المرموقين في فلسفة القروسطي. ولكن معرفته الواسعة لم تَمنعه مِن إصدار أحكام قيميّة سلبيّة على الفكر اليوناني، وأطروحاته، هي في حقيقة الأمر، في الطرف النقيض من أطروحات راتسينغر، لأن جيلسون يبرهن بحذق على جدّة الفكر المسيحي واختلافه الجوهري، من حيث المبدأ، عن العقلانية اليونانية.
في كتابه روح فلسفة القرون الوسطى»، يعترف جيلسون بوجود فارق جوهري بين الفكر الفلسفي ككل وبين المعتقد الديني الذي جاءت به التعاليم المسيحية إن المسيحية، حسب أقوال الرسول (بولس) ، ليست بفلسفة قَط، بل هي دين. فهو (بولس الرسول) لا يعرف شيئا، ولا يدعو إلى أيّ شيء، ما عدا يسوع المصلوب وخلاص الإنسان المُخطئ عن طريق النعمة [...] مسيحية القديس بولس ليست هي بفلسفة تنضاف إلى فلسفات أخرى، ولم تأتِ كي تأخذ مكان تلك الفلسفات، إنها دين يجعل نافلة ما يُدعى فلسفة، ويُريحنا منها. ذلك لأن المسيحية هي منهج للخلاص، أي تختلف كل الاختلاف عن الفلسفة، وهي أكثر من أن تكون طريقة في المعرفة (8).
الديانة المسيحية ليست من الفلسفة في شيء ولم تكن غايتها مَعرفية، بل هي بالأساس، منهج عملي للخلاص والظفر بملكوت السماء؛ هذه أشياء واضحة بذاتها ولا مماحكة فيها. لكن الرجل لم يتمسك بفكرته تلك بل إنه، حينما أقدم على المقارنة بينها وبين الأنساق التي سبقتها وبالأخص نسق الفلسفة اليونانية، أبرَز نزعته في المُماحكة الجدالية والدفاع العقائدي، تاركا إلى جانب الروح النقدية التي تُميّز الفعل الفلسفي والبحث التاريخي النزيه. ويتجلّى ذلك حينما يعقد مقارنة بين مفهوم الألوهية عند أفلاطون وأرسطو من جهة، والوحي اليهودي المسيحي من جهة أخرى. لقد أدّت به هذه المقارنة إلى إصدار حكم قيمي تفاضلي غلّب فيه الجانب اللاَّعقلاني في الديني للمسيحي على الجانب العقلاني عند أعلام الفلسفة اليونانية: حتى إذا اعتُبر في مُمَثلَيْه العظيمين (أفلاطون وأرسطو)، فإن الفكر اليوناني لم يُدرك تلك الحقيقة الجوهرية، التي عَبَّرت عنها في لَمحَة واحدة ودون أي نزر من البرهان، الكلمة التوراتية: «اسمع يا إسرائيل إن الرّب إلهنا هو رب واحد» التثنية، VI، 4 (Audi, Israel, Dominus noster, Dominus unus est (Deut.VI, (4) (9).
كل الذين ينتمون إلى الديانات التوحيدية ويتعصّبون إليها، إن لم يَفتَكُّوا من الفلسفة اليونانية إرثها العَقلاني ويَستَحوذوا على انجازاتها المعرفية، كما فعل راتسينغر وغيره، فإنهم يعِيبُون عليها أشياء لم تَكن لتشمل اهتماماتها أو تعنيها بالدرجة الأولى. وجيلسون يعلم أن روح الفلسفة اليونانية نشأت حينما أُحدثت قطيعة مع الفكر الأسطوري اللاهوتي؛ الفيلسوف اليُوناني كان يَحْبُوه شغف اكتشاف قوانين الطبيعة وملاحظة ظواهرها ومعاينتها من قرب، أما الألوهية فقد كانت أمرا فاضلا ولا تَتصدّر أولويات بحوثه. الفكر اليوناني كان أكثر تواضعا فيما يخص موضوع الإله؛ لم يدَّع أحد أن الإله اتصل به مباشرة وكلّمه مُخبرا إياه أنه إله واحد، كما جاء في سفر التثنية. لا يستطيع أن يَزعم ذلك أو يدرك ما أسماه جيلسون «الحقيقة الجوهرية «، لأنها لا تنتمي إلى مجال الحقيقة ولا يقوم عليها أي برهان عقلي.
