صفاقس: فتح محاضر عدلية ضدّ أشخاص شاركوا في أحداث عنف بمنطقتي العامرة وجبنيانة (مصدر قضائي)    اختتام أشغال الدورة 25 للجنة العسكرية المشتركة لتونس وإيطاليا    هيئة الانتخابات:" التحديد الرسمي لموعد الانتخابات الرئاسية يكون بصدور امر لدعوة الناخبين"    جلسة عمل وزارية حول عودة التونسيين بالخارج    وزيرة الاقتصاد: الحكومة على اتم الاستعداد لمساندة ودعم قطاع صناعة مكونات الطائرات في تونس    الإقامات السياحية البديلة تمثل 9 بالمائة من معدل إختراق السوق وفق دراسة حديثة    مصر.. موقف صادم في الجامعة الأمريكية بالقاهرة    البطولة الافريقية للاندية البطلة للكرة الطائرة - مولدية بوسالم تنهزم امام الاهلي المصري 0-3 في الدور النهائي    رابطة الأبطال الافريقية - الترجي الرياضي يتحول الى بريتوريا للقاء صان داونز    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    فيلم "إلى ابني" لظافر العابدين يتوج بجائزتين في مهرجان "هوليوود للفيلم العربي"    الاتحاد الجزائري يصدر بيانا رسميا بشأن مباراة نهضة بركان    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    الألعاب الأولمبية في باريس: برنامج ترويجي للسياحة بمناسبة المشاركة التونسية    فازا ب «الدربي وال«سكوديتو» انتر بطل مبكّرا وإنزاغي يتخطى مورينيو    المهدية .. للمُطالبة بتفعيل أمر إحداث محكمة استئناف ..المُحامون يُضربون عن العمل ويُقرّرون يوم غضب    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    بنزرت .. شملت مندوبية السياحة والبلديات ..استعدادات كبيرة للموسم السياحي الصيفي    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    رمادة: حجز كميات من السجائر المهربة إثر كمين    نابل: السيطرة على حريق بشاحنة محملة بأطنان من مواد التنظيف    توزر.. يوم مفتوح احتفاء باليوم العالمي للكتاب    الليلة: أمطار متفرقة والحرارة تتراجع إلى 8 درجات    حنان قداس.. قرار منع التداول الإعلامي في قضية التآمر مازال ساريا    التضامن.. الإحتفاظ بشخص من أجل " خيانة مؤتمن "    النادي الصفاقسي : تربّص تحضيري بالحمامات استعدادا للقاء الترجّي الرياضي    أي تداعيات لاستقالة المبعوث الأممي على المشهد الليبي ؟    إكتشاف مُرعب.. بكتيريا جديدة قادرة على محو البشرية جمعاء!    ليبيا: ضبط 4 أشخاص حاولوا التسلل إلى تونس    عاجل/ إنتشال 7 جثث من شواطئ مختلفة في قابس    عاجل/ تلميذ يعتدي على زميلته بآلة حادة داخل القسم    يراكم السموم ويؤثر على القلب: تحذيرات من الباراسيتامول    طبرقة: فلاحو المنطقة السقوية طبرقة يوجهون نداء استغاثة    عاجل : الإفراج عن لاعب الاتحاد الرياضي المنستيري لكرة القدم عامر بلغيث    سيدي بوزيد: وفاة شخص واصابة 8 أشخاص في حادثي مرور    إنطلاق فعاليات الاجتماع ال4 لوزراء الشباب والرياضة لتجمع دول الساحل والصحراء    طلاق بالتراضي بين النادي الصفاقسي واللاعب الايفواري ستيفان قانالي    عاجل : مبروك كرشيد يخرج بهذا التصريح بعد مغادرته تونس    الجامعة تنجح في تأهيل لاعبة مزدوجة الجنسية لتقمص زي المنتخب الوطني لكرة اليد    جربة: إحتراق ''حافلة'' تابعة لجمعية لينا بن مهنّى    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    وزير الدفاع الايطالي في تونس    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    جرايات في حدود 950 مليون دينار تُصرف شهريا.. مدير الضمان الإجتماعي يوضح    تونس : 94 سائحًا أمريكيًّا وبريطانيًّا يصلون الى ميناء سوسة اليوم    المرصد التونسي للمناخ يكشف تفاصيل التقلّبات الجوّية    بعد الاعتزال : لطفي العبدلي يعلن عودته لمهرجان قرطاج    نابل: الاحتفاظ بعنصر تكفيري مفتش عنه    بسبب فضيحة جنسية: استقالة هذا الاعلامي المشهور..!!    فظيع/ جريمة قتل تلميذ على يد زميله: تفاصيل ومعطيات صادمة..    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس..    عاجل : وفيات في سقوط طائرتي هليكوبتر للبحرية الماليزية    جمعية منتجي بيض الاستهلاك تحذّر من بيض مهرّب قد يحمل انفلونزا الطيور    حادثة سقوط السور في القيروان: هذا ما قرره القضاء في حق المقاول والمهندس    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من أجل إنسيّة كونيّة بديلة للبربريّة الأوروبّيّة
المضادّات الثّقافيّة الأوروبّيّة*: بقلم: أدغار موران ** تعريب: المنتصر الحملي
نشر في الشعب يوم 08 - 12 - 2007

قد يبدو لكم أنّي أعطي لعرضي هذا شكل المصنّف التّاريخيّ الشّامل والسّريع جدّا. بيد أنّ المسار التّاريخيّ الّذي أقتفيه ليس بالنّسبة إليّ وسيلة لاستعراض تأريخيّ لظاهرة البربريّة، بل هو وسيلة لفهمها.
في القرن السّادس عشر، حدث تحوّل في أوروبّا الغربيّة. إذ شاهدنا في نفس الوقت ازدهار الاقتصاد، وازدهار المدن، وأيضا تشكّل الأمم الحديثة. وقامت النّهضة بإحياء الميراث اللاّتينيّ واليونانيّ، وخصوصا هذا الأخير الّذي كان سجين الخطاب اللاّهوتيّ. بتعبير آخر، قامت عودة اليونان هذه بتكسير القيدّ اللاّهوتيّ وأدّت إلى استقلاليّة التّفكير الّتي ستسمح بانطلاق الفلسفة والعلوم الحديثة. من المؤكّد أنّه في صلب علم اللاّهوت ولاسيما في التّوميّة le thomisme ، كان يوجد تفكير عقلانيّ، ولكنّه ظلّ تحت السّيطرة الدّينيّة. وهكذا، سيتطوّر العلم وهو يمشي على أربع: التّجريبيّة، والمنطقيّة النّظريّة، والتّحقيق، والتّخيّل. والنّهضة أيضا هي عصر تطوّر الإنسانيات، تطوّر ثقافة قائمة على إدماج الثّقافة الإغريقيّة والثّقافة اللاّتينيّة. ففي ذلك العصر، كان العديد من المفكّرين يتميّزون بفكرهم الموسوعيّ، ويعرفون العربيّة والعبريّة واليونانيّة واللاّتينيّة.
