رجة أرضية في الجزائر    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    طقس الخميس: سحب عابرة والحرارة تتراوح بين 18 و26 درجة    بعد أزمة الكلاسيكو.. هل سيتم جلب "عين الصقر" إلى الدوري الاسباني؟    آخر ملوك مصر يعود لقصره في الإسكندرية!    قرار جديد من القضاء بشأن بيكيه حول صفقة سعودية لاستضافة السوبر الإسباني    قيس سعيد يستقبل رئيس المجلس الوطني للجهات والأقاليم    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    قيس سعيد: الإخلاص للوطن ليس شعارا يُرفع والثورة ليست مجرّد ذكرى    ل 4 أشهر إضافية:تمديد الإيقاف التحفظي في حقّ وديع الجريء    أخبار النادي الصفاقسي .. الكوكي متفائل و10 لاعبين يتهدّدهم الابعاد    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    ماذا في لقاء رئيس الجمهورية بوزيرة الاقتصاد والتخطيط؟    القبض على شخص يعمد الى نزع أدباشه والتجاهر بالفحش أمام أحد المبيتات الجامعية..    في معرض الكتاب .. «محمود الماطري رائد تونس الحديثة».. كتاب يكشف حقائق مغيبة من تاريخ الحركة الوطنية    تعزيز الشراكة مع النرويج    بداية من الغد: الخطوط التونسية تغير برنامج 16 رحلة من وإلى فرنسا    وفد من مجلس نواب الشعب يزور معرض تونس الدولي للكتاب    المرسى: القبض على مروج مخدرات بمحيط إحدى المدارس الإعدادية    منوبة: الاحتفاظ بأحد الأطراف الرئيسية الضالعة في أحداث الشغب بالمنيهلة والتضامن    دوري أبطال إفريقيا: الترجي في مواجهة لصنداونز الجنوب إفريقي ...التفاصيل    هذه كلفة إنجاز الربط الكهربائي مع إيطاليا    الليلة: طقس بارد مع تواصل الرياح القوية    انتخابات الجامعة: قبول قائمتي بن تقيّة والتلمساني ورفض قائمة جليّل    QNB تونس يحسّن مؤشرات آداءه خلال سنة 2023    اكتشاف آثار لأنفلونزا الطيور في حليب كامل الدسم بأمريكا    هذه الولاية الأمريكيّة تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة!    تسليم عقود تمويل المشاريع لفائدة 17 من الباعثين الشبان بالقيروان والمهدية    رئيس الحكومة يدعو الى متابعة نتائج مشاركة تونس في اجتماعات الربيع لسنة 2024    تراوحت بين 31 و26 ميلمتر : كميات هامة من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    مركز النهوض بالصادرات ينظم بعثة أعمال إلى روسيا يومي 13 و14 جوان 2024    عاجل/ جيش الاحتلال يتأهّب لمهاجمة رفح قريبا    الاغتصاب وتحويل وجهة فتاة من بين القضايا.. إيقاف شخص صادرة ضده أحكام بالسجن تفوق 21 سنة    فيديو صعود مواطنين للمترو عبر بلّور الباب المكسور: شركة نقل تونس توضّح    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    سيدي حسين: الاطاحة بمنحرف افتك دراجة نارية تحت التهديد    ممثل تركي ينتقم : يشتري مدرسته و يهدمها لأنه تعرض للضرب داخل فصولها    نابل: الكشف عن المتورطين في سرقة مؤسسة سياحية    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    عاجل/ هجوم جديد للحوثيين في البحر الأحمر..    أنس جابر تواجه السلوفاكية أنا كارولينا...متى و أين ؟    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته امام لاتسيو    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    فاطمة المسدي: 'إزالة مخيّمات المهاجرين الأفارقة ليست حلًّا للمشكل الحقيقي'    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شهيد الطبقة العاملة التونسية
في الذكرى السادسة والخمسين لاستشهاد الزعيم فرحات حشاد : بقلم : حسونة المصباحي
نشر في الشعب يوم 06 - 12 - 2008

«ان مستقبلنا بأيدينا، فلنا ان ندوس العراقيل دوسا، وان نحطمها تحطيما، فلا نركن قط لمن يعترض تقدمنا ويحاول احباط مساعينا الانسانية التي ستقام عليها حياة شعبنا، ويتوقف عليها ازدهار بلادنا»
فرحات حشاد
صبيحة يوم 5 ديسمبر 1952...
انذاك، كنت قد تجاوزت سن الثانية بشهرين وثلاثة ايام، لذا أنا لا أتذكر شيئا من ذلك اليوم الذي سوف يترسب في الذاكرة الوطنية، وقد يكون ذلك الصباح باردا، وقد تكون مغطاة بالجليد، فالدوار الذي ولدت فيه محاط بالجبال والهضاب، وهو على مرمى حجر من جبل «كسرى» الذي عادة ما يتساقط عليه الثلج في مثل هذا الوقت من العام، ولعل والدي نهض في الخامسة صباحا كما سأعاين ذلك في ما بعد، وبعد ان صلى صلاة الفجر، تفقد البقرات والشياه، ثم طاف في الحقول غير عابئ بالبرد القارس، فتلك هي رياضته الصباحية المفضلة والتي لن يتخلى عنها الا قبل وفاته بأيام قليلة، وعندما بدأ النهار يطلع كئيبا، رماديا، عاد الى البيت ليجد نارا حامية في انتظاره فقرفص امامها مراقبا أمي المنهمكة في اعداد «العصيدة» اللذيذة...