ومِن العَجب أن يُهدَر مفهوم الحقيقة هكذا على تَخمينات هي أبعد ما تكون عنها الحقيقة بالنسبة للعقل الاستكشافي اليوناني، هي كسب إنساني يأتي في نهاية صيرورة نظرية مُضنية، حيث يَنكَبّ فيها العالِم بكل قواه العقلية على استنطاق الطبيعة وملاحظتها والغوص في أغوارها بكل ما أوتي من فضول عقلي. لقد ترك لنا فلاسفة اليونان بحوثا علمية تشمل تقريبا كل ما يحيط بالإنسان وتعمّ كلّ مجالات المعرفة النظرية والعَمَلية: في السماء والعالم، في الطبيعة، في الكون والفساد، في الحيوان، في النفس، في قوانين التفكير، في معايير العلوم (المنطق والتحليلات) في الأخلاق، في السياسة، وهي ترِكَة لم تنضب روحها ولم تستنفذ مواردها إلى يومنا هذا لكن، في مقابل ذلك، عقلية الديانة التوحيدية لم تترُك شيئا يُغذّي الفضول الذهني ويحثّ الناس على الفحص النظري المتجرّد، لأن الكون والطبيعة والإنسان هي أشياء لا تستحق عناء التفكير أو الالتفات التأملي لها في ذاتها، نظرا لأنها عديمة القيمة أمام عظمة الإله وقدرته.
ليست وحدانية الإله بالفكرة المتميّزة والفذّة، بل هي تَخمين متناقض ولا يفضي إلى الثورة النظرية التي عُزيَت له، بل إلى نسف الفكر العلمي والقضاء على إرادة المعرفة بالكامل.
لكن جيلسون يُواصل، كما هو دأب كلّ مَن عزَّت عليه المقارنات السهلة والتفاضل الهرمي بين مجالات ذهنية لا يجمها جامع، في استنباط الجدّة التي تَميزت بها الديانة المسيحية في حقول الفكر والفلسفة، هذا على الرغم من أنه انطلق مسبقا من مبدإ أن الوحي اليهودي المسيحي ليس من الفلسفة في شيء ولا توجد نقاط تقاطع مشتركة وثابتة بينهما، يقول الوحي المسيحي قد أحدث تأثيرا مُحدِّدا في تطور الميتافيزيقا، حينما أدخل فكرة التماهي بين الله والوجود (Esse). وهذه أدّت إلى تَغيير مُناسب لنظرتنا للكون. إذا كان الله هو الوجود الكلّي، ليس فقط جُملة الوجود (totum esse) بل أيضا الوجود الحق (verum esse) فهذا يعني أن سائرالوجود ليس إلا وجودا جُزئيا ولا يستحق أصلا اسم الموجود (10).
هذا إذن هو جوهر ما يدعوه جيلسون كسبا ميتافيزيقيا عظيما وأفكارا فَذة لم يَرقَ إليها فلاسفة اليونان. وها هي الآن تطفو على السطح ميتافيزيقا الإرادة والجواز والاتفاق التي لا مفر منها، والتي ادّعى راتسينغر بأنها من روح الحضارة العربية الإسلامية وتَتنافى مع اللوغوس اليوناني ومع اللاهوت المسيحي. لقد تفنَّن قَبله اللاهوتيون والفلاسفة المسيحيون في إضفاء هذه الفكرة على الدين المسيحي واعتبروها من بين خاصياته التي تميّزه جوهريا عن الفكر اليوناني وسمحت له بالتفوق عليه وتجاوزه. فلنسمع إلى أقوال المفكر المسيحي جيلسون ما يُميز الفلسفات المسيحية عن الهلنستية، هو بالتحديد أنها ترتكز على فكرة الوجود الإلهي، لم يَرقَ إليها أفلاطون ولا أرسطو. في اللحظة التي يُصَرَّح فيها بأن الله هو الوجود الكلّي، يُصبح من الواضح أن الله فقط هو الموجود (11).
