استرجاع مركب شبابي بعد اقتحامه والتحوّز عليه    استعدادات لانجاح الموسم الصيفي    نبيل عمّار يُلقي كلمة رئيس الجمهورية في مؤتمر القمة لمنظمة التعاون الإسلامي    دعوة إلى إصدار القانون المنظّم للعلاقة بين الغرفتين    مشاركة تونسية في معرض الجزائر    برنامج تعاون مع "الفاو"    مع الشروق .. خدعة صفقة تحرير الرهائن    العدوان على غزّة في عيون الصحف العربية والدولية.. حماس في موقف قوة و كل اسرائيل رهينة لديها    الاعتداء على عضو مجلس محلي    اليوم الدخول مجاني الى المتاحف    لتحقيق الاكتفاء الذاتي: متابعة تجربة نموذجية لإكثار صنف معيّن من الحبوب    بنزرت الجنوبية.. وفاة إمرأة وإصابة 3 آخرين في حادث مرور    تدشين أول مخبر تحاليل للأغذية و المنتجات الفلاحية بالشمال الغربي    هند صبري مع ابنتها على ''تيك توك''    شيرين تنهار بالبكاء في حفل ضخم    تونس العاصمة : الإحتفاظ بعنصر إجرامي وحجز آلات إلكترونية محل سرقة    وفاة 14 شخصا جرّاء فيضانات في أندونيسيا    أخصائيون نفسيّون يُحذّرون من أفكار مدرّبي التنمية البشرية    بداية من الثلاثاء المقبل: تقلبات جوية وانخفاض في درجات الحرارة    غدا الأحد.. الدخول إلى كل المتاحف والمعالم الأثرية مجانا    4 ماي اليوم العالمي لرجال الإطفاء.    عاجل/ أحدهم ينتحل صفة أمني: الاحتفاظ ب4 من أخطر العناصر الاجرامية    روسيا تُدرج الرئيس الأوكراني على لائحة المطلوبين لديها    صفاقس :ندوة عنوانها "اسرائيل في قفص الاتهام امام القضاء الدولي    عروضه العالمية تلقي نجاحا كبيرا: فيلم "Back to Black في قاعات السينما التونسية    إنتخابات الجامعة التونسية لكرة القدم: لجنة الاستئناف تسقط قائمتي التلمساني وبن تقية    نابل: انتشار سوس النخيل.. عضو المجلس المحلي للتنمية يحذر    قاضي يُحيل كل أعضاء مجلس التربية على التحقيق وجامعة الثانوي تحتج    عاجل/ تلميذة تعتدي على أستاذها بشفرة حلاقة    كأس الكاف: تونسي ضمن طاقم تحكيم مواجهة نهضة بركان المغربي والزمالك المصري    منع مخابز بهذه الجهة من التزوّد بالفارينة    لهذا السبب.. كندا تشدد قيود استيراد الماشية الأميركية    القصرين: حجز بضاعة محلّ سرقة من داخل مؤسسة صناعية    هام/ التعليم الأساسي: موعد صرف مستحقات آخر دفعة من حاملي الإجازة    القبض على امرأة محكومة بالسجن 295 عاما!!    "سينما تدور".. اول قاعة متجوّلة في تونس والانطلاق بهذه الولاية    التوقعات الجوية لليوم    فتحي عبدالوهاب يصف ياسمين عبدالعزيز ب"طفلة".. وهي ترد: "أخويا والله"    قتلى ومفقودون في البرازيل جراء الأمطار الغزيرة    بطولة القسم الوطني "أ" للكرة الطائرة(السوبر بلاي اوف - الجولة3) : اعادة مباراة الترجي الرياضي والنجم الساحلي غدا السبت    الرابطة 1- تعيينات حكام مقابلات الجولة السادسة لمرحلة التتويج    كأس تونس لكرة القدم- الدور ثمن النهائي- : قوافل قفصة - الملعب التونسي- تصريحات المدربين حمادي الدو و اسكندر القصري    رئيس اللجنة العلمية للتلقيح: لا خطر البتة على الملقحين التونسيين بلقاح "أسترازينيكا"    القصرين: اضاحي العيد المتوفرة كافية لتغطية حاجيات الجهة رغم تراجعها (رئيس دائرة الإنتاج الحيواني)    المدير العام للديوانة يتفقّد سير عمل المصالح الديوانية ببنزرت    تصنيف يويفا.. ريال مدريد ثالثا وبرشلونة خارج ال 10 الأوائل    فيلا وزير هتلر لمن يريد تملكها مجانا    إنه زمن الإثارة والبُوزْ ليتحولّ النكرة إلى نجم …عدنان الشواشي    حجز 67 ألف بيضة معدّة للإحتكار بهذه الجهة    بطولة افريقيا للسباحة : التونسية حبيبة بلغيث تحرز البرونزية سباق 100 سباحة على الصدر    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    قرعة كأس تونس 2024.    التلقيح ضد الكوفيد يسبب النسيان ..دكتور دغفوس يوضح    دراسة صادمة.. تربية القطط لها آثار ضارة على الصحة العقلية    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    العمل شرف وعبادة    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أفكار أوّليّة حول «ديانة التّقدّم» الحديثة
تعريب: المنتصر الحملي
نشر في الشعب يوم 07 - 04 - 2007

كيف يستطيع الغربيون، في نفس اللّحظة الّتي تتفتّت فيها ثقافتهم، الاستمرار في الإيمان بتفوّق ما يسمّونه»الحضارة» إنّهم يتباهون بأنّهم قد قضوا، بفضل العقل، على كلّ الخرافات الّتي كان النّاس التّقليديون ضحيّتها. ولكن، لماذا لا ينتبهون إلى أنّ الإيمان بالعقل يمكن أن يكون هو ذاته خرافة ؟ لقد اشتبه فرنسيس باكون Francis Bacon، الّذي شرّفه الغرب بأنّه رائد الحداثة، في وجود هذا الفخّ حين كتب: «إنّ الإصرار على تجنّب الخرافة المعتادة يوقعنا أحيانا في نوع آخر من الخرافة». إنّ من مصلحة الغربيين بكلّ تأكيد أن يفكّروا مليّا في هذه الجملة الصّغيرة.
