نطرح في هذا المقال مفهوم الجمهورية والاعلان عن النظام الجمهوري في تونس يوم 25 جويلية 1957 بعدما أحرزت البلاد على الاستقلال التام يوم 20 مارس .1956 الحدث وملابسات الظرف التاريخي أحرز المغرب الشقيق على الاستقلال سنة .1955 وكانت تونس حريصة على نيل الاستقلال بعد المقاومة بواسطة المفاوضات التي انطلقت منذ 30 جويلية 1954 . فشددت على انتزاعه في ذلك الظرف المناسب ، وتتمثل خصائص هذا الظرف علاوة على استقلال المغرب في صعيد المقاومة الجزائرية ضد الاحتلال وانعكاس تبعات هذا التصعيد على الرأي العام الفرنسي مما أفضى الى فوز أحزاب اليسار في الانتخابات الفرنسية. «جرت مفاوضات على هذا الاساس في نهاية شهر فيفري فأفضت بسرعة الى التوقيع على بروتوكول 20 مارس 1956 الذي ينص على إلغاء معاهدة 12 ماي 1881 ويعلن على استقلال البلاد التونسية»(1). من أهم الملابسات التي أحفت بهذا الظرف التاريخي : تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل بعد توحيد النقابات من قبل فرحات حشاد سنة 1946 وفي عام 1950 تكونت حكومة شنيق (2) « للتفاوض مع فرنسا حول إمكانية استقلال البلاد. انطلق الكفاح المسلح الذي أعلن عنه الحزب الجديد في مؤتمر 18 جانفي 1952 وفي 1955 ، فتح باب الدخول في مفاوضات مع فرنسا انتهت بإعلان الحكم الذاتي للبلاد التونسية مما أدى الى انشقاق في الحزب، بينما ساند الاتحاد العام التونسي للشغل فكرة الحكم الذاتي ثم تنظيم أول انتخاب يوم 25 مارس 1956 أي مباشرة بعد توقيع بروتوكول الاستقلال لانتخاب المجلس القومي التأسيسي وكان الباي قد أمضى أمرا في الغرض منذ 29 ديسمبر 1955 . كلف هذاالمجلس بصياغة دستور البلاد التونسية (وهي ما تزال مملكة الى هذا الحدّ) وتذكر المصادر أن قائمات الجبهة الوطنية (3) في هذه الانتخابات قد حصلت على أغلبية الأصوات ، وهي متكونة من «الحزب الحرّ الدستوري التونسي «الحزب الجديد» والمنظمات الوطنية المتحالفة معه. وسنلاحظ تسارع نسق الأحداث حتى اعلان الجمهورية في السنة الموالية ، أما تلك الأحداث فهي: 16 أفريل 1956 : تشكيل أول حكومة ائتلافية بعد الاستقلال برئاسة الزعيم الحبيب بورقيبة. 18 أفريل 1956 : تونسة الأمن 21 جوان 1956 : إحداث الولايات والمعتمديات عوضا عن القيادات والخلفاوات. 29 جوان 1956 : بعث النواة الأولى للجيش التونسي. 3 أوت 1956 : حذف المحاكم الشرعية. 13 أوت 1956: صدور مجلة الأحوال الشخصية وتونسة الإذاعة. 12 نوفمبر 1956: انضمام تونس الى منظمة الأممالمتحدة 22 نوفمبر 1956: خطاب الزعيم الحبيب بورقيبة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. تلك هي الأحداث والوقائع الهامة التي أضفت حركية نشيطة على الساحة السياسية ساعة المنعرج التاريخي الحاسم على مدى الأربعة العقود السابقة منذ انطلاق بلورة المشروع الوطني النضالي مراوحا بين الفكر والانجاز كل التواريخ تحيلنا على انجاز عظيم لأمة استيقظت وناضلت حتى ظفرت بثمرة النضال فازداد وعيها بعامل الزمن ودخلت في سباق محموم لبلوغ أقصى ما يمكن أن تجنيه من حصاد يقوي زادها ويدعم برنامجها في ما هي قادمة عليه، تحدوها نخوة الانتصار وروح المبادرة في رحلة التأسيس والتركيز لدولة ناشئة. وخلاصة الجدول السابق ثلاث محطات