حالما تتجاوز الشمس هضبة «مسيونة» الحمراء الواقعة شرق الدوار، يمضي الناس كبارا وصغارا، نساء ورجالا، الى الحقول لجني الزيتون، وتمتلئ المسارب بألاحمرة المحملة بالاكياس، وفي المعصرة، تشتد الحركة، ويشرع الجمل في الدوران بينما رائحة الزيت الفواحة تملأ الفضاء، مشيعة في البيوت ذلك العطر المحبب للنفس، عطر الخير والبركة، ومن المؤكد ان خبر اغتيال الزعيم فرحات حشاد وصلنا في ذات اليوم، اي يوم 5 ديسمبر 1952، وربما حدث ذلك عند الظهر، أو قبله.
فصحيح ان الراديو لم يكن قد دخل دوارنا بعد، غير ان اخبار البلاد كانت تصلنا بانتظام، وكان عبد العزيز، المتحدث البارع، والذي حارب في الجيش الفرنسي، متخصصا في جمعها ونشرها بين الناس، وكان والدي مواظبا على حضور جلساته الممتعة، وعند وصول الخبر الفاجع، تجلل الدوار بالسواد، وتوقف الناس عن العمل، والجمل عن الدوران، ثم مزقت الفضاء صيحات النساء المفجوعات بموت الزعيم الكبير واضطربت الدواب اذ استشعرت هي ايضا هول الفاجعة وعند هبوط الليل، بكت الاحمرة المدماة الظهور بحرقة متذمرة من ظلم اسيادها، ومن ظلم الزمن...
ديسمبر 1955... الذكرى الثالثة لاغتيال فرحات حشاد...
الآن تجاوزت سن الخامسة،. وبدأت أعي ما كان يدور من حولي من احداث صغيرة او كبيرة، وباهتمام وفضول، كنت اتنصت الى الاخبار التي كان يأتي بها الكبار عندما يعودون عشية يوم الخميس من سوق العلا الاسبوعية، وكنت اجد متعة لا مثيل لها في الاستماع الى الخرافات والحكايات العجيبة التي كانت تروى في سهرات الشتاء والصيف، وكان يروق لي ان احضر حفلات الاعراس والختان، وان أستمع الى الشيوخ وهم يرتلون القرآن امام الناس الخاشعين، وكان اهل الدوار يتحدثون وعن رجال يقاتلون في الجبال من اجل شيء اسمه الاستقلال، وعن زعيم كبير عاد الى الوطن بعد غيبة طويلة فحمله الناس على الاعناق وساروا به نفس المسافة التي تفصلنا عن العلا، وعلى وجه والدي، ووجوه الرجال الاخرين، لم أعد أرى علامات الاحباط واليأس والخوف التي كانت مطبوعة على وجوههم قبل ذلك، وبدوا ضاحكين مستبشرين اذ ان اوقات المحنة الكبيرة قد ولت الى غير رجعة، وفي الافق، بدأت تلوح تباشير الفرج والانتصار والسعادة... وأظن ان ذلك اليوم، كان يوم خميس اذ ان جل الرجال كانوا في سوق العلا، ولم يكن في الدوار غير الاطفال والنساء، وكان البرد شديدا، والسماء ملبدة بالغيوم ، وكانت قمة جبل «كسرى» مغطاة بالثلج، عند منتصف النهار، كنا نلعب امام بيتنا، لما ظهر في جهة الجنوب، رجال بلحي شعثاء، ووجوه قاتمة، يرتدون قشاشيب سوداء ثقيلة وكانوا يركبون أحمرة قميئة، متعبة وكان واضحا انهم قطعوا مسافات مديدة قبل ان يصلوا الى دوارنا، توقفوا امام بيت عمي محمد، ثم راحوا يغنون اغنية حزينة عن واحد اسمه فرحات حشاد، قتلوه غدرا في الصباح، وتركوا جثته ملقاة في العراء، وكان وصفهم للحادث الأليم دقيقا ومؤثرا للغاية حتى ان كل النساء اجهشن باكيات، وبكينا نحن ايضا، ففي البوادي الحزينة، ليس هناك افضل من الدموع لمداواة الجراح المفتوحة، وعندما انتهى اولئك الرجال من الاغنية، ارتفع بكاء النساء عاليا، وضجّت الدنيا من حولنا بألم عميق. بعدها، ساد هدوء عجيب، وجاءت زوجة عمي بقصعة من «العصيدة»، فالتهمها الرجال الغرباء صامتين، ثم انطلقوا باتجاه دوار «المساعيد»...
في الليل، بعد العشاء، سألت أمي عن فرحات حشاد، فقالت لي: «أسأل أياك!» ولما سألته، قال لي: «انه زعيم كبير قتلته «اليد الحمراء».
وما هي «اليد الحمراء» سألته.. فرد عليّ قائلا: «انها عصابة من المجرمين».
وكنت أريد ان أطرح عليه اسئلة اخرى غير ان علامات وجهه اكدت لي انه لن يكون راغبا في الاجابة عنها، صمت. كانت الرياح تعصف بشدة. وكانت الاسئلة المحيرة تعذبني، وعندما استسلمت للنوم لاحقتني طول الليل يد بشعة ملطخة بالدم... ومنذ ذلك الحين، وعلى مدى سنوات طفولتي، سوف يكون فرحات حشاد شبيها بأبطالي المفضلين في الخرفات التي كان يرويها خالي الخاتمي بصوته البطيء بطء الزمن في البوادي المحرومة، المنسيّة...
جاء في «قاموس الآداب العالمية»: «الجزيرة أرض جدباء، ومكان للبراءة».
وقد ينطبق هذا التعريف على جزيرة قرقنة التي ولد فيها فرحات حشاد يوم 2 فيفري 1914.