سيسمح لهم ذلك أوّلا، بأخذ مسافة في علاقتهم بالعقل. ولنذكّر بأنّ جمهورا كبيرا مازال يتصوّر في نهاية القرن العشرين بأنّ العقل لا صلة له البتّة بالأساطير والمعتقدات الدّينيّة. وذلك بالرّغم من أنّ العديد من الخبراء أكّدوا أنّه من الوهم وضع الأسطورة في تعارض مع العقل بهذا الشّكل التّبسيطيّ. ببنيتهما وبنمط اشتغالهما، يتّصل الواحد منهما بالآخر بصلات وثيقة. وكما لاحظ ذلك جون فرانسوا ماتّيي Jean-François Mattéi، «نجد في أصناف العقلانيّة صدى للتّصوّرات الدّينيّة القديمة» والأكيد أنّ المحدثين يحكمون على هذا القول بأنّه مضجر كثيرا، لأنّهم لا يريدون الاعتراف بأنّه «في كلّ فكر عقلانيّ يوجد بلا شكّ بعد رمزيّ يظلّ غامضا عليه». ورغم جهود الباحثين، فهم يفضّلون تجاهل أنّ «العقلانيين» اليونانيين القدامى قد استلهموا كثيرا، في دراستهم للطّبيعة، من التّأويلات الّتي كانت تقدّمها الأساطير.
العظيم أفلاطون نفسه، لم يقم بتطوير علم الفلك إلاّ بفضل تصوّر دينيّ محض للنّظام الكونيّ. في كلمتين، كان يعتقد أنّ إلها «عقلانيّا» شكل متعال قد صنع العالم كذلك بشكل «عقلانيّ». فإذا كانت الكواكب تتحرّك في السّماء وفق قوانين رياضيّة بسيطة فذلك لأنّ اللّه أرادها كذلك. إذن فإنّ علم الفلك الممهور «بالعلميّة» قد انبنى على أسطورة. لأنّ الاعتقاد في وجود اله كامل وفي أنّ هذا الإله قد صنع العالم وفق مبادئ هندسيّة صارمة، يساوي الاعتقاد في أسطورة. ديكارت، أستاذ فكر المحدثين، لم يسلك نهجا مختلفا عن نهج أفلاطون في بناء مذهبه في العقل، الفرق الوحيد بينهما يتمثّل في أنّه ارتكز على الرّواية المسيحيّة لأسطورة الإله. يكفي الرّجوع إلى النّصوص للتّأكّد من ذلك: الإله عند ديكارت هو في نفس الوقت مصدر «العقلانيّة» الكونيّة وضامن لها. الإيمان باللّه والإيمان بالعقل، هما الشّيء نفسه.
لم يتردّد مؤرّخو العلوم ممّن يمتلكون قدرا من استقلالية الفكر في الاعتراف بذلك. كتب كارل بوبّر Karl Popperسنة «أغلب النّظريات العلميّة متأتّية من الأساطير. فالنّظام الكوبرنيكي مثلا يجد منشأه في شغف الأفلاطونيين الجدد بنور الشّمس، هذا الكوكب الّذي تؤهّله رفعته ليحتلّ مكانا مركزيّا». وكان أميل دوركهايم Emile Durkheim قد قال ما هو أساسيّ قبل ذلك بخمسين سنة «ليس الفكر العلميّ سوى شكل أكثر اكتمالا للفكر الدّينيّ». وقال أيضا: «إنّ المبادئ الأساسيّة للمنطق العلميّ أصلها دينيّ». لو ينتبه الغربيون إلى هذه الملاحظات سيكون باستطاعتهم ربّما أن يكونوا أقلّ دوغمائيّة وأقلّ استخفافا بالأساطير. وبالأخصّ سيكون بإمكانهم ربّما أن يلقوا نظرة نقديّة على ثقافتهم الخاصّة بهم.
هذه النّقطة، من وجهة نظرنا، تكتسي أهمّيّة بالغة: إنّ أسطورة العقل لم تساعد فقط على تقويض أساطير ومعتقدات الغربيين القدامى والمجتمعات غير الغربيّة، بل أيضا ضلّلت المحدثين عن أنفسهم. ولأنّهم تحديدا اعتبروا العقل بمثابة حجّة عليا، بمثابة معيار مفضّل، فقد صاروا عاجزين عن فهم إلى أيّة درجة ضيّق عليهم وفقّرهم هذا العقل نفسه. فهم لا فقط لا ينتبهون إلى أنّ «مناهجهم» واستراتيجياتهم تفضي إلى مجتمع أقلّ فأقلّ إنسانيّة، بل أيضا يستمرّون في إدانة الاحتجاجات الّتي تعارضهم بدعوى أنّها «عاطفيّة».
هم الّذين كانوا يتهكّمون على الكنيسة، ها يتصرّفون مثل الأحبار. فلقد عثرنا مثلا على وثيقة مهمّة صارت مشهورة باسم نداء هيدلبيرغ « .»appel de Heidelbergكانت نوعا من الرّسالة البابويّة أذيعت عشيّة قمّة الأرض في ريو دي جينيريو في جوان 1992. وقّع على هذا النّداء 52 حائزا على جائزة نوبل ومجموعة كبيرة من العلماء ووجّهوه إلى رؤساء الدّول والحكومات. وقد أعلنوا فيه بأنّ النّضال البيئيّ «معاد للتّقدّم العلميّ والصّناعيّ». ينبغي إذن أن يخضع علم البيئة (بالمعنى السّياسيّ للكلمة) إلى الرّقابة الصّارمة للعلماء، وإلاّ فإنّ الأسوأ سيقع بسبب هذه «الإيدولوجيا اللاّعقلانيّة». إنّ مثل هذه التّدخّلات ما كان لها أن تصبح ممكنة وأن تعتبر مشروعة لو لم تكن المجتمعات المسمّاة متقدّمة متأثّرة بالتّأكيد بعدد من التّصوّرات الأسطوريّة. ولقد رأينا أنّه من المستحسن أن ننكبّ على بعض الخرافات الخاصّة بالغرب الحديث وبالأخصّ على أسطورة التّقدّم. فهي تمثّل فعلا فائدة مزدوجة. من ناحية أولى، توضّح أسطورة التّقدّم بكيفيّة شبه مثاليّة مفهوم التّشفير الأسطوريّ cryptomythe هكذا يسمّي الأستاذ ديبان Dupin كلّ معتقد أسطوريّ غير معلن ومتستّر تحت مظاهر»عقلانيّة .» ومن ناحية ثانية، فهي تبيّن لماذا تفلت مثل هذه المعتقدات، حتّى حين يكون لها نتائج كارثيّة، من أيّ نقد جدّيّ.
