أنس جابر تنسحب من ربع نهائي بطولة نوتينغهام البريطانية    جندوبة: السيطرة على حريق نشب بغابة سيدي حمادة    يورو 2024.. اسبانيا تسحق كرواتيا بثلاثية    النادي الصفاقسي يعود بانتصار ثمين من جوهرة الساحل    طقس الليلة    الليلة: الحرارة تتراوح بين 20 و32 درجة    وزير الدّاخليّة يُشرف على حفل تكريم عدد من الإطارات والأعوان    فوسانة.. الإحتفاظ بمروج مخدرات    أكثر من 1.8 مليون حاج يقفون بعرفات لأداء ركن الحج الأعظم    جريمة بشعة تهز ألمانيا بالتزامن مع المباراة الافتتاحية ل'يورو 2024'    أول إطلالة للأميرة كايت منذ بدء علاجها من السرطان    جومين.. حريق يأتي على 4 هكتارات من بذور الأعلاف و الأشجار    وجهت ضربة قوية للصهاينة.. القسام تحتفل بعيد الأضحى على طريقتها الخاصة    وفاة المندوبة الجهوية للشباب والرياضة بولاية باجة بالبقاع المقدّسة    الكاف.. مياه مهدورة وأحياء عطشى بلا ماء    خطيب عرفات: الحج ليس مكانا للشعارات السياسية    وزارة التربية تكشف عن استراتيجية وطنية للقضاء على التشغيل الهش    أعلى من جميع التمويلات الحالية.. تركيا ستحصل على قرض قياسي من صندوق النقد    إقبال ضعيف على الأضاحي رغم تراجع الاسعار الطفيف بهذه الجهة    قفصة: الإطاحة بوفاق لترويج المخدرات يقوده موظف    النجم الساحلي يستقبل النادي الصفاقسي في غياب الجمهور    مختصون يوصون بتجنيب الأطفال مشاهدة ذبح الأضحية    المهدية: مؤشرات إيجابية للقطاع السياحي    صدور قرارين بالرائد الرسمي يضبطان الشروط الخاصة لإجراء أعمال الطب عن بعد    الرابطة الأولى: تشكيلة النادي الصفاقسي في مواجهة النجم الساحلي    وصول أول رحلة للجالية التونسية في هذه الصائفة    ذبح الأضاحي : توصيات هامة من المصالح البيطرية    الرابطة الثانية: مرجان طبرقة يلتحق بركب الفرق النازلة إلى الرابطة الثالثة    بداية من اليوم: تونس تلغي التأشيرة عن الايرانيين والعراقيين    بنزرت : حجز 1380 لترا من الزيت النباتي المدعم    خطيب عرفة: "الحج ليس مكانا للشعارات السياسية ولا للتحزبات"    اليوم: فتح شبابيك البنوك والبريد للعموم    أكثر من مليوني حاج يقفون بعرفة لأداء ركن الحج    بشرى لمرضى السكري: علماء يبتكرون بديلا للحقن    محقق أمريكي يكشف آخر التحقيقات مع صدام حسين: كانت نظراته مخيفة ... وكان رجلا صادقا !    مجموعة السّبع تؤيد مقترح بايدن بوقف إطلاق النار في غزة    «لارتيستو»: الفنان محمد السياري ل«الشروق»: الممثل في تونس يعاني ماديا... !    رواق الفنون ببن عروس : «تونس الذاكرة»... في معرض الفنان الفوتوغرافي عمر عبادة حرزالله    المبدعة العربية والمواطنة في ملتقى المبدعات العربيات بسوسة    يحذر منها الأطباء: عادات غذائية سيئة في العيد!    مذكّرات سياسي في «الشروق» (54) وزير الخارجية الأسبق الحبيب بن يحيى... سفارة تونس بواشنطن واجهة للاتفاقيات المتعدّدة والمتنوّعة    رئيس الحكومة يلقي كلمة في الجلسة المخصّصة لموضوع ''افريقيا والمتوسط''    حصيلة منتدى تونس للاستثمار TIF 2024 ...