رئيس الجمهورية قيس سعيّد.. المفسدون... إمّا يعيدون الأموال أو يحاسبهم القضاء    فاتورة استيراد الطاقة لا تطاق .. هل تعود تونس إلى مشروعها النووي؟    في علاقة بالجهاز السرّي واغتيال الشهيد بلعيد... تفاصيل سقوط أخطبوط النهضة    مذكّرات سياسي في «الشروق» (5) وزير الخارجية الأسبق الحبيب بن يحيى... يتكلّم الصادقية حاضنة المعرفة والعمل الوطني...!    أخبار المال والأعمال    تقديرات بانحسار عجز الميزانية الى 6.6 ٪ من الناتج المحلي    مع الشروق .. «طوفان الأقصى» أسقط كل الأقنعة.. كشف كل العورات    مع الشروق .. «طوفان الأقصى» أسقط كل الأقنعة.. كشف كل العورات    مزاد دولي يبيع ساعة أغنى راكب ابتلعه الأطلسي مع سفينة تايتنيك    الرابطة الثانية (ج 7 إيابا) قمة مثيرة بين «الجليزة» و«الستيدة»    مانشستر سيتي الانقليزي يهنّئ الترجي والأهلي    ترشح إلى «فينال» رابطة الأبطال وضَمن المونديال ...مبروك للترجي .. مبروك لتونس    فضاءات أغلقت أبوابها وأخرى هجرها روادها .. من يعيد الحياة الى المكتبات العمومية؟    تنديد بمحتوى ''سين وجيم الجنسانية''    ابتكرتها د. إيمان التركي المهري .. تقنية تونسية جديدة لعلاج الذقن المزدوجة    الكاف..جرحى في حادث مرور..    نبيل عمار يؤكد الحرص على مزيد الارتقاء بالتعاون بين تونس والكامرون    استشهاد خمسة فلسطينيين في قصف لطيران الاحتلال لمناطق وسط وجنوب غزة..#خبر_عاجل    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    ماذا في لقاء وزير الخارجية بنظيره الكاميروني؟    طقس الليلة    تسجيل مقدّمة ابن خلدون على لائحة 'ذاكرة العالم' لدى اليونسكو: آخر الاستعدادات    بطولة الرابطة 1 (مرحلة التتويج): حكام الجولة الخامسة    البطولة الافريقية للجيدو - ميدالية فضية لعلاء الدين شلبي في وزن -73 كلغ    توزر: المخيم الوطني التدريبي للشباب المبادر في مجال الاقتصاد الأخضر مناسبة لمزيد التثقيف حول أهمية المجال في سوق الشغل    نابل: الاحتفاظ بشخص محكوم بالسجن من أجل "الانتماء إلى تنظيم إرهابي" (الحرس الوطني)    أكثر من 20 ألف طالب تونسي يتابعون دراساتهم في الخارج    التوتر يشتد في الجامعات الأمريكية مع توسع حركة الطلاب المؤيدين للفلسطينيين    مواطن يرفع قضية بالصافي سعيد بعد دعوته لتحويل جربة لهونغ كونغ    مدير عام وكالة النهوض بالبحث العلمي: الزراعات المائية حلّ لمجابهة التغيرات المناخية    الجزائر تسجل حضورها ب 25 دار نشر وأكثر من 600 عنوان في معرض تونس الدولي للكتاب    المؤرخ الهادي التيمومي في ندوة بمعرض تونس الدولي للكتاب : هناك من يعطي دروسا في التاريخ وهو لم يدرسه مطلقا    كتيّب يروّج للمثلية الجنسية بمعرض تونس للكتاب؟    وزارة التجارة تتخذ اجراءات في قطاع الأعلاف منها التخفيض في أسعار فيتورة الصوجا المنتجة محليا    الرابطة 1 ( تفادي النزول - الجولة الثامنة): مواجهات صعبة للنادي البنزرتي واتحاد تطاوين    افتتاح المداولات 31 لطب الأسنان تحت شعار طب الأسنان المتقدم من البحث إلى التطبيق    تضم فتيات قاصرات: تفكيك شبكة دعارة تنشط بتونس الكبرى    يلاحق زوجته داخل محل حلاقة ويشوه وجهها    عاجل/ إصابة وزير الاحتلال بن غفير بجروح بعد انقلاب سيارته    القلعة الصغرى : الإحتفاظ بمروج مخدرات    تراجع إنتاج التبغ بنسبة 90 بالمائة    هام/ ترسيم هؤولاء الأعوان الوقتيين بهذه الولايات..    