لقد اختمرت الإنسيّة (1) l'humanisme الأوروبّيّة أثناء النّهضة. وحين نتساءل عن جوهر هذه الإنسيّة، يمكننا أن نستخلص نوعين من الأجوبة المتضاربة قطعا. الجواب الأوّل هو على سبيل المثال جواب الفيلسوف البولوني لاسزاك كولاكوفسكي Leszek Kolakowsky. فبالنّسبة إليه، نهلت الإنسيّة الأوروبّيّة من اليهوديّة المسيحيّة: ففي التّوراة، خلق اللّه الإنسان وفق مثال له، وفي الإنجيل، حلّ اللّه في كائن بشريّ. وهذا الرّأي اعترض عليه الفيلسوف التشيكيّ يان باتوكّا Jan Patocka بقوله إنّ منبع الإنسيّة الأوروبّيّة يونانيّ، ذلك أنّ الفكر اليونانيّ هو الّذي أثبت فيه الفكر البشريّ ومعقوليته rationalité استقلاليتهما. كما أنّ الرّبّة أثينا في المدينة الدّيمقراطيّة الأثينيّة، لم تكن تنهض بالحكم، بل بالحماية. فالدّيمقراطيّة إذن تعني ما يلي:إنّ المواطنين المسؤولين يحكمون المدينة بأنفسهم.
بوسعنا في الحقيقة أن نعتبر أنّ المصدرين لا ينفي الواحد منهما الآخر، وأنّهما قد اجتمعا لخلق الإنسيّة الأوروبّيّة. من المؤكّد أنّ المصدر الأوّل حيث الإنسان في صورة اللّه وحيث اللّه أصبح إنسانا، وإن كان يفضي إلى احترام الحياة البشريّة، إلاّ أنّه يفضي أيضا إلى إناسة مركزيّة anthropocentrisme ساذجة، ويكون مصدرا لداء هوس العظمة mégalomanie. بانفكاك الإنسان عن اللّه، يصبح في موضع الذّات ومركز الكون. ولكنّنا، ونحن نروي الإنسيّة الأوروبّيّة، لا بدّ لنا من أن نذكر ما لم يقم به أيّ من هذين الفيلسوفين وهي رسالة المسيح نفسها. رسالة تتحدّث عن الرّحمة وعن العفو. وإنّ روح الأخوّة هي ما سينبثق عن تلك الكلمة ويلتحق بالمعقوليّة اليونانيّة. وهكذا، سيتّحد شيء ما وجدانيّ بالخاصّيّة الباردة للمعقوليّة ليشكّلا معا الإنسيّة الأوروبّيّة.
لهذه الإنسيّة وجهان، الواحد منهما طاغ، والثّاني ودّيّ، وهذا ما سيثير لبسا كبيرا حول العبارة، ولاسيما في القرن العشرين. فالوجه الأوّل للإنسيّة، ذاك الّذي يتبدّى غرّارا حتّى لا نقول هذيانيّا، يضع الإنسان مكان اللّه، ذاتا وحيدة فعليّا في الكون، ويكلّفه بمسؤوليّة غزو العالم. إنّها المهمّة الّتي كلّف بها ديكارت العلم: أن يجعل من الإنسان سيّد الطّبيعة ومالكها. هذه الرّسالة الدّيكارتيّة سيستعيدها بوفّون ثمّ كارل ماركس، وفي النّهاية، وليس إلاّ انطلاقا من 1970، أي حديثا جدّا، ستتمزّق إربا إربا هذه الرّسالة ذات القوّة البرومثيوسيّة جدّا. ومن هنا فصاعدا، سندرك أنّ السّيطرة على الطّبيعة، وهي في الحقيقة سيطرة غير خاضعة للرّقابة، تؤدّي إلى تخريب المحيط الحيويّ، وبالتّالي إلى تدهور الحياة والمجتمع الإنسانيين: إنّ لهذا النّوع من السّيطرة طابعا انتحاريّا.
من جهة أخرى، سنكون من هنا فصاعدا على دراية ووعي بضآلة كوكب الأرض في النّظام الشّمسيّ، وبضآلة الكوكب الشّمسيّ في درب التّبّانة، وبضآلة مجرّتنا في الكون. حينئذ، ينبغي علينا أن نلتفت نحو الوجه الثّاني للإنسيّة، الوجه الّذي يفرض احترام جميع البشر، مهما كان جنسهم أو عرقهم أو ثقافتهم أو وطنهم.
عمليّا، لئن كانت هذه الإنسيّة من النّاحية المبدئيّة سارية المفعول على جميع النّاس، إلاّ أنّ الغرب الأوروبّيّ قد قصرها على رعاياه فقط، معتبرا أنّ الشّعوب الأخرى كانت متخلّفة وقديمة وبدائيّة. فعلى سبيل المثال، كان ليسيان ليفي برول Lucien Lévy- Bruhl يعتبر البدائيين بمثابة كائنات طفوليّة وخرافيّة، سجينة التّفكير السّحريّ. ولكنّه نسي أنّ في كلّ شكل من أشكال الحضارة هناك معقوليّة ما، على الأقلّ في صناعة الأدوات، وفي استخدام الأسلحة، وفي ممارسة القنص. يوجد إذن في أيّ مجتمع تفكير عقلانيّ وتقنيّ وعمليّ، ومعه تفكير سحريّ وأسطوريّ ورمزيّ. وهذا ينطبق أيضا على مجتمعنا. ويبدو لي أنّ من المهمّ جدّا أن نشير إلى ذلك.
ارتبطت الإنسيّة في وجهها الثّاني بتطوّر المعقوليّة النّقديّة، وحتّى النّقديّة الذّاتيّة. نرى ذلك مثلا في «تقريض الجنون» ل آيرازم RASME ، معبّرا عنه طبعا بأشكال حذرة. ففي بقيّة كتابه، ظهر آيرازم، رغم فكره المتسامح جدّا، متحفّظا كثيرا إزاء السّلطة الكاثوليكيّة وأيضا تجاه اللّوثريّة.