أكثر من 500 مليون أورو لمشاريع البنية التحتية والتربية والمؤسسات الصغرى والمتوسّطة    الصحة السعودية تدعو الحجاج لاستخدام المظلات للوقاية من ضربات الشمس    غدا: درجات الحرارة في إرتفاع    الرابطة 1 : التعادل يحسم الدربي الصغير بين الملعب التونسي والنادي الافريقي    الدورة الخامسة من مهرجان عمان السينمائي الدولي : مشاركة أربعة أفلام تونسية منها ثلاثة في المسابقة الرسمية    "عالم العجائب" للفنان التشكيلي حمدة السعيدي : غوص في عالم يمزج بين الواقع والخيال    قفصة : تواصل أشغال تهيئة وتجديد قاعة السينما والعروض بالمركب الثقافي ابن منظور    جامعة تونس المنار ضمن المراتب من 101 الى 200 لأفضل الجامعات في العالم    الرابطة 1 : نجم المتلوي ينتزع التعادل من مستقبل سليمان ويضمن بقاءه    جلسة عمل على هامش منتدى الاستثمار تبحث سبل تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص في مجال الأدوية    تونس : عقود عمل وهمية للسفر نحو دول أجنبية    وزيرة التربية…هذا ما ينتظر المتلبسين بالغش في امتحان الباكلوريا    الحجاج يتوافدون إلى مشعر منى لقضاء يوم التروية    عيد الاضحى : هؤلاء ممنوعون من أكل اللحوم    الجزائر: مُسنّة تسعينية تجتاز البكالوريا    تعيين ربيعة بالفقيرة مكلّفة بتسيير وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماذا علّمنا بابلو نيرودا ؟
المهدي عثمان
نشر في الشعب يوم 26 - 05 - 2007

«منذ ذلك الحين، اخْتلطتْ السياسة بحياتي وبشعْري، فليْس من الممكن إغلاق الباب على الشارع في داخل شعْري، وكذلك ليْس من الممكن إغلاق الباب في وجْه الحبّ والحياة والفرْحة إلى حزْن قلب الشاعر الشاب أيْضا « (1)
قال ذلك شاعر الشيلي الأكبر، في لحظة وجْد مع الذات ... لحظة صدْق حملها معه في صدْره وأوْصدَ الأبواب بمفاتيح الشعْر ... حملها معه في كلّ تجاربه .
فنيرودا الذي طبّقتْ أشعاره الآفاق، وصارتْ تُردّد في المسيرات العماليّة والنقابيّة والنضاليّة، بات يمثل خطرا على حكومته وحكومات الألتيو أمريكيّة . فعُيّن قُنْصلا لبلده في رومانيا وهو لا يزال في الثالثة والعشْرين من عمره .
عنْدها مرّ مُحمّلا بأشْعاره بالبرتغال وإسبانيا وفرنْسا ... حتّى سهول آسيا . في زمن كان يزْخر بالعظماء من أمثال غارسيا لوركا وأنطونيو ماتشادو ومانويل مانشادو وليون فيليبي .. إضافة للفنانين والقصّصين والفلاسفة .
ومع كلّ ذلك الزخم مرّتْ نصوصه إلى العامة . كان يقول :
« هنا تجدني
قريبا جدّا من الأرض « (2)
نعم كان قريبا جدّا من الأرض .. من العامة والدّاصة والدهْماء على حدّ تعْبير الجاحظ . وكان نيرودا أشْبه بالوهج للثورات والحركات التحرّريّة، شعاره في ذلك
« إنّ الفنّ لا يتقدّم، لكنّه يتحرّك « (3) وبهذا يكون قدْ سبق بفكرته جوزيه ساراماجو .
هكذا علّمنا بابلو نيرودا ... أنّ الفنّ / الشعْر، إذا تحرّك حرّك المياه الراكدة .. المياه التي لمْ يعدْ من الممكن الآن أنْ يحرّكها أيّ شاعر . وكان يقول :
« الليْل على الجبل يصْعد
والجوع تحْت النهْر « (4)
إذنْ أيّ مياه سيحرّكها الشعراء ؟
وهل بالإمكان اليوم أنْ نصّعّد جبال الليْل العالية، فنفكّ قيود الشمْس الأسيرة ؟
وهل بإمكاننا أنْ ندْخل في مسام النهر، لنقْتلع الجوع من جذوره ؟
ما زلْنا ننادي بصوْت نيرودا :
« إننا نتألّم « (5)
إننا يا نيرودا نناديك بحناجرنا المجْروحة ومعاصمنا المذْبوحة وأصْواتنا الأسيرة وأصابعنا المقْطوعة .