رسميّا، يكاد من البديهيّ القول إنّ عبادة التّقدّم ليست فرضا إجباريّا. غير أنّ مأمنا مشتركا يلوذ به الجميع :»لا يمكننا السّير ضدّ التّقدّم». الغربيّ الأصيل هو من يهتزّ عند ذكر التّقدّم العلميّ والتّقنيّ، هو من يتلذّذ بكلّ الإبداعات التّجاريّة والصّناعيّة، هو من يتحرّق شهوة حين يحدّثونه عن أسلوب جديد، عن آلة جديدة، عن لهوة جديدة. ولكي تظلّ الدّول قويّة، عليها أن تخترع أسلحة أكثر فتكا، ولكي تفوز الشّركات في سباق الإنتاج والرّبح، عليها أن تضع استراتيجيات جديدة، أن تصنع منتجات جديدة، أن تطوّر تكنولوجيات جديدة، الخ. في جميع الميادين، يتجلّى هجاس التّقدّم من خلال بحث لا يكلّ عن التّغيير، عن التّجديد. الجديد هو بالتّعريف الأفضل. لتمجيد نوع من الشّمبوان، لجعل ثوب ما يباع، يكفي إلصاق التّسجيل السّحريّ التّالي عليه: جديد. ويظهر الإشهار امرأة تعلّق: «أنا، مع السّبق، مع التّقدّم». عندما يؤكّد صناعيون أو تكنوقراطيون الصّبغة التّقدّميّة لهذه المبادرة أو لذاك المشروع، فمن الصّعوبة بمكان الاعتراض على ذلك. إنّهم على الفور يستفيدون من حكم مسبّق مؤيّد لهم، وعلى المعارضين عند اللّزوم أن يبيّنوا كيف أنّ هذا التّقدّم المزعوم ليس مفيدا بل وخطير. وهي مهمّة حسّاسة للغاية، لأنّ الاعتراض على الشّهيّة النّهمة للتّحديث أو التّجديد يعني تعريض النّفس إلى خطر معاملتها على أنّها ماضويّة رجعيّة.
إنّ كلمات تجديد، وحداثة، وتقدّم، هي في أيّامنا هذه مترادفات، ويتعلّم السّكّان في عمومهم بطريقة تجعلهم يمتثلون بسرعة متفاوتة إلى أيّ مقترح يمكنه بشكل أو بآخر أن ينتسب إلى التّقدّم. وقد تمّ تشكيل صيغة جميلة جدّا لتعيين أولئك الّذين يرفضون التّقدّم الأعمى: إنّهم يتّهمون ب»مقاومة التّغيير». قد يبدو هذا غريبا، لكنّ الشّواهد على ذلك دامغة. إنّ أنصار التّقدّم لم يعودوا يعبّرون حتّى عن الحاجة إلى أن يطرحوا على أنفسهم الأسئلة الجوهريّة الّتي لخّصها الأستاذ ديبان كما يلي: «أيّ أسلوب للحياة نحن بصدد إنشائه؟ في أيّ اتّجاه نقوم بتغيير العلاقات بين النّاس وبين الجماعات الإنسانيّة؟ أيّ مكان نتركه للمستقبل، للحياة الرّوحيّة، للشّعر».
يتساءل العديد من الصّحافيين والعديد من المفكّرين والعديد من علماء الاجتماع «المحدثين» كيف يمكن أن يوجد حتّى الآن مواطنون متخلّفون جدّا، في عصر المفاعلات النّوويّة، والحواسيب، والجراحة الجينيّة، يقاومون التّغيير. وعند الاقتضاء، كما يذكّر بذلك جون جاك سالومون Jean-Jacques Salomon، يطير أتباع فرويد لنجدة التّقدّم، بالقول إنّ المواطنين غير الأسوياء وحدهم يمكنهم أن يخافوا من الابتكارات التّقنيّة عموما ومن المفاعلات النّوويّة خصوصا. وتتمثّل طريقتهم في نبش الجهاز النّفسيّ»للمضادّين للحداثة» ليكتشفوا ما يوجد في هذه المقاومة للتغيّر التّقنيّ «من قمعيّ، من رفض للأب، من كبت أوديبيّ وجنسيّ». هذه التّوضيحات تمكّننا من أن نلمح الصّعوبة البالغة في نقد التّقدّم. إذ على الفور نعرّض أنفسنا لأن تعامل على أنّها «مكبوتة»، أي مريضة.
