أرينا سبالينكا تَغِيبُ في أولمبياد باريس    إستخدام الأواني المصنوعة من مادة البلاستيك يؤدي إلى مضاعفات صحية خطيرة    نصائح وتوصيات وزارة الصحة لمجابهة موجة الحرارة    خلال يومين.. احباط 59 عملية "حرقة" وايقاف 24 منظما ووسيطا    معبر الذهيبة : ازدحام كبير جراء ارتفاع عدد العائلات الليبية القادمة نحو تونس    تونسي يتميز في جامعة دايفس بكاليفورنيا الأمريكية    مدخرات تونس من العملة الصعبة تقدر ب 107 ايام توريد    احمد الجوّادي يُتوّج بذهبية سباق 400 متر في بطولة فرنسا للسباحة 2024    سليانة.. تقدم موسم الحصاد بنسبة 45 بالمائة    بداية من الغد: تحذير من ارتفاع درجات الحرارة    وزير الشّؤون الدّينية يتفقّد أحوال الحجيج بمخيّمات المشاعر المقدّسة    الهيئة الوطنية للمحامين تنعى المحامي الدواس الذي وافته المنية في البقاع المقدسة    نحو 16 ألف شخص تعرضوا لإصابات خلال ذبح الخرفان في أول أيام العيد    كأس أمم أوروبا: برنامج مواجهات اليوم والنقل التلفزي    القيروان : زوج يقتل زوجته بطريقة وحشية بعد ملاحقتها في الطريق العام    قرقنة.. وفاة حاج من منطقة العطايا بالبقاع المقدسة    رئيس الاتحاد الفرنسي يحذر مبابي لأسباب سياسية    تنس – انس جابر تحافظ على مركزها العاشر عالميا وتواجه الصينية وانغ في مستهل مشوارها ببطولة برلين    الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج): برنامج مباريات الجولة الختامية..    حجاج بيت الله الحرام يستقبلون أول أيام التشريق    مصرع 6 أشخاص وفقدان 30 آخرين في انهيار أرضي في الإكوادور    عاجل/ الاحتلال الصهيوني يحرق قاعة المسافرين في معبر رفح البري..    قتلى وجرحى بإطلاق نار خلال احتفال في تكساس الأمريكية    بسبب ين غفير.. نتنياهو يلغي مجلس الحرب    المتحدث باسم "اليونيسف".. الحرب على غزة هي حرب على الأطفال    طقس اليوم.. خلايا رعدية بعد الظهر والحرارة في ارتفاع    تراجع الإنتاج الوطني للنفط الخام في أفريل بنسبة 13 بالمائة    بن عروس/ 18 اتصالا حول وضعيات صحية للأضاحي في أوّل أيّام عيد الأضحى..    صفاقس : "البازين بالقلاية".. عادة غذائية مقدسة غير أنها مهددة بالإندثار والعلم ينصح بتفاديها لما تسببه من أضرار صحية.    الإنتاج الوطني للنفط الخام يتراجع في شهر افريل بنسبة 13 بالمائة (المرصد الوطني للطاقة والمناجم)    رئيس الجمهورية يتبادل تهاني العيد مع كل من رئيس المجلس الرئاسي الليبي ورئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية    في ظل انتشار التسممات الغذائية في فصل الصيف، مختصة في التغذية تدعو الى اعتماد سلوك غذائي سليم    استدرجوا امرأة للانتقام منها: صدور حكم بالسجن في جريمة قتل..    العلاقات الاندونيسية التونسية جسر تواصل من اجل ثقافة هادفة، محور ندوة بتونس العاصمة    فرنسا: تصدعات بتحالف اليسار وبلبلة ببيت اليمين التقليدي والحزب الحاكم يعد بتعزيز القدرة الشرائية    47 درجة مئوية في الظل.. الأرصاد السعودية تسجل أعلى درجة حرارة بالمشاعر المقدسة    كأس أوروبا 2024 : المنتخب الفرنسي يستهل غدا مشاركته بلقاء النمسا    انس جابر تشارك الاسبوع المقبل في بطولة برلين للتنس    إخصائية في التغذية: لا ضرر من استهلاك ماء الحنفية..    