إنّ ما يستحقّ الذّكر عن بروز المعقوليّة النّقديّة الذّاتيّة، هي أهمّيّة المورانيّة le marranisme غير المعترف بها. في الحقيقة، كان المورانيون les marranes (2) من أصل يهوديّ أساسا، بما أنّ الكثير من المسلمين قد التحقوا بالمغرب بعد سقوط غرناطة. ومن اليهود الّذين تحوّلوا إلى المسيحيّة، بقي البعض منهم في أسبانيا واستقرّ البعض الآخر في هولندا. وفي هذا الصّدد، هناك نوعان من المورانيين، الأوّلون نسوا أصولهم وأصبحوا مسيحيين. والآخرون احتفظوا سرّا بعقيدتهم وهويّتهم اليهوديّتين. كان هذا حال الطّبيب فيرنندو كاردوزو .Fernando Cardoso فهذا الرّجل المنتمي إلى القرن السّابع عشر، شاعر البلاط، صديق كبار كتّاب المسرح، مؤلّف القصائد، خصوصا عن ثورة بركان فايسيف Vésuve، كان على ما يبدو مندمجا تماما. آنذاك، سافر إلى فينيس، والتقى بسلطات المجبر، وطلب منها الاعتراف به يهوديّا. قبلت السّلطات طلبه شرط أن يصبح طبيب الفقراء، فوافقها على ذلك. وألّف في فينيس كتابا سيتمّ طبعه في هولندا بعنوان «في تفوّق اليهود «، ليبيّن فيه أنّ شريعة موسى أرقى من شريعة المسيح.
غير أنّ هناك وجها ثالثا للمورانيّة، ظهر انطلاقا من هويّة مزدوجة، من الشّعور بالانتماء إلى نمطين من الوجود مختلفين ، إلى مجتمعين متعارضين. إنّ صدام دينين متناقضين لهو شبيه بالتقاء جسيمين متصادمين، فكلّ منهما يدمّر الآخر ليشكّلا معا مجموعة جديدة. هذه الحالات نادرة، ولكنّها لافتة للنّظر. فعلى سبيل المثال، قام برتولوماي دي لاس كازاس Bartolomé de Las Casas، وهو من أصول متنصّرة، بإقناع التّراتبيّة الكاثوليكيّة بأنّ هنود أمريكا هم مثل الآخرين بشر ولهم روح. وكانت الكنيسة ترفض ذلك : فكيف نعتبرهم مثل البشر بما أنّ المسيح لم ينتقل أبدا إلى أمريكا الجنوبيّة! كان الإظطهاد الّذي تعرّضوا إليه والّذي كان برتولوماي شاهدا عليه قد أثار رأفته، فعاد إلى المصدر البوليني (نسبة إلى القدّيس بول) القائل:»ليس هناك رجال ولا نساء، ولا يهود ولا يونانيون، ولا أناس أحرار ولا عبيد، جميعكم واحد في يسوع المسيح» (رسالة هدي إلى سكّان الاتي pître aux Galates). مع الأسف، لأسباب متعلّقة بمجاراة الظّرف، غضّ برتولوماي دي لاس كازاس الطّرف عن مصير الأفارقة ضحايا تجارة العبيد، الّتي انطلقت عمليّا منذ 1502 على جزيرة إسبانيولا.
المثال الآخر الّذي يجدر بنا ذكره هو مثال مونتانيي Montaigne. سنستغرب القول بأنّه مورانيّ، بما أنّ الجميع يعرفونه اسكونيّا، ولكنّ هذا لا يقصي ذاك. فنحن نعلم من مصادر موثوق بها أنّ عائلة أمّه، les Loupe ، كانت تنحدر من les Lopes ، الّتي وقع العثور على آثارها في أسبانيا. فيكون من الغريب أنّ هذا التّزاوج، في عصر كانت فيه الزّيجات منظّمة، لم يكن بين سليلين مورانيين، مع أنّنا لا نعرف شيئا عن عائلة الأب. من المهمّ أن نذكر أنّ المراجع الرّئيسيّة في «محاولات: Essais « هي يونانيّة ولاتينيّة، ولا وجود تقريبا للإحالات على الأناجيل، ولا على أيّ نصّ دينيّ. وهناك رسالة غريبة جدّا كتبها لأبيه ليرثيه في موت صديقه لا بووايتي La Boétie أثناء قدّاس أقيم له في إطار الطّقس الكاثوليكيّ. إذ يقول لا بووايتي في نهاية الرّسالة بصوت قويّ:» أموت وأنا على العقيدة الّتي زرعها موسى في مصر، ومنها انتقلت إلى يهوذا وحملها آباؤنا إلينا.» لقد سألت المختصّين في لا بووايتي عن معنى هذا، فلم يكونوا قادرين حتّى على الرّدّ عليّ.
المهمّ هو أنّ هذا المورانيّ الّذي هو مونتانيي، كان نيزكا حقيقيّا في عصر من الحروب الدّينيّة. كان كذلك بسبب ارتيابيته ورفضه اعتبار الهنود الأمريكيين جنسا أدنى. كتب يقول:» أولئك الّذين نسمّيهم برابرة هم بشر من حضارة أخرى غير حضارتنا». ويضيف:» أرى[...] أنّه لا وجود لشيء بربريّ ووحشيّ في هذه الأمّة... إلاّ أنّ كلّ شخص يعتبر ما ليس مألوفا لديه بربريّا.» إنّ من وجوه البربريّة الغربيّة اعتبار الآخر المختلف، بربريّا، عوضا عن الاحتفاء بهذا الاختلاف وعن العثور فيه على فرصة لإثراء المعرفة والعلاقة بين البشر. يمثّل مونتانيي هذا الفكر ذي الحرّيّة غير المسبوقة الّذي نجح في التّحرّر من الأحكام البربريّة المسبقة في عصره. وأعتقد أنّ مصدر حرّيته هو في هذه الحرّيّة الباطنيّة لفكر يتحرّك بعيدا عن اليهوديّة وبمنأى عن المسيحيّة. لم يكن خاضعا للتّعارض بين يهوديّ ومسيحيّ، بين مسلم ويهوديّ، بين مؤمن وغير مؤمن. بطبيعة الحال، قد يكون ذلك لأنّ الأصول المورانيّة بعيدة جدّا. ولكنّ الذّهنيّة المورانيّة هي بالأحرى الّتي تفتّقت بداخله. أمّا على الصّعيد السّياسيّ، فقد ظلّ حذرا للغاية، ولكنّه كان محافظا دائما على خطّ أخلاقيته في التّسامح. فكان يدعم الملك في جميع جهود الاعتدال الّتي كان يبذلها من أجل تجنّب حرب دينيّة.