فصحيح انها فقيرة زراعيا، وان مواردها محدودة للغاية، وصحيح انها كانت مهملة ومنسية خصوصا في عهد البايات الذين لم يكونوا يتذكرونها الا عندما يرسلون اليها المحكومين بأحكام قاسية، او النساء الارستقراطيات المغضوب عليهن، ومع ذلك، فان هذه الجزيرة اي قرقنة التي تتمتع بجمال طبيعي خلاب يفتن خيال الشعراء والفنانين، أنجبت رجالا أفذاذا خدموا تونس بإخلاص وتفان، واضعين مصالحها فوق كل اعتبار...
وعندما جاء فرحات حشاد الى الدنيا، لم يكن العالم يعلم انه سيشهد بعد ذلك بأشهر قليلة اضطرابات واحداثا عنيفة سوف تفضي الى حرب كونية مدمرة ستستمر اربعة اعوام، وسوف تؤدي الى انهيار امبراطوريتين عظيمتين، هما الامبراطورية العثمانية والامبراطورية النمساوية المجرية.
وقد وهب الطفل الصغير اسما ذا دلالات فاسمه الاول «فرحات» يوحي بالفرح والسعادة والخير وحب الاخرين والعمل من اجل اسعادهم... واما اسمه الثاني «حشاد» الذي سوف يتغلب على اسمه الاول فهو من حَشَدَ، وفي ذلك يقول لسان العرب: «حشَدَ القوم يحشِدهم ويحشُدُهم: جمعهم وحشدوا وتحاشدوا: خفّوا في التعاون اودعوا فأجابوا مسرعين.. ورجل محشود اذا كان الناس يخفون بخدمته لانه مطاع فيهم، والرجل الحشِدٌ والمحتَشِد: الذي لا يدع عند نفسه شيئا من الجهد والنصرة والمال» وسوف تكون شخصية فرحات حشاد وأعماله ونضالاته متوافقة ومنسجمة تمام الانسجام مع اسمه، ففي اغلب الصور التي اخذت له، نحن نراه دائما هادئا، بشوشا، ضاحكا، مستبشرا، سعيدا امام الجموع الهاتفة بحياة تونس، وبحياة الاتحاد العام التونسي للشغل، وسوف تكون له قدرة فائقة على حشد الجماهير والعمال من اجل الاستقلال والحرية والعدالة الاجتماعية، وسوف يبذل كل ما في وسعه من الجهد والنصرة والمال لخدمة القضايا العظيمة التي نذر حياته للدفاع عنها باستماتة وبصبر ايوب، كما انه سوف يكون مطاعا، ومسموع الكلمة ليس من قبل العمال فقط، وانما ايضا من قبل الزعماء الكبار من امثال الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف والهادي نويرة والشخصيات السياسية العالمية التي سوف يتعرف اليها في ستوكهولم وفي باريس وفي الولايات المتحدة الامريكية.
وكانت عائلة فرحات حشاد متوسطة الحال، وكثيرة العدد، ولان والدته ارهقها الانجاب فانها توفيت قبل ان تتجاوز سن الخمسين، اما والده، فكان بحارا قوي البنية، صبورا على العمل، بمقت الكسل والخمول، ويحتقر اصحاب القلوب الضعيفة، والنفوس المستكينة، الخاضعة لما يسلطه الاقوياء، او الطبيعة لذلك فانه لم يكن يتردد في ان يلقي بابنه الاكبر العيادي في البحر، آمرا اياه بأن يصارع الامواج العاتية لاثبات رجولته، وقدرته على مواجهة المصاعب، بما فيها تلك التي يمكن ان تضع حدا لحياته، ورغم ان فرحات لم يعرف من والده مثل هذه القسوة، ومثل هذه الشدة، فانه استفاد من ذلك الدرس، ومبكرا عرف ان الحياة صراع ونضال، وان الانسان لا يكتسب انسانيته في مفهومها العميق الا اذا ما كان قادرا على التغلب على المصاعب التي تعترض سبيله.
وفي المدرسة التي التحق بها في خريف عام 1919، اظهر الطفل فرحات فطنة وذكاء لفتا اليه انتباه معلميه، فأولوه العناية التي يستحقها، وبسرعة حذق اللغة الفرنسية التي سوف يكتب بها في ما بعد مقالاته النارية، كما انه كان ممتازا في اللغة العربية، وهذا ما ستثبته في ما بعد جل النصوص التي سوف يحررها عندما يصبح زعيما نقابيا ووطنيا كبيرا ولعل النص الذي دافع فيه عن الاطفال المشردين ونشره في جريدة «الحرية» بتاريخ 2 جانفي 1948 تحت عنوان: «الطفولة البائسة» واحد من اروع هذه النصوص وفيه كتب يقول: «فتراهم اي الاطفال المشردون رزافات ووحدانا لا مقر لهم ولا مأوى، يعيشون عيشة الحيوان السائح في الصحراء، يلتقطون الفواضل ويلتمسون الرحمة من ذوي القلوب الشفوقة، ويلاقون انواع الاهانات، يقاسون المذلّة، لا مرشد لهم ولا مساعد ولا نصير، يتصادمون مع صعوبة الحياة فهم مدفوعون في غمار المعارك، ويذهبون ضحية الاهمال، نصيبهم السجن لبعض ما ارتكبوا من الهفوات في سبيل الدفاع عن انفسهم من شر الجوع والاحتياج، ومصيرهم الى الشقاء فالفناء».
