رغم اننا كنا مثخنين بالجرج الغزاوي... ورغم اننا كنا متعبين بالجرح العربي النازف إذ لا بلسم له رغم عقاقير القمم والمجالس والصالونات السياسية التي يصيب بعضها بالكمد والقرف... قلت رغم ان الحالة كانت تلك فقد «مثلنا» على النفس وبرمجنا اياما في بيروت لنستظل قليلا بشجرة الارز ونبتعد قليلا عن معاناة الرشيدية والبداوي والنهر البارد... ولكن حتى شجرة الارز التي استظل بها لبنان العزيز ووحدت اوصاله الممزقة على امتداد عقود... حتى هذه الشجرة استكثرها علينا القدر، لقد ماتت واقفة... انها منصور الرحباني... الذي أفل نجمه، عفوا بل جسده بعد عراك مع موت كان نهما ولم يشبع حتى بعد ان لهف عاصي شقيق منصور وليال ابنته (اي ابنة عاصي) التي احترق لرحيلها قلب فيروز المعروفة بالأم التي تفرح... اذن تزامن وجودنا بهذا الشرق الحزين مع رحيل المبدع منصور الرحباني الذي مارس أغرب مقايضة في حياته حيث «باع» الشرطة وذهب الى الفن في سنة 1945 لينضم الى شقيقه عاصي ويؤسسا لرحلة ما أصبح يعرف فنيا بالاخوين الرحباني الذي سريعا ما تعزز بنهاد حداد وهي السيدة فيروز بعد زواجها من عاصي لينطلق هذا الثلاثي مخترقا كل الغيوم مشعا على لبنان والعالم بأغان وقصائد ولوحات وترانيم ملؤها الابداع والألم والفرح الطفولي الذي تشهد عليه الدنيا... كل الدنيا... بما فيها من الوان وخاصة اسودها الذي «قاتله» الرحابة بلا هوادة من خلال مسرح استهدف الارض والتاريخ وقضايا الناس في كل انحاء الارض وعلى رأسها القضية الام فلسطين التي حازت على «زهرة المدائن» و «سنرجع يوما» و «جسر العودة». الى جانب كل ذلك كانت المسرحيات الغنائية التي تنضح ابداعا والتي استأثر بها مسرح بعلبك ومنه الى انحاء العالم على غرار مسرحية «ايام فخر الدين» و «جبال الصوان» وغيرها من الاعمال التي حظيت بعض مسارحنا ببعض أريجها... وخاصة تلك التي انجزت بعد رحيل عاصي في العام 86 وانضمام هدى حداد (شقيقة فيروز) الى الجوق الرحباني فكان ان رأت مسرحيات النور لتشع تألقا على غرار «نبي» جبران خليل جبران ومسرحيات «حكم الرعيان» و «زينوبيا» و «سقراط» وغيرها من المحطات الابداعية واخرها «عودة طائر الفنيق» التي تزامن عرضها في بيروت مع موعد رحيله. قافية للسلوان ونحن نغادر رُبى بعلبك الى الجنوب الممزق استوقفتنا شهادة صديقنا الصحفي المحنك «أمين شغلان» الذي حضر لقاء بين الشاعر الكبير عمر أبو ريشة والاخوين الرحباني عبر فيه الاول (اي أبو ريشة) عن استعداده للتنازل عن كل قصائده واعماله وتسجيلها باسم الرحابنة مقابل بيت واحد من قصيدة غنتها فيروز، هذا البيت يقول: ونَسيتُ من يَدِه ان استردَّ يدي طَال السلام وطالت رفّة الهُدُبِ