ألقى البابا بنديكت محاضرة في ألمانيا يوم سبتمبر تطرّق فيها الى قول على لسان امبراطور بيزنطي من القرن الرابع عشر يحاور مثقفا فارسيا مسلما أنّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم جاء بأشياء «شريرة لا انسانية مثل أمره بنشر الدين الذي يدعو إليه بحد السيف» وأضاف مستعملا مصطلحات «الجهاد» و»الحرب المقدسة» أنّ «العنف لا يتفق مع الطبيعة الإلهية وطبيعة الروح واعتبر أنّ نشر الدين عن طريق العنف غير منطقي وأنّ العمل دون عقلانية يعتبر ضد طبيعة الخالق كما اعتبر أنّ العقيدة الاسلامية تقوم على أساسا أنّ ارادة اللّه لا تخضع لمحاكمة العقل والمنطق. ولتحليل مقاصد البابا بنديكت لابد من الوقوف عند أهم الكلمات والعبارات التي أشار إليها حتى نفهم الخلفيات التي انطلق منها والترقبات المفترضة من الذين توجه لهم هذه الأفكار وعلاقة هذه الترقبات بخلفيات المنطق. فالكلمات والعبارات المُشار إليها هي: امبراطور بيزنطي /فارسيا مسلما / الإسلام / الجهاد/الحرب المقدسة/شريرة لا انسانية/عمل دون عقلانية/لا تخضع الى محاكمة العقل. وكأنّي به يقول: يامن تفاوضون المسلمين الايرانيين بإعتبارهم هم فرسا أوقفوا كل المفاوضات فهم ليسوا عقلاء وابحثوا عن بديل عن المفاوضات ولا بديل غير البديل العنف اذ العنف متأصّل فيهم ومن موقعي سأحرك الجانب الروحي لدى المسيحيين جميعا لدعمكم. وما المقصود بالإمبراطور البيزنطي سوى الغرب بلا استثناء. بنديكت الرجل السياسي يتكلّم بإسم الغرب وهو بابا الفاتيكان فهو يتكلّم بإسم المسيحيين خطابه موجه للمسيحيين، للصهاينة، للإيرانيين، للمقاومة اللبنانية، لكافة المسلمين ويترقب من كل الذين يتوجه لهم بخطابه ردودا ولكل منهم رده الخاص به لكن من يترقب هذه الردود ليوظفها؟ إنّ من يترقب هذه الردود هو الغرب السياسي الذي يقف وراء بنديكت أي ما عبر عنهم بالإمبراطور البيزنطي. ولا ننسى أنّ هناك ترقبات متبادلة بين هذه الأطراف الموجه لها الخاطب. بنديكت يتكلّم بصفته بابا الفاتيكان يحاول إقناع المسيحيين بأنّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم جلب أشياء «شريرة لا انسانية..» فهو يستعمل كلمة شرير في صيغة الجمع وهو بهذه العبارة يدعم التيارات المسيحية المتطرفة التي تقسم العالم إلى قطبين متعارضين أبديا وهما قطب الخير الذي تمثله المسيحية في حين تمثّل الحركات الاسلامية قطب الشر، وقد أكد على ذلك بإستعمال كلمة شرير في صيغة الجمع أي كأنّه يقول لهم لا مجال لشك في ذلك. بنديكت يتكلم بصفته بابا الفاتيكان ويقول «العنف لا يتفق مع الطبيعة الإلهية وطبيعة الروح» وهنا يستبق الأحداث ويعطي حكم «الطبيعة الإلهية وطبيعة الروح {حسب مفهوم المسيحيين} من العنف المنتظر من ردود الفعل. أقول يستبق الأحداث لأنّه يعرف أنّ في الأيّام القادمة، بعد إلقاء المحاضرة، ستخرج مظاهرات واحتجاجات ستكتسي أشكال عنف على الأراضي الأوروبية والأمريكية وخصوصا أشكال عنف بين متظاهرين مسلمين وأنظمتهم للتأكيد على أنّ العنف متأصّل فيهم كمواطنين عاديين أو حكاما وبالحكم الذي أعلنه بابا الفاتيكان على العنف سيدفع المسيحيين لتأييد حكامهم على شن حرب هوجاء ضدّ المسلمين وهو كذلك يخفف من سخطهم على الكيان الصهيوني من جرّاء المجازر التي يرتكبها كل يوم ويدفعهم الى تأييد احتلال العراق وأفغانستان. بنديكت الرجل