إنّ الّذين يتمّ اعتبارهم سليمين وأسوياء، هم الآخرون، هم المتحمّسون للتّجديد. ويأتي في طليعتهم الصّناعيون والتّكنوقراطيون ورجال الإشهار وأيضا رجال السّياسة. واحد منهم حاول أن يعلي من قيمة أفكاره بالتّأكيد على أنّها تبشّر بالانفجار الكبير Big Bang. هذه الهيمنة المقتبسة من مجال علم الكون معنيّة بأن تجعل ذهن الجمهور يستحضر صورا نموذجيّة في تقدّميّتها وبالتّالي في تهييجها. فكيف وصل الغرب إلى الاعتقاد بأنّ التّقدّم يمكنه أن يشكّل أساسا لثقافة أصيلة؟
حتّى نتجنّب سوء الفهم، لندقّق معنى المشكل الّذي شدّ انتباه فريقنا الباحث. ليس الأمر اعتراضا على الواقعة الأساسيّة التّالية وهي أنّ الإنسانيّة أنجزت «تقدّما» باستمرار. فمنذ العصر الحجريّ والتّقنيات تتحسّن. حتّى المجتمعات المسمّاة «بدائيّة» قد حسّنت في وسائل إنتاجها. وعلى تعاقب القرون، وحتّى إن لم تكن الحركة متّصلة، كان هناك إذن تقدّم: تقدّم تقنيّ بالتّأكيد وتقدّم في مجال الأخلاق من غير شكّ. في نظرنا، لا شيء من كلّ ذلك يستدعي النّقاش حقّا. إنّ موضوع فضولنا هو عبادة التّقدّم، وبتعبير آخر، هو البحث الإراديّ المنهجيّ والدّائم عن الإتقان والجدّة. بتعبير أدقّ، نريد أن نتساءل حول ما آلت إليه هذه العبادة في أواخر القرن العشرين في المجتمعات»المتقدّمة». يبدو أنّ معتقدين اثنين قد لعبا دورا مهمّا: أوّلهما أنّ أيّ فكر عقليّ يجب عليه أن يمارس عبادة التّقدّم، وثانيهما أنّ هذه الممارسة تقود بالضّرورة إلى السّعادة وحتّى إلى الفضيلة.
من أين جاءت هذه العقيدة الغريبة؟ كيف استطاع المحدثون ألاّ يروا فيها أسطورة من نوع خاصّ؟ في أيّ ظروف ملموسة تشكّلت؟ من الواضح أنّ تقليدا طويلا قد أدّى إلى ظهور مسألة التّقدّم. وهكذا عدنا القهقرى حتّى وصلنا إلى من كان بلا شكّ مدّاحه الأكثر تأثيرا، إنّه ماركيز دي كوندورساي .Condorcet فحسب رأيه، «إنّ الإتقان اللاّمحدود» ناتج عن «قانون عامّ للطّبيعة». لقد كان لمثل هذا القول انعكاسات خطيرة. فكيف يمكن لإنسان متحضّر أن يشعر بأنّه مسموح له الاعتراض على قانون طبيعيّ؟ باسم التّقدّم، ستكون كلّ أشكال الابتزاز ممكنة في المستقبل. وجميع الّذين يبدون تحفّظهم على الإبداعات الّتي يمجّدها رجال الصّناعة والمهندسون والتّكنوقراطيون والأطبّاء سيتّهمون برهاب الجديد néophobie وبالظّلاميّة، لأنّ مملكة التّقدّم هي مملكة العقل. لقد أعلن عن ذلك كوندورساي، بحماسة «الصّوفيغوجي» mystagogue، في:»مخطّط إجمالي لرسم تاريخيّ لتقدّم العقل البشريّ» Esquisse dصun tableau historique des progrès de lصesprit humain ( 1793): «ستأتي إذن هذه اللّحظة الّتي لن تسطع فيها الشّمس إلاّ على أرض النّاس الأحرار الّذين لا يعترفون بسيّد آخر سوى العقل.»
لقد تبيّنّا بسرعة أنّ هذا الرّسم التّاريخيّ كان يمثّل وثيقة استثنائيّة. ومثلما قال الأستاذ ديبان، كان بحقّ أفضل مختصر يمكن أن نجده من بين جميع الخرافات الحديثة. على طريقته، كان كوندورساي بيداغوجيّا كبيرا ورسولا كبيرا. فرسمه التّاريخيّ لم يكن فقط ينشر معتقدات سيكون على كتابنا «الانفجار الدّاخليّ الكبير» أن يظهر بطلانها، بل كان أيضا يصوغ تأويلا صارما للتّاريخ من شأنه أن يكبح تماما أيّ تفكير نقديّ عن «الحضارة». وفي هذه المقدّمة، سنقتصر على بعض الملاحظات.
الفكرة الأهمّ في هذا المؤلّف هي أنّ الإنسانيّة منظورا إليها في عمومها تسير منذ بداياتها نحو أوضاع ممتازةباستمرار. يا لها من فكرة مبهجة يترتّب عنها أنّ الغد سيكون أجمل من اليوم. ما هو المحرّك الأساسيّ لهذا التّقدّم السّرمديّ؟ إنّها الأنوار. أي العقل وأساسا العلم. لقد أكّد ذلك كوندورساي في خطاب حفل استقباله في الأكاديميّة الفرنسيّة»أيّ اكتشاف هو خير للبشريّة». هذا التّأكيد يجعلنا مبهوتين، فكيف استطاع كوندورساي أن يشرّع لنفسه أن يعلن أنّ أيّ اكتشاف ، مهما كان، سيكون مفيدا للبشريّة؟ إنّه يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك: فعن طريق الدّراسة العلميّة للإنسان، سيكون ممكنا إيجاد «فنّ اجتماعيّ» يسمح لنخبة نيّرة بقيادة الإنسانيّة نحو السّعادة. هنا، كان كوندورساي على قدر كبير من الفصاحة. فغدا ستتأسّس علوم يكون موضوعها «الإنسان نفسه» ويكون هدفها «السّعادة»، وهذه العلوم حسب رأيه «لن يكون تمشّيها أقلّ ثباتا من تمشّي العلوم الفيزيائية».