أودّ أيضا أن أتناول حالة سبينوزا Spinoza.فهو في آثاره، يقصي اللّه الخارجيّ، خالق الكون، وذلك في وقت كان ما يزال فيه موجودا بقوّة عند ديكارت أو عند نيوتن ولم تفرض نفسها بعد فكرة العالم المخلوق ذاتيّا، « أو علّة نفسه» بتعبير سبينوزا، إلاّ مع هيجل. إنّ القوّة الخلاّقة موجودة في الطّبيعة، مثلما تبيّنه الصّياغة المعروفة Deus sive natura ، الّتي يمكن أن نفهمها كما يلي: اللّه، أو إن شئتم الطّبيعة، سيّان عندي. العقل عند سبينوزا سيّد، ولكنّه ليس عقلا باردا جامدا، إنّه في جوهره عقل رؤوف ، وإن صحّ التّعبير عقل «محبّ «. وهو يرفض فكرة الشّعب المختار، غير المواكبة للعصر حسب رأيه، وهو بهذا يعلمن laïcise الهويّة اليهوديّة، وفي نفس الوقت يستعيد ثانية فكرة الكونيّة بعيدا عن المسيحيّة. معه، نلتقي مرّة أخرى بنفس الفكر المستقلّ الّذي كان عند مونتانيي. صحيح أنّه كان يعيش في أمستردام المتسامحة آنذاك، ولكنّه لم يسلم رغم ذلك من هجمات المتعصّبين. وكان عليه بعد أن أطرد من المجتمع الكنسيّ ونجا بأعجوبة من محاولة اغتيال أن يعيش حياة شبه بائسة.
لا يمكننا أن ننفي أنّ المفتّشين الأسبان كانوا على حقّ حين اعتبروا أنّ المورانيّة مصدر للارتيابيّة والعقلانيّة. فالأمثلة على ذلك كثيرة في القرن السّابع عشر. من ذلك أنّ دون كيشوت لسرفانتاس Cervantès تتميّز بنوعين من السّخرية: نقد المخيال بالواقع نقدا مجسّدا في العين النّاقدة الّتي يلقيها سانشو بانسا Sancho Pança على دون كيشوت من جهة، وأيضا نقد الواقع النّثريّ بالمخيال منبع الشّعر، نقدا يجسّده الفارس الهائم من جهة ثانية. وهكذا تعلن دون كيشوت عن زوال سحر العالم الحديث، الزّوال الّذي سيصفه ماكس فيبر Max Weber بعد ذلك بقرنين من الزّمن. فرغم أنّ سانشو ودون كيشوت لا ينفصلان، إلاّ أنّ التّوفيق بين عالميهما مستحيل، ولهذا السّبب مازال هذا العمل فاتنا، وينبثق هو بدوره كالنّيزك في كون الأدب والخيال.
هكذا إذن، تطوّرت الإنسيّة في التحام الرّسالة اليونانيّة المنبعثة مع إيطاليا النّهضة، وانتشرت من ثمّة في البلدان الغربيّة الأخرى ماعدا أسبانيا. ولكن حتّى انطلاقا من أسبانيا هذه الّتي شطبت فيها الرّسالة، انبجست الإنسيّة سرّا انطلاقا ممّن يمكن لنا أن نسمّيهم ما بعد مورانيين الّذين غذّوا وأكّدوا إنسيّة بذهنيّة لائكيّة وكونيّة.
سيكون من المفيد أيضا أن نستحضر ظاهرة جرت في الإمبراطوريّة العثمانيّة وتعود إلى ما بعد المورانيّة، إنّها الحركة اليسوعيّة لسابّاتاي تسيفي Tsevi .Sabbataiفبعد أن ادّعى أنّه يسوع منتظر جديد، تحوّل في الأخير إلى الإسلام. حافظ أتباعه على عقيدة هذا اليسوع اليهوديّ سرّا مع اعتناقهم للإسلام جهرا. وكان هؤلاء المرتدّون يلقّبون ب : دونم donm أي الّذين ارتدّوا عن ديانتهم. وكان لهم تأثير كبير في إسطنبول. إذ بنوا في القرن التّاسع عشر مدارس علمانيّة تكوّن فيها ضبّاط تركيا الفتاة ومصطفى كمال الّذي سيقيم بنفسه اللاّئكيّة في العشرينات. هذه الواقعة تؤكّد أيضا أنّ خفايا التّاريخ عجيبة تماما، كما أنّها بصفة خاصّة تعيد إلى الصّدارة من جديد الميزة التّحرّريّة للفكر المورانيّ. فالسّبّاتيون، بانصرافهم عن الشّريعة اليهوديّة وتبنّيهم لإسلام ظاهريّ، تحرّروا من هذا وذاك معا. لهذا يمكننا أن نسجّلهم ضمن حركة الإنسيّة الأوروبّيّة.
هذا التّقليد في الإنسيّة الأوروبّيّة، أي جانبها النّقديّ الذّاتيّ، يعبّر عن نفسه جيّدا في « الرّسائل الفارسيّة « لمنتسكيو، وسيستمرّ حتّى كلود ليفي شتراوس. فمنتسكيو يتصوّر فرسا يأتون إلى الغرب ويعتبرون الفرنسيين بمثابة الكائنات الغريبة، وهذا موقف نموذجيّ للمعقوليّة النّقديّة الذّاتيّة: أي أن نعتبر أنفسنا موضوعا للمعرفة وللنّقد. ويقدّم فولتير مثالا آخر على ذلك في « خطب إلى سكّان بلاد الغال «. مع الأسف، تظلّ المعقوليّة النّقديّة الذّاتيّة جانبا ضئيلا في التّقليد الغربيّ. ففي القرن الثّامن عشر، عصر الأنوار، كانت المعقوليّة نقديّة بشكل خاصّ وموجّهة أساسا إلى الأديان، الّتي نظر إليها باعتبارها نسيجا للخرافات والأوهام. وهو نقد اختزاليّ، لأنّه لم ينتبه إلى ما سيتولّى ماركس إبرازه لاحقا، وهو أنّ الدّين زفرة المظلوم، والواسطة الّتي بها تفصح عن نفسها الطّموحات الإنسانيّة الأكثر غورا.
سيجد فكر الأنوار الإنسانيّ صياغته في « إعلان حقوق الإنسان والمواطن «، الرّسالة الّتي حملتها الأرستقراطيّة المستنيرة أكثر بكثير من البرجوازيّة، كما بيّن ذلك فرنسوا فيراي François Furet . فليلة 4 أوت، تخلّى الأرستقراطيون بأنفسهم عن امتيازاتهم.
