تزامنا مع احتفالات بلادنا بالذكرى المائوية السادسة لوفاة العلامة عبد الرحمان ابن خلدون وفي سياق البرامج التي تم اعدادها وطنيا وجهويا ومحليا للاحتفاء بأحد أبرز اعلام تونس ومفكريها ومصلحيها انتظمت مؤخرا بمدينة القلعة الكبرى ندوة فكرية بعنوان «ابن خلدون المفكر والانسان» نظمتها شعبة المدينة ودار الثقافة بالمكان وأشرف على افتتاح اشغالها السيد محمود رمضان (الكاتب العام للجنة التنسيق بسوسة) وأثث فقراتها بالمداخلات ثلة من الاساتذة الجامعيين وهكذا جمعت هذه الندوة رجال السياسة والفكر والثقافة والتربية لمزيد التعمق في فكر مؤسس العلوم الاجتماعية والتاريخ والاجتهاد. مرت على وفاة العلامة عبد الرحمان ابن خلدون ستة قرون، وبهذه المناسبة حرصت تونس ان تتعدد التظاهرات الاحتفالية بين الندوات الوطنية والعالمية والمعارض الوثائقية وتحقيق كتابين من مؤلفاته واصدارات للأطفال واليافعين مستوحاة من سيرته بالاضافة الى مشاركة تونسية في معرض اسبانيا بالقصر الملكي بإشبيلية تحت عنوان «ابن خلدون والمتوسط في القرن الرابع عشر». ابن خلدون المفترى عليه هكذا قدّم الاستاذ أحمد الحذيري مداخلته التي كانت بعنوان «ابن خلدون المفترى عليه» مضيفا ان بعض الباحثين سوّلت لهم أنفسهم خارج حدود البحث العلمي والاعتبارات يضيق المجال عن ذكرها يتداخل فيها السياسي بالثقافي في اطار علاقة المشرق بالمغرب التحريض بابن خلدون وعدم التورع عن اتهامه بالسرقة او بالتحديد عن اتهامه بالسطو على نظريات إخوان الصفاء حتى قال احد هؤلاء المتجنين على ابن خلدون : «القضية هنا أكبر من ان تكون ظنية، فاللغة هنا لغة نصوص.. وظاهرة السطو التاريخي مسألة متعارف عليها، وهذه المرة لا تتعلق بأفكار قال عنها صاحبها «ابن خلدون أكثر من مرة إنها غير مسبوقة وإن المقدمة التي ألقها لم يفطن الى مثلها احد من قبل» وربط الاستاذ محمود اسماعيل ما توصل اليه حول سطو ابن خلدون بأخلاقيات الرجل وممارساته السلوكية وتطلعاته وطموحاته السياسية ووصفه بالانتهازية وبالرغم من محاولة هذا الباحث المصري توضيح فكرته لجعلها ترتقي الى مصاف الحقيقة العلمية فان عديد المصريين من مختلف الجامعات المصرية قد رفضوا رفضا قاطعا الانسياق وراء ما قاله الاستاذ محمود اسماعيل وسعيه الى الاساءة الى رمز الرموز الثقافية العربية وليس المغربية التونسية فحسب وتحفظوا على فكرة السطو... وتتمثل فرادة ابن خلدون في الاحاطة والنقد والعبرة ليست فيما أطلع عليه وطالعه ولكن في كيفية توظيف إطلاعه ومطالعاته وان ما عاب عليه الباحث المصري من عدم الاحالة على اخوان الصفاء لا ينقص في شيء من قيمة ما كتبه ابن خلدون، كما غاب عن الباحث المذكور أمر أساسي في الثقافة العربية والاسلامية وهي مسألة الاجازة التي قال عنها طه حسين: «... الاجازة كان القدماء من العلماء يهدونها الى تلاميذهم فتكون إذ نالهم بأن ينقلوا عنهم هذا الكتاب او ذاك مما نقلوا عن غيرهم او أنشأوا من عند أنفسهم». وأضاف الاستاذ أحمد الحذيري بقوله «لو سايرنا الباحث المصري لطالبنا ابن خلدون بالاحالة على كل التراث العربي والاسلامي بل وعلى التراث اليوناني كذلك وليس على رسائل اخوان الصفاء فحسب... والاجدر بنا بدلا عن ذلك ان نقف جليا على مصادر صاحب المقدمة لأنه كلما وقفنا على مصادره المتنوعة تسنى لنا ان نفهم ابن خلدون اكثر ففكر صاحب كتاب العبر لم ينشأ من عدم وإنما فيه مع بعض أمهات كتب المعرفة العربية والاسلامية التشابه حينا والتطابق حينا اخر». مستقبل الماضي في الفكر الخلدوني المداخلة الثانية كانت للأستاذ مصطفى الكيلاني بعنوان «مستقبل الماضي في الفكر الخلدوني» وفيها اشار الى ان التاريخ قد يبدو واحديّ التسمية والمعنى في النص الخلدوني الا ان الباحث في داخل هذا النص يلاحظ تعددا للاختصاصات ضمن التسمية الواحدة وتعتبر نظرية حضور الماضي في التاريخ أو صلة التاريخ بالماضي موروثا هاما بنى عليه ابن خلدون مفهومه للتاريخ وتحديدا حاجة الخلف المعرفية الى الاستفادة بتجربة كما ان التعاقب الاساسي البدئي الذي قام عليه علم التاريخ منذ الاغريق القدامى هو ايضا في اعمال السابقين كالطبري وابن الكلبي والواقدي والاسدي والمسعودي... كما أشار الاستاذ الكيلاني الى ان فكرة الاعتبار (كتاب العبر...) لا