هكذا تمّ الإعلان عن المبدأ الكبير المؤسّس للتّكنوقراطيا. لم يكن كوندورساي يتردّد في اعتبار أنّ إصلاح القوانين والمؤسّسات الاجتماعيّة نتيجة منطقيّة لتقدّم العلوم. «وأنّ استعمال الرّياضيات كان يمثّل ضمانة إضافيّة»: إنّ تطبيق حساب التّوفيقات calcul des combinaisons والاحتمالات على هذه العلوم نفسها يبشّر بتقدّم أكثر أهمّيّة، حتّى ) أنّه أي التّطبيق( يعتبر الطّريقة الوحيدة لإضفاء الدّقّة الرّياضيّة تقريبا على نتائجها وفي الوقت نفسه لتقدير درجة يقينها واحتمالها.» وهكذا أعلن منذ تلك اللّحظة عن نشأة نوع من الاستبداد الثّقافيّ الّذي سينتشر بشكل بارز في نهاية القرن العشرين، هو استبداد رجال الاقتصاد المشهورين والتّكنوقراط والمختصّين في الهندسة الاجتماعيّة واستراتيجيي التّنظيم والمخطّطين الخ. هذه هي فلسفة التّقدّم: الإيمان بوجود «علم يتكهّن بتقدّم النّوع البشريّ، يوجّهه، يسرّع فيه». نفهم من ذلك أنّ جميع مدّاحي الحداثة قد عبدوا كوندورساي. ألم يكن له الفضل في إنجاز قطيعة كاملة مع الشّعر؟ وأخيرا قيل ما قيل بشكل ليس فيه أيّ لبس: إنّ الشّعور والتّفكير شعريّا يعتبران من القدامة، والحال أنّ القدامة كانت تعتبر خطأ. من المؤكّد أنّ دراسة المجتمعات القديمة مفيدة من النّاحية العلميّة، غير أنّ الماضي من النّاحية الثّقافيّة كان لا بدّ من استبعاده. يقول كوندورساي» أحكامنا المسبّقة والآلام المتأتّية منها، ألا يعود أصلها إلى الأحكام المسبّقة لأجدادنا».
جدير بنا أن نلاحظ أنّ هذا الاحتقار للخطأ محفور في قلب العقيدة نفسها. ومثلما قال الأستاذ ديبان، «لم يشأ المحدثون إطلاقا أن يروا إلى أيّ حدّ كانت ديانة التّقدّم مدرسة للاحتقار». وإذ هم منوّمون بالوعود التّقدّميّة، يرون من الطّبيعيّ أن يتمّ وصف الإنسانيّة الماضية في عمومها بعلامات مقيتة وكريهة بشكل منهجيّ. لو صدّقنا كوندورساي، فإنّ المجتمعات التّقليديّة لا تتضمّن سوى «طبقتين» من البشر: طبقة المخادعين وطبقة المخدوعين. المخادعون بالطّبع كانوا هم الأسياد والكهنة المتساوون في النّفاق والفجور، والقادرون فقط على «تحسين فنّ خداع البشر لنهبهم». أمّا المخدوعون فكانوا أمثالهم من الجماهير المخبولين تماما والسّذّج كلّيّا. حتّى اليونانيون القدامى تمّ الحكم عليهم بقسوة. وكان ذكر المسيحيّة القروسطيّة مناسبة لتجاوزات جميلة حول «تعصّب الكهنة وحول جهودهم في سبيل الاستحواذ على السّلطات السّياسيّة وحول جشعهم الفاضح وحول فساد أخلاقهم»، الخ. عندما نعيد قراءة كوندورساي، لا يمكننا أن نتخلّص من بعض الحيرة: فإذا كان النّاس القدامى يعيشون بمثل هذه الطّريقة المشينة، وسط كلّ تلك الخرافات وكلّ ذاك الفساد، يسحقهم كلّ ذلك الطّغيان، فكيف نتصوّر ظهور التّقدّم الشّهير؟
لحسن الحظّ أنّ كوندورساي نفسه يطمئن مؤيّديه بحديثه عن «التّقدّم الطّبيعيّ للحضارة». كانت تفاؤليّته كما يلي: الحضارة هي بشكل ما (لنفهم الحضارة كما كانت تدركها أوروبّا البرجوازيّة في القرن الثّامن عشر) تتويج ضروريّّ لسيرورة طبيعيّة. وهي سيرورة معقّدة وأحيانا مرتبكة (لأنّ كوندورساي كان أوّل من ذكر وجود العديد من فترات التّراجع( ولكنّها حتميّة. وبطريقة لافتة للنّظر، كان كاتبنا يلحّ على الدّور الأكبر للأنشطة التّجاريّة والصّناعيّة، الّتي أعطت «عبر تسلسل ضروريّ» دفعا جديدا لكلّ العلوم ولكلّ التّقنيات. ومنها تحقّق تقدّم كثير في إنتاج «الموادّ الاستهلاكيّة الأكثر شيوعا». وكلّما تطوّرت المعارف تحت ضغط الاقتصاد، صارت الصّناعة، بمساعدة نور العلوم، ناجعة. إنّه من السّهل فهم لماذا استهوى الرّسم التّاريخيّ كثيرا المحدثين. فهذا الكتاب، وهو حقّا أثر من آثار اللاّهوت اللاّئكيّ، كان يقدّس ويشرّع جميع الأنشطة الّتي سوف تفضي إلى مجتمع الاستهلاك. وبفضل مزيج بارع، كان تقدّم الاقتصاد البرجوازيّ يتطابق مع تقدّم العقل. وللاحتفاء بما كان يسمّيه «الحضارة»، لم يكن كوندورساي يتردّد ببساطة في ذكر «تفوّق أنوارنا ومنافع تجارتنا». كانت الطّبيعة تتقن عملها. وبكيفيّة لا تقهر، كانت توجّه التّاريخ نحو الهدف الأسمى التّالي: انتصار رجل الأعمال المستنير. هكذا توفّر مسبّقا الجواب على السّؤال الّذي طرحه سنة 1864 الشّاعر فيدور دستويفسكي Fedor Dostoïevski: «كيف تعرفون أنّه بمستطاعنا ، أنّه يجب علينا، تغيير الإنسان؟» تغيير الإنسان كان يعني تمدينه (كان كوندورساي يحبّ كثيرا هذه الكلمة) ولم تكن مؤسّسة الحضارة تلك حقّا فقط، بل كانت واجبا أيضا. بل وأكثر من ذلك، واجب يفرضه العقل. وعلى امتداد قرنين، تعاملت نخب الغرب بجدّيّة مع كوندورساي. ومن نتائج ذلك أنّ الاحتقار الّذي تحدّث عنه ديبان عبّر عن نفسه وقوي في إطار تنظير خطير. بالفعل، إنّ الإقرار بقانون التّقدّم يعني وضع المتحضّر على قمّة تراتبيّة اعتبرت مطلقة. فحسب كوندورساي، إنّ «الة التّحضّر»«هي تلك الّتي بلغها « الفرنسيون والأنغلو- أمريكيون». ثمّ يردف قائلا: «هذه المسافة الهائلة الّتي تفصل هذه الشّعوب عن عبوديّة الهنود، وبربريّة العشائر الإفريقيّة، وجهل المتوحّشين، هل ينبغي أن تتلاشى شيئا فشيئا؟» هكذا كان، لو جاز لنا القول، قفا الفلسفة التّقدّميّ. فمن أجل الهيام بالحضارة المزعومة، كان ينبغي في الوقت نفسه تأكيد دونيّة الثّقافات الأخرى. فالهنود والأفارقة والمتوحّشون الآخرون كانوا يمثّلون في أفضل الأحوال عشائر بدائيّة، بدايات غير كاملة إلى أقصى حدّ لما كان يجب أن تكونه الأمم المتحضّرة بشكل حقيقيّ.