إن هذا المبدأ الأولي البسيط، حسب جيلسون، يُمثّل النقطة الأولى التي انبثق منها كل البناء الفكري للفلسفات المسيحية والتي خَلّفت وراءها عصرا كاملا من الفكر اليوناني لكن وهذا أمر جدير بالاعتبار هذه أيضا أحدى النقاط يعني حضور الحركة في مَوجود ما، يُمَظهر نوعا من نقصان الفعل، التي نرى فيها جليّا كيف أن الفكر المسيحي قد تجاوز الفكر اليوناني، متعمّقا في المَفَاهيم ذاتها التي تجمعهما (12).
كل هذا يعود فضله للتوراة والإنجيل حسب جيلسون المسيحي، أما عند راتسينغر فهو أمر يخصّ الدين الإسلامي فقط، أو بعض التيارات المسيحية المتأخرة (13) أي مبدأ الجواز أو نقص الكمال الذي يضرب في العمق كل الموجودات بحُكم كونها مخلوقات من عدم حينما نقرأ في التوراة والإنجيل وحدة الوجود والماهية في الله، فإن الفلاسفة المسيحيين لا يمكنهم التغاضي عن أنّ الوجود والماهية لا يتّحدان في شيء آخر إلا في الله. وابتداء من ذاك الحين فإن الحركة لم تَعُد تَعني فقط جواز حالات الوجود... بل تعني الجواز الجذري للوجود الذاتي للكائنات المتحولة... ليس فقط من الصواب القول، بأنه باستثناء الله، كل ما هو كائن يمكن أن لا يكون، بل من الصواب أيضا القول بأن هذا الجواز الجذري الذي يضرب العالم، يُضفي عليه طابعا هاما من الجِدّة الميتافيزيقية (14).
حيث يرى جيلسون أن مبدأ الجواز الجذري الذي يلفّ العالم بأسره يُدخل صفة ميتافيزيقية هامة ويَنزع عن العالم هَالة الضرورة، فإن الفيلسوف، على العكس من ذلك، لا يرى فيه إلا انتهازية فكرية، هذا إن لم يكُن في تضارب مع مبادئ العقل ونسفا، من الجذور، لشروط البحث العلمي. لأن هذه الأقوال تُزحزح مفهوما علميا بحتا عن حقله الدلالي وتحوِّله إلى سلاح خطير ضد العلم نفسه الحركة الطبيعية التي هي من المفاهيم الأساسية في فيزياء أرسطو وفي الفيزياء الحديثة، هي مفهوم علمي بالدرجة الأولى إنها، حسب التعريف الأرسطي، استكمال ما هو بالقوة بما هو كذلك، فلو لم يكن هناك شيء بالقوة لما كان هناك خروج للفعل، وإن لم يكن النقصان لما كان الاستكمال ولما وُجِدت الحركة إطلاقا.
ليس في هذا التعريف، أعني تعريف أرسطو للحركة، أيّ ذكر لكلمة الله ولا هو يسمح باستنتاج لاهوت وجواز مطلق في الطبيعة، أو إرادة إلهية فاعلة ومُحدِثة من العدم: إنه مفهوم علمي فقط بكل ما تحمله من هذه الكلمة من معنى.
