مع غزو العولمة لبلداننا دون استئذان تغيّرت تبعا لذلك كلّ القواعد وبدأ عالم الشغل يتحوّل بدوره، من ذلك ظاهرة انتقال الشركات المتعددة الجنسية وغيرها الى بلدان الجنوب حيث الاجور الزهيدة واليد العاملة الماهرة والحوافز الجبائية وثغرات القوانين الشغلية، التي تمكن الشركات من فضاء خصب لاطلاق عنانها للاستغلال والربح اللامحدود على حساب طاقات ابناء العالم الثالث. على هذا الوقع المتسارع للعولمة غزت بلادنا منذ أواخر التسعينيات مراكز النداء (les centrs d'appels) التي أصبحت اليوم كالفقاقيع بتونس الكبرى وبدأ التفكير في مدن اخرى كسوسة وباجة وغيرها... صحيح ان هذه الشركات ذات طاقة تشغيلية كبيرة وتمثل حلاّ، «وقتيا» لمعضلة البطالة التي تشكو منها اغلب العائلات التونسية لكن بأي ثمن؟ فحسب إحصائيات الوكالة التونسية للنهوض بالاستثمار الخارجي (FIPA) يتمركز قرابة 102 مركز للنداء وقد يصل عددهم أواخر سنة 2009 الى 130 مركزا. وتشغل هذه المراكز الى حدّ الان قرابة 4724 عونا من مجموع 8590 عونا بقطاع الخدمات واستثماراتها بتونس تصل الى 17 مليون دينار وهو رقم يبرز أهميتها على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. لماذا اختاروا تونس؟ ومراكز النداء هذه تقدم خدمات عن بعد الى حرفاء المؤسسات المعنية في كافة ميادين الاتصالات والتجارة والتسويق فأبناؤنا العاملون بهذه المؤسسات اضطرّوا اثناء ساعات العمل الطويلة والشاقة إلى انتحال اسماء غربية كبرنار وستيفان وغيرها من أجل لقمة العيش وحسب الاحصائيات والارقام والتحاليل الغربية فإن تونس تمثل فضاء مهما واستراتيجيا مربحا لهذه الشركات فهذه المهنة تحتاج الى متخرّجين وطلبة لهم قدرة على الحديث باللغات الفرنسية او الانقليزية والايطالية بطلاقة وبلكنة اوروبية صرف وهو متوفّر بشكل كبير فقد أكدت الشركات الفرنسية انها اختارت الانتصاب بتونس لان نطق التونسي للفرنسية افضل مما هو موجود ببلدان اخرى. امتيازات جبائية مغرية والى جانب اللغة توفّر تونس حسب وكالة النهوض بالاستثمار الخارجي فرصا استثمارية متعددة ومشجعة حيث تتمتع مراكز النداء بالاعفاء الجبائي عند التصدير مدّة 10 سنوات ولا يدفع المستثمر بعد تلك المدة سوى 50 من الجباية كما ان المستثمرين معفون من دفع الاداءات على جلب المعدات من الخارج ومن دفع الاداء على القيمة المضافة عند شراء معدات محلية. وتمنح لهؤلاء المستثمرين منحة استثمار تتراوح بين 15 و25 من قيمة المشروع وذلك عند الاستثمار بمناطق صناعية ذات اولوية. والحقيقة تقال إن المستثمرين قدموا الى هنا لتفاوت تكاليف انجاز مثل هذه المشاريع بين اوروبا وتونس وهذا مشروع لهم لكن ليس على حساب ابنائنا الذين ضحّوا من أجلهم أجيالا وأجيالا بتعليمهم وتخريج طاقات فذّة قادرة على العطاء. والتخوفات الحاصلة الان تكمن حول مستقبل هذه المراكز، رغم أن العقل يقول إن الاستثمار الذي وضعته هذه المؤسسات ومواصلة اقبالهم على بلادنا يؤكد أنهم جادون في استثمارهم لكن ما يخيف حقا هو تواصل الاعتماد على قانون الغاب بداخلها فلا قوانين واضحة ولا أجورا محدد باتفاقية خاصة بهذا القطاع، فهل يعقل أن كل مؤسسة تعمل كما يحلو لها فواحدة ترسم لكنها تدفع اجورا متدنية واخرى لا تحترم ساعات العمل ولا توفر حماية اجتماعية او تغطية صحية، هل بهذه المعاملات يمكن ان نضمن مستقبل ابنائنا هل يمكن للحلول الوقتية والظرفية الاتية من الخارج ان تقضي على البطالة التي ترهق العائلات التونسية كافة من جميع الطبقات دون استثناء؟ كل هذه الاسئلة حاولنا توجيهها الى بعض النقابات التي نجحت في اقامة بنيان لها رغم الهرسلة والترهيب فهل يعقل ان يكون لجلّ هذه المؤسسات الاجنبية نقابات بأوروبا ولما يقرّر أعواننا التونسيون المشتغلون بالمراكز المنتقلة هنا يمنعون ويحرّمون عليهم الدفاع عن حقوقهم ورغم تلك الهرسلة فقد نجح بعض الاخوة في مسعاهم وجعل الحلم حقيقة وها انهم يتقدمون خطوات كبيرة رغم التضييقات وقد نرى قريبا قطاعا منظما بمراكز النداء. يقول حاتم الرديسي وهو الكاتب العام للنقابة الاساسية لمركز النداء ترانسكوم «Transcom» ان هذه المؤسسة توفر حاليا افضل الخدمات ولئن قبل الفرنسيون التفاوض مع النقابة الا ان المدير التونسي رفض ذلك. وحول ظروف العمل بين الاخ الرديسي ان المؤسسة تحترم الى حدّ الان نظام ساعات العمل كما تم الانطلاق في المفاوضات حول الزيادات في الاجور والمنح ومدة الراحة بين ساعات العمل واكد الرديسي ان هذه المؤسسة تحترم آجال الترسيم وتوفر للعاملين تغطية صحية واجتماعية. وحول مستقبل مراكز النداء بتونس اشار الى ان هذه المؤسسة كانت تشتغل بالمغرب الا انها انتصبت ببلادنا لتوفر كفاءات مهنية مما مكّنها من الحصول على نتائج هامة على مستوى الارباح مقارنة باماكن اخرى وعكس «سرانسكوم» فإن الوضع بمركز النداء صلامبو الذي انتصب بتونس سنة 2004 يشهد عدّة مشاكل خصوصا مع حلول مدير الانتاج الجديد صائفة 2006 الذي قرر عند مباشرته للعمل حذف 50 دينارا من الاجور بناء على قرار تقليص ساعات العمل الاسبوعية ويوضح الاخ كمال الشواشي عضو النقابة الاساسية ان هذا المسؤول الاداري حاول ايضا حذف منحة شهر رمضان ليبيّن أمام أعرافه انه سيقلص من كتلة الاجور ويزيدهم في الارباح. وفي شهر ديسمبر انطلق الاعوان بصمت في التفكير بإنشاء نقابة لجمع الانخراطات وفي تلك الاثناء تم طرد خمسة موظفين وكان رد فعل الاعوان الاسراع بانشاء النقابة وعلى إثر الاعلان عن المكتب النقابي قررت الادارة طرد النائبة الاولى ريم بوسعادة والنائب الثاني كمال الشواشي للترهيب ولتخويف بقية الاعوان لكن تمسك النائبين بمطالب الاعوان وقيامهما باعتصام مدة اربعة ايام ووصول الموضوع الى تفقدية الشغل الاتحاد العام التونسي للشغل جعل الادارة تدخل في مفاوضات بمقر ولاية تونس اعترفت على إثرها بالنقابة الاساسية وبالتشريع التونسي. عن ظروف العمل حدّثنا الاخ الشواشي مبينا انها صعبة للغاية حيث تتطلب تفرغا ب 8 أو 9 ساعات يوميا مع راحة جملية تقدر ب 45 دقيقة كاقصى حدّ وفي بعض الاحيان يمكن ان لا تحصل على هذه الراحة في صورة وجود عمل متواصل. ويختص مركز النداء Transcom في حلّ المشاكل النفسية