أغتيل حشاد تحت ضغط العسكر... ضابط المخابرات الذي خطط لاغتيال حشاد، خطط ايضا لاغتيال عبد الناصر فنال عقابه... قاد حشاد انتفاضة التحرير... طالب بالاستقلال التام... أهان الباي وتطاول عليه... اعتمد على الجماهير التي نادت به رئيسا للجمهورية... تألبت عليه قوى الرجعية... فمات بطلا وخدم بلاده حيا وميتا... بعد اكثر من 56 سنة والجدل هو الجدل والنقاش هو النقاش والسؤال الحائر هو السؤال والموضوع هو الموضوع يطرح بلا كلل أو ملل: من قتل حشاد؟ سؤال ارتسم على شفاه كل الناس منذ اللحظة الاولى للجريمة التي لم تكن تضاهيها انذاك الا جريمة اغتيال «جوريس»، وهي جريمة دولة دبرها مجرم حرب «دي هوتكلوك». سؤال سيظل قائما على الدوام الى ان تنكشف الحقيقة وتتحقق العدالة، هذه العدالة التي تعد جزءا من كرامتنا الوطنية والتي تبحث عنها اسرة حشاد الضيقة ويبحث عنها شباب تونس الواعي الوفي لرموزه وعظمائه... هذه العدالة التي بعثت من اجلها الجميعات في الداخل والخارج وسهر من اجل بلورتها الدارسون والباحثون وتعمقت فيها الندوات وتعددت حولها المقالات واختلفت الأطروحات من قتل حشاد؟ حشاد زعيم الانتفاضة انه من المفيد التذكير بايجاز بالظروف التي كانت سائدة بتونس قبل حادثة اغتيال فرحات حشاد، فقد كانت البلاد تعيش ثورة حقيقية حتى انه جاء في تقرير لوزارة الخارجية الفرنسية قدم للجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) في دورة شهر ديسمبر 1952 جاء فيه منذ ان بدأت الانتفاضة على يدي فرحات حشاد في 13 جانفي 1952 والانفجارات متواصلة فقد بلغ عدد حوادث «التخريب» 1291 عملية ذهب ضحيتها 25 شخصا منهم 11 فرنسيا... وبلغ عدد الاعتداءات بالقنابل: 176 عملية ذهب ضحيتها 71 شخصا منهم 18 فرنسيا... وفي نفس هذه الفترة (13 جانفي 1952 10 نوفمبر 1952) اعتقلت السلطات الفرنسية 1787 شخصا متهمين بالمشاركة في اعمال «تخريبية» منهم 1689 ينتمون الى الحزب الحر الدستوري التونسي و 98 شخصا ينتمون الى الاتحاد العام التونسي للشغل. الوزير الاكبر يشهد بذلك لقد نشرت جريد «Le Figaro» الباريسية خلال الاسبوع الاول من حادثة الاغتيال مقالا لمراسلها بتونس الصحفي الشهير «Eric Olivier» جاء فيه تحت عنوان «لا وجود لمنظمة اليد الحمراء» ان الشوارع بتونس خالية بعد الساعة الثامنة ليلا فلا يعترضك احد وسط الليلة الشديدة القر الا فرق الحرس العسكرية توقف من تخلف من المارة وتتحقق من بطاقات التعريف وجوازات المرور... وتظل الحياة متوقفة الى الصباح فالهاتف مقطوع داخل المدينة وعلى الوافدين على تونس ان يقضوا سهراتهم في قاعات النزل الذي حلوا به ذلك ان الناس يلجؤون الى بيوتهم في الساعة الثامنة ويوصدون الابواب فلا مجيب ويسمع من حين الى حين دوي الانفجارات تنذر بالخطر المحدق... وقد تمكنا من ان نتحدث حصة وجيزة مع الوزير الاكبر التونسي (صلاح الدين البكوش) فقال لنا : ان فرحات حشاد كان رجلا ثقة وذكيا وقد اسفت اذ رأيته يسلك سبيل سياسة فيها ما فيها من الضرر بنشاطه النقابي الذي اصبح مهملا... واجابة عن سؤال قال : «... لا وجود لليد الحمراء وليست اعمال العنف الا من شبيبة متحمسة وذلك ما يفسر لنا ما نرى عليه هذه الاعمال اذ هي وليدة الصدف وليست نتيجة خطة مدبرة او برنامج مقرر...». فرحات حشاد يهين الباي ويتطاول عليه هل اغلظ حشاد القول للباي؟ لقد ذكرت «Tunisie - France»«تونس الفرنسية» ان هناك اختلافا شديدا في الرأي يقال انه جرى بين سمو الباي وفرحات حشاد يوم الاربعاء 3 ديسمبر 1952 ولم يحترم الزعيم النقابي التونسي مقام مليكه فهاجمه مهاجمة شديدة، وقد طلب بالحاح من سمو الباي ان يرسل نيابة رسمية الى صالح بن يوسف (ليحضر مداولات هيئة الاممالمتحدة بعد شكوى الدول العربية والاسيوية حول قضية تونس) ... وان يطرد وزارة البكوش المتواطئة مع الاحتلال والملبية لرغباته... وحيث ان سمو الباي قد رفض الاستجابة لهذا الطلب فقد عقد فرحات حشاد في اليوم التالي (الخميس 4 ديسمبر 1952) جلسة عاصفة حضرها رجالات الاتحاد العام التونسي للشغل والحزب الحر الدستوري التونسي وصدرت عن هذا الاجتماع انتقادات موجهة الى الملك... وقد اتخذت تدابير احتياطيه خاصة في القصر الملكي واعلم الملك حاشيته انه مريض وملازم للفراش، ويقال انه تعرض الى حادثة تسمم... وقد علقت صحيفة «تونس الفرنسية» تقول : لِمَ هذه التدابير الاحتياطية في القصر الملكي؟ وهل كان القصر الملكي يخشى عواقب تهديدات فرحات حشاد؟ فرحات حشاد رئيسا للجمهورية نعم لقد اصبح الباي يخاف فرحات حشاد ويخشاه ويراه الاقدر على تقويض ملكه وإزاحته من على العرش بل والقضاء على الملوكية في تونس. فقد سبق ان استاء الباي شديد الاستياء من مسألة المناشير التي تعلن الجمهورية وتنادي بفرحات حشاد رئيسا لها وذلك ليلة 20 اوت 1952 حين اكتست العاصمة ومدن الايالة بالمناشير المطبوعة بحروف غليظة تدعو الى اعلان الجمهورية واعلان حالة العصيان عن سلطة الباي... فهل بعد هذا يجرأ من يقول ان فرحات حشاد كان من جماعة «حزب سيدنا» المقصود به التودد للباي والإذعان لسلطته بلا قيد او شرط والتمسح بأطرافه... فرحات حشاد: الكل أو بلاش! لقد كتب الصحفي «Robert Saint Jean» في صحيفة «Le Parision Liberé» يقول مشيرا الى مقابلة جمعته بالزعيم فرحات حشاد قبل اغتياله بقليل... كان يبدو لي ان فرحات حشاد لم يكن كبير الرجاء فيما سينجر عن شكوى الدول العربية والاسيوية لدى هيئة الاممالمتحدة ولقد قال لي الزعيم النقابي التونسي : «لن نحيد عن موقفنا لان محادثات هيئة الامم لن تسفر عن نتيجة...». ويعلق الصحفي يقول : معنى هذا ان سياسة فرحات حشاد كانت سياسة قطع العلائق ولم يكن يفكر في اي موقف وسط بين فرنسا والحزب الحر الدستوري التونسي... وهذا موقف لم يبلغه بورقيبة نفسه اذ لم يقرر رئيس الحزب الحر الدستوري مبدأ المطالبة بالكل مطالبة لا تتجزأ، فهل كان زعيم الاتحاد العام التونسي للشغل يعتقد انه متى شط في الطلب فان ذلك يزيد من تعلق الناس به وتشبث اتباعه به مثلما فعل ذلك حزب الوفد المصري غير ما مرة؟ ام هل كان واهما في تقدير الاعانة التي كان يعتقد ان النقابات الامريكية ستمده بها وذلك منذ اليوم الذي وقع قبوله من طرف هذه النقابات اذ كان يطالب بالاستقلال التام... حشاد قائد ثورة مسلحة ليس هناك من شك في ان فرحات حشاد اصبح بعد اعتقال الزعماء السياسيين (بورقيبة وصحبه) يوم 18 جانفي 1952 هو القائد السياسي والعسكري لانتفاضة الشعب التونسي وعنه تصدر التعليمات والاوامر من ذلك حادثة «كمين عين سلام» بقابس حيث تمكنت مجموعة من رجال الثورة من التربص بجنود فرنسيين والايقاع بهم وقتل عدد منهم (هذه الحادثة اوردها النقابي بوبكر عزيز في كتابه «تبا لتاريخ) وذلك في الليلة الفاصلة بين 15 و 16 نوفمبر 1952 وقد القت الشرطة القبض على المناضل البطل الصادق بن الحبيب بن رجب وعثرت بمنزله على كراس يحتوي على اسماء مجموعة كمين «عين سلام» وعلى تفاصيل تمويل هذه العملية وهو فرحات حشاد الذي مدهم ب 150 الف فرنك... اغتيال حشاد قرار عسكري هنا اصبح الضغط كبيرا على المقيم العام من قبل العسكر وحجتهم ان دم حشاد ليس بأزكى من دم الفرنسيين وتعالت اصوات المغتاضين بضرب الرأس المدبر، ونقلت صحفهم هذا الصراخ فقالت صحيفة «Tunisie France» ... لم يبق في وسع سكان الايالة التونسية تحمل ما يفرضه عليهم المتطرفون وقد وصل بهم الامر الى ان يفكروا بأن ينتقموا لأنفسهم بأنفسهم... ضابط مخابرات خطط للجريمة لقد اشار المقيم العام الفرنسي «دي هو