يحيي الاتحاد العام التونسي للشغل يوم الاحد 3 ديسمبر الذكرى الثمانين لميلاد أول تنظيم نقابي تونسي حرّ ومستقل على أيدي زارع البذرة الاولى الزعيم محمد علي الحامي. وبالمناسبة، أصدر الباحث الفذّ الاستاذ المبرز أحمد خالد كتابا بعنوان، محمد علي الحامي، رائد الحركة النقابية الوطنية بتونس، وقد إخترنا منه هذه المقتطفات التي تعرّف بالجامعة: لأوّل مرة في تاريخ البلاد التفّ العمال التونسيون حول قيادة نقابية وطنية مخلصة لهم بعد ان كانوا أشتاتا، فخرجوا من عزلتهم وأرسلوا نوابهم الى العاصمة للتشاور مع محمد علي الذي كان «القوّة العاملة لجمع المساعدات الممكنة» للمضربين كما وصفه الطاهر الحداد في كتابه. وفي الحقيقة عرف العمال التونسيون الفكرة النقابية في أواخر العشرينات عندما انخطروا في الاتحادية الفرنسية للعمال (CGT) منذ أن تأسست في سنة 1919، الا انها كانت مستوردة من بلد يستعمرهم فلم تحقق ما أملوه من انصاف وعدالة اجتماعية فانفصلو عنها يائسين منها كما قال الطاهر الحداد والبشير الفالح كاتب هيئة الاضراب الا ترى الاتحادية الفرنسية جنحت في تونس الى التمييز العنصري ففوقت الأجانب على أهل البلاد وحرمت هؤلاء من حقوقهم كانت تتمتع بها الجالية الفرنسية في الشغل وتتمثل في الثلث الاستعماري المضاف الى الاجور والمرتبات (Tiers Colonial). ومع الايام وبسرعة اتّسع نطاق الحركة النقابية التونسية، وتضخم دور محمد علي فاحسن الاشتراكيون الفرنسيون المسيطرون على الاتحادية العمالية (CGT)بالخطر فأوفدوا كاتبهم العام «جواشيم دوريل» (Joachim Durel) الى باريس ليعلم الهيئة العليا لمنظمته بان الايالة التونسية مهدّدة بشغب حركة عمالية «وطنيّة معادية للاجانب مستندة الى الحزب الشيوعي» حسب قوله. مشارب سياسية متباينة في حركة محمد علي: تمادى الاشتراكيون في اتّهام قادة الحركة العمالية التونسية بالتعصّب الديني والعنصري، وردّدوا انّ اولئك الانفصاليين صدّعوا الوحدة العمالية، فعرّضوا الكادحين لتعسّفات رأس المال، واخذوا يلعبون دورا سياسيا مقنعا بالعمل النقابي ووجدت ادارة الحماية ذريعة للتدخل في ذلك الصراع فسلطت ضغوطا على ثلة من المسؤولين النقابيين الموقوفين ليقلعوا عن مساندة حركة محمد علي ويجهروا بأنّها «قومية اسلامية تنافي الاتجاه العمّالي الوحدويّ وتعادي الاجانب»، فانصاع للمكيدة أحمد بن ميلاد كاتبٌ نقابة الطرازين على الجلد وكان عضوا في الحزب الشيوعي وقد سجن بعد حادثة بنزرت وكان يدرس في معهد كارنو ويعدّ لنيل شهادة الباكالوريا فلما أعلن تخلّيه عن «جامعة عموم العملة التونسيين» متعللا بما روّجه اعداؤها رفضه حزبه الذي ساندها واعتبره متخاذلا بقرار رسمي ثم صدر في جريدة «لافنير سوسيال» يوم 26 أكتوبر 1924 بلاغ باسم الهئة التنفيذية الوقتية لجامعة عموم العملة بامضاءات الطاهر عجم وبودمغة والمختار العياري يدحض فيه هؤلاء ما ادّعاه أحمد بن ميلاد المتخلي عنهم وكان هذا المنشق عضوا بارزا في اللجنة الوقتية المكلفة بالاشراف على العمل