وعندما تحصل فرحات حشاد على الشهادة الابتدائية بملاحظة «حسن» وذلك عام 1929، ترك الدراسة وانصرف باحثا عن عمل يساعد به والده على مواجهة مصاعب المعيشة في الجزيرة المحدودة الموارد، والتي اكتسب فيها دروسا رائعة سوف تضيء له الطريق في اوقات الشدة، والمعركة من اجل حياة افضل.
كان فرحات حشاد في السادسة عشرة من عمره لما غادر مسقط رأسه قرقنة، ليقيم عند خاله في مدينة سوسة، وحال وصوله الى هناك، انتدب مستكتبا راقنا في شركة النقل بالساحل (S.T.T.A.S) وكانت سوسة في ذلك الوقت تعج بالوطنيين.
وكان اهم رموز النخبة التونسية في منطقة الساحل، وفي الحياة السياسية، بدأ اسم بورقيبة يلمع وبدأ الناس يتحدثون عن ذلك الشاب الفطن، المتوهج النظرة الذي شرع يتنقل في جميع انحاء البلاد في سيارته المتواضعة، للتعريف بنفسه، مُلهبا حماس الناس، وداعيا للنضال ضد ما كان يسميه ب «الاستعمار الغاشم».
ومن المؤكد ان الفتى فرحات حشاد تأثر بالافكار النضالية التي كانت تطلق في سوسة، وفي منطقة الساحل عموما، ومن المؤكد ايضا انه كان يتابع عن كثب الاحداث التي كانت تجد بالبلاد انذاك سواء من خلال الصحف، او من خلال من كان يلتقيهم في عمله وخارجه. وظني انه سمع أحدا ما يتحدث ذات يوم عن محمد علي الحامي، فانجذب اليه، وبدا يلحّ في السؤال الى ان اكتسب ما يكفي من المعلومات للتعرف الى هذا الرجل الذي كان قد قضى في حادث سيارة في الطريق الفاصلة بين مكة وجدة يوم 10 ماي 1928، واعتقد ان الفتى فرحات حشاد فتن بشخصية محمد علي الحامي، وأعجب بصلابته، وبقدرته الفائقة على التنظيم، وعلى حشد الجماهير ومنذ ذلك الحين سوف يصبح قدوة ومثالا بالنسبة اليه، لذا سوف يسعى الى مواصلة الملحمة التي بدأها ذلك الشاب الجنوبي الذي اطردته السلطات الاستعمارية بعد ان تأكدت من الخطورة التي يمثلها على سياستها، وعلى مخططاتها الاجرامية وعندما يتمكن فرحات حشاد من اعادة بناء اتحاد العمال التونسيين سوف يعبر عن وفائه لمحمد علي الحامي في المحاضرة التي ألقاها بمنبر جمعية طلبة شمال افريقيا المسلمين (A.E.M.N.A) بباريس يوم 20 ديسمبر 1946 قائلا: «لا أستطيع ان اغفل عن ذكر ابي الحركة التي نمت وكبرت اذ كان غرسها بيد حكيم، بل كيف يمكن ان لا أثير عمل المرحوم محمد علي الجريء وتضحيته الكاملة مقرونا بما ندين له من خالص وعميق اعترافنا بالجميل، اجل، انه دون شك لواجب اكيد على الكاتب العام للاتحاد العام التونسي للشغل ان يمجد حياة من كان منشئ الحركة النقابية بالبلاد التونسية، ومن كافح من اجل مثله الأعلى بعقيدة لا تتزعزع، ودافع عن القضية النقابية حتى التضحية العظمى، وان اتحادنا العام الذي له أسمى الشرف بأن كان وريث المنظمة التي اسسها المرحوم محمد علي سيبرهن كيف كان جديرا بهذا التراث...».
وسوف تكون السنوات التي امضاها فرحات حشاد في سوسة غنية بتجارب اخرى كثيرة فابن البحار الذي اكتشف مبكرا ان الصراع من اجل الحياة لا يختلف كثيرا عن الصراع ضد الامواج العاتية في عمق البحر، سوف يولي اهتماما كبيرا بكل الافكار والمذاهب التي تحثّ على التحدي، والثورة، والتصدي للظلم والاستعباد في جميع اشكاله ومظاهره، لذا أخاله متعاطفا مع الطاهر الحداد الذي هوجم بشدة من قبل الرجعيين والسلفيين بعد ان اصدر كتابه «امرأتنا في الشريعة والمجتمع»، لذلك سوف يفتح باب الاتحاد العام التونسي للشغل على مصراعيه امام المرأة العاملة، والمرأة المثقفة، وسوف يطلب من زوجته برفق ولطف ان تتخلى عن «السفساري» وسوف نراه واقفا في الصور، محاطا بالنساء، وراسما على شفتيه تلك الابتسامة العذبة التي توحي بالبراءة والقوة في نفس الوقت.
ولعل فرحات حشاد حفظ في سنوات الاستعداد للنضال، البعض من قصائد الشابي خصوصا تلك التي يتغنى فيها بإرادة الحياة، مثل هذه الابيات مثلا:
ودمدمت الريح بين الفجاج
وفق الجبال وتحت الشجر
«اذا ما طمحت الى غاية
ركبت المنى ونسيت الحذر»
«ولم أتجنب وعور الشعاب
ولا كبة اللهب المستعر»
«ومن لا يحب صعود الجبال
يعش أبد الدهر بين الحفر»
لذلك سوف يحق لفرحات حشاد ان يكون من ابرز رموز الجيل الذي سماه الاستاذ احمد خالد ب «جيل ارادة الحياة»، وهو جيل صلب العزيمة، قوي الارادة، كان مصمما على تغيير واقع كان اغلب التونسيين يائسين من تغييره، وكان جيلا مسكونا بالثورة على كل المظاهر والافكار والمواقف التي تعيد الشعب الى ماض أسود موسوم بالاستكانة والخوف والوهن والاستسلام للأمر الواقع.