ومع ذلك، فللعقل في تلك الفترة الّتي سجّلت انتصاره وجوه مختلفة. فالعقل العلميّ يبني نظريّات. ولكنّ هذه النّظريات القائمة في الظّاهر على معطيات مترابطة منطقيّا، من الممكن أن تشينها « العقلنة «، من خلال رؤية جدّ منطقيّة لا تقرّ إلاّ بما يؤيّدها. لابلاس Laplace مثلا، يدخل العقلنة في صلب العلم بالذّات. إنّه يقترح رؤية حتميّة تماما للكون، في إطار معلمن كلّيّا بطبيعة الحال: فهو يفترض أنّ شيطانا يختصّ بقدرات فائقة سيكون قادرا لا على معرفة جميع أحداث الماضي فحسب، بل وأيضا على توقّع جميع أحداث المستقبل. وعندما سأله نابليون:»واللّه، ماذا ستفعل به؟ «، أجابه لابلاس:» لست في حاجة إلى هذه الفرضيّة.» كان تصوّر لابلاس يقوم على عقلنة قصوى لمعقوليّة نيوتن. واليوم أدركنا أنّه لا يمكن اختزال كلّ شيء في الكون في الحتميّة. هناك إذن معقوليّة نقديّة تتحاشى فخاخ العقلنة، معقوليّة نقديّة ذاتيّة تقرن بين العقل والمعرفة ومحاسبة الذّات. إنّ علل العقل لا تعود إلى المعقوليّة في حدّ ذاتها، وإنّما إلى انحرافها إلى عقلنة وإلى ما يشبه القداسة.
إنّ أليتة العقل instrumentalisationأي تحويله إلى آلة، الموضوعة مثلا لخدمة أهداف غير عقلانيّة بالمرّة كالحرب، تندرج ضمن نمط آخر من العقلنة. في الحقيقة، إنّ ما ينبغي رؤيته وراء جميع أنواع العقلنة، زيادة على غياب الفكر النّقديّ والنّقديّ الذّاتيّ، هو إهمال ما يسمّيه روسّو الحساسيّة والّذي هو إهمال لطبيعتنا الخاصّة. ولئن كانت الطّبيعة حاضرة عند روسّو، إلاّ أنّ عصر الأنوار رغم كلّ شيء كان يتجاهلها. كلّ هذا سيتغيّر مع الرّومنطيقيّة.
الرّومنطيقيّة الأولى هي إعادة صياغة الكون شعرا، هي استجابة لحنين الجماعة إلى الماضي، هي أمثلة بفتح الثّاء idéalisation للعصر الوسيط. غير أنّ هذا الحنين إلى الماضي سيتحوّل بعد بضع سنوات إلى شوق إلى الغد المنقذ، وهو ما عبّر عنه كلّ من لامارتين Lamartine وهيقو، الّذين حقّقا التّعايش بين الفكر الرّومنطيقيّ وفكر الأنوار. كان لامارتين بطلا من أبطال ثورة 1848، تلك الّتي أضافت كلمة « أخوّة « إلى الكلمتين الأوليين في رمز الثّورة الفرنسيّة الشّهير. أمّا هيقو، بفكره الحالم، فقد تخيّل من قبل وجود الولايات المتّحدة الأوروبّيّة الّتي تمهّد للولايات المتّحدة العالميّة. تلك الحقبة من الزّمن أعادت الحياة لحقوق الإنسان، وحقوق الشّعوب، وحقوق البشريّة بتأثير من الفكر الاشتراكيّ خصوصا.
خلال القرن التّاسع عشر، حدث نوع من الغليان مع فورييه Fourier، ولورو Leroux وبرودون Proudhon الهيجليين الشّباب، وستيرنر Stirner منظّر الفوضويّة، وأخيرا ماركس. قام هذا الأخير بتوليفة فلسفيّة وفكريّة متميّزة في سبيل السّعادة البشريّة الّتي تحملها الاشتراكيّة بداخلها، الاشتراكيّة الّتي هي توق كونيّ زيادة على الحرّيّة والمساواة. غير انّه من الممكن وصف فكره بأنّه ما بعد موراني. في الواقع، إنّ يسوعيّة يهو مسيحيّة معلمنة موجودة في قلب تصوّره. فالبروليتاريا الصّناعيّة تصبح يسوعا منتظرا، والثّورة رؤيا قياميّة، والمجتمع الخالي من الطّبقات الخلاص الأرضيّ. معظم الماركسيين اعتقدوا أنّهم كانوا يمارسون المعقوليّة الأكثر شموليّة دون أن يدركوا أنّهم كانوا يمارسون ديانة خلاص. إنّ نزوع الإنسيّة الأوروبّيّة إلى الكونيّة قد عاد ثانية في أحشاء هذا الأمل الاشتراكيّ، بفضل تأسيس الأمميّات، على الرّغم من أنّ تنظيمها كان مقتصرا بعد على البلدان الأوروبّيّة والولايات المتّحدة الأمريكيّة. ومع هذا كلّه، ترسخ في القسم الأكبر من العالم الأوروبّيّ فكرة أنّ المعقوليّة هي امتياز للغربيين وحكر عليهم.
بهذا، نصل إلى فكرتين متشعّبتين. أولاهما أنّ أوروبّا الغربيّة، وهي موطن الهيمنة الأكثر خطورة والّتي لم يوجد مثلها أبدا في العالم من قبل، هي أيضا الموطن الوحيد للأفكار التّحرّريّة الّتي ستقوّض تلك الهيمنة. هذه الأفكار التّحرّريّة يحملها هؤلاء الّذين يستلهمون من الإنسيّة الأوروبّيّة الحديثة، من مفكّرين ومناضلين وبصورة أكبر من رجال ونساء ذوي نوايا حسنة منحدرين من مختلف طبقات المجتمع. بادرت إلى ذلك عقول موسومة بأفكار الثّورة الفرنسيّة، مثل فيكتور شوالشار Victor Schoelcher الّذي كما أسلفنا أمر سنة 1848 بإلغاء العبوديّة في المستعمرات الفرنسيّة. إنّ هذه الأفكار لا فقط سيتمّ نشرها في المستعمرات عن طريق تعليم الثّقافة الفرنسيّة، بل وأيضا سيتمسّك بها النّاطقون بلسان البلدان المستعمرة، وهم الّذين سيحيلون الغرب إلى مبادئه هو: حرّيّة، حقّ الشّعوب، الخ. كانت هذه الأفكار عاملا من عوامل إزالة الاستعمار. في أوروبّا إذن، موطن الهيمنة والغزو، تشكّلت المضادّات المتمثّلة في الأفكار التّحرّريّة.
