11 حالة وفاة في يوم واحد    عاجل/ منع أعضاء المجلس المحلي للتنمية بهذه الجهة من الدخول إلى مقر المجلس..    تونس: قطاع الصناعات التقليدية وفّر 7000 موطن شغل    اتحاد الفلاحة : لم يتم الاتفاق على سعر بيع الكلغ للأضاحي ب900ر21 دينار ''حيّ''    بطولة اسبانيا : خبر انتقال مبابي الى ريال مدريد لا يتماشى مع فلسفة برشلونة    تصفيات كأس العالم 2026: المنتخب الوطني يواجه اليوم منتخب غينيا الإستوائية    المنتخب الوطني: التشكلية المحتملة لمواجهة غينيا الاستوائية    سيدي بوزيد: 5450 تلميذا وتلميذة يشرعون في اجتياز امتحانات الباكالويا    40 طالبا يواصلون تعليمهم من وراء القضبان    بنزرت: إنطلاق اختبارات الباكالوريا في 27 مركز امتحان    معرض الصحف التونسية لليوم الأربعاء 5 جوان 2024    ميلوني : تدفقات الهجرة تراجعت بنسبة 60% بفضل علاقات التعاون مع تونس وليبيا في المقدمة    ينتظم الأسبوع القادم بحضور رئيس الحكومة منتدى تونس للاستثمار تحت شعار «تونس، حيث تلتقي الاستدامة والفرص»    أسعار بيع الحبوب المزارعون ينتظرون التسعيرة الجديدة ويأملون الترفيع فيها    تونس صقلية منتدى حول فرص الاستثمار والتبادل في مجال الصناعات الغذائية    أخبار النادي الإفريقي: تأجيل الجلسة الانتخابية ومسؤولية تاريخية للحكماء والسوسيوس    طاقة مستقبلية واعدة ..الهيدروجين الأخضر .. طريق تونس لتفادي العجز الطاقي    مرابيح البريد التونسي تفوق 203 ملايين دينار سنة 2023..    أخبار المال والأعمال    كيف سيكون طقس اليوم؟    زلزال بقوة 5.3 درجات يضرب هذه المنطقة..    تقرير: علامات التقدم في السن تظهر على بايدن في الاجتماعات الخاصة مع قادة الكونغرس    هام/ انطلاق الدورة الرئيسية لامتحانات البكالوريا..عدد المترشحين وسن أكبر مترشح..    بين القيروان وسوسة: وفاة شخصين في اصطدام لواج بشاحنة ثقيلة    عاجل/ إطلاق نار في محيط السفارة الأمريكية ببيروت..    تزامنا مع الحج.. طلاء أبيض لتبريد محيط مسجد نمرة    بطولة رولان غاروس للتنس: سينر وألكاراز يضربان موعدا في نصف النهائي    بالفيديو: عراك تحت قبة البرلمان التركي بين نواب حزبين    لشبهات غسيل الأموال ..الاحتفاظ برجل الأعمال حاتم الشعبوني    الكونغرس الأمريكي يوافق على مشروع قانون لفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية    لقاء يجمع وزير الصّحة بنظيره المصري    وفد صيني يزور مستشفى الرّابطة ويتعرف على التّجربة التّونسية في مجال طب وجراحة القلب والشّرايين    بورتريه .. جو بايدين... الضّائع    السّواسي... كان عائدا بعد صلاة الصّبح ..وفاة مؤذن نهشته كلاب سائبة    وزارة التربية حسمت الجدل ..