ومسلحا بالافكار والتجارب التي اكتسبها في سنوات العمل في سوسة، انتسب فرحات حشاد الى الفرع المحلي للكنفدرالية العامة الفرنسية، وكان ذلك في 26 جويلية 1936...
كان فرحات حشاد في الثانية والعشرين من عمره لما بدأ يخوض معترك النضال النقابي والوطني، غير ان علامات الزعامة لم تلبث ان برزت في سلوكه، وفي عمله، وفي افكاره ومواقفه منذ الايام الاولى. فقد اظهر انه يمتلك شخصية جذّابة، وقدرة خارقة على التكيّف مع الاوضاع، ثم تغييرها لصالح ما يرمي اليه من اهداف، وعلى حشد الجماهير، وتنظيمها وتوجيهها، ورفع معنوياتها في الاوقات العسيرة، كما انه كان محاورا بارعا يتحلى بخصال ديبوماسية ذكية سوف تمكنه من اجتياز العديد من العقبات، ومن احباط المؤامرات المدبرة ضده، وضد الطبقة العاملة، والمصالح الوطنية، ومن انهاء الفرقة بين هذا الفريق وذاك، ومن اطفاء نار الفتن التي يشعلها الاعداء هنا وهناك، ومن كبح جماح عواطفه وانفعالاته في اللحظات الحرجة، بالاضافة الى هذا كله، أثبت فرحات حشاد انه صبور في الملمات، وانه خطيب بليغ يلهب الجماهير، ويصفق له الزعماء الكبار سواء في تونس ام خارجها، وانه يقرأ ويتمحص الواقع جيدا قبل ان يتخذ اي قرار ذلك انه قد ادراك مبكرا ان «النظرية رمادية اما شجرة الحياة فدائما خضراء» كما قال الزعيم البلشفي لينين، ثم انه كشف ايضا انه قادر على استشراف المستقبل، وعلى التنبؤ بالاحداث قبل وقوعها، وعلى تلمس تضاريس وملامح ما يخفيه الزمن في طياته من اسرار ومكائد...
كل هذه الخصال والمناقب سوف تجعل من فرحات حشاد زعيما نقابيا كبيرا في بضع سنوات، وسوف يردد اسمه المفعم بالرموز والمعاني، العمال في مناجم الفسفاط، وفي شركات النقل العمومي، وفي الموانئ، وفي العامل والورشات، او في كل مكان من برّ تونس الخضراء...
وكان فرحات حشاد قد بدأ يدرك منذ نهايات الحرب الكونية الثانية، وتحديدا منذ عام 1944، او ربما قبل ذلك، بأن مكانه في «السيجيتي» التي كان قد سيطر عليها الشيوعيون، لا يمكن بأي حال من الاحوال ان يخدم لصالح الطبقة العاملة التونسية، لذا سوف ينسلخ عنها غير اسف بعدا ان تبين له ان «حرب الطبقات، لا يمكن ان تتلاءم مع الواقع التونسي، ذلك الواقع الذي كان بحاجة الى تضافر جهود الجميع، الفلاحين والعمال، والرأسماليين الوطنيين لمواجهة التحديات، ولخوض المعركة الحاسمة لتحرير البلاد من الاستعمار الجاثم على صدرها منذ عام 1881، وسوف يوضح موقفه هذا في المحاضرة القيّمة التي القاها امام طلبة شمال افريقيا المسلمين في باريس يوم 20 ديسمبر 1946، حيث قال : «كان علينا بادئ ذي بدء ان تكون لحركتنا مذهب، وحركتنا النقابية لا يمكن ان ترمي الى القضاء على رأس المال مطلقا لأننا نقدر حاجة كل من رأس المال والعمل الى صاحبه وضرورتهما لحياة البلاد.
فكان حتما علينا ايجاد طريقة يتكامل بها العنصران: رأس المال والعملة عوض ان يكونا متنافرين متباعدين، وذلك بأن لا يتضخم رأس المال على حساب العمل تضخما لا حد له اذ مهما كان العمل يجب ان يلقى من الاجر العادي ما يكفي ويضمن للعامل حياة كريمة تسمح له بالاستفادة بكل خيرات الرقي. فالشتراك رأس المال والعمل يضفي ازدهار المشاريع والاعمال بأقصى فائدة للجميع».
وبسبب رفض فرحات حشاد للشيوعية، ولحرب الطبقات، اندلعت بينه وبين بلقاسم القناوي، النقابي الشيوعي الذي تمسك بالبقاء في «السيجيتي»، معركة حامية سوف يكون الانتصار فيها له في النهاية، مثبتا مرة اخرى انه ملمّ بخفايا الواقع التونسي اكثر من خصومه، وقد قربته تلك المعركة من الحركة الوطنية التي كان يقودها الحزب الحر الدستوري بزعامة الحبيب بورقيبة، ومنذ ذلك الحين، سوف يربط فرحات حشاد النضال النقابي بالنضال الوطني، والنضال الاجتماعي بالنضال الفكري، باذلا كل ما في وسعه لكي يكون التونسيون بجميع مشاربهم وتوجهاتهم الفكرية والايديولوجية والسياسية متعاضدين متكاتفين امام المستعمر، وامام قوى الظلام والقهر والظلم، وهذا ما يمكن ان نستنتجه من المقال الذي كتبه في جريدة «الحرية» بتاريخ 19 ديسمبر 1948، والذي كتب فيه يقول : «والحركة النقابية التي اسست لتنظيم صفوف العمال انما هي حركة ترمي لتحرير الطبقات العاملة من براثن الاستعمار حتى يعيش العامل في رفاهية واطمئنان يتمتع بما ينتجه بكد يمينه وبما يفيد به المجتمع بواسطة شغله المجدي، اذن فاننا نقاوم الاستعمار لانه عدوّنا الالدّ، ولانه عدوّ كل حركة تقدمية وكل عمل يرمي الى احياء الشعور وكرامة البشر، فهو عدوّ الانسانية لا ينمو الا في ظل الجهالة والفقر والخوف واذلال النفس والوهم وما الى ذلك من المآسي التي يسوء البشرية ان ينسب اليها بحال من الاحوال، فكيف يروق لنا العيش معشر الاخوان مادمنا لم نتغلب على الاستعمار! وكيف نركن الى الراحة مادمنا نرزح تحت سيطرة الاستعمار!»