تقلص العجز التجاري الشهري    الشابّة: يُفارق الحياة وهو يحفر قبرا    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    عاجل/ تحذير من أمطار وفيضانات ستجتاح هذه الدولة..    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    التشكيلة المنتظرة للترجي في مواجهة صن داونز    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    هرقلة: الحرس البحري يقدم النجدة والمساعدة لمركب صيد بحري على متنه 11 شخصا    وصفه العلماء بالثوري : أول اختبار لدواء يقاوم عدة أنواع من السرطان    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسيرة مفكر ملتزم
كرنيليوس كاستورياديس
نشر في الشعب يوم 04 - 11 - 2006

ولد المفكر اليوناني كاستورياديس في سنة 1922 وتوفي سنة 1997 بباريس بعد أن قضى الجزء الأكبر من حياته بفرنسا. يمكن القول أن كاستورياديس عاش إلى حد ما مغمورا فلا هو من بين السياسيين المعروفين ولا هو مفكر ذو صيت. يمكن الجزم أن سنة 1968 كانت بداية ظهوره وبروز أفكاره. بعد أن غادر اليونان وهو في سن العشرين (هربا من الدكتاتورية العسكرية التي حكمت عليه بالإعدام) توجه إلى فرنسا حيث زاول تعليمه.
عمل في البداية كخبير في الاقتصاد بإحدى المؤسسات العالمية.
أسس مع ثلة من رفاقه أمثال Claude Lefort و Jean François Lyotard و Edgar Morin و Guy Debord وغيرهم مجموعة «الاشتراكية أو البربرية» وكان يكتب مقالاته بأسماء مستعارة لكي يتجنب طرده من عمله ثم ما لبث أن استقال وأصبح أستاذا جامعيا في العلوم السياسية علاوة على ممارسة مهنة المحلل النفساني Psychanalyste
يمكن تقسيم كتاباته إلى جزأين هامين :
- من سنة 1946 إلى سنة 1967 : كتابات سياسية.
- من سنة 1968 إلى سنة 1997 : كتابات يلتقي فيها التحليل النفسي بالعلوم والأنتروبولوجيا والسيوسيولجيا والتاريخ والسياسة والفلسفة.
هذا ما جعل المؤسسات الجامعية لا تقدر على تصنيف هذا المفكر. في الحقيقة يعود هذا الاختفاء إلى كون كاستورياديس كان سباقا إلى نقد النظام السوفياتي وبالأخص الستاليني (بالرغم من أنه بدأ تجربته السياسية كماركسيا) في وقت كان ذلك يعدّ من المحرمات. في البداية كان هذا النقد ينطلق من أسس ماركسية ثم ما لبث كاستورياديس أن طور مقاربة جديدة تقطع مع هذه الأيديولوجيا وذلك دون أن يسقط في حبال الفكر الليبرالي كما كان ذلك بالنسبة لما عرف ب» الفلاسفة الجدد».
لخص زبدة أفكاره في كتابه الشهير : « التأسيس الخيالي للمجتمع» الذي صدر سنة 1975 عن دار « سوي» ( L'institution imaginaire de la société) .
تصب أفكار كاستورياديس باتجاه إعادة الاعتبار لمعنى التحرر الفكري والعملي وقد ارتبط ذلك برفضه للفلسفة التي تؤمن بالتحديد Déterminisme وتتلخص في نظام فكري مغلق.
