قال صديقنا الأستاذ الدكتور حسين الديماسي في محاضرة له ألقاها مؤخرا أمام جمع من النقابيين، وبطريقته الخاصة (ديويوو) أنّ الأزمة الجاري الحديث عنها هي أزمة اقتصادية بالأساس، وعدّد بوادرها في أكثر من موضع وبرهان. وبالطبع لم يكن الأستاذ وهو خبير بالشؤون الاقتصادية الوطنية والدولية بعيدًا عن الواقع في تقديره وحساباته بل كان عارفًا بالموضوع تمام المعرفة ولم يزد عمله في المحاضرة التي اشرت إليها عن كونه رفع غطاء مرجل كان محجوبا عن أعيننا، فإذا به يغلي وربّما كان على وشك الانفجار. والواقع أنّنا كنّا منتبهين إلى غليان ذلك المرجل ومن الداعين إلى الحذر في التعامل معه والاستعداد لأيّ طوارئ يمكن أن تفاجئنا. لكن ماذا تريدون أن أفعل أمام ماكينة الاعلام، لقد هزمتنا، بل هزمتني (وحدي) حيث ما انفكّت تطمئن وتهدّئ من الروع إلى الحدّ الذي صدقت فيه شخصيا كلام بعضهم من أنّ الأزمة يمكن أن تعود علينا بالنفع. مقبول أن يكون رأي الحكومة والوزراء والمسؤولين القريبين منها في باب الطمأنة والتهدئة ومعقول أن يصدر منهم ذلك، فمن واجبهم الرصانة والاتزان وعدم التسرّع، وقد تعوّد الناس في العالم أجمع أن يسمعوا من حكوماتهم كلاما جميلا، مطمئنا، متزنا، رصينا... لكن ذلك لا يمنعهم البتة، أو بالأحرى لا يسمح لهم البتّة بالنوم بعينين مغمضتين وإنّما يغمضون واحدة ويفتحون الأخرى. إذا ما جاء ما يخالف، نهضوا وتصرّفوا. والحقيقة أنّني كنت كذلك، لكن بميل أكبر إلى اغلاق العين الثانية حيث كان يهزمني النوم الزاحف نتيجة تصريحات أخرى زادت في الطمأنة، جاءت هذه المرّة من أطراف تعوّدت في الماضي على «معيز ولو طاروا» حتى اكتسبت نوعا من المرجعية. إلاّ أنّ الذي فات الجميع في وقت ما هو أنّ الأزمة المالية التي قيل أنّها لا تهمنا والتي انحصرت في المضاربات العقارية بأمريكا، كانت تخفي ماهو أعظم. وها هو قد جاء. وهاهو يترجم إلى توقف عن العمل وبطالة فنية، وإلى حديث عن عقود جديدة للشغل، وعن تعديل الوقت السنوي... وهاهو يترجم إلى تسريح للعمّال وإلى حذف وظائف وفرص عمل ومن يدري فقد يمتد إلى مناصب العمل الثابتة أو الرسمية أو المترسمة فيزعزعها أو ينقص منها أو يقضم منها هي الأخرى. المهم أنّ الدولة تحرّكت في كل الاتجاهات، وأبرزها في اتجاه البنوك وفي اتجاه المؤسسة. والمهم أنّ الدولة التي كانت إلى وقت غير بعيد تريد التخلّص من كلّ الأعباء (حتّى نصل إلى الدولة الصفر) عادت لتسترجع مقاليد الأمور وتمدّ قبضتها على كل ما يدور حولها. بل إنّ الدولة ذهبت إلى ماهو أبعد، فلقد ضخّت ما شاء اللّه من الأموال في الساحة المالية الوطنية حتى تضمن التوازنات الضرورية وزادت فضخّت ماشاء اللّه من الأموال في ساحة البنوك المهاجرة حتى لا تضطرب حساباتها أمام تأرجح العملة وما شابه ذلك من انعكاسات الأزمة المالية. ولا اعتراض لي على هذا الأمر وعلى هذه القرارات بل إنّني احييها في عدّة جوانب، أقلّها أنّها تؤكد قناعتي ودفاعي المستمر عن الدولة وعن وجودها وعن لعبها الأدوار الأولى في كل مجال. قياسا على هذه الاجراءات، أصبح من حقّي أن أطالب الدولة بإجراءات خاصة بالشغالين، فكرًا وساعدًا، وبالعاطلين، وبالمهمشين، وفاقدي السند وغيرهم من أبناء الفئات الشعبية الضعيفة والمستضعفة. صحيح أنّ رأس المال ينشئ الثروة، لكن علمنا وتعلمنا وشاهدنا وشهدنا أنّ العمل أيضا ينشئ الثروة. يتحدّث الناس كثيرًا عن معجزة اليابان المستمرة، لكن يغفلون عمدًا القول أنّها جاءت من العمل. أعطونا اجراءات تشغيل، فالمجالات متوفرة ومنها شق الطرق، وحرث الأراضي، ومقاومة زحف الصحراء، وتنظيف الشواطئ، وحماية البيئة وتشجير المساحات المنجرفة، وترميم الطرقات وتهذيب الأودية، وتنفيذ البناءات، واصلاح المدارس والمعاهد وغيرها من البناءات العمومية وتشغيل حاملي الشهادات كافّة وذوي الاختصاصات والمتخرجين من كل المعاهد والكليات. أعطونا برامج للزيادة في الانتاج، شغّلوا الناس عشر ساعات بدل ثمانية، وثلاث ورديات بدل واحدة يتيمة، وحتى أيّام العطل، واحسبوا بعد ذلك حجم المكاسب أي الثروة التي نشأت للبلاد والعباد.
في بداية الاستقلال، كان مقاوم سابق يسير في الطريق مشيا على الأقدام بين منزله الكائن في الريف وأقرب قرية منه. مرّت سيارة أولى فأشار على صاحبها أن ينقله معه فلم يفعل، ظلّ يمشي إلى أن لحق به «كميون» الأشغال العامة وعلى متنه عمّال يتعهدون الطريق بالاصلاح، همّ بالرّكوب فمنعوه لأسباب ادارية، فهاج وماج وأخذ يردّد: هل تعجز الدولة عن نقل فرد مثلي فيما تبني بالملايين طريقا لغير