منع الكوفية لا يستهدف القضية الفلسطينية    استفسار حول تأثير التطعيم    سيول .. رئيس الحكومة يلتقي رئيس موريتانيا    بوادر صابة القمح الصلب واللين محور لقاء رئيس الدولة بوزير الفلاحة و كاتب الدولة    رئيس الجمهورية يهتم بمشروع تنقيح عدد من فصول المجلة التجارية المتعلقة بنظام التعامل بالشيك    الدورة 19 للمهرجان الدولي للفيلم الشرقي بجنيف: مشاركة 4 أفلام تونسية 2 منها في المسابقة الرسمية    تونس الثقافة والأدب والموسيقى تشع في الصين من خلال زيارة رئيس الجمهورية    في ندوة حول الملكية الفكرية والذكاء الاصطناعي: "ما يُنتجه الذكاء الاصطناعي يشرّع لانتهاك حقوق التأليف"    الاستعداد للحج .. "شوق" وعادات وفيه "منافع للناس"    تصفيات مونديال 2026 - المنتخب التونسي من اجل الفوز الثالث على التوالي والمحافظة على الصدارة    رولان غاروس: انس جابر تودع البطولة بخسارتها امام الامريكية كوكو غوف 1-2    نجم المتلوي يطالب بطاقم تحكيم اجنبي واستعمال الفار في لقائه ضد مستقبل سليمان    تفاصيل الدورة 48 لمهرجان دقة الدولي: انماط متنوّعة في دورة التأكيد    عاجل/ إعلان سعر الأضاحي بشركة اللحوم وموعد انطلاق البيع    هذا موعد رصد هلال شهر ذو الحجة    4 نصائح لمحبي اللحوم    عاجل/ هذا موعد رصد هلال ذو الحجة..    درّة زرّوق تطلق علامة أزياء مستوحاة من جدّتها    رئيس الحكومة يلقي كلمة تونس في افتتاح أشغال القمة الأولى الكورية الافريقية    عاجل : اكتشاف سلالة شديدة العدوى من إنفلونزا الطيور    في المعهد العالي للفنون والحرف بتطاوين ...7 آلاف كتاب هبة لمكتبة المعهد    مدرسة الصفايا بالسعيدة والقضية الفلسطينية ... إبداعات تلمذية ومبادرات تنشيطية    بيت الحكمة يُصدر كتابا بعنوان "رحلة اليوسي" لمحمّد العيّاشي بن الحسن اليوسي عن تحقيق الباحث التونسي أحمد الباهي    متى تبدأ ليلة وقفة عرفة؟...وموعد صيام العشر الأوائل من ذي الحجة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فضح المسكوت عنه واقتحام المناطق الملغّمة
محمد شكري: عبد الحفيظ المختومي (الكنعاني المغدور)
نشر في الشعب يوم 08 - 12 - 2007

ندر أن كُتب في أدب السيرة الذاتية العربية الحديثة بمثل هذه الجرأة وهذه الصراحة وهذه الحميمية وهذا الوضوح: كسر حدود اللغة في اعتباراتها المتعددة وعوائقها الكثيرة، لتشارك السارد في تعاضد واتساق رسم عوالم خطيرة، والغاية اخراج المسكوت عنه من مدافن الصمت المعمّم والحشمة المصطنعة والاخلاق المتآمرة، واقتحام المناطق الملغمة بالمحرّم والمقدّس والعيب، بالفاضل والطاهر والعفيف..
هذه السيرة الذاتية / الاعتراف اصرار على الفضح الفاضح، إذ لا شيء سوف يخسره بطلها في وجوهه المتعددة (الحكي والفعل والتاريخ) ومراده الخروج من المراياالخلفية المحدبة والمقعّرة ليظهر واضحا شفافا في ادقّ تفاصيل ذاته جوّانيا وبرّانيا، بل قل كان يخسر الكثير لو لم يتجرأ ويركب مغامرة هذه الكتابة.
هو «الحكي الذي يكون فيه السارد هو البطل في حكيه / جيرار جينيت» وهو الفعل في انتاج وجوده الواعي في «التطابق بين المؤلف، الشخصية السارد» دون تزيد او نقص.
