أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الجمعة 3 ماي 2024    حفاظا على توازناته : بنك تمويل المؤسسات الصغرى والمتوسطة يرفع رأس ماله الى 69 مليون دينار    الرابطة الأولى: تعيينات حكام مقابلات الجولة الأولى إيابا لمرحلة التتويج    خليل الجندوبي يتوّج بجائزة أفضل رياضي عربي    الرابطة المحترفة الاولى – مرحلة التتويج – الجولة 6: جولة القطع مع الرتابة    البحيرة: إخلاء محيط مقر مفوضية شؤون اللاجئين من المهاجرين الأفارقة    دراسة صادمة.. تربية القطط لها آثار ضارة على الصحة العقلية    معهد الصحافة يقرر ايقاف التعاون نهائيا مع مؤسسة كونراد أديناور الألمانية بسبب دعمها للكيان الصهيوني    مقتل 20 شخصا على الأقل جراء حادث سقوط حافلة في واد بهذه المنطقة..#خبر_عاجل    اليونسكو تمنح جائزة حرية الصحافة للصحافيين الفلسطينيين    خطير/ خبير في الأمن السيبراني يكشف: "هكذا تتجسس الهواتف الذكية علينا وعلى حياتنا اليومية"..    المنظمة الدولية للهجرة: مهاجرون في صفاقس سجلوا للعودة طوعيا إلى بلدانهم    عاجل/ الأمن يتدخل لاخلاء محيط مقر مفوضية شؤون اللاجئين في البحيرة من الأفارفة..    وسط أجواء مشحونة: نقابة الصحفيين تقدم تقريرها السنوي حول الحريات الصحفية    بلدية تونس: حملة للتصدي لاستغلال الطريق العام    تشيلسي يفوز 2-صفر على توتنهام ليقلص آماله بالتأهل لرابطة الأبطال الاوروبية    البطولة الوطنية : تعيينات حُكّام مباريات الجولة الثانية إياب من مرحلة تفادي النزول    نبيل عمار يستقبل البروفيسور عبد الرزاق بن عبد الله، عميد كلية علوم الكمبيوتر والهندسة بجامعة آيزو اليابانية    حالة الطقس ليوم الجمعة 03 مارس 2024    إيقاف 3 أشخاص من بينهم مفتش عنه من أجل السرقة وحجز 3 قطع أثرية بحوزتهم    طقس اليوم الجمعة    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    عاجل/ اكتشاف أول بؤرة للحشرة القرمزية بهذه الولاية..    العمل شرف وعبادة    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    المغازة العامة...زيادة ب 7.2 % في رقم المعاملات    "أنثى السنجاب".. أغنية أطفال مصرية تحصد مليار مشاهدة    إصابة 8 جنود سوريين في غارة صهيونية على مشارف دمشق    القبض على منحرف خطير محلّ 19 منشور تفتيش    الجامعات الغربية تخاطب النظام العالمي الأنغلوصهيوأميركي.. انتهت الخدعة    القصرين: اكتشاف أول بؤرة للحشرة القرمزية    بايدن يتحدى احتجاجات الطلبة.. "لن أغير سياستي"    أبناء مارادونا يطلبون نقل رفاته إلى ضريح في بوينس آيرس    مجاز الباب.. تفكيك وفاق إجرامي مختص في الإتجار بالآثار    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الفنان عبد الله الشاهد    وفاة الممثل عبد الله الشاهد‬    قضية التآمر على أمن الدولة: رفض مطالب الافراج واحالة 40 متهما على الدائرة الجنائية المختصة    صفاقس : غياب برنامج تلفزي وحيد من الجهة فهل دخلت وحدة الانتاج التلفزي مرحلة الموت السريري؟    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    اجتماع تنسيقي بين وزراء داخلية تونس والجزائر ولبييا وإيطاليا حول الهجرة غير النظامية    القبض على مشتبه به في سرقة المصلين بجوامع هذه الجهة    الترجي يقرّر منع مسؤوليه ولاعبيه من التصريحات الإعلامية    شوقي الطبيب يرفع إضرابه عن الطعام    البنك المركزي يعلن ادراج مؤسستين في قائمة المنخرطين في نظام المقاصة الالكترونية    بحّارة جرجيس يقرّرون استئناف نشاط صيد القمبري    هام/ الترفيع في أسعار 320 صنفا من الأدوية.. وهذه قيمة الزيادة    بنزيما يغادر إلى مدريد    وزارة التجارة تنشر حصيلة نشاط المراقبة الاقتصادية خلال الأربعة أشهر الأولى من سنة 2024    إرتفاع أسعار اللحوم البيضاء: غرفة تجّار لحوم الدواجن تعلق وتكشف..    الحماية المدنية: 9حالة وفاة و341 إصابة خلال 24ساعة.    وفاة الروائي الأميركي بول أستر    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 2 ماي 2024    ''أسترازنيكا'' تعترف بأنّ لقاحها له آثار قاتلة: رياض دغفوس للتونسيين ''ماتخافوش''    يهم التونسيين : حيل منزلية فعالة للتخلص من الناموس    محمد بوحوش يكتب .. صرخة لأجل الكتاب وصرختان لأجل الكاتب    عاجل : سحب عصير تفاح شهير من الأسواق العالمية    وفاة حسنة البشارية أيقونة الفن الصحراوي الجزائري    مدينة العلوم بتونس تنظم سهرة فلكية يوم 18 ماي القادم حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشمس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ومظاهر التّجديد في الموسيقى العربية
الفنّان الشّيخ إمام عيسى: بقلم المنجي الطيب الوسلاتي
نشر في الشعب يوم 15 - 09 - 2007

كان استماعي أول مرة إلى صوت الفنان الشيخ إمام عيسى سنة75، ومن يومها لم ينقض يوم دون الاستماع الى أغانيه المسجلة على شرائط كاسات التي حفظت الكثير منها. وحين رأيته في اول زيارة له لبلادنا، اندهشت، كيف لهذا الشيخ النحيف القصير الكفيف، ذاك الصوت الرجولي القوي الساخر والساحر والاداء المتميز الثري البسيط، وشخصية الفنان الثوري الذي استعصى على كل صنوف الاغراء والتهديد، والذي يدخل السجن ليخرج من دون ان يؤثر السجن في صلابته ومنذ استماعي الى صوته وانا مشغول بهذا الرجل الذي يعتبر بحق ظاهرة فنّية فريدة في الثقافة العربية.