النقابي قبل تأسيس «جامعة عموم العملة التونسيين» بصفة رسمية مما يدل على ان اول حركة نقابية تونسية جمعت في البداية على الاقل بين شبّان ذوي مشارب سياسية واديولوجية متباينة فمنهم الشيوعيون كأحمد بن ميلاد والمختار العياري والطيب دباب ومنهم الدستوريون كالطاهر صفر وأحمد توفيق المدني والطاهر الحداد وأحمد الدرعي وهنهم من لا ينتمي الى حزب سياسي لكنه على كل حال يتمسك باصالة الانتماء الى قوميته التونسية العربية الاسلامية وينزع نزعة اشتراكية تقبل تعايش الفئات الاجتماعية واعني خاصة محمد علي الحامي الذي لم يذكر اسمه في الجريدة الشيوعية «المستقبل الاجتماعي» الا بعد مضي ثلاثة اشهر على ظهور حركته النقابية رغم كونه دماغها الاول فلم تخبر تلك الجريدة عن حركته طوال تلك المدة الا بواسطة افراد ينتمون الى الحزب الشيوعي كأحمد بن ميلاد والمختار العياري. وكان محمد علي كما علمت من قبل ديجهر بعدم رضاه عن الطريقة التي توخّاها الدستوريون في كفاحهم وإن ربط صلة ببعض رموزهم. ووجد اعداء اول حركة تونسية نقابية في تباين المشارب السياسية لقادتها ذريعة لايهام الرأي العام بانهم يمثّلون تجمّعا توفيقيا بين الحزب الشيوعي والحزب الدستوري هدفه مقاومة الحماية الفرنسية. ولما تكرّر على ألسنة الاشتراكيين الفرنسيين وفي مقالاتهم بجريدة «تونس الاشتراكية» وصف نواة جامعة عموم العملة التونسيين بانها قطرية وطنية اسلامية يكره قادتها الاجانب اصدرت لجنتها التنفيذية الوقتية «إعلانا للعموم» يوم 20 نوفمبر 1924 بجريدة «إفريقيا» تدحض فيه بعض تلك النّعوت وتُعلم الخصوم بان نقاباتها ستكون في الحقيقة مستقلة الاّ أنها ستنخرط في عالمية العملة وأن أبوابها مفتوحة لكل عمل بقطع النظر عن جنسيته وديانته». ورغم المضايقات التي تعرضت اليها الجامعة تكاثر انصارها فتأسست نقابات محلية في العاصمة ثم في بنزرت وماطر وهرع من باريس الى تونس «ليون جوهو» (Léon Jouhaux) ليتقاوى على الوضع ويعيد الامور الى نصابها وفق التصور الاستعماري وكان يتمتع بشهرة فائقة في الاوساط السياسة والنقابية الفرنسية بصفته كاتبا عاما لاتحادية العمال بفرنسا (CGTT) وكاهية رئيس المنظمة العالمية الثانية للشغل بأمستردام ونائب بلاده في عُصْبَةِ الأمم (Société de Nations) . قدم «جوهو» الى تونس في 24 أكتوبر 1924 ليضع قوّة نفوذه في الميزان فيرجح كفة الاشتراكيين الفرنسيين على كفّة النقابيين التونسيين ويقنع هؤلاء بالعدول عن تأسيس جامعتهم بصفة قانونية، وعقد في العاصمة اجتماعين أولهما يوم 31 أكتوبر ببورصة الشغل وثانيهما بالبلْماريوم ليحثّ العمال المنشقين عنه على مغادرة نواة الجامعة النقابية التونسية، فجادله المختار العياري في الاجتماع الاول ثم اراد مناقضته في الاجتماع الثاني، فتعرض لعنف انصار «جوهو» وطعن بخنجر في يده. حلّ فاتح نوفمبر سنة 1924، فاجتمع محمد علي ورفاقه في قاعة بنهج الجزيرة مع العمال لينظروا في تأسيس جامعتهم النقابية، وانتخبوا لرئاسة الجلسة هيئة تضم محمد علي والطاهر الحداد