في نظر كوندورساي، كان من الواضح أنّ الحكماء الشّرقيين يشدّون شعوبهم «إلى عبوديّة لا مناص منها وإلى طفولة أبديّة». وهكذا أعلن»الانحطاط الأزليّ لتلك الدّيانات الكبرى للشّرق» الّتي ميّزها ،من بين ما ميّزها به، «بإذلال كهنتها». لاحقا، عاد المحدثون مرّات عديدة إلى مثل تلك النّبوءات. وكان أكثرها هزلا بلا شكّ النّبوءة التّالية لأرنست رينان Ernest Renanالمتعلّقة بالإسلام «سيتلاشى دين الإسلام بفعل العلم الأوروبّيّ وحده، وقرننا هو الّذي سيذكره التّاريخ باعتباره القرن الّذي بدأ منه وضع أسباب هذا الحدث العظيم. إنّ الشّبيبة الشّرقيّة القادمة إلى مدارس الغرب لنهل العلم الأوروبّيّ ستحمل معها عندما تعود اللاّزمة الموحّدة التّالية: المنهج العقليّ، والفكر التّجريبيّ، ومعنى الواقع، واستحالة الاعتقاد في عادات دينيّة تدرك بالتّأكيد دون أيّ نقد».
باختصار، إنّ أنصار العقل والتّقدّم على درجة كبيرة من الغرور، غير أنّهم لا يتأثّرون بكلّ ما يتجاوز معتقداتهم الخاصّة. فليس غريبا إذن أنّهم لا يفهمون الشّيء الكثير من القضايا الّتي يثيرها الإسلام عشيّة الانفجار الدّاخليّ الكبير. دعونا نشر إلى أنّ أفكار كوندورساي قد أخذها عنه وحوّلها إلى عقائد عالم الأنساب الأمريكيّ لويس هنري مورغان Lewis Henri Morganسنة 1877. فبالاعتماد على تأمّلات من النّوع التّطوّريّ، أدرك تطوّر الإنسانيّة على أنّه سيرورة موحّدة وموجّهة. فالبشر كانوا أوّلا متوحّشين (أي تقريبا بهائم)، ثمّ صاروا، بفضل جرعة صغيرة من التّقدّم، برابرة، وأخيرا، صاروا جديرين تماما، بفضل مجهود حاسم، بأن يطلق عليهم العنوان الجميل: متحضّرين.
لقد تمّ تعميم هذا الرّسم تعميما واسعا، وبفضل وصفته الواضحة، وفّر للغربيين ارتياحا محقّقا. توحّش، بربريّة، حضارة، إنّها متتالية مشجّعة تماما. ولكن، كيف لم ير العقلانيون المزعومون الفخّ؟ لقد أودى بهم استيهام التّقدّم، في شكله هذا، إلى ضرب من الانغلاق الرّوحيّ سيكون لهم قاتلا. في الحال فعلا، تنطوي عقيدة «التّقدّم» على نفي أو احتقار كلّيّ لكلّ الأساطير»البدائيّة». لقد وقع شطب الماضي الثّقافيّ للغرب نفسه بجرّة قلم واحدة. وها أنّنا نتبيّن اليوم كلّ ما هو عنيف في ذلك الاختيار. فبضربة واحدة، قضي على جميع كنوز الشّعر والحكمة الّتي استطاع مراكمتها «المتوحّشون» و»البرابرة»، وجرّدت من أيّة دلالة ملموسة. وفي أفضل الحالات، بقيت بمثابة «ذكريات طفولة» أو نوادر متحفيّة.
ما هو أكثر فظاعة، كما يقول ديبان، أنّ عقيدة التّقدّم تقدّم هذا النّوع من المجزرة الثّقافيّة على أنّه قائم على العقل، على أنّه مثبّت علميّا «بقانون عامّ للطّبيعة». من هنا تتأتّى الأهمّيّة الّتي أولاها فريقنا لكوندورساي ولأمثاله. بتبنّيه العقائد التّقدّميّة، حكم الغرب على نفسه بعدم القدرة حتّى على إصلاح أخطائه. فمهما كانت الإحباطات، يتقدّم المحدثون بطريقة عمياء في درب التّقدّم والضّيّق، ومازالوا يطالبون بعلوم أكثر، بتقنيات أكثر، بنموّ اقتصاديّ أكثر، بتكنوقراطيا أكثر، الخ. تجريديّا، من المباح لنا وتصوّر أنّ الغرب بإمكانه أن ينجو من هذا المسار المتفجّر وأن يتجنّب الانفجار الدّاخليّ الكبير. غير أنّ كوندورساي، إن أمكننا القول، كان الأقوى.
إحدى مزايا التّقدّم، حسب رأيه، أنّه سيحمل للنّاس «السّعادة». ولكن، ما هي السّعادة؟ ليس بالإمكان الآن تقديم شرحا ضافيا. لنشر فحسب إلى أنّ كوندورساي كان يحبّ الحديث عن»المتع» الّتي يوفّرها التّقدّم للبشر، وكان يصفها، من خلال ألفاظ كمّيّة باردة، بالنّجاعة الاقتصاديّة أو التّقنيّة. في كلمتين، كان يدلي بفكرة واعدة سيكون لها مستقبل كبير: إنّ السّعادة حقيقة قابلة للقياس.