لم يصدمني صوت الشيخ امام كما صدم آذاني البعض في اول استماع اليه بألحانه ولا بطريقة آدائه، ربما لانه قريب من الرواد الذين تربت اذناي على فنهم في سن مبكرة امثال سلامة حجازي، سيد درويش، أبو العلا محمد، زكرياء احمد ورياض السمباطي... ومن أول استماع احسست اني كنت تائها عني فعثرت علي وينطبق علي ما قاله الشاعر جاد الرب حين التقى ذات مرة بالشيخ امام فاستمع اليه واحبه وشغف به واعجب. وكتب يعبر عن هذا الاعجاب بقوله «كان ظهور الشيخ امام في حياتي كالنجم القطبي عل صفحة السماء، أمام البحار الغارق وسط الأمواج. كنت أحلم بالسفر الى الاندلس. ولكني بعد ان استمعت الى الشيخ اقتنعت ان الاندلس قد جاءت اليّ. وانني في الاندلس المصرية...»
إن صوت الشيخ إمام عمق في داخلي افتتاني بالموسيقى الشرقية القديمة الاصيلة. كما نقلني نقلة نوعية، حيث اضافة الى انشدادي الى اللحن الجميل والاداء المتقن المتميز، اصبحت ابحث عن المعادلة الصعبة، وهي التناسق بين مختلف العناصر المكونة للاغنية خصوصا عنصر الكلمة الذي ظل نقطة ضعف الاغنية العربية، عدا بعض الاستثناءات اغاني سيد درويش وبعض القصائد القديمة.. فاكتشفت من خلال الشيخ إمام أن هبوط مستوى الاغنية العربية هو من جرّاء سيطرة بعض الاقطاب عليها والذين يعملون على طمس الموسيقى العربية الاصيلة وتشويه اعمال التراث وبالذات اعمال الشيخ سيد درويش من طرف امثال عبد الوهاب في اعماله التي انتجها بعد سنة 1950، وعبد الحليم نويرة فتطعيم موسيقانا العربية بالموسيقى الغربية كان على حساب اصالتها اكثر منه للارتقاء بها وتطويرها ففقدت دورها نسبيا والمتمثل في التعبير عن وجداننا الحقيقي فقد نجح سيد درويش في التوليف بين الحاجة الى مواكبة التحوّلات العالمية في الانتاج الموسيقي والحاجة الى الانفتاح عليها من ارضية موسيقية محلية من المقامات العربية ومن التراث الشعبي لذلك ورثت الموسيقى العربية بعد سيد درويش هذه الاشكالية وقدمت لها حلولا بطريقة او باخرى اما باعتماد المنهج التوليفي الذي سار فيه سيد درويش او في اتجاه تغليب احد طرفي المعدالة فكان زكريا احمد مثلا الاستمرار الطبيعي والخلاق لمنهج سيد درويش كما نجح محمد عبد الوهاب لفترة طويلة في المضي بالموسيقى العربية دون ان تعيش الصدام بين حاجة الانفتاح فيها على الغرب وحاجة الانتساب الاصيل الى الثقافة الفنية والذاكرة الجمالية للجمهور العربي العريض، ويعتبر عبد الوهاب الذي عاصر اكثر من اسلافه مرحلة الانعطاف والحدة في الاشكالية اهم من قدم عنها اجابة هي في اعتقاد العديد من الموسيقيين والنقاد الاغنى في الموسيقى العربية قبل الخمسينات اذ يصف الموسيقار سليم سحاب الذي أعد اطروحة دكتوراه حول عبد الوهاب ما قام به هذا الاخير في سياق تطويره الموسيقى العربية قائلا: لقد انطلق محمد عبد الوهاب من القاعدة الفنية المتقدمة جدا التي ارساها سيد درويش بحيث انه طورها بشكل مذهل ان في التلحين او في اداء العزف واداء الصوت الذي بدوره يحتوي على عناصر عدة: اخراج الصوت طريقة استعمال التنفس طريقة اخذ النفس طريقة استعمال الاوتار الصوتية مخارج الالفاظ... لقد اوصل كل عناصر الغناء والعزف الى ذروة خيالية بيد ان هذه المعادلة الصعبة ستنهار اذ سيختار عبد الوهاب بعد ذلك حداثة شكلية قائمة على الاقتباس والتوزيع الآلي الحديث الشيء الذي لا يتوافق وطبيعة الكتابة الموسيقية الشرقية ففقدت هذه الموسيقى اصالتها ليس بالمعنى الذي يفيد الزمن وبدأت تنفصل عن الذاكرة الجماعية بالتدرج لتبدأ في تشكيل ملامح ذوق فنّي جديد أشبه ما يكون بالهجين مدشنة مرحلة تراجع حقيقية في عطاء المدرسة المصرية، في وقت بدأ يرتفع فيه مستوى المدرسة اللبنانية مع التجربة الفنية الفذة للرحابنة، ومدشنة عصر ازدهار التلفيق الموسيقي. أما عبد الوهاب فقد فتح الباب على مصراعيه أمام موسيقى تفهم الحداثة في التقليد الرث للاخر والاقتباس منه وربما السرقة وتفهم الحداثة في استعمال الغيتار والاورغ والالات النحاسية، وفي كهربة الاروكسترا وتهميش الالة الشرقية وان ابرز مظاهر التلفيق والحداثة الصورية هو اعادة عرض الموروث الموسيقي خصوصا التراث الشعبي عرضا آليا غربيا