تكلوك» الى هذا الامر في مذكراته مشيرا الى ما كان يلاقي من ضغوطات في هذا الاتجاه حتى انه سعى الى خلع باي تونس وتعويضه بآخر اقرب الى الشعب وكرر هذه المحاولة مرتين في مسعى منه الى تنفيس الاحتقان حيث عبر عن حاله بالقول: «Je suis gonflé à bloc» ولم يكن بوسعه فعل اي شيء لفرحات حشاد وعجز حتى عن اعتقاله فخرجت المبادرة من يده ليتولاها البوليس ويوكل المهمة الى ضابط المخابرات «هنري جانيتز» ليتخذ من اليد الحمراء يده التي ينفذ بها جريمته النكراء وهو نفس الضابط الذي كلف لاحقا باغتيال الزعيم العربي خالد الذكر جمال عبد الناصر... وقد انكشف ونال عقابه... وقد اشار له الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل في كتابه «سنوات الغليان». البشير بن يحمد يتهم لقد اشار الكاتب الصحفي الكبير البشير بن يحمد منذ اكثر من نصف قرن الى تورط هذه العصابة في اغتيال فرحات حشاد وقال : «اني اتهم» «J'accuse» وذلك بمناسبة انكشاف أمرهم حين تمكن حارس جامعة بن عروس الدستورية من تصويب فوهة بندقيته ذات الطلقة الواحدة واصابة احد افراد هذه العصابة التي اخذت تهاجم مقرات الحزب اثر اعلان الاستقلال الداخلي وتورط احد الاطباء في تزوير شهادة دفن وهي حادثة كان السيد الطيب السحباني شاهدا عليها وقد حدثني ذات مرة عن تفاصيلها المثيرة كفصل من فصول نضال شعبنا من اجل الحرية والانعتاق، وهي ذات الحادثة التي تشبث بها الزعيم الحبيب بورقيبة لتونسة الامن... حشاد شبيه جوريس جسما معاني الشرف مات حشاد فاستقلت تونس وانفجرت الثورة بالمغرب الشقيق وتأسس اتحادهم العمالي ولحقت الجزائر بكل من تونس والمغرب ولا يزال شباب تونس يطالب بدم حشاد الذي اقام الدليل ان الشهادة تخدم القضية اكثر من الحياة في بعض الاحيان... فأنا على اتفاق مع ما كتبه الصحفي «كوهين حضرية» في صحيفة «Tunisie Socialiste» ان اغتيال فرحات حشاد قد رمى سكان هذه البلاد في اعمق هوة من التأثر والالم، انني لم الق أحدا يوم وفاته من الفرنسيين او التونسيين لم تسيطر على وجهه علامات الغم والحزن... اما «سيرج معطى» فقد كتب يقول في نفس هذا العدد... «ان مقتل فرحات حشاد يذكرنا بمقتل «جوريس» ذلك الرجل الاشتراكي العظيم اذي سقط في ساحة الكفاح من اجل الطبقة الشعبية... ان امثال هؤلاء الناس لا يلبثون ان يقنعونا بأنهم عندما يكونون أمواتا يخدمون قضيتهم التي ماتوا من اجلها كما كانوا في حياتهم ان لم يكن اتم وامتن...». رحم الله حشاد... هوامش: «دين هتكلوك» جنرال عسكري فرضه اللوبي الاستعماري بتونس لقمع الوطنيين وصل في بارجة حربية متباهيا بماضيه الحربي وهو قصف مدينة دمشق بالمدفعية الثقلية... الصحف المذكورة بالمقال صادرة في الفترة المتراوحة ما بين نوفمبر وديسمبر 1952... كان الزعيم فرحات حشاد يلقب بالقرقني نسبته الى جزيرة قرقنة التي ولد بها... لم ينل نصيبا وافرا من التعليم ولكن ميزه الله بعبقرية خارقة... أسس الاتحاد العام التونسي للشغل منطلقا من جهة صفاقس ومستندا الى أحد شيوخ الزيتونة المرحوم الفاضل بن عاشور. الفاضل بن عاشور احتضن المؤتمر التأسيسي للمنظمة الشغيلة وتصدى للرجعية المحلية وقام بعمل ريادي وهو ينظر للعمل النقابي من منظور التكافل الاجتماعي في الاسلام ورد على من يقول من المشائخ بتحريم العمل النقابي وتأثيمه على خلفية الانتماء الى الشيوعية... «صوت الطالب» منظمة طلبة جامع الزيتونة عارضت حشاد وانتقدته بشدة لانسياقه وراء حزب الدستور، وقد جابههم حشاد مرتين في جامع الزيتونة نفسه... من المحبطات التي جابهت الوطنيين في التصدي للاستعمار بعض الفتاوى الانهزامية... لقد افتى الشيخ حميدة بلخوجة... انتم ضعفاء لا يمكنكم مقاومة المحتلين وان اردتم ربح اوروبا فيجب ان تحرزوه بالصوم...