القوميون الأتراك ضد أورهان باموك أورهان باموك، واحد من الكتاب الاتراك الاكثر احتراما، كان سيمثل الجمعة 16 02 2005 امام قضاء بلاده لقَدْحه علنا في الهوية التركية في مقابلة مع الجريدة السويسرية (Tages - Anzeiger) / شهري فيفري، تحدث فيها عن المليون أرمني و 000.300 كردي الذين قتلوا في تركيا، وحسب المادة 301 من القانون الجزائي التركي الجديد فان هذه التهمة تستوجب عقوبة بالسجن من ستة اشهر الى ثلاث سنوات. وأثارت هذه المقابلة موجة من الاحتجاجات، حد تفكير القضاة الاتراك بلا شك التدخل لما يمليه منصبهم عليهم في ذلك، قرر قاضي اسطنبول بعد استجوابه أورهان باموك حفظ القضية، لكن قاضي سيسلي (في ضواحي اسطنبول) لم يكن على نفس الرأي، وامام محكمة هذه الضاحية تم مثول الكاتب. ينتمي أورهان باموك الى هذه الفئة النادرة من الكتاب الجيدين الذين تباع كتبهم في رواج كبير، وحين تجاوزت مبيعات كتابه: الحياة الجديدة، مائة ألف نسخة، أواسط التسعينات، نشرت صحيفة «قومية» كبرى مقالا مُعَنْوَنًا: «إنهم يكذبون» اتهم الكاتب ودار النشر بتضخيم الأرقام لغايات اشهارية، وأدين الصحفي على ذلك بالقدح. وتبقى اتهامات مؤرخ مسن كان قد اكتشف في أعمال باموك كمًّا من النقد والسخرية تجاه مؤسس الجمهورية التركية: مصطفى كمال أتاتورك، ولدى بعض الأشخاص من مراكز القوى، لم يكن من الضروري اكثر من ذلك لنعته «بالخائن». ومنذئذ، انقسم العالم الأدبي الى أولئك الذين يبغضونه، وأولئك الذين لا يحملون نحوه أي حقد، ولا يتعلق الامر بالأذواق الأدبية، اذ ان قضية أورهان باموك في كل أنحاء تركيا تقريبا تم تلقفها في حُمّى الصراع حول الانضمام الى الاتحاد الاوروبي. ومن جهة نظر القوميين الأتراك، انقسم العالم الى «نحن» و «هم» ومن البديهي ان رجلا كأورهان باموك هو أقرب الى «هم» من «نحن»، وباموك ليس كاتبا سياسيا، لكنه يحمل وعيا بالدور المنتظر من مثقف، وأمام عديد المشاكل التي تواجهها تركيا، حمل خطابا انسانيا وديموقراطيا، بما في ذلك المسألة الكردية. وفي «نادي معارضي أورهان باموك» (club des anti - Orhan Pamuk)يشاع أنه يسعى لنشر كتاباته بغية الحصول على جائزة نوبل للآداب. وهنا يبدو انه لدينا أعراض نوبلية مزمنة. اقتنعت الجبهة القومية ان العالم أجمع متواطئ ضد تركيا، وتعتقد هذه الجبهة كذلك ان هذه الجائزة لن تمنح لكاتب تركي الا اذا أكد للعالم الخارجي انه خائنا وسيظل خائنا لوطنه. كان هذا الشك مصوّبا في الماضي ضد الكاتب ياشار كمال (Yashar Kemal)، وفي هذه السنة (2005) طُرح اسم باموك كأحد المرشحين لنوبل (nobélisables)، وأسندت الجائزة أخيرا للكاتب المسرحي الانليزي هارولد بنتر (Harold Pinter)، حيث لم يذهب احد في بريطانيا الى القول إن أفكاره كانت تمثل دليلا على رغبته في الحصول على الجائزة الشهيرة، كما لم يفكر أحد في فرنسا ان جون بول سارتر سعى للحصول على نوبل عندما أدان الوجود الفرنسي في الجزائر. أما القوميون الأتراك، فإنهم يرون في