صفاقس : الصوناد لم تكن وفيّة لوعودها يوم العيد    فرق التفقد الطبي بكامل الجمهورية تقوم بزيارات ميدانية غير معلنة لعدد من الأقسام الاستعجالية    وزارة الصحة السعودية تصدر بيانا تحذيريا لضيوف الرحمان    منسق البعثة الصحية: لا وفيات في صفوف حُجّاجنا    الصوناد: الرقم الأخضر 80100319 لتلقي التشكيات    تخصيص برنامج متكامل لرفع الفضلات خلال أيام العيد    بعد ظهر اليوم.. خلايا رعدية مصحوبة بأمطار متفرقة    أول أيام عيد الأضحى.. الحجاج يؤدون طواف الإفاضة    في أول أيام عيد الأضحى.. الحجاج يرمون جمرة العقبة الكبرى    المطربة المصرية منى عبد الغني تنهار باكية أثناء أداء مناسك الحج على جبل عرفات (فيديو)    أطباء يحذرون من حقن خسارة الوزن    المهدية: مؤشرات إيجابية للقطاع السياحي    رواق الفنون ببن عروس : «تونس الذاكرة»... في معرض الفنان الفوتوغرافي عمر عبادة حرزالله    المبدعة العربية والمواطنة في ملتقى المبدعات العربيات بسوسة    «لارتيستو»: الفنان محمد السياري ل«الشروق»: الممثل في تونس يعاني ماديا... !    "عالم العجائب" للفنان التشكيلي حمدة السعيدي : غوص في عالم يمزج بين الواقع والخيال    جامعة تونس المنار ضمن المراتب من 101 الى 200 لأفضل الجامعات في العالم    الدورة الخامسة من مهرجان عمان السينمائي الدولي : مشاركة أربعة أفلام تونسية منها ثلاثة في المسابقة الرسمية    تعيين ربيعة بالفقيرة مكلّفة بتسيير وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من المستفيد من اغتيال المناضل محمّد البراهمي ؟
قراءة أوليّة في دلالات الجريمة وخلفيّاتها
نشر في الشعب يوم 10 - 08 - 2013

أفاق التونسيّون يوم الخميس 25 جويلية 2013 على «زلزال» جديد في تونس ما بعد 14 جانفي 2011، ألا وهو جريمة اغتيال المناضل والنائب عن حركة الشعب، المعارض التونسي محمّد البراهمي نتيجة تعرّضه لإطلاق نار مكثّف: 14 طلقة بمسدّس نصف آلي أمام منزله الواقع بحيّ الغزالة من ولاية أريانة من قبل مجهولين، أودى بوفاته على عين المكان رغم جهود نقله على جناح السرعة إلى مستشفى محمود الماطري بإريانة من قبل جيرانه وأفراد عائلته.
وقد عقد وزير الداخليّة، الأستاذ لطفي بن جدّو ندوة صحفيّة صباح يوم الجمعة 26 جويلية، سلّط خلالها الضوء على ظروف الجريمة ومرتكبيها وخاصّة على ظروف سمِيَّتِهَا، جريمة اغتيال المناضل شكري بلعيد أمين عام حزب الوطنيّين الديمقراطيّين الموحّد والقيادي في الجبهة الشعبيّة يوم 06 فيفري 2013، أمام بيته بالمنزه وتفاصيل أخرى حول الجريمتين...
ورغم كل ما جاء في هذه الندوة من معلومات دقيقة حول السلاح المستخدم في الجريمتين وهويّة مرتكبيهما...، فقد تضاربت الآراء حول مدى جديّة وخاصّة جديد تلك المعلومات، بين مؤيّد ومعارض إلى حد تشكيك بعضهم فيها ووصفها ب «المسرحيّة» قصد امتصاص غضب الشارع التونسي...، وغيرها من النعوت الأخرى !