لا يمكن أن نختزل أفكار كاستورياديس في الخط النقدي للشمولية والذي طوره عديد المفكرين مثل Hannah Arendt أو Raymond Aron . فنقد الشمولية لدى كاستورياديس لا ينحصر في الدفاع عن المؤسسات الديمقراطية أو حقوق الإنسان المجردة أو في الدفاع عن أسس المجتمع الليبرالي ولكنه لا ينفصل عن نقد الليبرالية وعن تصور لمجتمع متحرر « أوتونومي» . التعارض بين الديمقراطية والشمولية ليس له من معنى إلا متى أدى إلى إعادة التفكير في الديمقراطية ذاتها وذلك على ضوء التجارب التاريخية : التجربة الأثينية الثورة الديمقراطية في الغرب الحركة العمالية المعاصرة
كاستورياديس والفلسفة :
من العوامل التي جعلت كاستورياديس لا يبرز كفيلسوف معاصر موقفه الخاص من الفلسفة دورها آفاقها ممارستها أهدافها والمتعارض مع الفكر الرائج.
فهو لا يتطرق للفلسفة بصفته مؤرخا لها ومؤوّلا أو مفككا. في الحقيقة هناك صورة نموذجية غالبة للفيلسوف المعاصر ورائجة في أوساط الجامعيين بالأخص ومفادها أن الفيلسوف المعاصر هو ذاك الذي يمارس هذا النشاط كمحلل ومؤول فتصبح فلسفته «تلخيصا تاريخيا» للفلسفات السابقة ولتراث ميتافيزيقي مغلق (وهذه الرؤية لا تخلو من إدعاء وغرور)
رفض كاستو رياديس فكرة نهاية الفلسفة لدى هيجل وهيدغر وغيرهما واعتبرها دليلا على العجز عن تجاوز المألوف من الفكر وعن ابتكار الجديد.
فالسمة الغالبة للفلسفة أنها أصبحت ضربا من التأويل والتحليل والمراجعة المضاعفة والقراءة المتكررة لأفكار سابقة وهذا يفضي إلى حالة من التقطع والتمزق للتاريخ ولتاريخ الفلسفة بالذات فإذا بها تتجاذبها كل من الدراسات الأكاديمية والمهاترات التفكيكية.
لقد كانت الفلسفة دائما مراجعة للدلالات الموروثة لكن الاتجاه الغالب عليها هو انغلاقها على نفسها (لكن حتى في هذه الحالة فهي تسمح بوجود مجال مشترك لتبادل الأفكار والصراع).
الفلسفة « العظيمة» والجديرة بالاحترام والاعتبار هي تلك التي تسمح بقطع سياج الفكر الموروث. فنحن نجد بذورا لهذا التجاوز لدى فلاسفة مثل أفلاطون وأرسطو وكنط وهيجل وغيرهم بالرغم من أننا قد نعارض محتوى هذه الفلسفات. فالفيلسوف والمفكر الجدير بالاحترام هو ذلك الذي يتجاوز فكره أدواته ويفكر في شيء لم يقع التعرض له.
يتوجه كاستورياديس بالنقد إلى المحاولات الجينيالوجية والتفكيكية لدى مفكرين أمثال فوكو ودريدا لأنهم يدمجون الأشياء بأصلها وبوظيفتها ويختزلون قضية الحقيقة في مجرد اختلاف في التأويل وهذا جليّ لدى فوكو الذي يرى أن الإدعاء بالقبض على الحقيقة هو سمة من سمات البحث عن السلطة. إنه الهروب من طرح قضية الحقيقة وهذا ما ميز الأزمنة المعاصرة.فليس من مهمة الفلاسفة تفكيك المقولات والبحث في المسكوت عنه. المهم ليس في أن نعرف من أين يأتي الكلام والتفكير ولكن أن أتساءل بماذا أتكلم وبم أفعل وماذا يجب أن أفعل.
الفلسفة بالنسبة كاستورياديس هي التساؤل الدائم الذي لا يتوقف والمراجعة الجذرية للدلالات الموروثة وذلك بغاية توسيع مجالات الأوتونوميا والاستقلال الفردي والجماعي. فممارسة الفلسفة لا تنقطع ولا تنفك عن المشروع السياسي للتحرر بل هما متلاصقان. فلقد نشأت الفلسفة والديمقراطية في نفس الفترة ونفس المكان. فتضامنهما ناتج عن كونهما تعبران عن رفض الهيترونوميا عكس الأوتونوميا ورفض الادعاء بصحة القواعد والتمثلات الموجودة والموروثة والسائدة ورفض وجود سلطة خارجية ومنبع وأصل خارج عن المجتمع للحقيقة والعدالة.