حالما انفصل عن «السيجيتي»، ركز فرحات حشاد جهوده على ضرورة بعث اتحاد عمالي تونسي يخدم مصالح العمال التونسيين، ويضع في المقام الاول المتطلبات الوطنية للبلاد، وعلى مدى اشهر طويلة، ظل يطوف في جميع المناطق، خاطبا في العمال، والمزارعين، والعتالين والموظفين والطلبة، شارحا افكاره ومواقفه، مثيرا العقول التي كانت لا تزال حبيسة الظلمات وفاتحا البصائر على افاق وطموحات لم تكن معلومة حتى ذلك الحين، وقد أفضت هذه الجهود الجبارة الى تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل في 20 جانفي 1946، تم ذلك في قاعة «الخلدونية» برئاسة الشيخ الفاضل ابن عاشور.
وفي ظرف زمني قصير، تحول الاتحاد المذكور الى قوة فاعلة في النضال النقابي والوطني، ولأن الاستعمار اصبح يخشاه ويهابه، فانه جند عملاءه واجهزته الاستخباراتية لمراقبة قادته والمشرفين على هياكله المنتشرة في جميع انحاء البلاد، اما الزعماء الوطنيون الكبار من امثال الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف والهادي نويرة والمنجي سليم وغيرهم، فانهم بدؤوا يسعون لكسب ودّ فرحات حشاد الذي اصبح يتمتع بنفس الشعبية التي كانوا يتمتعون بها هم، بالاضافة الى كل هذا استقطب الاتحاد العام التونسي الطلبة، والتلاميذ والمثقفين اللامعين من امثال النوري البودالي واحمد بن صالح، ومحمود المسعدي ومصطفى الفيلالي، واحمد التليلي، واخرين كثيرين...
وما أظن ان فرحات حشاد أخطأ عندما أسند رئاسة الاجتماع التأسيسي الاول للاتحاد لسماحة الشيخ الفاضل ابن عاشور، فقد كان هذا الاخير يتمتع بشهرة واسعة لدى طلبة جامع الزيتونة الذي كان انذاك المركز العلمي والثقافي الاول في البلاد، كما انه كان يحظى بتقدير واحترام الناس، بسبب تبحره في علوم الدين والفقه واللغة، ثم انه كان شيخا متنورا، وهذا ما أثبتته كتاباته ومحاضراته التي ساند فيها حركة الاصلاح والتحديث التي قادها خير الدين باشا التونسي وفيها أبدى اعجابا كبيرا بمن وقفوا الى جانبه من شيوخ جامع الزيتونة من امثال محمود قابادو، وسالم بوحاجب، ومحمد بيرم الخامس وغيرهم، غير ان الوفاق لم يستمر طويلا بين الشيخ المعمّم، والزعيم النقابي المتنور، وفي البداية، كان الودّ قائما بينهما غير ان فرحات حشاد بدأ يبدي فتورا وتحفظا من «الهيبة الابوية» التي كان الشيخ الفاضل يضفيها على نفسه عند حضوره الاجتماعات العامة للاتحاد، سواء في العاصمة او خارجها، ثم جاءت قضية المنصف بأي لتفيض الكأس، فقد كان الشيخ الفاضل ابن عاشور متمسكا بشرعية الملك الذي عزلته السلطات الاستعمارية الفرنسية عن العرش بسبب مواقفة الوطنية وذلك يوم 14 ماي 1943، ومكانه وضعت الامين باي، وكان فرحات حشاد على هذا الموقف، غير ان حادثة أليمة جعلته يقرأ الواقع بطريقة اخرى، ففي الخامس من شهر أوت 1947، عرفت البلاد التونسية اضرابا عاما شل الحركة الاقتصادية في البلاد، وقد تم ذلك بمساندة واشراف الاتحاد العام التونسي للشغل وردا على هذا التحدي، قامت السلطات الاستعمارية بالتصدي العنيف للمضربين خصوصا في مدينة صفاقس، فكانت النتيجة 26 قتيلا و 150 جريحا بينهم خمسون في حالة خطيرة للغاية، وكان الحبيب عاشور الذي سيكون خليفة حشاد فيما بعد احد المصابين بجراح، وفي السادس من الشهر والعام المذكورين، وصل فرحات حشاد الى مدينة صفاقس ليترحم على أرواح الشهداء، وليقوم بزيارة الى المصابين، ولأن السلطات الاستعمارية كانت تتحين الفرصة المناسبة لإخماد الحركة النقابية الناشئة، فانها بدأت تهدد بحل الاتحاد العام التونسي للشغل، وبالنسبة لفرحات حشاد ولرفاقه النقابيين، فان مثل هذا الاجراء، اي حل الاتحاد هو بمثابة الضربة القاتلة التي تشبه تماما تلك التي تلقاها محمد علي الحامي في منتصف العشرينيات، لذا كان لابد من المناورة، ولابد من الحذر الذي تستوجبه مثل هذه الحالات الخطيرة، وهنا سيلجأ فرحات حشاد الى حنكته السياسية، والى اسلوبه البارع في الدفاع عن وجود الاتحاد، لهذا لم يتردد في مقابلة الامين باي الذي يحظى بثقة ورضى السلطات الاستعمارية طالبا منه المساندة، فلم يبخل عليه بها، وبذلك استطاع ان يحبط المؤامرة القذرة التي كادت تقتل الاتحاد في المهد، وقد اغضبت هذه الدبلوماسية اللينة الشيخ الفاضل بن عاشور الذي كان معاديا للأمين باي، وهكذا ابتعد عن الاتحاد، او بالاحرى أبعد عنه ليجد فرحات حشاد نفسه متحررا من قيد كان يؤرقه ويفسد زعامته ومخططاته.