وهو التاريخ الإطار المرجعي للذات الساردة كونه شخصية موجودة ماهية وحقيقة ووعيا، زمانا ومكانا، تفاعلا وتأثرا بما يحدث والمساهمة في انتاجه تحريكا وخلخلة.
وعليه سيتجاوز كاسرا حدودا كثيرة وعوائق جمّة ليفصح فيفضح ويتكلم فيعرّي، ويفعل فيتحدّى، ويكتب ليؤسس نقيضا مطلقا لبعض سير رواد السيرة العرب، فطه حسين في أيامه مثلا لم يخرج من الايام العامّة ليغوص في الايام الخاصة في داخله، وميخائيل نعيمة، في «سبعينه» ظلّ مسيجا بمسيحيّته الصارمة وهاجس حكمة السبعين ورصانة العمر ولواحقه، ورأى محمد شكري في كتاباته اولئك وغيرهم: «تورما ذاتيا لا جذور له في الواقع الذي ينتمي اليه والذي من المفروض ان يعبّر عنه بدل الاغراق في الحديث عن عوالم الفرد ومتاهاتها / فيليب لوجون ص 5».
فكيف سيكتب معيشه ومعيش الاخرين ومعيش الحياة؟ وكيف سينقل محكيّه من تشكيله في وعيه الى غيره بصوت ملفوظ مقروء مسموع «ليكتسب هويته الحقيقية بفقدانه لهويته المحدودة / نيتشة»؟
ويحسم الامر: على هذا «الغير» ان يقبل او يرفض، يبرّئ او يتّهم، أما انا فسأكتب باللغة التي ارتئيها، مخاطرا، متحدّيا ومعترفا «أنا أكتب إذن أنا مسؤول، ولن تقام لعنقي المشانق وتشعل الحرائق لما سأكتب» واللغة التي سيكتب بها صاحب «الخبز الحافي» إنما هي اساسا وعيه باناه. سوف يكتب في أجساد النساء ومن في سنّه وفي أجساد المثليّين الكهول باسفله ويكتب في جسده بأصابعه ويكتب في صراعه مع محيطه بعراكه وتشرّده واحتجاجه وتحالفه مع اللصوص والنشالين والسراق والمشرّدين والمطرودين ويكتب جراح معاركه الكثيرة وخيباته وحرمانه بالخمرة: رديئها وجيّدها وبالكيف والحشيش واعقاب السجائر والدجاج النافق والقمل والمبيت في العراء والمقابر وبيوت العاهرات والمقاهي ولن يهمّ ذاك «الغير» ما يكتب، هذا «الغير» ذو الوجهين دائما يقرأ في السرّ ويلعن في الجهر، ينفعل لما يقرأ في سره وينتعش متخيله ليعيش خيالا ما عاشه محمد شكري حقيقة وواقعا ويسب في جهره ويلعن محمد شكري الماجن والفاسق و»قليل الحياء» والمعلون..
لكنّ محمد شكري وهو يكتب يغتصب لحظة البوح ليحكي بعد ان اغتصبت منه طفولته وشبابه.. انها عملية تصفية حساب مع مرحلة برمّتها.
أخذ هذا المعيش المحكيّ حيّزين:
زمن السّرد
الزمن التاريخي للاحداث
يقول محمد شكري : «اكتب هذه المذكرات في سنة 1972 / الخبز الحافي ص 168» و..»أكتب بعض الفصول من هذه السيرة الذاية عام تسعين / الشطار ص 94»
وأنهاها عام 92، بعد توقف كما يقول عن الكتابة تسع عشرة سنة هي التي تفصل بين «الخبز الحافي» و»زمن الاخطاء»... متدرّجا خطّيا واضحا مراعيا تطوّر سنّ السارد وإدراكه ووعيه بالاشياء والكائنات والعالم.