السياسي يتكلّم بإسم الغرب ويتجلّى ذلك عند اقتباسه قولا على لسان امبراطور بيزنطي والإمبراطور هو أعلى سلطة سياسية على أراضيه. بنديكت الرجل السياسي يعتبر أنّ العمل دون عقلانية ضد طبيعة الخالق وبقطع النظر على هذا الحكم فإنّه يعتبر المسلمين يقومون بأعمال دون عقلانية وهو بهذا يشير الى أنّ المسلمين غير عقلانيين وهو بهذا يتبنّى ويذّكر الغرب والمسلمين بالذريعة التي اتخذتها الأنظمة الأوروبية عند احتلالهم لجل دون العالم وهو بهذا يمجد فترة الاستعمار المباشر وهو بهذا يضمّ صوته الى ما ذهب إليه البرلمان الفرنسي في فيفري عندما قرّر تمجيد فترة الاستعمار ولئن عبّر البرلمان الفرنسي بعد ذلك بأشهر قليلة على أنّه تراجع عن ذلك الاّ أن تراجعا غير مبرر لا يعتبر تراجعا ذلك انه لسائل ان يسأل. ماذا تغيّر في قناعة العديد من أعضاء البرلمان الفرنسي حتى يتراجعوا دفعة واحدة عن تمجيد فترة الاستعمار المباشر؟ الاّ اذا كانوا غير عقلاء لا أثناء قرارهم في فيفري ولا أيضا أثناء التراجع عن قرارهم هذا. لكن في تقديري ان تراجع البرلمان الفرنسي عن تمجيد فترة الاستعمار المباشر هو تراجع صوري لا يغير شيئا في قناعتهم سوى أنّه جاء تحت ضغوط الاحتجاجات الصادرة عن الشعوب المستعمرة سابقا ولحفظ ماء وجه العناصر الموالية له والتابعة لتلك الشعوب المستعمرة سابقا. فهو تراجع صوريا ومعناه تمجيدا لفترة الاستعمار بالهمس لا بالجهر. أمّا وقد عبّر الفاتيكان في تصريح له بتاريخ سبتمبر على أنّ بنديكت يعرب عن أسفه لأنّ تصريحاته لم تفهم بالشكل الصحيح فهذا معناه أيضا أنّ المسلمين غير عقلاء. الترقبات: الترقبات هي الردود المنتظرة من متلقي محاضرة بنديكت وفي هذه الحالة هي منتظرة عند الساسة الغربيين. فالساسة الغربيون يترقبون انشراحا لدى الصهاينة لما جاء في محاضرة بنديكت. الساسة الغربيون يترقبون مظاهرات واحتجاجات في الغرب من طرف الجالية الاسلامية وقد تشهد أحداث عنف وربّما تفجيرات. الساسة الغربيون يترقبون نتيجة، لما تقوم بهذه الجالية الاسلامية في الغرب، نتيجة تتمثّل في انقسامات بين المسيحيين، بين مؤيد لما يقوم به المحتجون وبين ساخط على هؤلاء المحتجين. وهذا الشق الثاني سيجد في قول البابا «العنف لا يتفق مع الطبيعة الإلهية وطبيعة الروح» مبرّرا لموقفه والساسة الغربيون سيدعمون بشكل أو بآخر هذا الموقف اضافة الى ما ستتيحه لهم هذه التحركات من امكانية رصد للعناصر التي ستعتبر بالنسبة لهم متمسكة أكثر من غيرها بالدين الاسلامي حتى يقع الزج بها في السجون. الساسة الغربيون يترقبون مظاهرات واحتجاجات على الأراضي الاسلامية، هذه التحركات ستدفع كالعادة بالأنظمة الاسلامية الى التصدّي لهذه المظاهرات. وسواء تصدّت هذه الأنظمة الى هذه الاحتجاجات أم لم تتصد فهي سترصد هذه التحركات وتتبع المتمسكين بالدين أكثر من غيرهم حتى ترمي بهم في السجون. أما وقد كانت المقاومة اللبنانية قد حققت نصرا مبينا على الكيان الصهيوني وهذا النصر من شأنه ان يعيد الثقة في النفوس بأنّه بإمكانهم الانتظام والتحول في يوم ما الى مقاومة قد تحقق نصرا وهذا ما تخشاه الأنظمة العربية من شعوبها فستستغل الأنظمة العربية هذه التحركات التي ستقع، على اثر محاضرة بابا الفاتيكان، للترصد عن كثب لكل العناصر النشيطة حتى تحول دون قيام أي تنظيم قد يتحول في يوم ما الى مقاومة وستساندها