الفكرة الجوهريّة الثّانية تتعلّق بهذا المسار الّذي أسمّيه « الحقبة الكونيّة «. فمع غزو الأمريكتين، ومع الملاحة حول العالم الّتي قام بها الملاّحون البرتغاليون والأسبان، دخل كوكبنا في نظام من الاتّصال المتبادل الّذي سيتطوّر باستمرار. ولئن كان هذا المسار غير منفصل عن الاسترقاق والاستعباد، فإنّ مبادئ إزالة الاستعمار والاسترقاق كانت موجودة منذ البداية. فإلى جانب عولمة تجارة المتاجرين والتّجّار، نمت عولمة لأفكار التّحرّر أفضت إلى إلغاء العبوديّة. من المؤكّد أنّ هذه العولمة جاءت متأخّرة كثيرا عن الأولى وأنّها جرت بصعوبة. ففي الولايات المتّحدة مثلا، أثارت الأفكار التّحرّريّة أيضا حرب الانفصال. وبالمثل، أفضت الحركة العالميّة للتّحرّر في آخر الأمر، بعد الحرب العالميّة الثّانية، إلى إيجاد حركة عالميّة لتحرّر المستعمرين. فتمّ رحيل المستعمرين بطريقة سلميّة أحيانا كما هو الحال في تونس والمغرب، وبطريقة تراجيديّة أحيانا أخرى كما حدث في الجزائر. هذا المسار بلغ ذروته مع وصول مانديلاّ، وريث الفكر الماركسيّ، إلى دفّة الحكم،. فقد أراد أن يضع حدّا للتّمييز بين السّود والبيض، أراد أن يبني أمّة للجميع. وهكذا توخّى منطقا مختلفا تماما عن المنطق الّذي جسّده المدّ القوميّ المجرّد من كلّ إنسانيّة في أوروبّا الشّرقيّة، هذا المدّ الّذي أدّى إلى حرب يوغسلافيا وإلى تقويض ما كان موحّدا.
كان في وسعنا في كثير من الأحيان أن نعاين مسارا لإزالة الاستعمار على مرحلتين. فهناك أوّلا إزاحة أولى للاستعمار ليست من صنع المستعمرين بل من صنع المستوطنين المزروعين في تلك البلدان، وهم نخبة من أصول أوروبّيّة، أوصلوها إلى الاستقلال، مثلما وقع في الأرجنتين أو في البرازيل. ولنلاحظ هنا أنّ البرازيل، رغم حصولها على الاستقلال، ظلّت تعرف العبوديّة حتّى نهاية القرن التّاسع عشر. ولنلاحظ أيضا أنّ مفهوم الأمّة في أمريكا اللاّتينيّة نما بشكل أوسع ممّا كان في الأمم الأوروبّيّة الكبرى، وأنّه تغذّى من اختلاط الأجناس، لأنّ هذه الأخيرة متعدّدة في البرازيل والأيكواتور والمكسيك وكولومبيا. وهي بطبيعة الحال أقلّ في البلدان الأنديّة حيث الطّبقات المغلقة من أصل أبيض تبقي على أغلبيّة كبيرة من السّكّان الأصليين بعيدا عن المناطق الواقعة تحت نفوذ السّلطة. وهذا ما يطرح مشكلة تحتدّ باستمرار.
لفهم العولمة إذن، لا بدّ من رؤية السّيرورة الجدليّة الّتي أفضت إليها. فقد جرت عولمة أولى تحت سيطرة قوّة عظمى، هي أسبانيا في عصرها الذّهبي، والولايات المتّحدة اليوم. وهذه العولمة أنتجت عولمة أخرى قد تبدو الآن في مرتبة ثانية، وتقلّ قوّة عن الأولى، إلاّ أنّها تحمل آمال التّحرّر والإنسانيّة.
ما الّذي حدث فعلا بعد سنة 1989؟ لقد أدّت عولمة السّوق إلى انهيار الإتّحاد السّوفييتيّ واقتصاده البيروقراطيّ، كما أدّت إلى تخلّي الصّين وفيتنام وجميع البلدان الشّيوعيّة عن هذا النّمط من الاقتصاد، حتّى وإن استمرّت ديكتاتوريّة الحزب الشّيوعيّ. وكان لزوال الثّقة في أفكار الاشتراكيّة الحقّ وفي فضائل الاقتصاد الاشتراكيّ أن خدم لبضع سنوات ما سمّي باللّيبراليّة الجديدة. وانتصرت فكرة أنّ التّعديلات الاقتصاديّة الذّاتيّة والتّلقائيّة تكفي وحدها لحلّ جميع المشكلات، بما فيها التّربويّة، بينما كانت اللّيبراليّة الكلاسيكيّة في السّابق تتحرّك في إطار التّنظيمات الّتي تقوم بها الدّول. ونحن اليوم مازلنا ضمن هذه الفترة، المتميّزة بغياب أيّ تعديل حقيقيّ على النّطاق العالميّ. بيد أنّ عولمة السّوق هذه تثير عولمة موازية يسمح بها التّقدّم الهائل لتقنيات التّواصل. فنحن من الآن فصاعدا نعيش في عصر الحضور الكونيّ l'ubiquité بفضل الفاكس والإيمايل والهاتف المحمول. إنّ هذه الظّروف التّقنيّة والاقتصاديّة الجديدة تفتح حقبة جديدة، حقبة تستطيع الأفكار فيها أن تتجوّل بسرعة الضّوء. ومن قبل، سمح سقوط الإتّحاد السّوفييتيّ بانتشار الأفكار الدّيمقراطيّة لا فقط في البلدان التّابعة للإتّحاد السّوفييتيّ، أي الدّيمقراطيات الشّعبيّة السّابقة، بل وأيضا في أمريكا اللاّتينيّة وأفريقيا. إنّها حقبة سقوط معظم ديكتاتوريات أمريكا اللاّتينيّة. إنّه ثأر 1789 من 1917. فطوال عشرات السّنين، كان يبدو أنّ 1789 ثورة تمهيديّة صغيرة، ذات طابع ثانويّ، وأنّ الثّورة الحقيقيّة لا يمكنها أن تتفتّح إلاّ مع ثورة 1917 واستيلاء الحزب البلشفيّ على السّلطة. في سوق القيم الرّاهنة، انهارت 1917 وصعدت 1789.