سوف لن ندخل في الجدل حول أسباب استهداف منفّذي الجريمة للمعارض القومي العروبي والقيادي في تيّار الجبهة الشعبيّة، لأنّ المصالح المختصّة الأمنيّة والقضيّة لم تبح إلى حدّ الآن بجميع أسرار وملابسات الجريمة ودوافعها...، لذلك فإنّنا سنقدم قراءة أوليّة في خلفيّات و دلالات جريمة اغتيال المناضل محمّد البراهمي، على ضوء المعلومات التي قدّمها وزير الداخليّة في ندوته الصحفيّة المذكورة وما تواتر حولها لاحقا من معطيات في وسائل الإعلام الرسميّة العموميّة والخاصّة. وسنركّز تحليلنا بالأساس على خمسة نقاط رئيسيّة متصلة بالجريمة.
أولا: من حيث اختيار توقيت تنفيذ الجريمة: يأتي هذه الاغتيال غداة إعلان الأستاذ نور الدين البحيري، الوزير المعتمد لدى رئيس الحكومة في لقاء إعلامي بمقرّ الحكومة - إثر انعقاد مجلس الوزراء يوم الأربعاء 17 جويلية 2013 -، أنّ وزير الداخلية لطفي بن جدّو سيكشف قريبا عن المورّطين في جريمة اغتيال المناضل شكري بلعيد. وهو في اعتقادنا تحدّي للحكومة عامة ولوزارة الداخليّة خاصة من قبل مرتكبي الجريمة والجهات لتي تقف ورائها. وإذا ما علمنا أنّ مرتكبي الجريمة الثانية هم مرتكبو الجريمة الأولى أنفسهم بنفس الأدوات والآليّات والأسلحة...، - حسب ما ورد في الندوة الصحفيّة لوزير الداخليّة -، هذا فإنّ التحدي يصبح مضاعفا إن لم نقل «صارخا» للحكومة !
كما أنّ هذا الردّ السّريع يعكس عجز وزارة الداخليّة عن مراقبة المجموعات الدينيّة المتشدّدة وإيقاف جميع عناصرها – أو حتّى قياديها على الأقلّ – الذين واصلوا نشاطهم بكلّ حرّية فوق التراب التونسي، بعد مرور أكثر من ستّة أشهر من اقتراف الجريمة الأولى. وهو ما سمح لهم بالتخطيط للجريمة الثانية ورصد تحرّكات الضحيّة الثانية المستهدفة، أي النائب محمّد البراهمي في مقرّ إقامته بحيّ الغزالة – حسب شهادات الكثير من جيرانه –. بل أكثر من ذلك فحسب ما جاء في إحدى بلاغات وزارة الداخليّة، فإنّ فرق الأمن المختصّة قد عثرت على « أسلحة وخراطيش نارية وقنابل... « خلال مداهمة منزل بحيّ الغزالة – أي على بعد عشرات الأمتار من منزل عضو المجلس التأسيسي محمّد البراهمي – مساء يوم 18 جويلية وأفادت أنّ «... متسوّغ المنزل قد تحصّن بالفرار وهو متشدّد دينيا... «!
كما أنّ اختيار تنفيذ الجريمة يوم 25 جويلية 2013 – من التقويم الميلادي – الذي يوافق يوم احتفال الشعب التونسي بذكرى إعلان الجمهوريّة، ويأتي كذلك بعد يومين فقط من إسقاط النظام الملكي وإعلان الجمهوريّة في مصر على يد الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر وبقيّة رفاقه في 23 يوليو (جويلية) 1952 – لم يكن من قبيل الصدفة. فاغتيال المناضل محمّد البراهمي في هذا اليوم - المرجع في تاريخ تونس المعاصر هو في رأينا « اغتيال للجمهوريّة « وللنظام الجمهوري بأسره في تونس بعد 56 سنة من إرساءه.