لكن كل الفلاسفة الذين لم تكن غايتهم البحث النزيه في تاريخ الفلسفة بما هو كذلك، دون إدماج معتقداتهم الدينية فيه، لا يُولون أية أهمية لهذه المفاهيم ولمغزاها الحقيقي، بل إن هدفهم الأوحد يتركز في المنافحة عن الدين وإظهار الجِدَّة حيث لا جدة هناك ثم يواصل جيلسون قائلا بأنه لا شيء أكثر شُهرة من الآية الأولى الواردة في التوراة في البدء خلق الله السماوات والأرض سفر التكوين، وحتى في هذه الآية ليس هناك أثر للفلسفة الله لا يُبرِّر ما يَفعله بطريقة ميتافيزيقية إذا كان الله هو الوجود المطلق، الوجود وحده، فكل ما هو ليس الله، لا يُمكن أن يَستمدّ وجودَه إلاّ منه (15) ثم يخرج جيلسون بالنتيجة التالية وهو أن هذا الكسب الميتافيزيقي دشَّن بوُضوح تقدُّما عظيما في مفهوم الله؛ ولكنه أيضا غيّر، بالتوازي وبصفة لا تقلّ عُمقا، من مفهوم الكون الذي كان قد تُصُوِّر حتى ذلك الحين (16).
ما هي خاصيات هذا التصور الجديد للعالم الذي دشّنَته فكرة الخلق من عدم التي أدخلتها المسيحية؟ هنا نكتشف بكل بساطة ما كان قد عزاه كلّ اللاهوتيّون اليهود، والمسيحيون والمسلمون إلى أديانهم، والتي أصبحت الآن عند المفكرين الكاثوليك المعادين للإسلام من الرّذائل الكبرى لهذه الملل في اللحظة التي يُعتبر فيها العالم الحسِّي نتيجةً لفعلِ خالقٍ، لم يَهبهُ الوجود فحسب، بل يَحفظه في كل الأوقات المتوالية لديمومته، فهو يوجَد في حالة من عدم الإستقلال الذاتي بحيث يكون مطبوعا بالجواز حتى الجذور. عوضا أن يكون مُعلَّقا بضرورة عقل يعقل ذاته أرسطو، فإن الكون سيصبح مُعلقا بحرية إرادة تريده. هذا المنظور الميتافيزيقي هو اليوم بديهي عندنا، لأن العالَم المسيحي ليس فقط هو عالم القديس توماس الأكويني، والقديس بونافنتورا ودونسكوتس، بل هو أيضا عالم ديكارت، لايبنيتز ومالبرانش نحن لا نعي إلا بعسر تغيير وجهة النظر التي تفرضها بالنسبة إلى التصور اليوناني للطبيعة لكن من المستحيل أن نُفكر بجد في ذلك دون أن نشعر بشيء من الرهبة بعيدا عن الصّور، عن التناسق، عن الأعداد، الموجودات نفسها لا تكفي بعد هذا الكون المخلوق، الذي يقول فيه القديس أوغسطينوس، لو تُرك لذاته لماح دون توقّف نحو العدم، لا ينفك في كل آن من تخليصه من اللاوجود، إلا بفضل هبَة الوجود المتواصلة، التي لا يقدر أن يمنحه (الوجود) لذاته أو أن يحفظه لنفسه ليس فيه شيء، ولا يحدث فيه شيء، ولا يفعل شيئا، دون أن يكون وجوده وتغيّره وفعله مُستعار مِن الوجود المستقر والساكن للكائن اللامتناهي (17).
مراجع
1) ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل أو موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول، دار الكتب العلمية، بيروت، 1997).
2) أعني محاضرة البابا في جامعة ريغنزب / /
3) P. BAYLE, PYRRHON, in Dictionnaire histo
rique et critique, Rotterdam 17)40, pp. 7)32 -7)33.
4 P. BAYLE, Ibid, p. 733.
4)يقول أبلاردوس في هذا الشأن: كل الأشياء التي يفعلها الله، فإنه لا يعني بها سعادتنا، بقدر ما يقصد بها عزّته، حتى تلك التي تؤدي إلى هلاك شخص ما».