إذن هي مساءلة دائمة للمؤسسات الموجودة والإقرار بأن الفكر والمجموعة يتأسسان بصفة معلنة ونقدية. إذن واستنادا لكل ما ذكر، لا وجود لعقلانية مطلقة أو عقلنة ما دامت الحقيقة نسبية لكل مجتمع ومؤسسة ولا وجود لعقل مطلق كما لا مجال للموقف الارتيابي واليائس والمبالغ في الشك والذي يؤدي إلى رفض العقل.
يرفض كاستورياديس وهم المعرفة المطلقة الذي سقط فيه هيجل. فمع أن الفلسفة تعتني بالكليات فإنها تتعرض أيضا للتنوع والتغيير والتعدد داخل الوحدة. ينقد كاستورياديس الفلسفة الموروثة أو ما يطلق عليه بالأنطولوجيا الموروثة والمتطابقة كنظرية الأسس والجواهر. فمفهوم الوحدة يتغير بتغير الميادين : المكان الزمان التكوين البيولوجي التكوين النفسي التكوين الاجتماعي . فكل ميدان ينتظم بطريقته الخاصة وبارتباط بالمستويات الأخرى.
فالوجود متعدد ومتغير و تعدد المستويات لا يمثل نظاما (واحدا وجليا ونهائيا) ولكن خليطا Magma ولا يمكن اختزاله في منطق صارم
المشروع الفلسفي لكاستورياديس :
مشروع كاستورياديس الفلسفي متعدد الجوانب. فلقد تطرق إلى قضايا متعددة : الكائن الحي الكائن النفسي المجتمع التاريخ الفلسفة تاريخ العلوم السياسة -الديمقراطية .... مسائلا عديد المفكرين وعديد المدارس الفلسفية واضعا بصمته الخاصة.
يعرف كاستورياديس مستويات متعددة للكائن :
الكائن الأول: بصفته : فوضى تشوش بئر دون قاع وهو موضوع الأنطولوجيا والميتافيزيقيا.
الكائن الحي : الخلية والكائنات الحية المعقدة هو الكائن الأول لذاته وهو موضوع البيولوجيا وفلسفة الكائن الحي.
الكائن النفسي : بصفته بروز وانبثاق لخيال ولا يخضع لأي وظيفة, فهو يمثل القطيعة الأولى مع نظام الكائن الحي (الكائن الأول لذاته) بصفته يميز الكائن البشري عن بقية الكائنات الحية وهو موضوع علم النفس التحليلي.
الكائن الاجتماعي التاريخي : وهو انبثاق أنطولوجي لمؤسسات ودلالات وهو ما يفسر تباين وتعدد الحضارات والثقافات وهو موضوع للسوسيولوجيا والأنتروبولوجيا والتاريخ.
الكائن الذات: هو إقرار بالاستقلال والأوتونوميا الجذرية والعميقة لذاتية بشرية تراجع نفسها وهي الشكل الأقصى لكائن لذاته ومصدر للمخيال بصفته قوة خلق مستقل ومعلن وبارز للعيان وهو موضوع الفكر السياسي.
لا يمكن اختزال هذه المستويات واعتبار أن أحدها يحدد الآخر. فالعلاقة بينها متشعبة ومعقدة.
بخلاف كنط, يرى كاستورياديس أنه لا توجد شروط قبلية للتجربة والممارسة. فالتجربة ذاتها هي التي تحدد في كل مرة شروطا فاعليتها. كما يفنّد كاستورياديس الفكرة القائلة بوجود نظرية شاملة ومكتملة للحقيقة وللتاريخ. لكن كيف يمكن لكاستورياديس أن يدعو إلى مشروع مجتمع مغاير والحال أنه ينفي وجود معرفة مطلقة وتصور عقلاني صرف قبلي للمستقبل. يجيب كاستورياديس بأن غياب المعرفة المطلقة لا يتنافى مع النشاط الواعي والحر فهذا الأخير يمثل الشرط الضروري للمعرفة. إذن لا بد من مراجعة رؤيتنا للعلاقة بين النظرية والممارسة. فالنظرية ليست تأملا لشيء مطابق ولكنها كشف لواقع وظروف وشروط تطوره وتغييره. الممارسة أو « البراكسيس» هي الممارسة الحرة والمتحررة.