وهو كذلك رسالة مضمونة الوصول من الجهة المفترضة التي نفّذت الجريمة وخاصّة التي خطّطت لها سواء المجموعة الدينيّة المتشدّدة بتونس – كما جاء على لسان وزير الداخليّة – أو غيرها من الجهات داخل تونس أو خارجها، من أنّ النظام الجمهوري وكل نظام حكم لا يستند للشريعة الإسلامية، بل إلى القوانين الوضعيّة، لا يُلزمها و تتطلّع إلى إرساء نظام سياسي آخر دخيل على البلاد كنظام الشورى أو نظام الخلافة أو الجمهوريّة الاسلاميّة...، إن لم نقل أنّها لا تؤمن إطلاقا بضرورة وجود جهاز دولة مدنيّة بمؤسّساتها وهياكلها في العالم الإسلامي عامة وفي تونس خاصّة !
أمّا في التقويم الهجري فإنّ يوم 25 جويلية يوافق هذه السنة ليلة 17 رمضان، أي ذكرى غزوة بدر (نسبة إلى بئر مشهورة تقع بين مكّة والمدينة المنوّرة) التي تُعرف في بعض المصادر التاريخيّة ب «غزوة بدر الكبرى» و «بدر القتال»و «يوم الفُرقان»... وقد دارت في العام الثاني من الهجرة، الموافق 13 مارس 624 م، بين المسلمين بقيادة الرسول محمّد صلعم، وقبيلة قريش ومن حالفها من العرب بقيادة عمرو بن هشام المخزومي القرشي (المكنّى بأبي جهل) وتُعدّ أولى المعارك الفاصلة في تاريخ الإسلام... فهل أنّ قتل مناضل ومعارض لحكومة الترويكا أصبح يُعدّ معركة بين المتشدّدين الدينيّين من معشر المسلمين وبين المعارضين العلمانيّين من معشر الكفّار في تونس التي تتسع للجميع ؟
لقد غاب عن أذهان مخطّطي هذه الجريمة النكراء ومنفّذيها أنّ المناضل محمّد البراهمي قد حجّ إلى بيت الله الحرام أربع مرّات واغتيل وهو صائم أمام بيته وبين أفراد عائلته وجيرانه. فسعيًا مشكورا وصَوْمًا مقبولا لكل من خطّط ومن سهّل وتواطأ ونفّذ وارتبط من قريب أو بعيد بهذه الجريمة النكراء لابن من أبناء تونس !
وفي حالة ثبوت مسؤوليّة الطرف الديني المتشدّد – كما جاء على لسان وزير الداخليّة نفسه - في الجريمة الشنيعة المرتكبة في حقّ المناضل البراهمي و حقّ التونسيّين جميعا، فإنّه يجدر بنا التذكير أنّ الشيخ راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة كان قد قال عن هؤلاء السلفيّين في تصريح له: «هم أبناؤنا... وهم يذكّرونني بشبابي... ويبشّرون بثقافة جديدة...». فإذا كانت الثقافة التي هلّل لها «المرشد الأعلى للجمهوريّة التونسيّة» تبيح قتل التونسي لأخيه التونسي وتبشّر بزرع بذور الفتنة وثقافة التقسيم والتكفير والقتل... في مجتمعنا، باستخدام السيوف والأسلحة والنيران والمتفجّرات والسيّارات المفخّخة مؤخّرا...، بدلا من نشر أسس ثقافة التسامح والإخاء والتعاون والتعايش السلمي بين الأجناس والأعراق والأديان وغيرها من القيم الدينيّة السمحة التي يرنو إليها مجتمعنا في هذه الفترة الحرجة من تاريخه ويتطلّع إلى تمريرها إلى الأجيال القادمة، فطوبا لتونس وللتونسيّين بهذا الشباب وبهذه الثقافة الواعدة !