بارزة تماسكت باطراد وثيق : وهي تشكيل أول حكومة، ارساء دعائم السياسة الداخلية ومنها الانفتاح والانخراط في السياسة الخارجية. ومن الملاحظات الجانبية في الجدول : لماذا لم يتزامن الحدثان «حذف المحاكم الشرعية» و»صدور مجلة الأحوال الشخصية» بحيث نلاحظ فراغ قانوني على مدى عشرة أيام أي فيما بين 3 و13 أوت 1956ومع أنها ليست مدة طويلة التي قد تعيق سير العمل القضائي إلا أنه فراغ غير مبرر منطقيا ولا عمليا بما هو محسوب على نظام ناشئ مازال في خطواته الأولى... أما أحداث السنة الموالية قبل الاعلان عن الجمهورية فهي لا تتجاوز اثنين هما: 14 مارس 1957 : صدور قانون يمنح المرأة حق التصويت وحق الترشح للانتخابات. 5 ماي 1957: الانتخابات البلدية الأولى. 25 جويلية 1957 : الغاء نظام البايات / قيام النظام الجمهوري / مبايعة الزعيم الحبيب بورقيبة رئيسا للجمهورية التونسية ريثما يدخل الدستور حيز التنفيذ. ثم سجلنا حدثا واحدا مهمّا في 27 سبتمبر 1957 هو «حذف مجالس الأحبار» بما يعني السيادة المستوفاة ولا تكون ثمة سلطة داخل السلطة أو أي سلطة مجاورة.(4) نظرة بورقيبة الى الجمهورية قبل يوم 25 جويلية 1957 أ أثر الثقافة الفرنسية: ما من شك في أن بورقيبة كان متشبعا بهذه الثقافة منذ دخوله المدرسة بتونس الى حدود تخرجه محاميا من كلية الحقوق بباريس . وهو تشبع في التكوين الشامل وليس في تخصص محدّد أي أنه تثقف ثقافة جادة وواسعة في كل ما يخص الآداب والفنون والحضارة والقانون سواء كانت متصلة بتاريخ فرنسا القديم والحديث أو بتاريخ أوروبا والعالم عموما. بل إن احتكاكه بالفرنسيين وبالحياة الفرنسية سواء عند اقامته بفرنسا أو بتونس علاوة على تزوجه بفرنسية (أهداها اسم : مفيدة بورقيبة أو ربما خيرها بين أسماء تونسية فاختارته) ، جعل منه مثقفا مع أنه سياسي محنك وزعيم صاحب قضية، وواحدا من أبرز العارفين بالتاريخ السياسي الأوروبي والفرنسي بالخصوص فهو يدرك جيدا فلسفة النظام الجمهوري في أثينا وروما قديما قبل ان تضفي بريق إشعاعها على باريس منذ الثورة الفرنسية في 1789 وما تلاها من صراعات الحكم وما تبعها من سقوط جمهورية بعد تأسيسها وقيامها من جديد قبل سقوطها ثانية ثم اعادة تشكيلها مرة أخرى. وخلاصة القول أن الرجل كان عارفا بالحياة السياسية الفرنسية بصفة خاصة ومتفاعلا معها بما يعني مدى تأثيرها القوي في ما تخزنه الذاكرة وما يطفو على سطح القول، فكان التأثر عميقا والأثر بارزا جليا كما تشهد به خطبه ومنابر القول والتصريحات هنا وهناك. ب ماذا في خطبه السابقة لتاريخ إعلان النظام الجمهوري في تونس؟ في البحث عن استكمال السيادة .. ما تحقق منه: استرجاع مراكز الجندرمة «... ومن ناحية أخرى فإنكم على علم بالمفاوضات العسيرة المتعثرة التي دارت بيننا وبين فرنسا فأوشكت في عدة مناسبات على الانقطاع خصوصا في شأن تكوين نواة جيش وطني ...» وبعدما يستعرض أزمة التفاوض بهذا الشأن، يعلن «انه تم والحمد لله (..) الإتفاق على أن تستلم الحكومة التونسية تدريجيا مراكز الجندرمة...» (5) أما ما لم يتحقق فهو الجلاء عن أرض بنزرت وهو ما سوف يتأجل الى ما بعد الاعلان عن النظام الجمهوري (6). جاء بخصوص اندلاع معركة الجلاء «... كنّا أعلنا بداية معركة الجلاء (...) يوم 25 جانفي 1960 في اجتماع رهيب بالقصبة جمع بين نواب الشعوب الافريقية بتمامها (...) ولما دارت رحى المعركة في جويلية 1961 بعد أن اعلنا عنها في جانفي 1960 (...) إن الدنيا بأسرها كانت تنظر إليهم وتتبع سير المعركة التي ابتدأت دموية ثم انقلبت ديبلوماسية (...) فبمناسبة الاقتراع (الجمعية العمومية لهيئة الأممالمتحدة) على اللائحة القاضية بضرورة التفاوض بين تونسوفرنسا على أساس الجلاء عن بنزرت تجددت وحدة الشعوب المستضعفة ومعها الشعوب المحبة للعدل الغيورة على الحرية، فجميعها كان في صف تونس وسندا للمناضلين الذين خاضوا معمعة بنزرت ...» (7). الجلاء الأول: (عسكري ) خطب بورقيبة بباردو يوم 2 أكتوبر 1964 ، فقال «...ثم حققنا جلاء القوات الأجنبية التي كانت مسيطرة على جانب هام من أرضنا المستقلة ودخلنا في معارك تعرفونها (...) وقد أتيح لي في افتتاح الدورة الماضية (لمجلس الأمة سابقا مجلس النواب حاليا) يوم 4 أكتوبر 1963 أن أبشركم من أعلى هذه المنصة بموعد جلاء آخر جندي فرنسي وهو الأميرال نفسه يوم 15 من الشهر نفسه. الجلاء الثاني : (زراعي) ويتابع قوله نفس الخطاب «ولقد حققنا في غضون (عام 1964) جلاء من نوع آخر حققنا به كسبا عظيما في نطاق تصفية الاستعمار ومخلفاته ، ونعني به الجلاء الزراعي، أي جلاء الفرنسيين وكل الأجانب عن الاراضي الزراعية وقصر تملك الأرض في المستقبل على التونسيين وبهذا الإجراء، تخلصنا من الخطر الكبير الذي كان يهدد كياننا وكنا أول من تفطن له وهو الاستعمار التوطيني». هذا ويعقب في خاتمة المطاف حول هذه القضية بكلمات لا تخلو من شكر نعمة الله وإحساس النخوة بانجاز المهمة : تحرير الوطن من الاحتلال العسكري والاستعمار الزراعي فتصبح الأرض وما عليها ملكا للتونسيين والله جل جلاله جعلهم مستخلفين فيها يقول «هكذا قضينا على هذا الخطر والحمد لله يوم 12 ماي الفارط (1964) بواسطة القانون الذي أقره مجلس الأمة في ذكرى يوم فرض الحماية على تونس (أي 12 ماي 1881)». (8) (2) الفكر الجمهوري في خطب بورقيبة أ ضمان ديمومة السيادة والتحري في العلاقات من هيمنة الآخر تحت أي غطاء كان وخصوصا الدعم الاقتصادي الذي كان أصل الداء في الحكم التونسي قبل انتصاب الحماية بما يعني التورط في التداين واثقال الكاهل بالفوائض البنكية ومما لا شك فيه أن هذا الاثقال يؤدي الى الاغراق والعجز في تسديد الدين والبحث عن بدائل أخرى كالهيمنة الأجنبية على القرار السياسي الوطني واستغلال بعض الأراضي والموانيء كقواعد عسكرية. جاء في خطابه بتونس يوم 30 ماي 1957 بعنوان «تطهير علاقاتنا بفرنسا من كل الشوائب « قوله ما يلي «... أن فرنسا مستعدة للدخول في مفاوضات جديدة فيما يخص علاقتنا الاقتصادية التي يلزم أن تكون (...) مطهرة من كل شائبة تفهم منها ارادة الهيمنة علينا من الوجهة الاقتصادية ومبرأة من كل ما من شأنه أن يجعل تونس في منزلة دون منزلة المفاوض الفرنسي أو يبيح لفرنسا أن تتخذ من الروابط الاقتصادية التي بيننا ذريعة للضغط على الحكومة التونسية في ميادين أخرى كالميدان السياسي والميدان العسكري». ويزيد المسألة بلورة ووضوحا في نفس الخطاب «... ولتكونوا على يقين بأننا لا نقبل روابط اقتصادية مع أي نوع كان إلا إذا كانت مستجيبة