نحن الآن في هذه الوضعيّة الّتي تتطوّر فيها العولمة الثّانية، بإيقاع من المؤكّد أنّه مختلف عن إيقاع الأولى، غير أنّه يتقدّم رغم كلّ شيء. ولقد تبيّن أنّ تكهّن ماركس مدهش حقّا، وذلك حين نلاحظ مشكلة الثّقافة والأدب والفنون. كان ماركس يكره البرجوازيّة ويعجب بها في نفس الوقت. فهو يرى فيها من جهة هذه الطّبقة الّتي تستغلّ بشدّة قسما من البشريّة، ومن جهة أخرى الطّبقة الّتي تقوّض العلاقات القديمة القائمة على الاستعباد والإقطاعيّة، وذلك بخلقها لفضاء يمكن أن ينتشر فيه أدب عالميّ. واليوم، ما الأدب العالميّ؟ إنّه النّفاذ إلى آداب جميع أصقاع العالم بفضل وسائل الاتّصال والنّشر الهائلة الّتي وضعتها الرّأسماليّة، وهو أيضا ابتداع فنون من طراز مختلف. فالصّناعة الثّقافيّة، وإن كانت قائمة على السّعي وراء الرّبح، تحتاج أيضا إلى الطّرافة والابتكار. الأفلام الهوليوديّة مثلا، المنجزة بوسائل شبه صناعيّة، أنتجت أعمالا رائعة كأعمال جون فورد، في حين كانت السّينما السّوفييتيّة بالمقارنة معها أقلّ ابتكارا. ولكن مع الأسف، سحقت مقتضيات الإنتاج في كثير من الأحيان متطلّبات الإبداع. ويعتبر أورسون والز Orson Wells مثالا محزنا على ذلك. في كلّ حال، لا يمكننا أن نختزل العولمة الاقتصاديّة والتّجاريّة في تجانس رديء، فهي بنفسها تنشئ عولمة إنسانيّة وتتغذّى منها، دون أن تذوب فيها بطبيعة الحال.
هذه الجدليّة الخاصّة بالعولمة تجد لها صياغة مفهوميّة تقريبا في مفهوم العولمة البديلة، الّتي هي بالطّبع بروز لعولمة لا تركّز على قيم السّوق، وليس في مفهوم العولمة المضادّة الّتي تحدّث عنها الإعلام طويلا. فمنذ سياتّل سنة 1999، رأينا جوزاي بوفاي يعبّر عن فكرة عولمة أخرى. ففي صياغة:» العالم ليس بضاعة « يتعلّق الأمر فعلا بخلق عالم آخر وليس فقط بالمحافظة على خصوصيات مختلف البلدان. حتّى وإن كانت العولمة البديلة مازالت تبحث عن نفسها بعد، لأنّها لم تتوصّل إلى صياغة رؤيتها الخصوصيّة، ولأنّ الصّراعات والتّيّارات المختلفة تمزّقها أحيانا، فهي بالتّأكيد حيّة. فقد نشأت مواطنة العالم (بفتح الطّاد) بمناسبة حرب بيافرا Biafra، هذه المقاطعة النّيجيريّة الّتي كانت تحارب من أجل استقلالها. وتأسّست منظّمة أطبّاء بلا حدود، وتتمثّل مهمّتها في معالجة البشر مهما كان عرقهم أو دينهم. كانت تلك خطوة مهمّة. ومنذئذ، تكاثرت مثل هذه المنظّمات الإنسانيّة الشّاهدة على وعي كونيّ جديد، في نفس الوقت الّذي سقط فيه الفكر الأمميّ، فكر الأمميّة الشّيوعيّة والدّوليّة الاشتراكيّة الدّيمقراطيّة.
هذه الأمميات تركت نفسها فريسة للأمم. ففي فرنسا، كانت الأمميّة الثّانية، القويّة سنة 1914 مع حزب فرنسيّ يقوده جوراس Jaurès، تريد السّلام مثلما يريده الحزب لألمانيّ. ولكن، ما أن انطلقت الأعمال الحربيّة حتّى اصطفّ معظم الاشتراكيين الفرنسيين مع الحلف المقدّس ضدّ ألمانيا، ومعظم الاشتراكيين الألمان مع الحلف المقدّس ضدّ فرنسا. وحدها بعض العقول النّادرة، مثل رومان رولان وبعض النّقابيين، نجت من هذا التّنويم المغناطيسي القومجيّ. وهكذا التهمت حرب 1914 الأمميّة الثّانية. أمّا الثّالثة، أي الأمميّة الشّيوعيّة، فكانت في خدمة الدّولة السّوفييتيّة، التّي كانت بدورها في خدمة قوّتها الذّاتيّة أكثر فأكثر. لقد تمّ تحريف مثل الاشتراكيّة الأمميّة لمصلحة وطنيّة كانت فوق ذلك حيويّة للمحافظة على الإتّحاد السّوفييتيّ. ولئن سمّى ستالين الحرب العالميّة الثّانية ب» الحرب الوطنيّة الكبرى «، فإنّ الأمميّة الثّالثة قد التهمتها قوميّة الإمبراطوريّة السّوفييتيّة. بشكل ما، كلّ تلك الأمميات أهملت حقيقة الأوطان والأمم. واعتقدت أنّ الأمم لم تكن إلاّ أداة في يدي الطّبقة المهيمنة. فأخطأت في تقويم عمق الأمّة. حدث ذلك على الرّغم من أنّ أوتّو باور Otto Bauer منذ القرن التّاسع عشر حاول أن يبني نظريّة للأمّة تقوم على فكرة وحدة المصير، وكان ستالين نفسه قد كلّفه لينين بتأليف كتاب حول الماركسيّة والمسألة القوميّة حاول فيه أن يقدّم بعض مقوّمات الأمّة.
ولكنّ الماركسيّة كانت عمياء، والثّوريين أنفسهم الّذين اعتقدوا أنّهم قد قاموا بتنظيف كلّ شيء في الإتّحاد السّوفييتيّ قد هيئوا من حيث لا يعلمون لعودة القوميّة بقوّة، لا فقط القوميّة الرّوسيّة، بل وأيضا الأرمينيّة والأزبكيّة واللّيتوانيّة. كانوا يظنّون أنّهم قد قضوا نهائيّا على الدّين، فعاد بقوّة متجدّدة. وكانوا يظنّون أنّهم قد تخلّصوا إلى الأبد من الرّأسماليّة بتصفية البرجوازيين، فجدّت رأسماليّة أدهى من رأسماليّة العهد القيصريّ. كلّ هذا يدعّم ما سمّيته « إيكولوجيا الفعل «. ففي السّياسة بالخصوص، يمكن للأفعال أن تتّجه في الاتّجاه المعاكس للنّوايا، وأن يكون لها بالتّالي انعكاسات تدمّرها. وأيّ شخص يجهل إيكولوجيا الفعل محكوم عليه بالوقوع باستمرار في الخطأ.