صاخبا، وإخراجه من حيزه الآلي المطابق بصورة تبدو ساقطة الى حد بعيد كما يفعل كثيرون بيد أن الشيخ إمام قد أسس لتطريب جديد غير مبتذل، كما عرفناه عند العديد من القدامى وهذا ليس غريبا على فنان تعلم الموسيقى على اصولها حيث درس المغنى على أساطين الفن، وعلى رأسهم الشيخ درويش الحريري. هذا علاوة على تكوينه كمنشد ديني وحفظه للموشحات، الى جانب الموهبة الكبيرة، والتي قدرها الشيخ زكريا، أحمد حق قدرها. كما كان للمد الثوري الذي عرفته بلادنا في السبعينات، دورآخر في انشدادي الى فنه، إذ كان المعبّر عن هموم مختلف الفئات وعن اهم القضايا وعلى رأسها قضيتنا الام فلسطين فقد استخدم الشيخ امام بمعية مجموعة من الاصوات الشعرية احمد فؤاد نجم احمد فؤاد قاعود، نجيب سرور، محمد جاد الرب، بيرم التونسي، أبو الحسن سلام، نجيب شهاب الدين، زكي أمين، محمود الطويل، زين العبادين فؤاد، مصطفى زكي، محمد الصعيدي، مهدي بندق، محمود الشاذلي، شريف المنياوي، توفيق زياد، سميح القاسم، فدوى طوقان، وآدم فتحي... أغنية جديدة، انتهكت حرمات الفن الاوستقراطي والفن البورجوازي والبورجوازي الصغير، وكلما اكتشفت اغاني جديدة واستمعت اليها بأكثر تعمق، الا وازداد اعجابي بفنه اكثر فهو صاحب صوت رجولي قوي وساحر وساخر وأداء متميز معبر ولحن ثري وبسيط في ذات الوقت. فلصوته قدرة وفعلا، فهو يتماهى مع القدرة والارادة، بحيث يجد السامع نفسه غير محايد تجاهه، فهو يوجه السامع كمتقبل نحو كثافة اعماقه، إذ يسمح له بالامساك بما لا يمكن الامساك به اذ قالت «رجاء الغرباوي» عازفة العود بفرقة الموسيقى العربية حين استمعت إليه (... فأداؤه الذي يبدو سهلا للمستمع ويسيرا على أي مغن هو في الحقيقة دربة طويلة... واداؤه، له شخصية مميزة هي الشخصية الفنية للشيخ إمام... وهي مدرسة لا تنتمي الى أحد، وإن كانت قد أخذت كثيرا من الكثير، الا أنها أصبحت مدرسة قائمة بذاتها. وليس امتدادا لاحد). كما كتب النقاد الموسيقي الكبير «إبراهيم ابو طالب» في مجلة «الفجر الجديد» سنة 1968 على إثر زيارة الشيخ إمام الى الاسكندرية (إن موسيقى الشيخ إمام التي استمعنا اليها في الاسكندرية، والتي جاءنا بعض منها من القاهرة تبشر ان الموسيقى الشرقية مازالت بخير وان هناك من يقوم بالنظر فيها والتجديد فيها من الداخل وليس من الخارج وهذا معنى الاصالة المحدثة التي طالما طالبنا بها ليس بدافع اثني أو عنصري وليس بدافع الحفاظ على تراث الاباء والاجداد ففط ولكن امتثالا لطرق التجديد العلمية والحضارية التي تتبعها كل شعوب العالم في المشرق والمغرب ولنا من حركة تجديد الموسيقى الغربية، وموسيقى جنوب شرق آسيا الدليل الواضح.) كما كتب الدكتور «حسن حنفي» (...وسر المستوى الرفيع في فن الشيخ إمام، أنه قد تعلم الموسيقى الاصيلة بأسلوب تراثي شفوي من «درويش الحريري» و»زكريا احمد»، وغيرهما كما كانت تربطه وشائح روحية بالشيخ «سيد درويش» مثله في ذلك مثال الموسيقيين التراثيين ك «عبد الكريم الرايس» الفاسي المغربي، وجوق البريهي الفاسي المغربي، و»غواصي اللؤلؤ» في «دار جناح» في البحرين الذين جسدوا الموسيقى الاصيلة في هاتين الرقعتين من الوطن العربي كما اشار الى ذلك «حبيب توما» في كتابه «الموسيقى والمدينة» وانه الشيخ امام التراثي المعاصر المبتكر الذي اسس لموسيقى عربية حديثة دون المس بالاصالة او تشويهها وجاء ابتكاره وابداعه من داخل التراث، وليس من خارجه، إثراء للمعرفة الجمالية للموسيقى العربية، وتحرى الامكانات الضخمة لآلة عربية اصيلة وهي العود كما تحراها معه «منير بشير» الموسيقار العراقي اللامع وعازف العود المعاصر الاشهر في العالم العربي وكذلك عازف العود الفذ المعاصر التونسي «على السريتي..» ويدعم ذلك الباحث العربي من المغرب «عبد الاله بلقزيز» حيث يقول عاش الذوق الجماعي مصالحة جديدة مع النسق الموسيقي العربي ومع ربع الصوت ومع الالة «الشرقية» دون ان يهجر ضفة المعاصرة تماما وربما كان الشيخ امام عيسى في مصر اكبر رواد هذا المنحى رغم تواضع امكانات العرض لديه لغياب كورال وأركسترا بالمعنى الحقيقي، وهو ما يعوضه الشيخ إمام بصوته العميق الرائع والى جانبه كانت هناك تجارب أخرى