تحسين النّوع البشريّ مثلا، يعني جعل النّاس يعيشون عمرا أطول «سيأتي زمن، يقول كوندورساي، لن يكون الموت فيه إلاّ نتيجة لحوادث طارئة أو لتلف أكثر فأكثر بطئا للقوى الحيويّة». بالطّبع لن يصبح المرء خالدا، ولكنّ «الأجل المتوسّط للحياة البشريّة» يمكن أن يقع التّمديد فيه بكيفيّة غير محدّدة. وباعتباره رياضيّا بارعا، استغلّ كوندورساي ذلك ليشرح مطوّلا ما معنى كمّيّة غير محدّدة. لم يكن هناك مجال للشّكّ: إنّ مدّة الحياة، علميّا، هي كمّيّة من هذا النّوع. لقد تحوّلت قضيّة الموت إذن إلى مسألة رياضيّة وتقنيّة: كيف نضبط طرقا بيو- طبّيّة تمكّننا من تأخير لحظة الموت بشكل غير محدّد؟ إنّنا نمسك هنا بنصّ من تلك النّصوص التّأصيليّة الّتي ستكون عزيزة على الأستاذ ديبان، وبمؤلّف من تلك المؤلّفات الملهمة الّتي بفضلها ينحت مجتمع ما لنفسه أسلوبا. ولو كان بإمكان كوندورساي أن يبعث من جديد لزيارة أوروبّا القرن العشرين، لشعر بكلّ تأكيد بالسّعادة وهو يرى كم كان أتباعه أوفياء له وهم يقتدون به.
ذلك أنّ الإحصائيات في القرن العشرين تبرهن لنا بالفعل أنّ معدّل حياة الإنسان قد ارتفع، خصوصا لدى النّساء. ويعلن البيولوجيون والأطبّاء والصّحافيون، بشكل منتظم، إلى الجماهير عن تقدّم مذهل. 70 سنة، 75 سنة، 80 سنة، ثمّ سنة أخرى، ثمّ أيضا سنة أخرى. وفي كلّ مرّة يحطّم فيها الرّقم القياسيّ، يكون التّهليل. يحيى التّقدّم! ولكن، كان على باحثينا أن يلاحظوا أنّه في الوقت نفسه يزداد المسنّون تهميشا، ويزدادون انقطاعا عن المجتمع وعن»الحياة الحقّ». وفي المدن خصوصا، أي في الأماكن الّتي تزدهر فيها بقوّة عبادة التّقدّم، يزداد باستمرار إبعاد الشّيوخ والعجائز إلى مدافن (أي إلى مؤسّسات مختصّة حيث يكمل من هم في العمر الثّالث بقيّة أيّامهم بعيدا عن الأنظار . إنّنا لا نكاد نستوعب بأيّة معجزة يستطيع الغربيون في نفس الوقت أن يحتفلوا بانتصارات علم الشّيخوخة وأن يقصوا باستمرار المزيد من الأشخاص المسنّين؟ هل حسّن كوندورساي فعلا، بهجاسه الكمّيّ، في الثّقافة؟
البعض من باحثينا تفحّص هذا الدّرب واكتشف أنّ القاعدة التّالية (لا وجود لتقدّم حقيقيّ إلاّ في إطار ما هو قابل للقياس) لها انعكاسات عجيبة. ذلك أنّ ما هو قابل للقياس في الغرب الآيل للزّوال هو بالتّحديد المال. لقد وصل المحدثون رويدا رويدا إلى الخلط بين «السّعادة» ومستوى العيش» لنذكّر بأنّ هذا الأخير قد وقع تعريفه على أنّه «مجموع الخيرات والخدمات الّتي يمكن للمرء أن يتمتّع بها». فهو إذن قابل للقياس بسهولة. ولكن، ما الّذي يعنيه من وجهة نظر إنسانيّة؟
في بعض الحالات، يبدو لنا أنّ لمفهوم «مستوى العيش» معنى واضحا. ف»تأمين مستوى عيش لائق بالجميع» هي قطعا صياغة مفهومة. غير أنّ هذا المفهوم لا يحيل حقّا بشكل أوّليّ إلى المثل الإنسانيّة، أو إلى مشروع يشجّع على قيم كالأخوّة والعدالة الاجتماعيّة. إنّه أساسا مفهوم اقتصاديّ مبنيّ على معتقدات خرقاء. فالغربيون يتصوّرون مثلا أنّ إنسانا ما لو يثلّث من مستوى عيشه فسوف يصبح ثلاث مرّات أكثر سعادة. هكذا ندرك إذن ما يعنيه السّباق نحو السّعادة من وجهة نظر حداثيّة: فأن تملك ثلاث سيّارات عوضا عن واحدة يعني أنّك تثلّث كمّيتك في السّعادة.
خلف الإعلانات الكبرى لكوندورساي، كان يختفي بالطّبع مجتمع الاستهلاك. غير أنّه لم ير شيئا من ذلك كلّه. ولأنّه كان بلا شكّ مأخوذا بنواياه الكريمة، ترك نفسه تنتشي بخطابه الذّاتيّ عن»قابليّة تحسين» البشر، إلى درجة أنّه جرؤ على كتابة هذه الجملة «شيئا فشيئا، سوف تتلاشى الأحكام التّجاريّة المسبّقة». كان يعني بهذا أنّ المجتمعات التّجاريّة تبرهن على حكمة وعلى جودة متعاظمتين باستمرار «إنّ مصلحة تجاريّة ما مغلوطة ستفقد قدرتها الشّنيعة على إدماء الأرض وتخريب الأمم بذريعة إغنائها». فعليّا، سيعمّ الجنون التّجاريّ ويتفاقم، إلى أن يؤدّي إلى الانفجار الدّاخليّ الكبير للاّتوازنات البارزة باستمرار.