تعقد جديد ابن خلدون بل هي شائعة لدى المؤرخين السلف وقد سعى مؤرخنا الى بلورتها وتعميقها بأن حوّل إمكان البحث في الثالوث الزمني خارج دائرة المسبق الغيبي بأن أنزلها من علياء المثل الى تفاصيل الوقائع والاحداث في حياة الكائن البشري... وعند تمثل الذات الخلدونية الدارسة والسياق المجتمعي والعصر الذي ينتمي اليه نشهد ظهور بذور أولية يسمى «مستقبل الماضي» في فلسفة التاريخ القادمة لدى مفكري العصر الحديث وما بعده الى زمننا الراهن كبدايات علم الاجتماع والانتروبولوجيا وعلم التربية والسياسة والاقتصاد والاستشراف وغيرها. وخلص المحاضر الى القول ان بذور نظرية جديدة للزمن التاريخي تنشأ في خفايا النص الخلدوني كالتي حددها تسمية بمستقبل او المستقبل الماضي بمعلوم الدولة والعمران والعصبية ومآلها المشترك وبالمجهول عند النظر في تفاصيل هذا المآل، رغم إقرار ابن خلدون الماقبلي، وباعتماد طبيعة الاشياء والظواهر، لمصير كل دولة الذي هو الفناء (حتمية السقوط بعد النشأة والنمو...) الا ان صفة المجهول المستقبلي تتردد ضمنا بين المنكشف والمحتجب وبين الخبرة والانتظار وذلك رغم الاحالة على معلوم بمجموع القوانين والمقاييس والاحكام الخاصة بالعمران والدولة والعصبية. واشار الاستاذ مصطفى الكيلاني ايضا الى ان انفتاح المصطلح الخلدوني على الماضي والحاضر وإمكان المستقبل يجعل الصلة وثيقة بين تاريخ المفاهيم والتاريخ الاجتماعي كأن يختزن هذا المصطلح محصل تجربة الماضي ويستضاء به على معرفة الحاضر (زمن ابن خلدون) ويقارب ايضا دلالة الانتظار (المستقبل) وختم الاستاذ الكيلاني مداخلته بالتأكيد على ان المستقبل المقصود هنا ليس المفهوم الزمني الماثل في خفايا النص الخلدوني وطواياه بل زمننا نحن اليوم فمثلما أسهم الفكر الخلدوني في بلورة علم التاريخ واستبق بأفكاره المختلفة عديد العلوم الانسانية فهو يمثل اليوم درسا مرجعيا لا يمكن الاستغناء عنه وتساءل المحاضر عن كيفية تواصل اهتمامنا بهذا الفكر تبعا لاحتياحاتنا المعرفية الراهنة ودن تقديس مقلد للأصل والفرع معا او توظيف المسبق الايديولوجي في هذا الاتجاه او ذاك؟ من أشكال التواصل المداخلة الثالثة والاخيرة في هذه الندوة كانت للأستاذ حاتم الفطناسي بعنوان «من أشكال التواصل عند ابن خلدون» وفيها سعى المحاضر الى طرح جملة من الاسئلة ورصد بعض اشكاليات «تواصلنا بابن خلدون» عبر التساؤل عن الارث الخلدوني باعتباره سؤالا محير يطال علاقتنا بتراثنا وذاكرتنا وبفترات الصحو ونقاط الضوء في حضارتنا وتاريخنا وببعض ملامح الحداثة في قدامتنا. واستعرض الباحث اثر ذلك المفاهيم الاساسية في الفكر الخلدوني لمقاربة المجتمع وهي العدل والعمران والمنعة أو العزة محللا كل مفهوم مفرّعا إياه الى شبكة من المفاهيم الصغرى وهي في نظره كلها تصنع مفهوما اكبر هو مفهوم المواطنة التي تؤدي الى ترسيخ الانتماء وتفعيل عمل الافراد وتذويب نزعات الفردانية والانانية والجهوية والفئوية والفوارق، تذويبها وصهرها في قيم الجماعة المبنية على التضامن والتكافل وتحقيق الكيان وصولا الى الكفاح من اجل الاستقلال ثم البناء ثم النظر في البناء بالاصلاح والتحديث ضمن قانون السيرورة القائم على ضرورة التغيير، ذلك هو الدرس الأبقى في نظره للاستفادة من ابن خلدون النسق الفكري او ميكانزمات انبناء المجتمع وتشكل التاريخ. واهتم الاستاذ حاتم الفطناسي في الباب الثاني من مداخلته بشكل من اشكال التواصل في الفكر الخلدوني اعتبره طريفا رائدا وهو احد اطرف مباحث الفكر الخلدوني واكثرها جدة وألصقها بمفهوم الحداثة اليوم وهي مباحث اللغة التي برع فيها ابن خلدون باعتبار اهتمامه بعلم الاجتماع والعمران البشري وبحثه في بنية المجتمعات وآليات اشتغالها وكان طبيعيا ان يهتم باللغة باعتبارها احد اهم أنظمة التواصل الاجتماعي بحياتها منذ نشأتها الى مراحل اكتمالها باحثا عن دورها ومعرّفا وظيفتها. وقد أقام الاستاذ الفطناسي اثناء محاضرته عدة مقارنات ابن خلدون ورواد التفكير اللساني الحديث (دي سوسير ومارتنيه وغيرهما) دون اسراف او غلّو في الاحكام واختتمت هذه الندوة بنقاش مستفيض حول علاقة الفكر الخلدوني بالراهن اليومي وكيفية توظيف هذا التراث الفكري لنستنير به حاضرنا ونستلهمه لبناء مستقبلنا.