يخوضها فنانون شبان، وبصيغ أخرى كالفنان السوري «عابد عزرية» في رائعته الغنائية «ملحمة جلجامش» (80 دقيقة) والفنان اللبناني «زياد الرحباني» في شريطه الغنائي «انا مش كافر» خاصة في الاغنية التي تحمل عنوان الشريط واغنية «شو ها الايام اللي وصلنا لها» و»الله يساعد الله يعين» وكذلك في مسرحيته فلم امريكي طويل» وتحديدا اغنية «قوم فوت نام» و»يا زمان الطائفية» وهذا الفنان يفتح الان اخصب حوار موسيقي غنائي مع تراث «سيد درويش» و»زكريا احمد» و»الشيخ إمام». ان لموسيقى الشيخ امام قوة خارقة تجعل السامع يحس بالتوحد مع العالم وتلغي عنده الاحساس بالزمن وتجعله يعانق المطلق وتحيي الكلمات لتحول دون هروبها ولقد لاحظت من خلال استماع بعض الاصدقاء الى اغاني الشيخ امام الاول مرة وخاصة اذا كان المتقبل مستمعا عاديا انه يلمس فيها بعدا حراريا يصدم الاذواق المهادنة، ويخدش الاذواق المدجنة برتابة الاغنية السائدة المتخلفة عن الواقع واغنية الشيخ حتى وهي تحريضية تظل محافظة على مستوى موسيقي راق وهي عموما تتموضع في صياغة صدى فني للمدى الذي يرغب في التحول الى شرارة صدى يلتقط الصراع بمجهر تفتيتي يحلل العناصر المتصارعة ليعطي بها معادلة فنية اشراقية وايحائية تلمع من وراء الواجهة الاولى وترتقي فنيا الى اعلى المستويات حيث يصبح التوصيل عملية فنية عسيرة ويحل صيغة عنيفة وحادة ومكثفة ومعقدة في توازن مع الحالة النفسية اثناء الاداء او الاستماع. اذ ان اغنية الشيخ امام تتطلب احيانا نوعا من المستمعين ذوي تغير كيفي بمعنى ان يكونوا في تواصل مع تراث شعبي مقهور سلامة حجازي، سيد درويش، صالح عد الحي وزكريا احمد... والشيخ امام قد نقل الغناء العربي القائم عل الترجيع والتطريب المبتذل، الى أفاق لم تكن له من قبل . والممعن في معظم الانتاج الفني للشيخ امام يلاحظ انه يبحث دائما عن ركوب الصعب حيث وضع العديد من الالحان بقالب الموشح الاندلسي مثل اغنية «يا مصر قومي وشدي الحيل» للشاعر «نجيب شهاب الدين» على سبيل الذكر لا الحصر، وهو قالب يعتبر من اصعب ضروب الغناء التي تتطلب دقة متناهية حيث لحن هذه الاغنية على ايقاع «سماعي ثقيلل العشري الذي لم يعد احد يلحن عليه غير الاخوين رحباني، والشيخ» علي الدرويش وعمر البطش وبكري الكردي وبعض المغنين «صباح فخري» و»الصابوني» و»محمد خيري» و»أسعد سالم» و»سحر»، و»مها الجابري» وغيرهم من بلاد الشام او استعماله في اغنية قيدوا شمعة يا أحبة» على سبيل المثال ومن بداية الاغنية الى غاية نهايتها على عكس غيره من الملحنين الذين يستعملون هذا الايقاع في بعض المقاطع فقط لصعوبته مثل اغنية ليالي الانس في فيانا «التي غنتها» إسمهان او بعض مقاطع من اغنية «أنا قلبي دليلي» ل «ليلى مراد» فعدا اغنية «الورد جميل ل «أم كلثوم» التي لحنها «زكريا احمد» لم نستمع لاغاني كل مقاطعها على ايقاع الفالس كما اشارت الى ذلك «سهام عصفور» المدرسة بمعهد الموسيقى بالاسكندرية والتي تضيف ان هذا الايقاع معروف في الشرق ب «الاعرج» ان صوت الشيخ امام يجمع بين متناقضات متنافرة قوة، صلابة، حدة، عنف، حلاوة ورومنسية في آن واحد ولكنها تخرج متناسقة بشكل مدهش ومن المآثر الاخرى التي تحسب للشيخ إمام العودة الاقحامية، وهي عودة الى نصوص تراثية او مقاطع منها والبناء عليها مثل البحر بيضحك ليه عطشان يا صبايا الارغول على حسبي وداد الاوله بلدي وفي هذه الاغاني اهتمام ايضا بالمنابع اللحنية القريبة الى روح الشعب وتذوقه ومن هنا نلاحظ تسجيل الجمل اللحنية المستمدة من التراث والتي عمل على تطويرها وعلى تعديلها وخلق انسجام في ما بينها من جهة وفي ما بينها وبين الكلمة من جهة اخرى مثال اغنية مرمر زماني ومن اهم مميزات الشيخ امام انه لا يقدم حواشي ولا تزويقات اضافية الا نادرا وهذا سر أصالته وقدرته على الوصول المباشر الى قلوب الناس. فالشيخ امام قدم لنا موسيقى تتلاءم مع المعطيات الثقافية والاجتماعية الجديدة. وساهمت وتساهم في اغناء الحياة الروحية للانسان العربي الحديث. فالموسيقى هي الانسجام الصوتي الذي يتيح متعة معينة، تدخل الاذن البشرية. هذه المتعة حولها الشيخ بموسيقاه من متعة مجردة بدائية الى متعة متطورة.
