رفيقان كانا، وصديقان وزميلان انهما «ج» و «ن» جمعتهما مدارج الجامعة... لفت انتباهها ثباتُه ورصانته في اثناء حلقات النقاش التي كانت كثيرة ومجدية... ولفتت انتباهه صرامتها وصداميتها الشجاعة... اكتشفا ان أفكارهما متقاربة وأدبيات خطيهما الفكريين متجانسة... وأتمّت الساحة الحمراء كشف ما لم يكن واضحا من ميولهما الادبية والفنية. تحابّا في اثناء فترة الاستاذية ثم بعد الملاحقات وفترات تتبع متقطعة اشتغلت «ن» مدرسّة في التعليم الثانوي وبقي «ج» يتابع دراسته بالمرحلة العليا... تزوّجا، وأنجبا بنتا جميلة واستمرت حياتهما. التحقت «ن» بقاطرة التحصيل العلمي من جديد وتحصلت على شهادة الماجستير، انجبت بنتا ثانية وسجل «ج» في شهادة دكتوراه الدولة التي استمرفي اعدادها ست سنوات... اضطرت «ن» خلالها الى الاعتناء بالطفلتين ورعايتهما لأن «ج» كان مشغولا جدا بالبحث العلمي. هذان الزوجان التقدميان الرائعان المثقفان هما من احسن النماذج التي يمكن الاقتداء بها في مجال التحصيل العلمي بعد الزواج ومع ذلك فان «ن» لم تخرج عن القاعدة الاجتماعية القائلة ان الرجل هو الاولى بالعلم وهو الذي يجب ان يكون الاسبق فيه وان الاطفال يحتاجون الى رعاية أمهما التي يجب ان تكبح طموحها العلمي داخل صندوق آمالها المؤجلة، اكثر من حاجتهما الى أبيهما الذي يمكن ان ينشغل بالبحث العلمي. حلم بالدراسة زيجات اخرى كثيرة تتم والفتاة لا تزال في الباكالوريا تتحصل عليها وهي تحلم بمواصلة الدراسة الجامعية ولكن قليلات هن الفتيات اللواتي يتمكن من ذلك بعد الزواج، فالمناخ الاجتماعي الذي يخلقه الانخراط في مؤسسة الزواج مناخ غير ملائم البتّة للتحصيل العلمي والدراسة، فالواجبات العائلية الكثيرة وكثرة الشؤون اضافة لما يقتضيه الوضع الاسري من حفلات الزيارات المتبادلة والاستضافات والاعباء المنزلية كلها ظروف تقضي على كل طموح دراسي وكل رغبة فيه أو امكانية تحقيقه، هذا فضلا عن وجود طفل او اثنين في حياة الزوجين، واذا ما كانت هناك امكانية لمواصلة الدراسة فهي امكانية متاحة بضرورة للزوج الذي يمكن ان يسافر خارج الحدود دون عوائق، ويمكن ان يتنقل بسهولة خارج اقليمه لمتابعة بحثه، ويمكن ان يستقيل من كل مهامه في طلب العلم ولكن المرأة لا تستطيع ان تبقي زوجا دون طعام او طفلة دون رعاية، او تعتذر عن استقبال حماتها او أمها لغاية الدراسة فهي ملزمة بكل هذا ضرورة... نساء قليلات في تونس من صاحبات المراتب العلمية الرفيعة تمكّن من تحقيق نجاحهن المعرفي بعد الزواج. وان تمكّنّ من تحقيق ذلك فهو عادة ما يتم بصورة متأخرة جدا اي بعد ان يكبر الاطفال وبعد ان يحقق الزوج كل طموحاته ان كانت لديه طموحات، ساعتها فقط قد تتفرغ المرأة لتحقيق طموحها العلمي المؤجل باستمرار. انتهاك للرجولة اما اذا كان الزوج من ذوي النفوس الكسولة والطموح المتخاذل فغالبا لن يسمح لزوجته المتوقدة رغبة بمواصلة الدراسة ولن يشجعها على ذلك بل انه قد يفتعل معوّقات لذلك حتى لا تتفوّق زوجته وتعلو عليه بعض الدرجات، وان حصل هذا فربما انقلبت حياة الزوجين الى جحيم لشعور الزوج بانتهاك في الرجولة قد يرافقه نتيجة تفوّق زوجته علما ومعرفة. اعتذار البحث العلمي يقتضي الصبر والتضحية ويستدعي التفرغ وعدم كثرة الأولاد، ويحتاج الى تفهم المحيط الاسري والعائلي، فلتسامحني أمي التي لم استطع منذ شهور طويلة ان أزورها الا زيارات خاطفة، وليسامحني اخوتي وأخواتي الذين لم أسْع الى استقبالهم واعتذرت لمن طلب منهم ذلك... وليسامحني رفيق حياتي الذي لم نستطع منذ مدة طويلة ان أناقش وإياه اي موضوع عائلي بالعمق المطلوب فكل القرارات والنقاشات مؤجلة الى حين وكل مظاهر الحياة بين قوسين...