فالسياسة الحقيقية والبيداغوجيا الحقيقية والطب الحقيقي كلها تنتمي للممارسة. من هنا نفهم رفض كاستورياديس للمفهوم الرائج للسياسة بصفتها تطبيقا لنظرية مسبقة ومكتملة وذلك بالتوسط بأدوات وتقنيات. فرغم أن الممارسة هي نشاط واعي لكنها ليست تطبيقا لمعرفة مسبقة فحتى وإن استندت لمعرفة فهذه الأخيرة تظل جزئية ووقتية. فالممارسة تسمح بانبثاق معرفة جديدة لأنها تخاطب العالم بلغة هي في نفس الوقت كونية وفريدة.
هذا لا يعني أنه لا وجود لنشاط عقلاني أو أنه يمكن لنا أن نسمح بحرية مطلقة. كما أن ذلك لا يعني أن المعرفة هي رأي من بين جملة آراء وبذلك نروج لنظرية «فوضوية» للمعرفة.
يرفض كاستورياديس أن يرى في هزيمة الماركسية وتقهقرها إقرارا باستحالة تجاوز الهيترونوميا والألينة. فنحن لسنا أمام خيارين لا ثالث لهما :
إما التبعية والتذيل أو العدم والفراغ بل نحن أمام خيارين هما : المجتمع الهيترونومي المكبل والمجتمع الأوتونومي المتحرر والواعي بأن مؤسساته هي من صنعه وبالتالي قابلة للتجاوز في أي لحظة.
الأوتونوميا أو الاستقلال الذاتي ليست كما هي لدى ديكارت وعيا وجوهرا مغلقا تتلخص في عملية التفكير والتفكير في الذات ولا هي كما لدى كنط ذات أخلاقية تخضع لقوانين قبلية ومعطاة مسبقا. فلا وجود لأنا متعالية, أولية, فريدة ومنعزلة.
فالذات تنصهر في موضوعها من خلال الاختيار والتوجه الواعي والإرادي والممارسة ولا يمكن أن تعي بذاتها إلا بانصهارها في المجموعة ولا ينفصل ذلك عن الممارسة أو البراكسيس.
فالذات هي أساسا فعلية وفاعلة ويشقها عالم وتتداخل فيها ذوات أخرى.
الذات شكل ومحتوى, هي بناء علاقة جديدة بين رغبة الفرد ووعيه. الأوتونوميا هي بناء فكر منعكس على نفسه في موقع النوازع اللاواعية وغايتها تدعيم الأنا وحضورها وترسيخ استقلاليتها عن الأنا المتعالية الدلالات المهيمنة في المجتمع المعايير المؤسسة السلطة المتعالية الممارسة المستقلة والمتحررة هي أن لا نترك لا وعينا يحدد نشاطنا وأن نبني علاقة منعكسة على ذواتنا بفضل مخيالنا دون أن نصبح أسرى لأي مستوى من هذه المستويات. هي وضعية نشيطة متحركة لا نهائية ولا يمكن تعريفها وتحديدها في وضعية مثالية. إنها الحالة الفعلية لشخصية في الواقع وهي لا تتوقف عن الحركة والنشاط ومراجعة المسلمات وخطاب الآخر من أجل الكشف عن أوهامها. هذا لا يعني أن نطمس اللاوعي ونضيق عليه الخناق ولكن يفترض إيجاد علاقة توازن متحركة بين نقد واعي ومخيال خلاق.
هنا نصل إلى مسألة جوهرية في فكر كاستورياديس ألا وهو المخيال سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي التاريخي.
الخيال
استقى كاستورياديس مفهوم المخيال الجذري من دراسته لفرويدو»ميرلوبونتى» دون التوقف عليهما. تبرز لنا دراسة التاريخ أن هذا الأخير لا يخضع لعلاقات سببية وأنه لا يمكن تفسيره.