نوبل أداة للإساءة للأتراك، وان شعورا مناهضا لباموك بدا متذبذبا، لمشيئة الآراء المنشورة في الخارج، الا ان تصريحه الأخير حول المليون أرمني وثلاث مائة ألف كردي أثار ردة فعل لا سابق لها، والتي تحولت سريعا الى هستيريا جماعية: مقالات ثأرية، مظاهرات، تهديدات بالقتل، بل وذهب قاضي احدى المدن الى حدّ تفتيش المكتبات وحجز كتبه وحرقها، حدث هذا كله والروائي متواجد في الخارج مما أجبره على تأخير عودته. ومع ذلك، اين الشتم في أحاديثه؟ و «مذابح الأرض»، رغم قدمها، 1915، ما زالت موضوع الساعة الساخن في تركيا. وفي هذا الصدد، تربّت أجيال بأكملها لأكثر من ثلاثين سنة دون أن تعرف شيئا عن هذه المسألة، ولم تصلها الا الروايات التي تتحدث عن الفضائع التي ارتكبها الأرمن ضد الاتراك؛ وساهمت هجمات الجيش السري لتحرير أرمينيا بداية من السبعينات في تعميق الاحساس عندهم انهم ضحايا، واستغلوا ذلك لشن حملة تشويه عالمية، وأضحت هذه «البراءة» الحليف الأفضل للقوميين، الذين يقرّون في الواقع بما حصل، ولكن لأسباب استراتيجية وسياسية اختاروا نفي ذلك جُملةً. وفي المناخ السياسي التركي، فإن أية مسألة، خاصة تلك التي تُظهر الاتراك في صورة غير مقبولة، تصلح مادة في الحملة المضادة للاتحاد الأوروبي. وأصبحت مسألة مذابح الأرمن ملائمة، رغم ما مثّله الرقم الذي قدمه أورهان من شرارة لذلك. أما الجزء الثاني من تصريحه قتل ثلاث مائة ألف كردي لم يكن بدوره مفجرا، بل كان الغضب من ان الخسائر التركية لم تؤخذ بما يجب من اعتبار في تصريحه ذاك، ومن المهم الاشارة الى العلاقة التي يُقيمها المجتمع التركي مع النصر «الدولي» خصوصا، وإذا كانت أغلبية المواطنين ترضى بكأس كرة قدم، فإن النخبة المُثقفة، بدورها، تشعر بالحاجة الى معرفة فنية أو علمية، بيد ان لا شيء يثبت حضورا تركيا في هذه المجالات. ولم يتمن النظام السياسي التركي ونخبه أبدا ان تبلغ حفنة من المثقفين درجة من الشهرة العالمية، فناظم حكمت (1902 1963)، الأديب التركي الاكثر شهرة وتقديرا، كان يعتبر خائنا، ومنذ ستين سنة نادرون هم المثقفون الذين نجوا من السجن، وقد عرف البعض منهم مصائر سيئة. وأورهان باموك هو حكاية نجاح، فقد تُرجمت أعماله الى عشرين لغة، وتحصل على جوائز في العالم أجمع، وقُدم اسمه لجائزة نوبل، والكلمات التي يخطها أو يصرّح بها تصنع منه موضوع ضغينة حسب الايديولوجيا القومية. وعلى عكس المواطن العادي فان الجبهة القومية ليست في حاجة لحكاية نجاح في الحالة الراهنة لمعركتها، والمؤسسة التركية، وتحديدا نخبها وأعيانها، هي اليوم مهددة بالديمقراطية كنتيجة لا مفر منها في شراكتها مع الاتحاد الاوروبي، هذه الديمقراطية هي المحرّض لهستيريا قومية تطعمها «كرامة قومية مكلومة» و «مؤامرات دولية» و «مخططات شريرة» (maléfiques) لتقسيم تركيا. وكما نستهلك ونفرط في استهلاك أبسط حدث لتغذية هذا الذهان (Paranoïa)، فان لا شيء يضمن ألا يستعمل أورهان باموك كبش فداء مرة اخرى، والبعض إن