أمّا الزّمن التاريخي للاحداث فيبدأ استرجاعا في بداية الاربعينات، وطفولته والهجرة من الريف الى طنجة بسبب المجاعة والقحط والحرب قالت انها تركتني في الخامسة او السادسة من عمري في الريف / خ ح ص «54» فالخمسينات «انا في السادسة عشرة / خ ح ص 105» (ولد محمد شكري سنة 1935)، «اليوم 30 مارس 1952، تمرّ اربعون سنة على حماية فرنسا للمغرب / خ ح ص 120»
وصولا إلى الثمانينات (موت الامّ 1994) مرورا بالسبعينات (موت الاب 1979) / الشطار / ص 9 / .
في هذا الزمن التاريخي راح محمد شكري يحكي حياته، هو طفل، لم تتشكل غرائزه وتنضج «رغبتي الجنسية تتهيّج كل يوم، الدجاجة، العنزة، الكلبة، العجلة تلك كانت إناثي / خ ح ص 31» فشاب في أوّل يفاعته، «عدت الى العمل في المقهى وأكل معجون الحشيش وتدخين الكيف / خ ح ص 36..
ذات مساء شربت النّبيذ وتحششت في المقهى / ص 37» ففوران الشباب والبلوغ الجنسي وبدء تجربته مع نساء المواخير، ودخوله حلبات الصراع ضد امثاله من اللصوص والمتسكعين والشطار، وتسلحه لهم في العراك وبامتلاك معرفة «الضرب بشفرة الحلاقة / خ ح ص ب 50» «أنا في السادسة عشرة شاب قادر على السرقة / خ ح ص 105»
أمّا المؤلف، السارد، البطل فهو محمد شكري عينه «محمد، ادخل انت الاول معها... انت تعودت على ان تدخل الاول / ص 48» «من أيّة ناحية من الريف أنت»
من بني شيكر
أعرف الشكريين، الريفيون شجعان / خ ح ص 155»
محمد شكري شاهد على ذاته / شاهد على أسرته / شاهد على الاخرين:
شاهدت على ذاته، شاطر من الشطّار، لص، مهمّش، رضع الفقر والحرمان والخصاصة والامية والضياع والتشرد، إنّه وجه من وجوه القاع، وتربّى ونشأ بين شقاء الام وعملها وأودها ولا مبالاة الاب، وبلغ شبابه بين احضان نساء المواخير والحانات فعاشر الخمرة وشرب منها بلا حدود مصحوبة ب «مزّة» استثنائية: حشيش وكيف الى حدّ العشرين من عمره وهو «لا يفكّ الحرف»..
لا يخجل من سرد تفاصيل جسده وتشريحه في نوازعه ونزواته وثوراته، فهو شبيه بصديقه الحميم جون جينيه في كتابه «مذكّرات اللص»، الذي «عانق عصره دون ان يتخاذل او يخجل من تشريح نفسه وغيره». اتعب جسد صاحب «الخبز الحافي» صاحبه كثيرا وأمتعه اكثر، فلم يتورع عن قبول كل شيء، انه الوعي بالجسد، انه جسده لذلك توزّع بين لغة الجسد وجسد اللغة في معادلة جريئة ولذيذة يندر ان يأتيها أحدهم تحكمه محرّمات وطقوس صارمة وقاسية.
ذكر أصحابه وأصدقاءه من الشّطار بحب وعطف كبيرين يذكّراننا بفتوّة ووفاء الصعاليك، والعيارين والحشاشين العرب قديما: / التّفرسيتي، السّبتاوي، الذي قال له يوما: «التسوّل مهنة الاطفال والشيوخ العجزة، عيب أن يتسوّل شابّ قادر على السرقة اذا لم يجد عملا / خ ح ص105» وعبد السلام والكبداوي والقندوسي.. وسلافة وبشرى، «اخبرتني امرأة في سنة 63 ان سلافة وبشرى في الدار البيضاء لتحترفا الدعارة رسميا في نفس سنة52 / خ ح ص 168» وحميد والمختار الحداد الاعمى بين طنجة والعرائش...