علّمني نيرودا :
( أنْ ) « أمْشي بثبات نحو الأمام
لأنّ لديّ ألْف عيْن تُبْصر
وأضْرب بثقْل الصخْرة الصمّاء
لأنّ لديّ ألف يد
وصوتي يُسْمَع في ضفاف
كلّ الأقطار
لأنه صوت كلّ من لم يتحدّث
من لم يغنّ « (6)
إننا أمام دسْتور شعْريّ لم يُدوّن نثْرا، كما اتّفق الذين من بعْده من أشْباه الشعراء في بياناتهم ووخزعْبلاتهم، إيذانا بالكسل النضاليّ ونكاية في الجماهير المسْحوقة .
لكلّ شاعر بيانه الشعْريّ ..
لكلّ سياسيّ بيانه السياسيّ ....
لكلّ عسْكريّ بيانه العسْكريّ ...
غيْر أنّ إلقاء البيان على طاولة الواقع، مسْألة غاية في البلاهة والغباء . كأنّ الواقع لا يتّسع لبياناتهم التطبيعيّة والإمبرياليّة .
ماذا أضافتْ بيانات أدونيس ومحمّد بنيس وأتباعهما من التونسيين ؟ لا شيئ بالتأكيد .
خلافا ... بيان نيرودا جاءنا شعْرا :
كأنه يقول كنْ ثابتا بألف عيْن واضْربْ الصخْر بألف يد واصْدحْ بصوْتك ليكون صوتا لمن لا صوت له .
هذا بيان يُطْلق كرصاصة ليصيب، وليْس دستورا يُعلّق في مدينة فاضلة لتسْتمْتع به الجماهير المسْحوقة أصْلا .
ألم يقل المتنبّي :
وسَارَ به منْ لا يَسيرُ مُشمّرا
وغنّى به منْ لا يُغنّي مُردّدا
نيرودا كان صوتا على الظلم والقمْع والإسْتبْداد ... كان صوتا ضدّ الإمبرْياليّة الطاغية . خلافا لشعرائنا اللطفاء جدّا والسعداء جدّا بواقعهم الغارق في الوحْل إلى حدّ النخاع .لا ضير إنْ احْتفلوا بأمريكا أو تسابقوا لإرْضاء الأكادميين والسياسيين . حتّى يكون نصّهم نصْرة لللإمبرْياليّة وللطغْيان والإنفراد بالسلطة والقمْع السياسيّ والثقافيّ . وإنْ لمْ يمْدحوا فقط سكتوا . والسكوت فِراش للخيانة .
في الوقْت الذي لا زالتْ « ثعالب التاريخ « (7) ترْتع في أراضينا رافعة مخالبها الآثمة .
علّمنا نيرود أنْ لا حقيقة « لنهاية الإيديولوجيا « ولا حقيقة لكتابة الشعر من أجل الشعر، على قياس الفنّ للفنّ ...
الحقيقة، كما يرْويها نيرودا هيّ :
« أنْ لا أتْعب منْ أنْ أكون أو لا أكون « (8)
علّمنا أنْ لا نتْعب ... أنْ لا نتوقّف ... أنْ لا نسْتسْلم ... أنْ لا نُسلّم .
فالحياة كما يراها وكما يجب أنْ نتعلّمها « ... تعْني الموت / تعْني الحياة « فإنْ متّ من أجْل الحياة فأنتَ حيّ، وإنْ حييت هربا من الموْت فأنتَ ميّت لا محالة .
قالها شاعر عربيّ خانتْني الذاكرة كي لا أسْتحْضره :
ليْس من ماتَ فاسْتراحَ بميْت
إنّما الميّت ميّت الأحْياء
نحن الأحياء الأموات .. نحن الأموات الأموات ... نحن « النحن « نقْبع في الدرك الأسْفل من التاريخ، بقياس فقْهيّ . وسُعداء بتلك المرْتبة، بفضل شعرائنا وسياسيين وعلمائنا وفنانينا و ... و ... ونحن .
إذن أيّ معْنى للشعْر عند نيرودا ؟
أيّ معْنى للشْر عنْدنا الآن ؟
يقول شاعر الشيلي الأكبر :
« .. أسْتطيع أنْ أكتب عن الورْدة، عن الجمل، عن الحبّ .. لكنّ لو حَدَث في وطني حادث خطير أو تهْديد لكرامة شعْبي فإنني أسْتعْمل شعْري كسلاح . « (9)
أيْن نحن من هذا ؟
يتحدّث نيرودا عن التهْديد والكرامة .. ونحن بلا كرامة وبلا أوطان . الأوطان المسْحوقة والمسْروقة والمغْزوّة والمريضة والبائسة ... إنها أوطاننا .