عرف الاتحاد العام التونسي للشغل منذ تأسيسه عام 1946 وحتى عام 1952، وهي السنة التي اغتيل فيها فرحات حشاد، ، احداثا جسيمة. فبعد تأسيسه بأسبوع واحد، اجرى قائده، فرحات حشاد اتصالات بالمنظمة النقابية العالمية (F.S.M) التي كانت تحت سيطرة الكتلة الشيوعية بقيادة ما كان يسمى انذاك بالاتحاد السوفياتي غير ان الاشتراكيين والشيوعيين الفرنسيين بذلوا كل ما في وسعهم لتعطيل هذا الامر، ولم يتمكن الاتحاد العام التونسي للشغل من الانضمام الى المنظمة المذكورة الا في مطلع عام 1949، غير ان ذلك لم يمنع فرحات حشاد لا قبل الانضمام ولا بعده من انتقاد المعسكر الشيوعي في خطبه وفي العديد من مقالاته، لذلك سوف تتأزم العلاقات بين الاتحاد العام التونسي للشغل والمنظمة النقابية العالمية لتفضي الى القطيعة، وعندما تأسست الكنفيدرالية العالمية للنقابات الحرة (I.S.L) التي كانت تحظى بتعاطف المعسكر الغربي، سارع فرحات حشاد بالاتصال بقادتها، وفي ربيع 1951، انضم الاتحاد العام التونسي للشغل عقب جدل ساخن داخل صفوفه الى الكنفدرالية المذكورة، ودفاعا عن هذا التوجه الجديد، كتب فرحات حشاد يقول: «ان الاتحاد العام التونسي للشغل شعر ان الاتحاد النقابي العالمي (F.S.M) لم يكن الا حركة نظرية وأداة تعمل لتنفيذ سياسة الكتلة الروسية، فالنظرية الشيوعية تعمل من الظاهر على تحرير الشعوب، وأقول «الظاهر» لان الحقيقة هي ان لا وجود في نظر الكتلة الروسية لأي مظهر من مظاهر التحرير غير التحرير الشيوعي».
وعندما انضم الاتحاد العام التونسي للشغل الى الكفيدرالية العالمية للنقابات الحرة، كانت تباشير الحرب الباردة التي ستشغل العالم حتى سقوط جدار برلين عام 1989 قد باتت واضحة في الافق، وكان الصراع بين المعسكرين، الشرقي بقيادة ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي، والمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية قد اضحى عنيفا وحادا، ومن المؤكد ان فرحات حشاد ادرك بذكائه السياسي الخارق ان مساندة المعسكر الشرقي لتونس، وللبلدن المستعمرة (بفتح الميم) لا يمكن ان يكون الا ايديولوجيا، ومعنويا وبالتالي غير مفيد، وغير نافع، لذا اتجه غربا وهو على يقين بأن الحلول لا يمكن ان تأتي الا من هناك، وسوف تثبت الاحداث والايام انه كان على حق في رؤيته تلك، غير ان هذا لا يعني ان فرحات حشاد كان من دعاة مناصرة المعسكر الغربي بشكل مطلق، لذا كان يجاهر في خطبه وفي مقالاته بأنه مع «كتلة الحرية» (BLOC DE LA LIBERTE) وقد كتب في ذلك يقول : «ليس من مشاغلنا نحن الشعوب المستعمرة (بفتح الميم) ان نتخذ موقفا ضد هذا او ذاك من المعسكرين او لفائدة هذا او ذاك، او ان نكون بمعية شعوب اخرى معسكرا ثالثا او رابعا، فالكتلة الوحيدة التي تسترعي اهتمامنا انما هي كتلة الحرية».
وقد استغل فرحات حشاد حضوره المؤتمرات العالمية والدولية الخاصة بالنقابات للدفاع عن القضية التونسية، لذلك لم يتردد في دعوة الزعيم الحبيب بورقيبة لحضور اشغال مؤتمر «السيزل» الذي انعقد في مدينة ميلانو الايطالية عام 1951، وفي مدينة سان فرانسيسكو الامريكية في خريف العام المذكور، وامام الوفود الغفيرة التي حضرت اشغال المؤتمرين، رفع فرحات حشاد يد بورقيبة عاليا وصاح بحماس: اVOICI NOTRE HERO NATIONALب (اي ها هو بطلنا الوطني).
وكان فرحات حشاد يحلم بإنشاء الفيدرالية النقابية المغاربية لتوحيد صفوف العمال التونسيين والجزائريين والمغاربة، وقد قطع اشواطا كبيرة في هذا الاتجاه، الشيء الذي سيكسبه شعبية كبيرة في البلدين الشقيقين الجزائر والمغرب، وعندما اغتيل شهدت الدار البيضاء ومدن مغاربية اخرى مظاهرات صاخبة لم تتمكن القوات الاستعمارية من تهدئتها الا بعد ثلاثة ايام.