التاريخ هو مسرح للجديد والمغاير والفذ والمختلف و لا يمكن لنا التنبؤ مسبقا بما سيحل.
في الحقيقة يبرز التاريخ بصفته خلق ذاتي للأفراد والمجموعات والطبقات والشعوب والمجتمعات. هذا لا يعني أن التاريخ يبنى من لا شيء وأن الشروط الاقتصادية والثقافية والفكرية لا تفعل في ذلك الخلق فعلها لكنها لا تفعل في عملية الخلق هذه فعلا سببيا.
فمعرفتنا بهذا الخلق تأتي لاحقا. المخيال الجذري هو الذي أنتج اللغات والمؤسسات. هو خلق اجتماعي مؤسِّس بكسر السين بصفته خلق جماعي لدلالات جديدة وتغيير لأخرى ومؤسّس بفتح السين أي مجموعة المؤسسات القائمة والتي تجسد هذه الدلالات المؤسسات السياسية والتقنية والثقافية والمعايير والقوانين التأسيس هو الذي يجعل من المجتمع كلا واحدا. التأسيس الجماعي يتجاوز مجرد إضافات لتأسيس فردي أو كنتيجة لتذاوت Intersubjectivité. فهناك صراع دائم بين المؤسّس بفتح السين والمؤسّس بكسر السين والتاريخ هو حصيلة هذا الصراع.
غالبية المجتمعات بنت مؤسساتها وقوانينها ومعاييرها وأحالتها إما لقوى متعالية وغيبية ومستقلة عن المجتمع أو لقوى خفية كاليد الخفية الليبرالية أو قوانين التاريخ كما هي بالنسبة للنظرية الماركسية والحال أن عملية الخلق هي إنجاز بشري وخلق متواصل.
على ضوء ما سبق كيف يتراءى لنا مشروع كاستورياديس لمجتمع أوتونومي (société autonome)؟ هو مجتمع يؤسّس ذاتيا وبصفة واعية ومعلنة وبصفة دائمة ومستمرة. هو نشاط دائم يتجاوز الجانب الاجتماعي الصرف ولا ينحصر في القضاء على أشكال الاستغلال الاجتماعي والاقتصادي بل هو تأسيس متواصل ومراجعة جذرية لعلاقة الإنسان بالإنسان وعلاقته بأدواته ووسائل عمله ومحيطه وفكره وتاريخه وفنونه وسلطته ذاتها.
هو مشروع الكائن الذات والكائن المجتمع التاريخي الاجتماعي الذي يكسّر السياج الموروث ويبني ويراجع ويتجاوز عن وعي. هو ذلك الفرد الذي يرفض التطابق والتقليد والخضوع فلا تنحصر رؤيته لنفسه في ذاته الفعلية والحاصلة في الواقع بل تتجاوزها في ذات أخرى قابلة للوجود.
كل ذلك يفترض تحرير المخيال الجذري أي تلك القدرة اللامتناهية على تصور الفذ والمغاير والجديد.
لقد تعرض كاستورياديس إلى أزمة المجتمعات الغربية المعاصرة وبالأخص إلى افتقادها القدرة على تمثل ذاتها والناتج عن تذرر المجتمع كما تعرض إلى عجز مختلف الأيديولوجيات الوثوقية عن إيجاد رد صريح وفعلي على هذا الوضع المتردي وما أدى إليه من حروب وكوارث بيئية. بالنسبة لكاستورياديس لا يمكن تجاوز هذه الوضعية إلا بتحرير ذلك المخيال الجذري الفردي والجماعي والمساهمة في صياغة مستقبل مغاير لا يكون خاتمة الفكر والتصور لكنه يفتح آفاقا جديدة للإنسانية. فتجاوز الحالة المتردية التي تميز العهود المعاصرة لا يكون بالانغلاق وفي تصور ثابت ومحدد ولكنه يفترض إطلاق العنان لذلك المخيال الذي لا ينحصر في مجرد تصور ذهني ونظري مسبق ونهائي ولكنه يتجسد بالأساس من خلال ممارسة حرة وواعية بذلتها وبلا وعيها ومتحررة فردية وجماعية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.