هو عاشق وهران وتطوان، لكن لطنجة عشق استثنائي وما اجمل قصيدته فيها «طنجيس» / الشطار ص 213. عاشق لأسواقها ودروبها وازقتها وحاناتها ومينائها وحرّها وقرّها وليلها:
«إنّ ليل طنجة هو ليلي، لا يودعها من عاش فيها حتى تأذن له سرّتها./ كم عدت اليها مهما كان تناسلها وما اكثر ما سافرت وعدت عن نصف طريقي اليها / الشطار ص 175» وهو عاشق للعرآئش عشق جون جينيه لها حيث يحتضن ترابها الى الابد، يرنو من قبره اليها ويعانقها..
العرائش هذه ذهب اليها في العشرين من عمره ليدخل المدرسة لاول مرّة ذهب لصّا، صعلوكا، لم يتخل عن عاداته وسلوكاته الطنجويّة.. ليتخرج من مدارسها متعلّما حاملا الشهائد يكتب عقود القرآن..
«مسكين تزوّج مسكينة.. لم تحضرني أيّة شريعة تمنع ما سأقوم به. إن الفقر فوق القانون، قلت: ولماذا لا، على بركة اللّة.. سجّلت متاع كلّ منهما.. سلّمت للرّجل نسخة وأمّنت الاخرى عند السي عبد الله.. رفعنا أنا والسي عبد الله ايدينا وشرعت اقرأ دعاء الخير والسي عبد الله يردد امين./ مدّ لي الرجل اوراقا ملفوفة رفضتها/. ألحّ.. انصرف الزوجان فقال لي السي عبد اله:
هذا أعظم عمل خير تقوم به في حياتك. سيكون لك مستقبل عظيم ان شاء الله / الشطار ص 65».
الفقر ليس قدرا.. الفقر ليس لعنة..
وشاهد على أسرته:
متعاطف مع أمّه، السيدة ميمونة / خ ح ص 72، وأخته إرحيمو، والقتيل عبد القادر / خ ح ص9، وعاشور الذي مات هو أيضا / خ ح ص 49، وعبد العزيز.. ولامّه مكانة خاصة، يقول في فصل «موت الامّ» من الشطار / ص 193 وما بعدها:
«افتح انا العاقل
إنّه هو إذن زوج أختي.. ما حدث لابدّ أن يكون مصيبة حتى يجيء في هذه الساعة
أمّك ماتت
بصوت مبحوح ثمل:
ماتت إذن
نعم... البس بسرعة
... متى ماتت؟
منذ ساعات في المستشفى المدني، مضى يومان وهي في غيبوبة.
بماذا ماتت؟
بنزيف أنفيّ، لم يتوقف خلال أسبوعين.
... بموت أمّي تموت كل أسرتي... إنّها لا تعرف أني قد آخيت ليلي مع اي ليل.. غادرت تطوان شاعرا ان حبلنا السري قد انقطع وان جذوري من شجرة عائلتي قد تعفّنت الى الابد...»
ألا يذكّرنا هذا المقطع الحواري المؤثر بما ذكره «غريب» ألبيركامو حين استلم برقية اعلام بوفاة والدته؟؟
توفّيت أمّه عام 1984 / الشطار ص 100، يقول في حوار صحفي:
«لقد حدث عندما نشر «الخبز الحافي» عام 1981 بالعربية ان ذهب أحد الجيران عند أمّي وقال لها: إن ابنك كتب كلاما يسيء الى أسرتك، وإلينا جميعا فأجابته أمّي الرفيعة،، «إنّه يعرف ما يفعل» هؤلاء كانوا الجيران وتلك كانت امي / القدس العربي، فيفري 2002.