الأنظمة الغربية في ذلك بل ستضغط الأنظمة الغربية على الأنظمة العربية في هذا الاتجاه. الساسة الغربيون يترقبون من الأنظمة العربية أماني بأن تكون رسالة بنديكت موجهة فقط الى الفرس أي الى ايران. وبالتالي ستقدم الأنظمة العربية أكثر ما يمكن من الدعم للغرب في اتجاه ضرب ايران على أمل أن لا يتحول الغرب بعد ذلك الى شنّ حرب على العرب ولكن قبل ذلك ومن موقعها كأنظمة عربية ستعمل على إقناع ايران على التخلّي على برنامجها النووي والإنخراط في النظام العالمي الجديد ولكن بدون جدوى. الساسة الغربيون يترقبون من ايران فهما واضحا للرسالة على أنّها المستهدفة بالدرجة الأولى وأن المسألة مسألة تهيئة الرأي العام المسيحي وبالتالي ستبحث ايران عن شكل جديد من أشكال المناورة لربح الوقت عسى معطيات جديدة تجدّ على الساحة العالمية وبالدرجة الأولى بالساحة الأوروبية أو الأمريكية قد تغيّر بعض المعطيات. وبخصوص ايران أقول أنّ الساسة الغربيون ولئن بدا الى ايران اعتبارا لما بحوزتها من أسلحة ولوجود بوارج حربية أمريكية بالقرب من حدودها ولوجود جيوش غربية بالعراق المحاذية لها ولقرب الكيان الصهيوني من أراضيها، فلئن بدا الى ايران أنّ هذا قد يبعد شبح الحرب عنها فإنّ هذا رهان خاطئ لأنّ الغرب في هذه المرّة قد عزم على خوض الحرب ضد ايران ثمّ ضد كل المسلمين بدون استثناء. أقول أنّ هذا رهان خاطئ ذلك ان العتاد الحربي الموجود على مقربة من ايران فإنّه في منظور الغرب أن لم يضحي به في هذه الحرب المقدسة بالنسبة له ففي أي حرب سيضحي به؟ فهل يبقيه حتى يصدأ؟ أمّا تواجد الجيوش الغربية في العراق أو أفغانستان أو الصهاينة فهم بالنسبة للأنظمة الغربية ليسوا سوى رعاع وخذ دليلا على ذلك، موقف الغرب الرافض لوقف القتال في الحرب الأخيرة بين الكيان الصهيوني والمقاومة اللبنانية، فرغم رغبة الكيان الصهيوني في ايقاف تلك الحرب الاّ أنّه كان مدفوعا الى مواصلتها رغم أنفه. ترى أي موقع لهؤلاء الصهاينة عند الأنظمة الغربية، هؤلاء الصهاينة الذين يموتون في حرب مدفوعين أليها كرها بإرادة الأنظمة الغربية؟ فالعتاد الحربي بالنسبة للأنظمة الغربية اذ دمّر فسيصنعون غيره ذلك أنّ مصانع الأسلحة مازالت قائمة الذات وليس في نيّتهم غلقها في الوقت الحاضر أمّا الجنود الغربيون أو الصهاينة فإن ماتوا في هذه الحرب فسيبعثون بغيرهم من عديد الأقطار لملء تلك الأوطان الجديدة. حول ردود الأفعال الإسلامية: عدد من الفقهاء ورجال الدين والمؤسسات الإسلامية وغيرهم طالبوا من البابا الإعتذار رسميا عمّا صرّح به من إساءة للإسلام وللرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين الاّ أنّ هذا المطلب لا يعتبر وجيها في نظري بل سيخدم الغرب في حربهم هذه ضدّ الأمّة الاسلامية ذلك أنّه: افتراضا أنّ بابا الفاتيكان قدّم اعتذارا رسميا فهل سينتج عن هذا وقف لتحركات الجالية الاسلامية بالغرب؟ من يتحكم في كل تحركات الجالية الإسلامية بالغرب؟ الجواب عن السؤال الثاني: لا أحد ولما كان الأمر كذلك وافتراضا أنّ بابا الفاتيكان قدّم اعتذارا رسميا الاّ ان المظاهرات والاحتجاجات وأعمال العنف تواصلت بالغرب خصوصا وان هناك من من مصلحتهم تواصلها بما في ذلك الأنظمة الغربية. فهذه المرة سنجد الأغلبية الساحقة من المسيحيين يتقدمون أنظمتهم مستنكرين أعمال العنف هذه على خلفية انّ الباب قد استجاب الى مطلب رجال الدين الاسلامي وقدم اعتذاراته بشكل رسمي ولذلك لم يعد بالنسبة إليهم أي مبرّر لتواصل الإحتجاجات أو العنف بل سينظر إليها على أنها عداء قديم جديد ضد المسيحيين وضد المسيحية علاوة على كونها سترسخ في فكر المسيحيين انّ المسلمين غير عقلاء ويستعملون العنف بدون مبرّر ولذا يجب التخلص منهم. ترسخ هذه الأفكار لدى المسيحيين ستستغلها الأنظمة الغربية لتبرير ماهي عازمة على القيام به ألا وهو شن حرب على الأمة الإسلامية بدءا بإيران وستكون حرب إبادة كما أباد الأمريكيون الهنود الحمر هاهم يبيدون الشعب الفلسطيني والشعب العراقي فانظروا كم قتيلا يوميا في العراق؟ هل كل هؤلاء القتلى هم من الموالين للغزاة ومن أبطال المقاومة فقط؟ من هؤلاء القتلى ومن يقف وراء قتلهم؟؟ انّها حرب إبادة جماعية ليس إلاّ. لئن أبديت رأيي في المطلب المرفوع من طرف رجال الدين الإسلامي والفقهاء والمؤسسات الدينية الإسلامية واعتبرته غير مجد لما هو مرتقب من البابا والجالية الإسلامية بالغرب والمسيحيين والأنظمة الغربية التي لا أخالها لا تترقب ذلك بفارغ صبر فإنّي أقدم الآن رأيي. لم يعد هناك أي مجال للشك في الحرب على هذه الأمة الإسلامية لإبادتها بعد أن قال جورج بوش «إنّها حرب صليبية» ثمّ قال لاحقا «الفاشية الإسلامية» ومرورا بالتضييقات المتواصلة ضد الجالية الاسلامية بالغرب بما في ذلك منع الحجاب والتوصيات المقدمة للأنظمة العربية في اطار المناهج التربوية وتمجيد البرلمان الفرنسي لفترة الاستعمار المباشر هاهو بنديكت يوقع بإسمه وبإسم المسيحيين على هذه الحرب ضد المسلمين. أمّا والحال على هذا المستوى فلسائل أن يتساءل: ترى هل من مخرج، أو كيف لنا أن نتصدّى، أو كيف لنا أن نقاوم؟ العمل في هذا الاتجاه وفي هذا الظرف بالذات يتطلّب سحب ورقة الشارع المسيحي من رهانات الأنظمة الغربية وذلك بإلحاق عقدة الذنب بالمسيحيين، عقدة الذنب المتأتية نتيجة تصريحات البابا تلك التصريحات المسيئة للإسلام وللرسول محمد صلى الله عليه وسلم وللمسلمين. لكن كيف ذلك؟ يكون ذلك بقرار مصحوب بمطلب يصعب الاستجابة إليه. أمّا اذا تمّت الاستجابة إليه فستتوقف تلقائيا كل تحركات الشارع الاسلامي والجالية الاسلامية بالغرب. هذا القرار هو قطع العلاقات الدبلوماسية مع الفاتيكان الى حين رحيل بنديكت مع حماية الكنائس من أي ضرر قد يلحق بها وتفتح للمسيحيين كعادتهم للتعبد فيها. أقول رحيل بنديكت ولا أقول استقالة بنديكت اذ الاستقالة تبقى شأنا داخليا بين المسيحيين سواء كانوا مواطنين عاديين أم كرادلة. إنّ قطع العلاقات الدبلوماسية بين العالم الإسلامي والفاتيكان سيجعل المسيحيين يسلمون بأنّ ما صرّح بابا الفاتيكان يعد من منظور اسلامي خطير لا توازيه خطورة ومن ذلك كلّ ردود الفعل من طرف الجالية الإسلامية في الغرب ستجر المسيحيين الى اللوم أكثر على بنديكت ولن يدعموا أي تحرّك للأنظمة الغربية في اتجاه الحرب على المسلمين. وما على الأنظمة الإسلامية الاّ عدم التراجع عن هذا القرار مهما سلطت عليها من ضغوط قصد التراجع عن قرار قطع العلاقات الدبلوماسية مع الفاتيكان بل عليها بالتنصل من كل أشكال التبعية للأنظمة الغربية والتعجيل في فض الخلافات بين الأنظمة الاسلامية وان لزم الأمر تناسيها والإنصراف نحو مواجهة الخطر المحدق بالأمة الإسلامية ألا وهو الحرب.