(Omnium, que Deus agit, non tam ad beatitudinem nostram quam ad gloriam suam convertit, ut illa, que nonnullis nociva sunt). P. ABELARDUS, Dialogus inter Philosophum, Judaeum et Christianum, a cura di Cristina Trov, BUR, Milano 2000, p. 238.
)يقول توماس الأكويني في الخلاصة ضدّ «الكافرين» (Summa contra gentiles) بأن « حقيقة الإيمان المسيحي لا تضادها حقيقة العقل (Quod veritati fidei christianae non contrariatur veritas rationis) ولإثبات ذلك فإنه قام بقياس خاطئ، أعنى ماهى بين الحقائق العقلية الثابتة وبين «الحقائق» المتأتية من التعاليم المسيحية، وبالتالي سهل عليه الإستنتاج بأن الحق لا يضاد الحق. فالحقائق المغروسة في طبيعة العقل الإنساني من الثابت المقرّر أنها من الحقّيّة والصدق بحيث لا يمكن تصوّر كونها باطلة كاذبة. والحقيقة التي نتيقّنها تيقّن الاعتقاد لكون الله أكّد صدقها بأوضح البيّنات فلا يسوغ الظنّ بأنها باطلة. فإذن لما كان الباطل وحده يضادّ الحقّ كما يتّضح من تعريفها كان من المحال أن الحقيقة التي يعلّمها الإيمان المسيحي تقع مضادّة لتلك المبادئ التي يعرفها العقل ببديهية الفطرة». لكن الإشكالية تكمن بالتحديد في مشروعية وبديهية هذا التماهي: فهو غير مشروع لأن «الحقائق» الإيمانية هي حقائق باشتراك الإسم فقط، لأنها خالية من البرهان ولا تنتج معرفة يقينية. ثم إنها غير بديهية بذاتها لأن أصحاب الملل جميعا يدعون بأن إيمانهم لا يناقض العقل. انظر، «S. T. De Aquino, Summa Contra Gentiles Libreri
a
m Vaticanam, Romae 1934, p.6)». انظر أيضا الترجمة العربية: توما الأكويني، مجموعة الردود على الخوارج فلاسفة المسلمين، ترجمة، نعمة الله أبي كرم الماروني، دار ومكتبة بيبليون، بيبليوس لبنان، 2005. ص، 24 25.
6) ابن رشد، ابن رشد، تلخيص الحس والمحسوس. تح. عبد الرحمان بدوي، أرسطوطاليس في النفس، الكويت لبنان 1980. ص 224.
7) G. QUADRI, La filosofia degli arabi nel suo fiore, Edizioni La Vita Felice, 1997), p. 38
أود التنبيه إلى أن هذه القولة أوردها ابن رشد في معرض شرحه عن كتاب الرؤيا لأرسطو، وقد استوحاها من محاورة الدفاع لأفلاطون.
8 )
E. GILSON, Lesprit de la philosophie médiévale, J. Vrin, Paris 1932 (trad, it, a cura di Pia Sartori Treves, Spirito della filosofia medievale, 5 ed., Brescia 1988 pp. 29 30).
9 ) جيلسون، روح فلسفة القرون الوسطى، م. س، ص، 58 59.
10 )جيلسون، ن. م، ص، 85.
11) جيلسون، ن. م، ص، 86).
12) جيلسون، ن. م، ص 88
13) دون سخرية أقول إن الفيلسوف والعالم يتركان أصحاب الأديان تتخاصم فيما بينها ويعمدان إلى دراسة الطبيعة وإشباع نهمهما من العلم.
14) جيلسون، ن. م، ص 88.
15) جيلسون، ن. م، ن، ص.
16) جيلسون، ن. م، ص، 91.
17) جيلسون، ن. م. ص 91.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.