انتمى الى المعسكر القومي، فإنهم يؤيدون الانضمام الى الاتحاد الاوروبي، ويعتبرون ان مثل هذه الحملات والاحكام الموجهة تسيء الى القضية التركية، اما النواة الصلبة، فترى ان محاكمة أورهان باموك مثلا تساعد أوروبا على رفض عضوية تركيا، وترى فيها كذلك جيدة جدا على درب إبعاد البلاد عن أوروبا. ولأمر لا يعلمه الا الله. (2) جائزة نوبل 2006: أورهان باموك، سياسي رغم أنفه (مقتطفات من مداخلة للروائي التركي حول حرية الكتابة في ندوة Pen American Center، أفريل 2006) زار في مارس 1985، أرثور ميللر وهارولد بنتر، سوية اسطنبول، وكانا آنذاك بلا ريب الاسمين الاشهر في المسرح العالمي، والذي دفعهما للزيارة، القيود المجحفة المفروضة في ذلك الوقت على حرية التعبير في تركيا، حدث انقلاب عام 1980، وألقي بمئات الالاف في السجون، وتعرض الكتاب، كما هو قدرهم دائما، الى الاضطهاد، جاء ميللر وبنتر لملاقاة هؤلاء الكتاب وأسرهم، ومساندتهم، وإثارة الرأي العام حول مصيرهم، اقترح عليّ منظمو هذه الزيارة: المركز الامريكي (Pen American Center) ولجنة هلسنكي، ان أكون دليلا للكاتبين، ليس لأنني لا أتدخل في السياسة في ذلك الوقت، بل لأنني أتكلم الانجليزية بطلاقة. والى حد تلك الساعة، كنت على هامش العمل السياسي، ولكن وبسماعي لحكايات القمع، والفظاظة والعنف المطلق، تملكني الشعور بالذنب وبضرورة التضامن، وفي نفس الوقت كنت أبدي رغبة ملحة لحمايتي من كل هذا، وألا أفعل شيئا اخر في الحياة غير كتابة روايات جميلة. وكان الكتاب والمفكرون والصحفيون الذين كنا نلتقي بهم، يعلنون في أغلبهم انتماءهم لليسار، وعليه يمكننا القول إن همومهم كانت تتعلق بالحريات العزيزة على الديمقراطيات الليبيرالية الغربية. وبعد عشرين سنة، ولما اكتشفت ان حوالي نصفهم اي الكتاب والمفكرون... قد اصطف اليوم وراء قومية معادية للغرب وللديمقراطية، أصابني ذلك بالحزن طبعا، وقد علمتني تجربتي كدليل وتجارب اخرى مماثلة أمرا ندركه جميعا، ولكنني أودّ تأكيده اليوم، إن حرية الرأي وحرية التعبير، مهما كان البلد، هي حقوق الانسان الكونية، وهذه الحريات التي تصبو الشعوب المعاصرة اليها بكل حرارة كالخبز والماء، يجب ألا تختزل أبدا تحت مزاعم المشاعر القومية أو المؤثرات الاخلاقية، او ما هو أسوأ المصالح الاقتصادية او العسكرية. وإن كان العديد من الدول غير الغربية تكابد الفقر في خجل فليس لأنها تمارس حرية التعبير بل لأنها محرومة من هذه الحرية. أما الذين يهاجرون من هذه البلدان الفقيرة الى الغرب للفرار من الصعوبات الاقتصادية والقمع، فإننا نعلم أنهم غالبا ما يتعرضون من جديد الى العنف، وهذه المرة بفعل العنصرية التي يتعرضون اليها في البلدان الغنية. نعم، علينا نحن ان نظل متيقظين امام الذين يهيئون المهاجرين والأقليات بسبب ديانتهم وأصولهم العرقية، او اضطهاد أنظمة البلدان التي هربوا منها، لكن احترام الانسانية والمعتقدات الدينية للأقليات، يجب ألا يؤدي الى تقييد حرية الرأي، واحترام