مع ذلك لا زال الشعراء يُصفّقون ويحْتفلون ويتمسّحون على العتبات، وكأنّ لا شيئ قدْ حصَل .
وإنْ امْتنعوا عنْ ذلك، فإنهم حلّقوا في السرْياليّ والغامض، هروبا من التهمة والشبهات ... هروبا من الشارع .
لقد علّمنا نيرودا أنّ « البرْجوازيّة تطْلب شعْرا مُنْعزلا بقدْر الإمكان عن الواقع . والشاعر الذي يعْرف تسْمية الخبْز خبْزا والخمْرة خمْرة، فهو خطر على الرأس المال المُحْتضَرْ « (10)
لماذا إذن لا نُسمّي الأشْياء بأسْمائها ؟
هل هو العجْز ؟ أمْ هو الخوف ؟ أم هي الدهْشة ؟ عفْوا ليْست « الدهشة « بالمفهوم الفلسفيّ التي تعني بداية الفلسفة، كما علّمنا « هيدغير « . وإنما الدهشة بمعنى
« الغياب « أو « الغيْبوبة « .
يقول نيرودا :
« أحْببتُ أنْ أكون خبْزا
الصّراع ما وَجَدني قطّ مُتغيّبا « (11)
« الصّراع « الذي فهمه الشعراء على أنه الترّهات والجدالات والنزاعات الفقْهيّة والسفسطائيّة، حول المدارس الأكاديميّة والحركات النقْديّة وقصيدة النثر والعروض.
علّمنا نيرودا أنْ نكتب بأيّ رصاصة نشاء ... بأيّ صوت نصْدح ... بأيّ أصابع نحفر ... بأيّ أيادي ندكّ الصخْر دكّا .
المهمّ أنْ يبْقى الضوء ساطعا وقدْ توقّف كلّ شيئ .... المهمّ أنْ نُحرّك المياه الراكدة، بعْد أنْ سكنتْ قرونا ... المهمّ أنْ نكْتشف ينابيع الحياة .
والحياة ليْستْ شيئا آخر غيْر أنْ يكون الشاعر « قريبا من الأرْض « .
مع ذلك .....
أصَفّق المطبّعون ... أهَتف الشعراء والملوك ... أمرّروا أنفلونزا الراسماليّة القاتلة ... أرَكنوا للثابت والراهن ... أتملّقوا ... أتسلّقوا ...
سيبْقى الشعر هو الشعر . نأخذه عن نيرودا وسارماغو ولوركا وممدوح عدوان ومعين بسيسو ودرْويش وبوشكين والنواب ... إلخ ونتْرك للتعساء من الشعراء نقيقهم، يسبّحون به في غدْران الطحلب الوطنيّ الراكد .
وسنردّد بصوت نيرودا، ومعنا البقيّة من التقدّميين :
« لا تقلْ أنّ القيثارة قدْ صمتتْ
بعْد أنْ جفّتْ كنوزها لأنها لم تجد
نغْمة تعْزفها
قدْ لا يوجد شعراء، ولكن الشعر موجود
سيوجد دائما
مادامت موجات النور هي القبْلة
تنْبض مُلتهبة
وما دامت الشمس تكْسو الغيوم الممزّقة
بالنار والذهب
( .... )
وما دام يوجد في العالم ربيع
فسيوجد الشعر « (12)
هكذا علّمنا نيرودا، وسنبْقى نحْتفظ بدروسه تلك ما دامت أرْضنا الآن لا تُنْبت العشْب / الشعراء .
وفي انْتظارأنْ يَنْبت الشعراء كالعَرَق من جلودنا، نكون قد نسينا الشعر أو نسينا الأرض ... أو ربّما نسينا أن لنا قضايا نُدافع عنها .
------------------------------------------------------------------------
هوامش:
1 مذكرات، ص 76 .
2 رسائل إلى شعراء إسبانيا .
3 ساراماجو جوزيه : من الذاكرة إلى القصّة عبْر التاريخ .
4 أشعار القبْطان ص 78 .
5 نفس المصدر السابق .
6 نفس المصدر السابق .
7 نفس المصدر السابق، ص 80 .
8 مسكن في الأرض،ج 1 ، ص 77 .
9 مجلّة ليتورال، عدد 40 41 .
10 مدكرات اعْتراف، ص 406 .
11 إشْفاق، ص 50 .
12 منتخبات من قصائد، اخْتارها خواكين دي لوكاس وترجمها كل من كمال فوزي الشرابي وساجي ديب، ص 22 23 .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.