لمصلحة تونس دون اية مصلحة أخرى سواها. فإذا انسجمت مصلحة تونس مع مصلحة فرنسا فيا حبذا ، وأما إذا شعرنا بأن في الامر إرهاقا لنا أو نية مبيتة تهدف الى الهيمنة علينا، فإننا لن نتردد في رفضه رفضا باتا». ب ليس الاستقلال هدفنا ولكنه بداية : تحت هذا العنوان جاء في خطاب بورقيبة بالدار البيضاء في 28 مارس 1957 بحضور الملك محمد الخامس : «بسم الله الرحمان الرحيم ، أيها الشعب المغربي العظيم (...) ولتعلموا أن الاستقلال والسيادة ليسا فقط حقا من حقوقكم بل إنهما يفرضان عليكم واجبات ويلقيان على كواهلكم مسؤوليات جساما تتمثل في مغالبة النفس وتقديم المصلحة العليا على المصلحة الخاصة ، وهذا ما عبر عنه نبينا (محمد) صلى الله عليه وسلم عندما عاد من إحدى غزواته بقوله :رجعنا من الجهاد الاصغر وهو جهاد السيف الى الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس فإذا ما تغلبنا على الهواجس النفسية والتيارات الهدامة والانانية وحب الانتقام وخفضنا جناح الرحمة لبعضنا بعضا تكون قد وفرنا أعظم سبب من أسباب القوة وتجنبنا أعظم سبب من أسباب الضعف»(10). والخلاصة أن الروح الجماعية واجتماع القلوب على أسس قيم الانسانية التي هي من معين الدين الحنيف هي أساس جوهري في إرساء دعائهم النظام الجمهوري. ج الحكومة التونسية حكومة الشعب : وهو خطاب ألقاه بباردو يوم 20 مارس 1957 أي بمناسبة الذكرى الأولى لعيد الاستقلال (20 مارس 1956) وفيها تقترب أكثر مسألة الجمهورية التي تطرح عن نظام الحكم الملكي ومقوماته . وهو ما سوف نتناوله بالدرس في الحلقة القادمة. الهوامش (1) الأستاذ الشريف، محمد الهادي : تاريخ تونس سلسلة ما يجب أن تعرف ، (تعريب : محمد الشاوش محمد عجينة) ط 2 ص 138 1985 سراس للنشر تونس. (2) انظر كتب أحمد عبد السلام في تقديم الكتاب «... يستعرض سعيد المستيري طويلا ومفصلا المحادثات التفاوضية التي تخطى جزءا هاما من 17 شهرا من وجود وزارة شنيق والتي آلت في أغلب الأحيان الى احتجاجات بل مشادات كلامية» (ص 8) . (3) انظر : السالمي، أحمد بن علي صانع المستقبل ملحق : علامات في تاريخنا الحديث من 1793 الى 2002 ص 235 (عام 1956) . د. تا. (4) انظر : تونس 50 سنة من الاستقلال موجز تاريخي الوكالة التونسية للاتصال الخارجي مارس 2006 تونس. (5) بورقيبة، الحبيب : خطب ج 3 (1956 1957) «كي يدرك الشعب سياسة الحكومة تونس 12 أكتوبر 1956 ص 3 وما بعدها الوزارة الأولى : نشريات كتابة الدولة للإعلام المطبعة الرسمية 1975 تونس . (6) لطالما ردد بورقيبة في خطبه اعتماد سياسة المراحل كما يتضح لنا هنا. (7) بورقيبة، الحبيب خطب ج 17 (1964 ) «بنزرت عامل تقارب بين الشعوب ص 331 وما بعدها بنزرت 15 أكتوبر 1964 نفس الناشر وانظر كذلك خطابه يوم 2 أكتوبر 1964»خاتمة المطاف في تصفية الاستعمار» المرجع السابق ص 299 وما بعدها . (8) المرجع السابق ...ص .302 (9) بورقيبة، الحبيب : خطب ج 4 (1957) «تطهير علاقاتنا بفرنسا من كل الشوائب « ص 194 وما بعدها نفس الناشر. انظر في نفس السياق خطابه «نأمل أن ترجح فرنسا كفّة العقل في علاقتها معنا (تونس 13 جوان 1957) المرجع السابق ص 228 وما بعدها . وفيه يتعرض بالخصوص لتصرفات السفارة الفرنسية وفصائل الجيش الفرنسي .