وفي آخر زيارة له لبلادنا توفرت لي فرصة الالتقاء به مباشرة ومجالسته وقد كان هناك مجموعة من الاصدقاء، من بينهم آمال المدب الحمروني وخميس البحري ومحمد بحر... في هذا اللقاء المباشر تدعمت الصورة التي رسمتها له في ذهني، فلقد شعرت بنفس الإحساس الذي عبر عنه الشاعر أحمد فؤاد نجم في أول لقاء له بالشيخ امام حيث قال [... جسد لي الشيخ إمام بحياته وتجربته وصوته واصالته كل الجمال الكامن في مصر، الذي يحتاج دائما الى الاكتشاف وإجلاء الصدأ. كنت ارى فيه مصر مظاهرات 46، مصر العمال المقاومين والفلاحين المعدومين، النكتة والدين، آذان الفجر يتردد من فوق مآذن الازهر الشريف، القرآن الذي حفظته، والتعاطف الانساني الذي لا مثيل له في عمقه...] كما اكتشفت انه فنان متواضع جدا، الى درحة تذهل من يسمعه. فهو لا يقول أبدا أنا هنا بطريقة دعائية، لانه يتلاشى تماما في فكرة تنتج معه لحنا ما حتى يصبحا شيئا واحدا، وغنى لنا الشيخ وكنت هناك بجانبه، لا حواجز ولا مصدح وكان صوته ينساب سلسبيلا كان يغني اكثر مما يتكلم فقد كان كلامه غناء. لحظتها تأكدت أكثر أني أمام فنان كبير يغنيك صوته وعوده عن أرقى تخت وعن أجمل كورال فقد حلق بنا بغنائه بعيدا بأغنية «حلوا المراكب مع المغرب وفاتوني» وهي من كلمات الشاعر «نجيب سرور» على مقام الصبا ذي الرومنسية الرقيقة الهادئة وهي من أطول أغانيه [حوالي 15 دقيقة] كما اشارت الى ذلك «رجاء الغداوي» بسبب الموال الطويل الذي جاء في وسطها وهو ما يسمى ب «التفريد غير الموقع» ومول به الشيخ بشجن عميق وهو تقليد نسمعه لاول مرة وتضيف «رجاء الغداوي» أن هذه الاغنية من اكثر اغانيه احتواء للتحليات، واللوازم الموسيقية ويبدو ان صورها الشعرية الغنية ومعانيها الجميلة قد راودت الشيخ واغرته على هذه اللوازم والتحليات ثم تضيف والجديد في هذه الاغنية ان الشيخ انتقل من مقام الى آخر من غير الدرجات المقامية المعهودة والمتبعة والمحددة من قبل الملحنين السابقين والمعاصرين فانتقل من مقام الصبا وهو على درجة «الري» الى الحجار على درجة «الري» أيضا ثم غنى على النهاوند، واستعرض مقام النهاوند بالكامل واستعمل للتحلية في الموال مقاما قل أن يستعمل وهو النهاوند المرصع ولكي يعود الى مقام الصبا حيث بدأ أخذ طريقه الى مقام العجم ثم الى مقام النكريز وهي نقلة صعبة جدا حتى في التقاسيم التجريدية، وتحتاج الى دقة متناهية. وغنى الشيخ إمام حتى أزهر الليل في قلوبنا ومن خلال النقاش معه افاد الشيخ امام ان الحداثة ليست في احلال الآلة الغربية محل الآلة الشرقية وتسريع الايقاع وتصخيب الانغام بكهربة العزف بل الحداثة تعني بالنسبة اليه الارتقاء بالذوق الجمالي عبر تنميته الحثيثة بصورة موضوعية اوالتركيز او التأليف الموسيقي ويشير في نفس هذا الاتجاه الباحث عبد الاله بلقزيز: والحق أن هذا المنحى التراثي في الموسيقى العربية [وكان من رموزه القصبحي والشيخ إمام، وإلى حد ما السنباطي وسيد مكاوي...] وعلى الرغم من انه حاز على قيمة جمالية مهمة وحفظ الذاكرة الموسيقية العربية من التلف، لم يفتح إمكانية حقيقية لتطوير الموسيقى العربية وكثيرا ما كانت وظيفته هي الرد على ذلك التحول الذي شهدته تلك الموسيقى منذ الاربعينات والذي قاده محمد عبد الوهاب مسلحا بطموح تحديثي واضح. معنى ذلك انه تحدد كمنحي تراثي في سياق الاختراق الحداثي ذاك وكرد فعل عليه [وربما كان القصبجي هو الاستثناء في هذ الحكم] واستطرادا نقول: لم تكن تجربة الشيخ إمام عيسى في الستينات، مثلا، مجرد رد فعل ايديولوجي سياسي على أغنية تافهة مضمونا تتغنى بكل شيء الا معاناة الشعب بل كانت الى جانب ذلك طبعا رد فعل فني على نمط من الموسيقى ساد وهيمن في حقل الغناء العربي وافقده اصالته وهو ما عبر عنه نظريا الشيخ امام في اكثر من مناسبة وان كان عطاؤه الفني خير مناسبة عبر فيها عن ذلك، حيث أن طريقته في التلحين وفي العزف وفي الاداء [بنكهته الترتيلية العميقة] تظل جميعا عناصر دالة على ما ذهبنا إليه.