قبل حوالي عامين من اغتيال الزعيم فرحات حشاد، وتحديدا يوم 21 نوفمبر 1951، اضرب عمال هنشير النفيضة عن العمل، فقامت السلطات الاستعمارية بقتل خمسة منهم، بينهم امرأة حبلى بتوأمين، وكانت هذه المجزرة الرهيبة بمثابة الصدمة العنيفة للتونسيين كافة اذ انها كشفت لهم مرة اخرى فظاعة الاستعمار وقسوته وعدم اكتراثه بالحياة البشرية خصوصا عندما يتعلق الامر بالحفاظ على مصالحه، وفي اليوم ذاته، اي يوم 21 نوفمبر من العام المذكور، القى فرحات حشاد خطابا ندد فيه بقوة بالمجزرة معتبرا ذلك اليوم يوم حزن وحداد»، وفي الان نفسه اعتبره «يوم اتحاد» و «يوم فرح» لانه قدم للتونسيين جميعا الدليل القاطع على ان القوة لا تواجه الا بالقوة، وان الخلاص لتونس ولشعبها لن يتم الا بالنضال المستميت من اجل انهاء الاستعمار وبعد مرور شهر على المجزرة المذكورة، كتب فرحات حشاد نصه الشهير الذي بعنوان: «احبك يا شعب» والذي فيه يقول: «احبك يا شعب تونس الذي امتحنك الدهر وامتحنته، فعرف فيك الشجاعة مع الاخلاص، وعرف فيك الصبر مع المثابرة، احبك لما فيك من شعور فياض واحساس نبيل، ولما تكنه من عواطف عند النكبات ومن تئاخ عند المحن وأحب فيك الاقدام عند اقتحام الشدائد، وبذل الجهد المستطاع لانتشال الضعيف عند الحاجة».
غير ان الاوضاع سوف تزداد سوءا ففي مطلع عام 1952، توسعت العمليات القمعية لتشمل جميع المناطق في البلاد، وقامت السلطات الاستعمارية باعدام بعض المناضلين، وفي الوقت ذاته اوقفت الزعيم الحبيب بورقيبة وقادت عشرات القادة الوطنيين الى السجون وردا على كل هذا، صعد الوطنيون الى الجبال، وشهدت المدن والقرى حركة مقاومة عنيفة ضد الاستعمار وتساقط الشهداء بالعشرات، غير ان السلطات الاستعمارية اختارت التصعيد.
لذا ضاعفت من عمليات التمشيط والقمع والبطش والترهيب لتطفئ نار المقاومة التي اشتعلت في كل مكان، وكان الزعيم فرحات حشاد يراقب كل هذا بقلق شديد، وعندما دعاه المقيم العام الفرنسي الجديد «دي هوتكلوك» الى مكتبه الخاص، طالبا منه مساعدته على تهدئة الاوضاع في البلاد، كان جوابه بأن استجابة فرنسا للمطالب الوطنية التونسية هو الكفيل وحده بإعادة الامور الى نصابها.
ولم يخش فرحات حشاد التهديدات التي كان يتلقاها يوميا، وواصل نشاطه السياسي والنقابي بحماس فياض، وكان على اتصال دائم باعضاء «اللجنة لوطنية للضمانات الدستورية والتمثيل الشعبي» التي تأسست في مقر الاتحاد العام التونسي للشغل يوم 12 ماي 1951، والتي كانت لها فروع في جميع انحاء البلاد. وكانت هذه اللجنة تضم مناضلين دستوريين، واطباء ومحامين وصحافيين وقدماء محاربين وطلبة، وكان هدف فرحات حشاد من هذه الاتصالات إذكاء نار المقاومة الوطنية وتوسيعها لتشمل كل مناطق البلاد، ولأن السلطات الاستعمارية لم تتحمل هذا الاصرار، وهذا العناد من جانب فرحات حشاد، فانها سمحت للمنظمة الارهابية «اليد الحمراء باعتياله صبيحة يوم 5 ديسمبر 1952، وكان انذاك في الثامنة والثلاثين من عمره، وبرحيله عن الدنيا مبكرا مثل اغلب ابناء «جيل ارادة الحياة» خسرت تونس واحدا من اعظم ابطالها، ومن اكثرهم اخلاصا ووفاء لها.
يقول جان جيرودو: «هناك، لدى كل الارواح الكبيرة، عبقرية قابلة للبسط والمدّ تمنح حياتهم، سواء كانت قصيرة ام مديدة، منجزة بطريقة طبيعية، ام هي تهشمت مبكرا، التوازن والكمال...
وقد كان فرحات حشاد من هذه الارواح الكبيرة التي تحدث عنها جيرودو، ورغم ان حياته هشمت قبل اكتمالها الطبيعي، فانها اكتسبت التوازن والكمال، لذا عندما عثر عليه مرمى في الخلاء، وقد خرّبت جسده رصاصات عصابة «اليد الحمراء» كانت على شفتيه ابتسامة الرضا عن نفسه وعما قدمه لتونس ولشعبها من اعمال سوف تظل راسخة في الذاكرة الوطنية الى الابد...
ملاحظة: المصدر الاساسي الذي اعتمدت عليه في هذا النص هو كتاب الاستاذ احمد خالد عن فرحات حشاد في جزأيه الفرنسية والعربي، لذا اتقدم اليه بجزيل الشكر راجيا له المزيد من العمل لإثراء الذاكرة الوطنية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.