ثانيا: من حيث تفاصيل الجريمة: جاء في إعلان وكيل الجمهورية أنّ تشريح جثّة الشهيد محمّد البراهمي كشف أنّه: «... أصيب ب 14 رصاصة من عيار 9 مليمترات، بينها ستّ في النصف العلوي من الجسم وثماني رصاصات في الساقين... «. ولا نعتقد أنّ إطلاق 14 رصاصة على الضحيّة من باب الصّدف فهو رقم يذكّرنا بسقوط النظام الاستبدادي لبن علي وتحرّر التونسيّين من كل أشكال الظلم والقهر والرقابة المفروضة على النشاط السياسي والنقابي والإبداع الفكري والثقافي...، وما يلها من إيقافات ومحاكمات وتعذيب وتنكيل...، كان هؤلاء المتشدّدون أول المستفيدين منه ! فهل أنّ طريقة تصرّف هؤلاء يندرج ضمن رد الجميل لثورة 14 جانفي وشهدائها التي أهدتهُمْ حقّ العودة إلى أرض الوطن والاستمتاع بنسمات الحريّة وتحمّل بعضهم مناصب رسميّة وغير رسميّة ضمن أجهزة الدولة والحكم ومنابرها: وزراء وأئمة خطباء ودعاة ووعاظ دينيّين ورؤساء جمعيّات ومنظّمات...، بعد أن كانوا مُلاحقين وقابعين في زنزانات وسجون بن علي، أو مهجّرين ومغتربين خارج أرض الوطن ينعمون بهبات المنظمات والتنظيمات الدولية المدنيّة، وخاصّة الدينية منها في ضيافة الغرب المسيحي الكافر ؟
ثالثا: من حيث الانتماء الجغرافي للضحيّة: لا يخفى على أحد أنّ الضحيّة هو من مواليد ريف سيدي بوزيد. وفي استهداف أحد من أبناء هذه الولاية المناضلة أكثر من دلالة. فهي مفجّر الثورة التونسيّة يوم 17 ديسمبر 2010 وأكثر الولايات تهميشا وحرمانا و «حقرة»...، منذ الاستقلال إلى غاية اليوم. فكأنّي بمُخطّطي هذه الجريمة لا يريدون استهداف شخص البراهمي بذاته فحسب، بل وكذلك الجهة بأكملها، التي مثّلت مهد هذا «الربيع العربي» - الذي لم يكتمل بعد لأسباب يطول شرحها ولا نعرف البعض من خفاياها - والحال أنّهم كانوا أول من قطف ثماره بوصول التيار الديني الإخواني والسلفي المتشدّد والأقلّ تشددا إلى سدّة الحكم في كل من تونس ومصر وليبيا والمغرب وربّم سوريا لا قدّر الله !
والشهيد بحكم دماثة أخلاقه وتواضعه وشعبيّته لدى كل الشرائح والأوساط، يعتبر النائب الأكثر تأثيرا من بين نوّاب المجلس الوطني التأسيسي في الميدان السياسي على سكان جهته وتحديدا في كلّ ما يخصّ المواعيد والاستحقاقات الانتخابيّة المقبلة. وهو أمر يزعج حركة النهضة التي حقّقت نتائج دون المأمول في سيدي بوزيد خلال انتخابات 23 أكتوبر 2011، بسبب الصعود المفاجئ لتيار «العريضة الشعيّة» بزعامة محمّد الهاشمي الحامدي رغم إقامته بلندن .
رابعا: من حيث الانتماء السياسي للضحيّة:
ليس من قبيل الصّدف أن يكون اغتيال المناضل محمّد البراهمي هو الاغتيال السياسي الثالث الذي يحصل في تونس بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011، بعد كل من لطفي نقض - المناضل في حركة نداء تونس يوم 18 أكتوبر 2012 - و شهيد الجبهة الشعبيّة، المناضل شكري بلعيد يوم 06 فيفري 2013. وليس من قبيل الصّدف كذلك أن تستهدف عمليّة الاغتيال الثالث مناضلي اليسار والجبهة الشعبيّة تحديدا وذلك للمرّة الثانية على التوالي في أقلّ من ستة أشهر.