أمّا الاب «حدّو علاّل الشكري» / الشطار ص 99، فالحديث عنه غيرالحديث «لان العقل لا يتجمد امام اليقين، بل يهوى عبور الممرات الضيّقة للظواهر الخادعة.. وطقوسيّة الوقائع.. (وقد) زوّدنا فرويد بجهاز مفهومي قادر على الولوج الى قلب الحقيقة الانسانية عندما اخرج كتلة الاستهامات المكبوتة الى شبكة سردية ودلالية جاهزة للتموضع في البنى اللغوية بعد ان كانت مدفونة في ظلمات النفس واللاوعي / التحليل النفسي والادب ص7»، وسوف يخرج محمد شكري تلك الاستيهامات من اللاوعي الى لغة الوعي اللغة ليحكي قصّته مع ابيه في ما يسمّى «قتل الاب».
يعترضنا هذا «المفهوم الفرويدي / اللاكاني» في وجوه متعدّدة الصّياغة، متوحّدة الدلالة:
إنكار الاب الخطوة الاولى لقتله:
«ألست انت ابن السيد حدّو؟
كلاّ لست أنا
أعاد السؤال بالحاح وحيرة:
ألست انت ابنه محمد الذي عاد من وهران؟
قلت لك لا، ولا أعرف شخصا بهذا الاسم
ما اسمك إذن؟
محمد
لكنّ أباك هو السيد حدّو بن علاّل وأمك هي السيدة ميمونة.
قلت لك إنّي لا أعرف سوى نفسي.»
هكذا تبدأ الخطوة الاولى: محوه من وعيه ودفعه الى زوايا الإنكار تمهيدا لقتله.
القتل:
«إذا كان من تمنّيت له أن يموت قبل الاوان فهو أبي.. في الخيال لا أذكر كم مرّة قتلته / خ ح ص91.
في السينما مات أبي في خيالي كما مات خصم البطل على الشاشة هكذا تمنيت دائما ان اقتله / ص 97.. حين يموت ابي سأزور قبره لكي... / خ ح ص 100... إنّه كلب / ص 76 وأبوك؟ مات (أبي سيموت في صيف 79، بعد 23 سنة / الشطار ص 3، تتمنى لو أنّي اموت (فكرت: ها أنت بدأت تقول شيئا معقولا ) خ ح ص 95
في ما تقدم/ الحقل المعجمي المسيطر هو القتل / الموت (يموت، قتلته، مات في خيالي أقلته، يموت، كلب، مات، أموت..)
فبم يفسر محمد شكري ذلك؟
يقول: «انما اريد ان اقول ان موت ابي في ذهني تم في اللحظة التي مات فيها اخي / اننا لا نقتل أباءنا الا بقدر ما يقتلون انفسهم فينا، إنّ الاب هو الذي يؤجل اويعجّل، يقصر او يطيل موته في ابنائه والموت درجات متفاوتة ثم ان الابن لا يستطيع ان يخلق سلطتهس الا بتحرّره من قيد سلطة أبيه..»
هي مقاربة فرويدية لمفهوم قتل الاب واذا ورد القتل حصريا في الحقل المعجمي المسيطر عند محمد شكري فان ذلك يعني بوضوح الاستقلال عن سلطة الاب المتسلط والطاغية المتجبر والمتحجّر والغليظ لا قتله حقيقة، أوليس قتل الاب هو من ثقافة «الطوطميّة؟ أو ليس قتل الاب هو قطب الرّحى في العقدة الأوديبيّة؟
الا يفسّر اضراب محمد شكري عن الزواج من زاوية التحليل النفسي ميله للبقاء إبنا قاتلا لابيه لا ابا سيأتي الدور عليه ليقتله ابنه؟ ويظل القتل هو قتل هوام اي علي مستوى الذاكرة والفكر والذهن والتصور والتخيل هو نوع من التخيل اللاواعي Fantasmatique / مجلة مواقف / ص 38 ص،
مات والد محمد شكري بيولوجيا موتا طبيعيا لعلّة او مرض ما / لكنه مات مقتولا في «خيال»ابنه قبل ذلك منذ طفولة البطل السارد (يستعمل محمد شكري لفظة «في خيالي» اكثر من سبع وعشرين مرة من ص 36 الى ص 103 من كتابه خ ح .