ويدعم قول عبد الاله بلقزيز ما ورد في كتاب الاغاني في المغاني، الشيخ امام سيرة فنية وموسيقية للدكتور شاكر النابلسي على لسان الناقد الموسيقي الدكتور فؤاد زكريا [أداء الشيخ إمام هو مزيج من الانشاد والدعوة او الخطابة او صيحات الحماسة والاعجاب وهمسات الاستنكار وغمزات اللوم والتفريع.. إن اداءه يترك فيك إحساسا بأنه يدعوك الى شيء ولا يكتفي بإمتاعك فنيا وهو في أدائه يجمع بين شخصية الفنان والخطيب السياسي والناقد السياسي والناقد الاجتماعي الساخر وهو بارع في ادائه وتمثيله الذي يتجاوز نطاق اللحن البحت... انه يقدم باختصار نوعا من الاداء يتخطى الحواجز التي الفناها بين الفنون بل بين الخيال الفني والواقع الفعلي للناس)
فعلا فقد أسس الشيخ امام بعدد كبير من اعماله الفنية بدءا من اغنية عالمحطة الغناء التمثيلي او الغناء المسرحي معتمدا فيه على عنصرين اساسيين: اولهما اللحن نفسه من بساطته وسلاسته ليناسب، واقع حال الكلمات وما توحي اليه ثم اعتماده الايقاعات البسيطة الشعبية كالمسمى بالمقسوم وضروبه وهي ايقاعات معروفة في الوطن العربي وسهلة الحفظ والترديد من المرة الاولى والعنصرالثاني طريقته في التعبير وتقمص اداء الشخصيات تقمصا يكاد يكون تاما في طريقة الأداء المعبرة عن المواقف المختلفة: مواقف التحدي، والرجاء، والطلب، والرفض والسخرية، وضرب الامثال.. وكل هذا في غلاف من السخرية الغنائية الشجية المحببة، وقد لاحظ كذلك اسس هذا المسرح الغنائي الشعبي ورصده الفنان المصري محرم فؤاد عندما قابل الشيخ امام ذات مرة وسمع أغنيتي الشربة العجيبة والحاوي عن ظاهرة هذا المسرح الغنائي: فوجئت بالمسرح الغنائي امامي حديثا فرحت وحزنت في الوقت نفسه فرحت لانني عثرت على هذه الامكانية الخطيرة وحزنت لانني لا املك القدرة على خدمة هذه الموهبة الخطيرة وسعدت لان المسرح الغنائي في جميع عصوره يعاد في روح الشيخ امام.
وهو ما لفت أيضا نظر الناقد الموسيقي عبد الرحمان الخميسي حين سمع هاتين الاغنيتين، فقال: «سمعت الشيخ يغني ألحانه العذبة المبتكرة ويقيني انه ليس للشيخ امام نظير بين الملحنين المصريين من حيث قدرته على التصوير الفني ومن هنا ينبغي على اولئك الذين يؤدون ألحان الشيخ ان يقوموا بادائها تمثيليا. كذلك ابدى الناقد الفني والموسيقي كمال النجمي الملاحظة نفسها فقال «إذا اتيح للشيخ إمام ان يستكمل خطواته في المسرح الغنائي في ظروف مواتية مشجعة، فقد يكون لنا منه الملحن الشعبي الذي لن ينساه الناس».
وفي إحدى زيارات الشيخ امام الى الاسكندرية واحيائه لبعض السهرات حضرها فنانون ومثقفون كتب الناقد المعروف الاستاذ ابراهيم ابو طالب في مجلة «الثغر الجديد» تعليقا على أغنية البحر بيضحك ليه قدم له باستهلال قال فيه ان الاسكندرية نعمت في الاسبوع الماضي بالفنان الشيخ إمام عيسى الذي قدم مجموعة من ألحانه الجديدة الجديرة بالدراسة والتحليل، كعلامة من علامات التحديد المفيد في الموسيقى الشرقية واليكم مثالا لهذه الالحان لاغنية من كلمات الشاعر المعروف نجيب سرور ثم أثبت كلمات الاغنية بنصها الكامل وقال بعد ذلك: «هذه اغنية كلماتها جميلة وهي لشاعر كبير كلنا نعرفه وهي اغنية مليئة بالصور الشعرية والموسيقى الغنية، وفيها خيال جميل وواسع لذا، نرى ان الشيخ امام قد تجلى في اداء هذه الاغنية، وعبر عن كلماتها كأحسن ما يكون التعبير لان الكلام هنا ساعده كثيرا فلم يبذل جهدا كبيرا في تطويع الكلمات نغميا فالكلام هنا قاده الى اللحن ولم يطوع اللحن الكلام ولقد لحن الشيخ امام هذه الاغنية على ايقاعين بسيطين فبدأ بالايقاع الملفوف في مذهب الاغنية ثم انتقل الى ايقاع المقسوم في المقاطع الاخرى وجاء لحن هذه الاغنية على مقام العجم عشيران فقط وهو مقام ذو قوة مع بعض التشكيلات الخفيفة ضمن هذا المقام او ما يسمى بالعلامات المعترضة التي يميل عليها الملحن ولكنه لا يلبث طويلا عليها وهي نوع من التحلية في ظل غياب التشكيل اللحني من مقامات مختلفة.