و لا يغيب عن أذهاننا أنّه من الدوافع السياسية وراء اغتيال البراهمي أنّ حركة النهضة كانت تأمل زوال «حركة الشعب»، التي كان البراهمي مؤسسها وزعيمها، الى أن حدثت فيها إنشقاقات دفعت به الى الانسحاب من الحركة وتأسيس «التيار الشعبي» ذي التوجّه القومي الناصري. كما قاد الشهيد التيار القومي التونسي نحو الانضمام إلى الجبهة الشعبية التي تضمّ أحزابا يساريّة ذات مرجعيّة ماركسية لينينيّة، عوض الانضمام إلى الترويكا الحاكمة بقيادة النهضة. وقد ساهم الانضمام الأخير للفصِيل القومي في إعطاء بُعدٍ جديد للجبهة الشعبية، جعل من الصّعب على الإسلاميّين اتهامها مستقبلا بأنها حركة « كفر وإلحاد «، كما كانت تُنعت سابقا من قبلِ قيادي حركة النهضة وحلفائها من الجماعات السلفيّة في تونس. والأهمّ من كل ذلك هو الانتقاد الواضح واللاذع للنائب محمّد البراهمي داخل قبّة المجلس الوطني التأسيسي وخارجها لأداء الحكومة. وفي هذا السياق كتن قد خاض رفقة زميله و ممثّل جهته النائب أحمد الخصخوصي (عن حركة الديمقراطيين الاشتراكيين والمستقل من المجلس منذ يوم 15 جويلية 2013) اضرابا عن الطعام من 1 إلى 24 أكتوبر 2012 لفت له أنظار وسائل الإعلام داخل البلاد وخارجها. كما كما عرف بانتقاده لسياسة الشديد لسياسة التهوين والصمت الرهيب التي تنتهجها حكومة الترويكا بقيادة حركة النهضة في كل ما يتّصل بالعنف السلفي وخاصّة الروابطي - نسبة إلى روابط أو «رابطات حماية الثورة»، أي ميليشيات حركة النهضة وعصاها الغليظة التي تستخدمها كلما اقتضت الحاجة لذلك - الذي استهدف أكثر من مرّة المؤسّسات الجامعيّة التونسية (بكل من سوسة ومنوبة والقيروان وصفاقس...) والاعتداء على مقرّ الاتحاد العام التونسي للشغل عشيّة إحياء ذكرى اغتيال مؤسّسه الزعيم فرحات حشّاد (يوم 04 ديسمبر 2012) أو مقرّات العديد من الأحزاب والمنظّمات وجمعيّات المجتمع المدني وقياديها، بالعاصمة وبسائر أنحاء البلاد...
كما أعرب الشهيد عن مساندته غير المشروطة لثورة الشعب المصري ضد حكم الإخوان المسلمين بقيادة محمّد مرسي ودعوته التونسيّين السّير على المنوال ذاته وإسقاط الحكومة الحالية وحلّ المجلس الوطني التأسيسي. كما كان من أبرز المساندين لحركة «تمرّد التونسية». وخلال الأيام الماضية، أعلن عن استعداده للاستقالة من المجلس الوطني على غرار النائب أحمد الخصخوصي، وهو كذلك من قيادات الجبهة الشعبية ومن أبناء ولاية سيدي بوزيد.
خامسا: أطراف عديدة مورّطة في جريمة الاغتيال:
يُجمع المحلّلون والعارفين بالشأن السياسي في تونس ما بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 أنّ محمّد النائب البراهمي معارض قومي عروبي ناصري ليس له خصوم من داخل تونس يفكّرون في اغتياله. وحتى لو تصوّرنا فرضا أنّ الفكرة قد خامرت البعض من رفاقه القوميّين نتيجة مغادرة هذا المناضل «الشرس» والتاريخي لحظيرة حزبه الأصلي، التيّار الشعبي والتحاقه بالجبهة الشعبيّة مؤخّرا، فلا يمكن القبول بأن تكون للناصريّن الوسائل المادية واللوجستيكيّة لتنفيذ جريمتهم، خاصّة وأنّ وزير الداخليّة قد أعلن أنّ البراهمي قد قُتل بنفس السلاح الذي قُتل به قبل ستة أشهر المناضل شكري بلعيد ! كما يصعب على أيّ تونسي مقيم في تونس، مهما كان انتماءه السياسي ودرجة تشدّده أن يُقدِمَ على اقتراف جريمة اغتيال بتلك الطريقة البشعة، التي أثارت ولا تزال تُثير سخط جميع التونسيّين في الداخل والخارج - بمختلف انتماءاتهم السياسيّة والفكريّة والاجتماعيّة وأصولهم الجغرافيّة...-، وكذلك الرأي العام الدولي.