حقوق الاقليات الدينية أو الاثنية يجب أن لا يستعمل تعلة للمساس من حرية التعبير. وكنت أجد دائما صعوبة في التعبير عن آرائي السياسية بشكل واضح ونشط، وأشعر وكأنني أقول اشياء غير صحيحة، ولذلك، أعلم أنني لا أستطيع اختزال أفكاري عن الحياة في الموسيقى وفي صوت واحد، ووجهة نظر واحدة، وبعد كل هذا أنا روائي، من أولئك الذين تتطلب مهمتهم ان يعرّفوا بأنفسهم لشخوص رواياتهم والاشرار منهم خاصة، وانا أحيا في عالم يمكن فيه لضحية الطغيان والقمع ان تصبح في وقت قصير جدا ممارسة للقمع، أعرف ايضا ان امتلاك آراء حاسمة حول طبيعة الاشياء والناس مهمة عويصة. اقتنعت انه لدى الاغلبية، نحن نتغذى من الافكار المتناقضة والمتزامنة، وأرواحنا العصرية متقلبة، وعليه تصبح حرية التعبير آنئذ مهمة، إننا في حاجة اليها لنعرف أنفسنا، ونعرف افكارنا المعتمة، المتناقضة والحميمة. وفي العشرية التي تلت زيارة أرثور ميللر وهارولد بنتر، انقدت بالنوايا الحسنة والغضب والشعور بالذنب وعداواتي الشخصية، الى الإدلاء بتصريحات عامة حول حرية التعبير لم تكن لها علاقة أبدا برواياتي، وفي هذه الفترة تحديدا جاء سيّد هندي متقدم في السن ومحرر تقرير الأممالمتحدة عن حرية التعبير، الى اسطنبول وطلب مقابلتي. ونحن بعدُ بصدد الجلوس طرح عليّ هذا السيد سؤالا مازال يرنّ في أذني: سيد باموك: ما هو الحدث المهم في بلدك تريد الخوض فيه في رواياتك ولكنك لا تتجرأ لأن القوانين تمنع ذلك؟ أعقب السؤال صمت طويل، حيرني السؤال، وأعدت تقليبه مرة ومرة في رأسي، وبكل بداهة، بدا السؤال الذي أراد طرحه هذا السيد هو كالتالي: «بما ان المحرمات والممنوعات والاجراءات الردعية موجودة في بلادك، فلم لا تتحدث عنها؟». وبما انه طَلَبَ من هذا الكاتب الشاب الجالس امامه ليفكر من زاوية رواياته، ومع لاَ خبْرَتي الكبيرة، أخذت السؤال حرفيا. في تركيا، وما قبل عشر سنوات من الان، كانت هناك موضوعات كثيرة غير مطروقة كما اليوم، لكن أعيد النظر فيها موضوعا موضوعا، لا أجد واحدا منها كنت أريد إثارته في «رواياتي»، لكنني كنت أعلم وأقول: لا وجود لموضوع أريد تناوله في رواياتي لا أستطيع الحديث فيه، إنني أعطي انطباعا خاطئا، فقد بدأت أعبر غالبا وجهارا عن هذه الموضوعات الخطيرة خارج رواياتي. زد على ذلك، ألم أحلم بإثارة هذه الموضوعات في كتبي، فقط لكونها ممنوعة؟ وأنا أفكر في كل هذا، كنت أشعر بالخجل من صمتي، تتعزز في داخلي فكرة ان حرية التعبير لها جذورها، وهي في الجوهر، تعبير عن الكرامة الانسانية، وعرفتٌ شخصيا كتابا تناولوا موضوعات ممنوعة بسبب أنها ممنوعة ولا أعتقد أنني أختلف عنهم، اذ، حين يكون كاتب غير حر في مكان ما، فكل كاتب أنّى كان هو كذلك ايضا. الإحالات: (1) Le Monde 30 . 31 / 10 / 2005. p. 12 : Horizons Debats par: Murat Belge. (2) Courrier international: Du 19 au 25 / 10 / 2006. p. 57 Lihérature. Prix Nobel 2006. تعريب: عبد الحفيظ المختومي- الكنعاني المغدور