.. ليؤذن لنا بذكر التّعريف التّالي المأخوذ من قاموس اقتصاديّ واجتماعيّ موجّه للطّلبة «إنّ مفهوم مجتمع الاستهلاك يمكن أن يعني اللّحظة الّتي نشر فيها مجتمع ما التّجهيزات الدّائمة على نطاق واسع (تلفازات، سيّارات، ثلاّجات)... ويعني أيضا مجتمعا يضاعف من محرّضات الاستهلاك. وتقاس دلائل ورموز النّجاح بطول السّيّارة، بعدد الأيّام المقضّات في الّرياضات الشّتويّة... يصبح الاستهلاك الغاية القصوى لحياة النّظام الاقتصاديّ ولنشاطه. وجميع عناصر الحياة اليوميّة هي مناسبات للاستهلاك: الأطفال، الحياة الجنسيّة، الصّداقة، تصير في الصّور الإشهاريّة مجرّد توابع للبضائع. لنسجّل أنّ مجتمع الاستهلاك لا يعني أنّ الجميع يستهلك بصورة هامّة، بل يعني أنّ مجال البضائع ينمو وأنّ جولانها يعمّم. نواد للّقاءات تبيع الصّداقة، منظّمات تجعل من الزّواج مادّة لعملها... جميع التّصرّفات الفرديّة، جميع المشاعر تصير بضاعة. ليس مجتمع الاستهلاك مفتوحا بالطّبع إلاّ للقادرين على الدّفع للولوج إلى نزواته».
هل قرأتم جيّدا :»يصبح الاستهلاك الغاية القصوى للحياة». فكيف لا يتملّك الغربيين الشّكّ وحتّى الخجل وهم يتأمّلون في هذه المرآة؟ كيف لا يشعرون بالفضيحة بسبب الإقصاءات المنجرّة عن هذا الفهم الفاحش للتّقدّم؟ وذلك على الرّغم من الانتقادات الكثيرة الّتي وضعت النّقاط على الحروف: يفضي الاستهلاك في الواقع إلى مضاعفة أنشطة الاستهلاك المفرط وإلى التّنظيم المتعمّد للتّبذير. في سبيل ذلك، صارت كلّ الوسائل ومباحة، كما كتب أندري كليمون دي كوفلي André-Clément Decouflé سنة 1991 «مطرقة إشهاريّة منهجيّة، تحديد مقصود لعمر بضاعة ما (يفاعة محسوبة) وبهذا، فإنّ البضاعة المثاليّة بتعبير تجاريّ هي تلك الّتي ينبغي رميها بعد استعمال وحيد وبالتّالي تعويضها حالاّ بثمن بضاعة جديدة»... الإفراط في الاستهلاك يعني إعلان الانتماء «إلى فئة المستهلكين المفضّلين، إلى فئة المبذّرين».
لنذكّر مرّة أخرى أنّ هذه الوضعيّة المشطّة كثيرا ما تمّت إدانتها. دي كوفلي نفسه، من بين آخرين، قام بهذه الملاحظة: «ليفن العالم على أن تستمرّ السّيّارات في سيرها، وفي قتل الحيّ وبتره في الطّريق: ففي الأخير، كما نعلم، أيّ حادث طريق «يغني» النّاتج الوطنيّ الخام بنسبة تعادل بين الخسائر المعوّضة الّتي تسبّب فيها والمصاريف المبذولة لمحو آثارها» نعم، هكذا يفكّر المحاسبون ورجال الاقتصاد: إنّ الحوادث والحرائق والزّلازل والفيضانات، مادامت تجرّ إلى الإنفاق، فلها التّأثير الجيّد في نموّ النّاتج القوميّ الخام. فكلّما كانت هناك كوارث ونكبات إلاّ وارتفع ن.ق.خ. أكثر، وبالتّالي كلّما كان هناك «نموّ» إلاّ وازدهر الاقتصاد أكثر! أحيانا، حتّى بعض الخبراء يتعجّبون من الحماقات الإحصائيّة والإنسانيّة الّتي تترتّب عن ذاك التّفكير. وفي هذا السّياق يستشهد رينو فياي لو صاج Renaud Vié Le Sage بفولتير الّذي علّق سنة 1756 كما يلي على الزّلزال الّذي التهم لشبونة: «كلّ شيء على ما يرام: سيغنم الورثة أموالا لإعادة بناء المساكن، ستأكل الدّوابّ من الجثث المدفونة تحت الأنقاض.(...) إنّ ألمكم الشّخصيّ ليس ذا أهمّيّة، لأنّكم تساهمون في الخير العامّ».
... في ختام هذه الأفكار الأوّليّة، يشعر فريقنا الباحث أنّه قد شرح نقطة هامّة: يموت الغرب من فقره الشّعريّ والرّوحيّ. غير أنّه لا يسعنا الاكتفاء بهذا الإقرار البسيط. إنّ الحداثة لم تسقط من السّماء بطبيعة الحال. لذلك، ينبغي علينا أن نبرز قدر الإمكان أصولها الملموسة.
منذ القرن العشرين، انتبهت بعض العقول إلى ما يلي: إنّ الغربيين، باغتصابهم لمفهوم العقل وبإعطائه مضمونا مخصوصا جدّا، لم يفعلوا شيئا سوى أنّهم أثبتوا بعد فوات الأوان مجموعة من آداب السّلوك الّتي لم تكن لها في المنطلق أيّة علاقة بما يسمّى عقلا خالصا. وتلك الآداب، كما لاحظ ذلك بحصافة كلود ليفي شتراوس، هي في أكثر الأحيان غير واعية. ومنطلقا في الآن نفسه من أميل دوركهايم ومن مارسيل موس، جازف بقول هذا التّوكيد الواضح: «العقل نفسه، هو نتاج أكثر منه سبب للتّطوّر الثّقافيّ. وبنفس الذّهنيّة، قال الأستاذ ديبان إنّ أيّة ثقافة تتطوّر انطلاقا من اختيارات معيّنة ، غير واعية تقريبا، سمّاها أفعالا تأصيليّة. ولو أمكن لنا أن نكشف عن تلك الاختيارات الحاسمة، لربّما فهمنا لماذا هي تنذر بمصير أسود.
المصدر: - Pierre Thuillier: الانفجار الدّاخليّ الكبير: La Grande Implosion. ص. 58- 74. Pluriel - 1997


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.