واحمد توفيق المدني والمختار العياري ثم دخل عليهم «جوهو» وحاول احباط عملهم وتوعدهم بالعودة الى تونس بعد سنة ليعاين فشلهم وكاد ينجح في مسعاه إذ تفرّق المجتمعون دون ان يتمخّض اجتماعهم عن قرار التأسيس القانوني لجامعتهم النقابية وانتظروا اجتماع 3 ديسمبر ليعلنوا بعثها وقبل ذلك التاريخ بيوم نشرت جريدة «الزهرة» بيانا بإمضاء محمد علي كان ردا على تصريحات «جوهو» في اجتماع فاتح نوفمبر 1924 وهذا نصّ البيان الذي تخلّت فيه الشخصية التونسية قويّة رغم المواراة بفتح ابواب جامعة عموم العملة التونسيين» للاجانب: «إنّ الشغالين التونسيين أخذوا اليوم طريقهم الى الوعي والرشد فشعروا بأنّ انتماءهم الى النقابات الفرنسية ليس فيه اية فائدة فبصفتهم ابناء أمّة لها شخصيتها قرّروا انشاء اتحاد مستقلّ سينخرط بإحدى الجامعتين الدوليتين الاثنتين كجامعة تونسية مستقلة فجامعتنا الوطنية النقابية ليست مؤسسة على الميز الديني والملّي (أي القوميّ) هي بالعكْس مفتوحة في وجه العمال الاجانب. وقد علّمتنا التجاربُ أنّ اتحاد النقابات الفرنسية لا يهتمّ بمصالح التونسيين». ويظهر أنّ عزوف القادة التونسيين عن الجهر باسم الجامعة العالمية التي ينوون الانضمام إليها وتعمّدهم ترك المجال مفتوحا لاحتمالين إمّا الانضمام الى العالمية الثانية للعمال بأمستردام international وهي التي يعترف بها الحزب الاشتراكي الفرنسيّ، وإما الالتحاق بالعالمية الحمراء التابعة لموسكو تهديد مقصود لمناوئيهم الاشتراكيين بإنضمام الجامعة التونسية الى العالمية الحمراء إذا ما سلط هؤلاء ضغوطا على عالمية أمستردام لئلا تعترف بحركة محمد علي وقد يكون سبب تردّد قادة تلك الحركة في الجهر باختيار نهائيّ لإحدى العالميتين انقسامهم الإيديولوجي السياسي الى نزعتين إحداهما شيوعية يمثلها في قيادة «جامعة عموم العملة التونسية» أحمد بن ميلاد والمختار العيّاري وفي هذا المعنى يصدع المختار العياري في اجتماع نقابي بمحضر «جوهو» بقوله: «إذا قرّرت جامعة عموم العملة التونسيين الانضمام الى العالمية الاشتراكية الحمراء فنحن نهتف لتحيا العالمية الحمراء» ولكنّه لا يرفض الاحتمال الثاني وهو انخراط الجامعة في العالمية بأمستردام. والنّزعة الثانية وطنية تونسية اراد اصحابها للتخلص من تأثير الاحزاب السياسية رغم انتماء بعضهم الى الحزب الحرّ الدستوري كالطاهر الحدّاد وأحمد الدرعي بيد انّ الفئة الأولى لا ترفض الانخراط في عالمية امستردام اذا ارتأتْ القيادة جدوى ذاك الانخراط كما يفهم من تصريح للمختار العيّاري في «بورصة الشغل» بالعاصمة يوم 31 اكتوبر 1924. ورغم تأكيد محمد علي ورفاقه ان منظمتهم تقبل جميع العمال دون تمييز عنصري او ديني توقيا من تهمتين بدتا لهم خطرتين وهما كره الاجانب (xénophobie) ورفض التضامن العمالي العالمي فإنهم كشفوا عن اتجاههم السياسي الوطني فندّدت به الصحافة الاستعمارية وشهر به المقيم العام «لوسيان سان» وحذّر الفرنسيين من اخطاره «دوريل» اثناء اقامته بباريس في سبتمبر 1924.