وعليه نفهم ميله الى أمّه التي سوف تحتل وظيفة الاب وحبّه لها وعطفه عليها حتى وفاتها يشاركها معاناتها «احيانا انتحب معها. كنت اؤازرها. ص 11 . بدأت تنتحب انا ايضا غلبني الحزن فسالت دموعي ضمتني اليها ونعست / خ ح ص 15 « انها هي بدورها مقهورة مثله موجوعة ومهانة وذليلة فصار رابط «التضامن القهري» هو الجامع بينهما ضد سلطة الاب ولكون الابن ذكرا فلن يقتل هذا الطوطم الفحل الاب إلا هذا الذكر النازل من صلبه لا غير ليثأر لنفسه ولكل المضطهدين مثله من لدنه، انه «اوديب» ناطقهم الرسمي وممثلهم في «قتل الاب» ومن ثم العودة الى رحم الام.. قتل الاب انقاذ للقبيلة كلها.
ألم يرد في كتب الأخبار ان فرعون لما اعلمه احد سحرته المنجمين انه سيلد طفل يهدد عرشه ويأتي على ملكه امر بقتل جميع الاطفال ولنلاحظ كيف حدد هذا المنجم جنس المولود الذكورية وسينجو طفل ما يتربى في بلاط فرعون، وحين يكبر يقتل أباه، وان ليس أبًا بيولوجيا بالضرورة؟ ومات او «قتل الاب» سيان، لكنّ محمد شكري يعلن «سأكون شيطانا هذا لا ريب فيه. الصغار اذا ماتوا يصيرون ملائكة، والكبار شياطين. لقد فاتني ان اكون ملاكا / خ ح ص 233» والملاك وديع اما الشيطان فمتمرّد لا اب له.. ومتمرّد على كل شىء وشاهد على تمرّده في «خبزه الحافي» مع «شطاره».
حاول محمد شكري ان يضع نصه / سيرته في المشهد كتمثيل له «ان المسافة بين هذا الكاتب وإبداعه الادبي ضيّقة جدّا فكل آثاره تمثل مشهدا لحياة واحدة، فقط هي حياته / التحليل النفسي والادب: السيرة الذاتية ص 99 100 « حياة هامشي صعلوك، شاطر، وبعد مغامرته في ذاته ومع الاخر مدا وجزرا، هبوطا وصعودا، علمته الحياة فاستوعب ما تعلم وقال بوضوح ما يريد « لقد علمتني الحياة ان انتظر. ان اعي لعبة الزمن بدون ان أتنازل عن عمق ما استحصدته: قل كلمتك قبل ان تموت فانها ستعرف حتما طريقها. لا يهم ما ستؤول اليه، الاهم هو ان تشعل عاطفة او حزنا او نزوة غافية ... ان تشعل لهيبا في المناطق اليباب الموات.. ان نرقص على حبال المخاطرة نشدانا للحياة / ح ح ص 4...»
الاحالات
الخبز الحافي، نشر الفنك 2007، الدار البيضاء، المغرب
الشطار دار السّاقي ط أولى 1992.
فيليب لوجون: السيرة الذاتية، الميثاق والتاريخ الادبي ترجمة وتقديم عمر حلي، المركز الثقافي العربي بيروت الدار البيضاء ط اولى 1994
جان بلاّمان نويل Jean BELLEMIN- NOوL التحليل النفسي والادب
منشورات عويدات بيروت لبنان ط 2 1999.
مجلة « مواقف» العددان 70 / 71 شتاء ربيع 1993 دار الساقي: النظام الابوي / ب: السلطة الابويّة و»القتل».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.