لذا يقيننا أنّ هناك أطراف سياسيّة أو إعلاميّة تهدف وتخطّط إلى خلط الأوراق في تونس وإعادتها إلى المربّع الأول أو نقطة الصّفر، أي بثّ الفتنة والبغضاء وحالة «العطالة « Le Blocage « والاحتقان بمختلف أشكالها في تونس... أي بعبارة أخرى نظريّة «الفوضى الخلاّقة « Creative Chaos « أو «الاسم الحركي» لنظرّية «للتفتيت» أو «فجوة الاستقرار» التي نظّر لها أستاذ العلوم السياسيّة الأمريكي «صموئيل فليبس هنتجتون «Huntington Phillips Samuel» (18 أفريل 1927 - 24 ديسمبر 2008) وشرعت في تطبيقها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، «كونداليزا رايس «Condoleezza Rice»، التي اعتبرت أنّه من خلال تطبيقها في الدول العربية ستنشأ بها دولٌ طائفية ومذهبية يتحقّق بواسطتها مشروع الشرق الأوسط الكبير، وتهيمن من خلاله اسرائيل على كامل المنطقة، سياسيا وعسكريا واقتصاديا، ويسهل حماية المصالح الحيوية الأمريكية، وأوّلها النفط، وخطوط أنابيبه، وناقلات السفن العملاقة.... وبالتالي يتسنّى للولايات المتحدة الأميركية السيطرة المطلقة على كل اقتصاديات العالم، وفي مقدمتها الصين واليابان والهند...
ومن يُلقي نظرة على تسارع نسق الأحداث في تونس من «غزوة السفارة الأمريكيّة» في 14 سبتمبر 2012 وأحداث الروحيّة وبئر علي بن خليفة والمنيهلة وحي ّ التضامن وآخرها أحداث القيروان في جوان الفارط وخاصّة قتل 08 جنود وضباط والتنكيل بجثثهم وجرح ثلاثة آخرين من قوات جيش الوطني الباسل عشيّة يوم جبل الشعانبي على الحدود التونسيّة – الجزائريّة عشيّة يوم الإثنين 29 جويلية 2013...، وغيرها من الأحداث التي جدّت بكل من ليبيا ومصر و اليمن وخاصّة في سوريا والأردن وحتى في بعض دول الخليج وفي مقدمتها البحرين والكويت... والبقيّة تأتي، يكتشف مدى صحّة هذه النظريّة واقتناع أجهزة الاستخبارات الأجنبيّة وتحديدا الأمريكيّة منها بضرورة مراجعة حساباتها ومواقفها من عمليّة تغيير الأنظمة الاسلاميّة التي أوصلتها إلى الحكم منذ سنتين في الدول العربيّة وفي مقدمتها تونس. وقد ترسّخت نفس القناعة لدى قادة أجهزة استخبارات بلد مجاور لتونس مزّقته حرب أهليّة باسم الدين أودت بحياة أكثر من 150.000 قتيل من خيرة أبنائه، فبات يخشى انتشار العدوى داخله وتكّرر السيناريو التونسي والمصري به، بعد أن خَبِرَ الإسلاميّين المتشدّدين وجرّبهم طيلة عشريّة سوداء بأكملها (بين 1992 و 2002) لم تندمل جراحها بعدُ إلى اليوم !