إذن، عجزت الأمميات عن أن تتحوّل إلى وعي كونيّ، ممّا ينمّ عن ضعف فكر المواطنة العالميّة.
كنت قد اقترحت سابقا فكرة «الأرض الوطن «، مع العلم بأنّ لفظة « وطن « تشتمل على أسطورة غنيّة جدّا، أموميّة وأبويّة في نفس الوقت، حتّى في دلالاتها الحافّة. مفهوم الأمّة يقول لنا لابدّ من أن نحبّ هذه الأرض الأمّ التّي انحدرنا منها وسلطة الدّولة الأبويّة إن كانت عادلة. ولكنّ هذه الفكرة لم تتّخذ بعد حجما كونيّا. إنّ العولمة التّكنو اقتصاديّة قد خلقت خلال الألفيّة الأخيرة الوسائل الّتي يمكنها أن تسمح ببروز هذا الوعي الكونيّ، الوجدانيّ والتأمّلي معا. لقد خلقت البنيات التّحتيّة لمجتمع عالم محتمل.فكي يكون هناك مجتمع، لا بدّ فعليّا من وجود أرض ووسائل اتّصال، لا بدّ من وجود اقتصاد. والحالة هذه، هناك فعلا أرض عالميّة مجهّزة بوسائل اتّصال لا تعدّ وباقتصاد خاصّ بها، إذن ليست عولمة الاقتصاد هي ما ينبغي أن نرثيه، بل ما يرثى له أنّها لم تخضع إلى التّنظيم مؤسّساتيّا. لا بدّ إذن من وجود سلطة منظّمة شرعيّة ذات قدرة كونيّة. ولكن، مع الأسف، أنتم على علم بما وصلت إليه الأمم المتّحدة والقانون الدّوليّ... فضلا عن ذلك، فإنّ المسار التّكنو اقتصاديّ، الّّذي يصنع البنيات التّحتيّة لمجتمع عالم، يمنع هذا المجتمع من الظّهور كما هو. هكذا يتوسّع الحوار المنطقيّ بين العولمة الاقتصاديّة والعولمة الإنسانيّة. حوار يعني وجود تناقض بين هذه العولمات وأنّه رغم ذلك تتغذّى الواحدة من الأخرى، على الأقلّ بمعنى أنّ الواحدة لا يمكن أن تكون من دون الأخرى.
تنطوي هذه الحقبة من العولمة على أخطار جسيمة. وكما هو الحال دائما، تتجاور الحضارة والبربريّة. فنحن نشهد عودة الصّراعات الضّارية، العرقيّة منها والقوميّة والدّينيّة في عدد كبير من البلدان والمناطق. وتدفعنا بعض الانفلاتات إلى الاعتقاد بأنّ حربا بين الأديان أو بين الثّقافات ممكنة الوقوع. كلّ هذا يؤكّد مرّة أخرى أنّ للعولمة سمات متناقضة ومتباعدة. فنحن نشهد في نفس الوقت كوننة تكنو- اقتصاديّة ومقاومات، بما فيها العودة إلى أديان وعبادات متفرّدة.
هناك فكرة أخذت في البزوغ خلال العشريّات الأخيرة من القرن العشرين، ولو أنّ لها أصلا قديما. إنّها فكرة سفينة فضائيّة، هي الأرض، سفينة شراعيّة تبحر فيها الإنسانيّة. هذه المركبة تدفعها اليوم أربعة محرّكات: العلوم والتّقنية والاقتصاد والرّبح، وهي محرّكات غير خاضعة للرّقابة. أنا لا أعتبر العلم سيّئا، بل على العكس، ولكنّي أقول إنّه قد طوّر قدرات للتّحطيم غير مسبوقة وغير خاضعة للرّقابة. إنّ التّطوّر التّكنو اقتصاديّ الرّاهن يتسبّب في تخريب المحيط الحيويّ الّذي يتسبّب بدوره في تدهور الحضارة الإنسانيّة. بتعبير آخر، تتّجه هذه السّفينة الفضائيّة نحو كوارث دون أن يقدر أيّ كان على السّيطرة عليها.
كلّ هذا يبيّن التّناقضات والتّعقيدات الموجودة في هذه العولمة المزدوجة. ألن تستطيع أوروبّا أن تنتج مضادّات جديدة تكون سليلة ثقافته، انطلاقا من سياسة مبنيّة على الحوار وعلى التّعايش، سياسة حضاريّة تقوم بإعلاء كيفيّات الحياة لا فقط ما هو كمّيّ، وتوقف السّباق نحو الهيمنة؟ ألن يكون بمقدورها أن تنهل من جديد من الإنسيّة الكونيّة الّتي نحتتها في الماضي؟ ألن تستطيع أن تعيد اختراع الإنسيّة؟

المصدر:
أدغار موران:» الثّقافة والبربريّة الأوروبّيّتان « Culture et barbarie européennes، الفصل الثّاني بعنوان Les antidotes culturels européens،صص 33- 59. Bayard ، باريس، 2005.
أدغار موران: المدير الشّرفي للأبحاث في المركز القومي للبحوث العلميّة CNRS، هو دكتور فخري في الكثير من الجامعات في العالم. لكتاباته تأثير كبير في الفكر المعاصر. ومنها كتابه الأهمّ «المنهج « (في ستّة مجلّدات) الّذي يتصدّى لصعوبة التّفكير في تعقّد الواقع.
1 الإنسيّة: فضّلت هذه العبارة على عبارة الأنسنة الّتي استعملها العديد من المفكّرين العرب ومنهم بالخصوص محمّد أركون لترجمة كلمة HUMANISME، وذلك لأنّها تعبّر بصيغتها الصّرفيّة على تيّار أو مدرسة فكريّة وغيرها، كقولك وجوديّة أو ماركسيّة أو فوضويّة... أمّا كلمة أنسنة فالأفضل أن تكون ترجمة لكلمة HUMANISATION الّتي تأتي من فعل humaniser أي أنسن على وزن أفعل. مثل عصرنة modernisation وعلمنة laïcisation وفرنسة francisation وعولمة mondialisation (المترجم)
2 المورانيون: بالإسبانيّة morranos منحدرة من كلمة «محرم « العربيّة. ومفردها morranoوتعني الخنزير، وأطلق المسيحيون المنتصرون هذه التّسمية التّحقيريّة على اليهود في إسبانيا أو البرتغال الّذين أجبروا على اعتناق الكاثوليكيّة وظلّوا في السّرّ أوفياء لديانتهم (المترجم).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.