واقترح توزيع الاغنية توزيعا موسيقيا حديثا، فقال: ومقام العجم مقام شرقي، يقابل مقام (الماجور) في الموسيقى الغربية. وكما هو معلوم فإن مقام العجم خال من ربع التون، وقابل للتوزيع الموسيقي، والخيال الهرموني، أو التآلف الموسيقي فيه واسع جدا، وأنا ارى أن هذه الاغنية تصلح لان توزع توزيعا موسيقيا هرمونيا وهذا هو الجديد في هذه الاغنية بالنسبة لباقي الحان الشيخ إمام وهو قابليتها الكبيرة للتوزيع وبناء ألحان اضافية على اللحن الرئيسي، شريطة ان لا يشوه اللحن الرئيسي وسيكون هذا التوزيع سهلا لخلو اللحن من الانتقالات اللحنية والتشكيل النغمي المتشابك كتلك التي سمعناها في أغان اخرى ولو تم التوزيع الموسيقي لهذه الاغنية لتجسدت معانيها بشكل أكبر وأوسع وأوضح.
وقام بدراسة مقارنة لهذه الاغنية واغنية سيد درويش التي تحمل نفس العنوان، مبينا عنصر الاداء الدرامي في هذا اللحن، فقال : ولو أجرينا مقارنة بسيطة بين هذه الاغنية، واغنية سيد درويش التي تحمل العنوان نفسه ولكن لمؤلف آخر، والتي يقول مطلعها:
«البحر بيضحك واللّه .. للخفه وهي نازله .. تدلع تملا القلل ..»
لوجدنا أنّ سيّد درويش قد لحّن أغنيته على مقام خفيف هو مقام البيات، ثمّ جزءا منها على مقام الحجاز، ثمّ على مقام الحجاز كار، وهذا ليس مهمّا، إذ أنّ كلام الأغنيتين يختلف اختلافا واضحا وكبيرا. ولكن مجال المقارنة يمكن أن ينحصر في طريقة الأداء في الأغنيتين. فالأداء عند سيّد درويش يكاد يكون أقل من عادي، خال من أي تعبير، أو إيقاع، وكأنّه ينشد أنشودة مدرسية، تخلو من الأداء التعبيري. فأدّى كل كلمات الأغنية بنفس الطبقة الصوتية دون مراعاة لمعاني الكلمات المختلفة. في حين أنّ الشيخ إمام قام بأداء الكلمات بطبقات صوته المتنوّعة، أداء دراميا واضحا كما هو الحال في معظم ما غنّى الشيخ إمام، وسمعنا منه من أغان سابقة. وأعطى كل كلمة ومقطع حقّها التعبيري والإيقاعي في الأداء. وكان صوته بمثابة الكاميرا المصوّرة، ليس بالأبيض والأسود ولكن بالألوان. فطبقات صوت الشيخ إمام استحالت في اللّحن إلى ألوان مختلفة. خاصّة عندما يقول: «البحر غضبان ما بيضحكش». فعبّر في أدائه عن غضب البحر وجبروته عن طريق الضغوط في الصّوت والنّغم، تعبيرا وافيا. وأبرز الضغوط في الإيقاع إبرازا تامّا. ولعلّ السبب في كل هذا يعود إلى أنّ صوت الشيخ إمام كان اختياره لمقام العجم الفخم مناسبا لفخامة وعظمة البحر، وتعبير عن قوته وجبروته. وهنا تبرز خبرة الملحّن في اختيار المقام / اللون المناسب للمنظر الذي يريد أن يصوّره، وهو ما يسمّى في الفن التشكيلي بعلم الألوان وطبيعتها. ويقابله في الموسيقى علم المقامات وطبيعتها.
كما كتب محمد أيّوب في مجلة «الفجر الجديد» تحت عنوان «أبدع الموسيقى ما قلّت ودلّت» مقالا طويلا تحدّث فيه عن سر الدسم الموسيقي في ألحان الشيخ إمام، فقال: إنّ الدسم الموسيقي في اللّحن، يأتي من اللّحن نفسه، وليس نتيجة للزّركشة الخارجية، والتطريز الموسيقي الذي يأتي في أطراف اللّحن وفي وسطه. لذا، فإنّ إماما ليس بحاجة لمثل هذه الزركشات. فالموسيقى التي نسمعها هذه الأيّام في الأغاني العربية، تدخل بين ثناياها جملا موسيقية للتحلية، والزركشة الموسيقية، والإشباع الموسيقي. في حين أنّ هذه التحليات والزركشات TRILLS غير واردة في ألحان الشيخ إمام، لأنّها علامة من علامات القحط الإبداعي. ورغم ذلك تشعر بدسامة وثراء موسيقاه. وهذا عنصر من عناصر جماليات هذه الموسيقى. ذلك أنّ لحنه الأصلي مكتف بذاته. دسم بذاته، ثري بذاته، جميل بذاته. ومن هنا جاءت ألحانه مركّزة، دسمة، كثيفة، غير محلولة، أو مخففة بلوازم موسيقية. فكانت جمله الموسيقية قصيرة. فإمام كما قال لي ذات مرّة يعتبر الجمل الموسيقية الطويلة والمقدمات الموسيقية، نوعا من التظاهر الفني الشكلي، والحشو الفني الذي لا يضيف إلى العمل قوّة في أركانه الأساسية، بقدر ما يضيف إليه شحوما ودهونا تزيد من طراوته وليونته التي تؤدّي إلى الترهّل في أحيان كثيرة. خاصّة عندما توضع هذه الزركشات والزوائد الطفيلية في مكان لا لزوم لها، ولا يكون لها علاقة عضوية فنية باللّحن الأساسي. فيصبح من السّهل فصلها، والاستغناء عنها. مثلها مثل الدهن والشحم في الجسم، يمكن إزالته دون أن يتأثّر اللّحن. وهذا ما حصل لكثير من الألحان. أمّا منهج إمام في التلحين فهو:
«أبدع الموسيقى، ما قلّت ودلّت».