فليس مستبعدا إذن أن يكون مَنْ خطّط لعملية السفارة واغتيال بلعيد والبراهمي وأحداث الشعانبي وغيرها من الأزمات التي شهدتها بلادنا، أطراف خارجيّة بمساعدة أطراف داخليّة عديدة. وهي في اعتقادنا مجموعات دينيّة متشدّدة (حسب وزير الداخليّة نفسه) و «مُخترقة» في رأينا، إمّا من بين «عملاء الاستعمار» الأجنبي وصنائعه في تونس وفي المنطقة، أو من بين قوى الردّة المناهضة للثورة بغاية التشكيك في إيجابيّة «الربيع العربي» الذي كان منطلقه تونس في 17 ديسمبر 2010. والغاية من وراء كل ذلك هو العودة بالبلاد إلى الوراء، أي إلى حقبة الظلم والاستبداد والحكم الفردي وغياب الحرّيات العامة والخاصّة...، وبالتالي خدمة المخطّط الأمريكي في المنطقة أو لتجنيب تكرّر النموذج العربي الفاشل في بلدانها. وليس إسقاط حكم الإخوان في مصر يوم 03 جويلية الفارط بالتعاون بين الشعب المصري والجيش الوطني إلاّ تأكيدا لصحّة ذلك !
لا ريب أنّه ثمّة «جهاز كامل» يقف وراء عملية الاغتيال. فمن أين يعلم منفّذو العمليّة أنّ الشهيد لم يكن في قبّة المجلس التأسيسي لحضور اجتماع الرئاسات الثلاث بمناسبة ذكرى عيد الجمهوريّة وأنه كان في منزله بين أفراد عائلته ؟
واعتبارا لذلك وبقطع النظر عن فشل أو قصور القيادات الإخوانيّة ذات المرجعيّة الدينيّة في التسيير ببلدان «الربيع العربي» إثر وصولها إلى دفّة السلطة منذ حوالي سنتين، فإنّ جريمة اغتيال المناضل محمّد البراهمي لم تكن مجرّد عمليّة «اغتيال سياسي» بل هي «وأد» لعمليّة الانتقال الديمقراطي وجزء من مشروع أجنبي متكامل لإثارة الرعب في قلوب جميع العرب عامة والتونسيّين خاصّة، وهي كذلك درس في «تخريب» طاقات الوعي والإبداع الخلاّق لهذا البلد ولهذه الأمّة وتعطيلها من الخارج بأياد داخليّة غير وطنيّة وعميلة للخارج، بهدف خدمة أجندات أجنبيّة !
ولعلّ تواصل عمليات التهديد والوعيد التي تستهدف بعض الصحفيّين الشرفاء على غرار الأساتذة: زياد الهاني وسفيان بن حميدة وسفيان بن فرحات... وتواتر الأخبار الرسميّة عن إحباط قوات الأمن الوطني عمليات اعتداء و اغتيال تستهدف بعض القادة السياسيّين وبعض المثّقفين على غرار الأستاذة ألفة يوسف وخاصّة تواصل المواجهات المسلّحة بين المجموعات الدينيّة المتشدّدة وقوّات جيشنا وأمنِنَا الوطنيَيْنِ في جبل الشعانبي وفي العاصمة وعديد القرى والمدن التونسيّة أيّام 2 و 3 و 4 أوت، إلاّ دليلا واضحا على جديّة الأخطار المتربّصة ببلادنا وتواصلها إلى حد الآن.
يقيننا أنّ الدماء التونسيّة الطاهرة لكل من لطفي نقض وشكري بلعيد ومحمّد البراهمي وغيرهم من شهداء الوطن في كل شبر من أرض تونس الخضراء بعد 14 جانفي 2011 وضحايا التقصير الواضح والأداء المهتزّ لحكومة التريوكا لن تذهب سدى، بل ستزهر بإذن الله انتصارا للديمقراطيّة وللوطن في وقت يحاول المتربّصون والمتآمرون النيل منه.
د. عادل بن يوسف (أستاذ محاضر في التاريخ المعاصر بكليّة الآداب والعلوم الانسانيّة بسوسة)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.