للحرفاء مما يستدعي مجهودا اضافيا ووضعا بعيدا عن الزجر وهو ما يفتقده مركز النداء هذا حيث اوضع محدثنا ان فضاء العمل غير مريح فالمساحة ضيقة وتوجد وعود لتحسين فضاء العمل لكن دون جدوى. وبخصوص الاجور فإن الاجر الاساسي الاقصى يصل الى 466 دينارا مع منحة ب 5 على رقم المعاملات المتحصل عليها من قبل الشركة. عن العلاقة بين النقابة والادارة اوضح محدثنا ان جلستين رسميتين قد انعقدتا دون نتيجة ومن اهم مشاغل الموظفين وقف العقوبات وتمكين الموظفين من وصولات الاكل وتمتيعهم من حقهم في التأمين الصحي ومنحة شهر رمضان وترسيم الاعوان. ورغم ان العاملين بهذا المركز يتمتعون بمستوى تعليمي عال الا ان الشركة تتعامل معهم بطريقة غير حضارية وهنا أتساءل ان كان المشرفون عليها بفرنسا يتعاملون مع الموظفين الفرنسيين بهذه الشاكلة. وحول مستقبل هذا القطاع عبر الاخ الشواشي عن تشاؤمه من المستقبل. وحيّا محدثي الدعم اللامشروط للمسؤولين النقابيين بالاتحاد العام التونسي للشغل على دعمهم لنضالات ابناء القطاع بجهة تونس الكبرى وطالب وزارة الشؤون الاجتماعية بإدراج مسألة اقامة اتفاقية مشتركة قطاعية كأولوية ودعا الحكومة التونسية وكل المعنيين بهذا الملف الى الجانب الاجتماعي عند تمكين المستثمرين الاجانب من الحوافز بالتفكير في ابنائها وحمايتهم من الاستغلال المجحف. والتقينا أيضا الأخت هزار الطرابلسي الكاتبة العامة للنقابة الاساسية لشركة «تيليبار فرمنس» «teleperformance» وهي أكبر المؤسسات المشغلة (قرابة 3000 عون). الاخت هزار بينت ان هذه المؤسسة رغم أنها الأولى على مستوى الأرباح الا انها ادنى اجورا حيث يقدر سعر ساعة عمل ب 2590 مليما بعد العمل 9 أشهر بهذه المؤسسة، وقبل ذلك تحدّد الساعة ب 2390 مليما. وأضافت أن أجواء العمل غير طبيعية ومتوترة فالعامل بمركز النداء مطالب بالاشتغال من الساعة السابعة صباحا الى الساعة الحادية عشرة مساء أو من الثامنة والنصف الى الثامنة مساء. والعقوبات الادبية والمادية لا حصر لها ولا يمكن لاي عامل المناقشة او ابداء الرأي فالهدف هو المال. شهادة أحد العاملين احد العاملين بإحدى هذه المراكز رفض أن يدلي باسمه خوفا من الطرد وكلهم مثله يشتغلون من بداية الصباح الى آخر الليل. يقول محدثي المتخفي «إن العمل بمراكز النداء هو ضرورة لانه الشغل الوحيد الموجود والسهل، وقد علمونا اننا كلنا نسخ متطابقة ولا يجب علينا، أبدا ان نتذمر من تأثر الاجور فالهدف في آخر المطاف العمل فقط. فمنذ الساعة السادسة صباحا أنهض بأعين منتفخة، والوجه شاحب، أتحول إثر ذلك الى مقر عملي حيث تنتظرني المكالمات من طرف زبائن نضطر للاستماع الى شتائمهم واهاناتهم وسبابهم كل هذا من أجل حفنة من المال الضرورية لكل متخرج مثلي. اما عن الوضع المهني فأنت منفي طوال اليوم ومحروم من الراحات الأسبوعية والعطل الرسمية وغير الرسمية. وتقبل المكالمات يكون مبرمجا فلا مجال للراحة فالاعين أمام شاشة الكمبيوتر والاذان تستمع الى الشتائم والاعصاب تحترق وشعار هذه المراكز «الوقت من ذهب ويعني المال» «the time is money».