وكتب الدكتور فؤاد زكريا، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، ورئيس قسم الفلسفة بجامعة الكويت، والمحلّل والشارح الموسيقي المعروف، مقالا طويلا في مجلة «الفكر المعاصر يناير 1969» تحت عنوان «حول ظاهرة الشيخ إمام» فقال: «إنّ ما يقدّمه الشيخ إمام للنّاس، ليس موسيقى أو ألحانا فحسب، بل هو عمل متكامل تتضافر فيه جهود الشاعر المرهف، والملحّن الحسّاس، والمنشد المتحمّس في وحدة وثيقة، وارتباط عضوي واحد...» أمّا عن تشكيلة جمهوره من مختلف طبقات الشعب، واستجابة هذا الجمهور الجماعية وهي ظاهرة فريدة وبارزة في الغناء العربي المعاصر، فقد قال: خذ تلك الحماسة والمشاركة الفريدة التي يستجيب بها الناس لفنه.. ستجد هذه الاستجابة بين أعلى فئات المثقّفين على النحو نفسه الذي تجدها بين أبسط الفئات الشعبية».
وتساءل الدكتور فؤاد زكريا عن سر هذه الظاهرة بقوله: «كيف يتمكّن الشيخ إمام من الجمع بين أشد المستويات الثقافية تباينا؟ وكيف استطاع أن ينتزع منهم جميعا استجابات متماثلة؟ وكيف ذابت أمامه الفوارق بين العقليات والثقافات إلى هذا الحد؟وأجاب عن هذه التساؤلات بقوله: «تلك ولا شكّ صفة ينفرد بها هذا الفنّان. وهي إن دلّت على شيء فإنّما تدل على أنّنا إزاء ظاهرة لها سماتها الفريدة. فهناك خيوط مغناطسية، تربط هذا الفنان بجمهوره.. وإنّه ليبدو للمرء أنّ الأغاني التي وضعها، وضعت بحيث يصبح الجمهور جزءا منها.. أو تصبح هي جزءا منه».
أمّا أحمد بهاء الدين فقد كتب عن ظاهرة الفلسفة في أداء وألحان الشيخ: «إنّها أوّل أغنية فلسفية في تراثنا الغنائي، تغوص بك في تأمّلات عميقة. ثمّ تحلّق بك في سماوات الحيرة والتساؤل.. اللّحن يعبّر عن المعنى، والمعنى يرقى باللّحن ويتألّق..
أمّا الأستاذ حسن حنفي أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة، فقد كتب: «إنّ لحنه الأساسي لا يتغيّر بتغيّر الأداء، بل في كل مرّة يؤدّي الشيخ إمام اللّحن نفسه، بأداء جديد، وكأنّ الإنسان يسمعه لأوّل مرّة، فهو يعيش اللّحن من الداخل، ويؤدّيه كل مرّة، وكأنّه يؤدّيه لأوّل مرّة».
وقال الأستاذ محمود أمين العالم عن أداء وألحان الشيخ الدرامية في مجلة «الكواكب 17 12 68» في مقال تحت عنوان «ماذا فعلنا بألحان الشيخ إمام؟»: «... وجدت في ألحانه وأدائه، الأغنية التعبيرية الدرامية النابضة بالمعاناة، الزاخرة بالحيوية التي لا تتسكّع بك حول التّكرار الزخرفي للنّغم، أو تتوقّف بك عند الزوائد الطفيلية التي تكمل المقاطع لضرورة شكلية، بل تعبّر عنك وتتطوّر بك، وتمضي معك إلى غاية واضحة، تنبع من كل خبرة حياتك، أو تعود بك الى حياتك نفسها، تعمّقها، وتوقظ فيها كوامن الأصالة والصدق الإنساني». وأضاف: ... هذا فنّان كبير، وموهبة نادرة، أخشى أن يبقى بيننا هكذا، حديثا بين الأصدقاء، تعليقات في الصحف، لقاء في دعوات خاصة ثمّ يأتي يوم يسائلنا فيه مجتمعنا بضمير الواجب: ماذا فعلتم بألحان الشيخ إمام..؟».
وأنا بدوري أسأل: ماذا فعلنا بفن الشيخ إمام؟ إنّي أطالب بحق كل المجتمع العربي في ما أبدعه هذا الفنان العظيم. هذا الفنان الذي عاش كما أشار الدكتور شاكر النابلسي إنسانا فقيرا، ومكفوفا، وضعيف الجسم، ومستطيعا بغيره، ومؤمنا باللّه، ومرتّلا لكتابه، ومؤذنا في مساجده، وصوفيا، ومنشدا، وموَشّحا، وفنّانا راسخ العلم بفنه... كان مخلصا ووفيّا لطبقته التي أخلصت له، واحتضنته سنين طويلة في حارته خوش قدم بالغورية. وكان هذا الاخلاص وهذا الوفاء، يتجلّى في الصّدق في كتابة تاريخ هذه الطبقة: العاطفي، والاجتماعي، والثقافي، والاقتصادي، والسياسي، بريشة عوده وعلى أوتار هذا العود، وبكل كلمة تساهم في كتابة هذا التاريخ بصدق./.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.