لست بناقد ولم أدّع يوما أنّي كذلك، أنا فقط متفرج ، مشاهد للتلفزة، للسينما، مستهلك للمسرح ولشتى ضروب الفن التي تعرض في المدينة. لا أقصد أنني أفعل ذلك بإدمان، إنّما انا أختار هنا أو هناك حسب ميولاتي وقناعاتي الشخصية او كذلك حسب اقتراحات أو توصيات من الاصدقاء وأهل الذكر. ولكن هناك مواد تفرض نفسها عليك بطريقة أو بأخرى، فتجد نفسك مجبرا على مشاهدتها أحببت أم كرهت، خاصة في البيت عندما تفقد السيطرة على ذلك الصندوق العجيب وتصبح لوحة الازرار في غير يدك وفي غير سلطانك. «فرّغ قلبك» «عن حسن نية» «المسامح كريم» «الحق معاك» «عندي ما نقول لك» «همس الليل» مواد تلفزيونية حلت بيننا في بيوتنا، في مكاتبنا، في مقاهينا، في صحفنا، في كل مكان واصبحت حديث الخاص والعام. لن أذهب في قراءتي لما شاهدت، الى ما اسمّيه «أحكام مغلوطة» و»تجاوزات سلطة» و»أخطاء إدارية»، وإنّما اقتصر على اسئلة تبدو محيّرة في تقديري الشخصي، كما هي الاراءالتي أعرضها هنا. أوّل الاسئلة هو لماذا كلّ هذا الكمّ من البرامج المتشابهة، المستنسخة، المكررة،... هل تدهورت الامور في البلاد وانغلقت كل أطر الحوار والتقاضي والتصالح والتفاهم الى حدّ أصبح معه لا مفرّ من اللجوء الى التلفزة، وإلى تحكيم الرأي العام او بالأحرى جعله شاهدَا؟ ثم ماذا نفعل اذا انتهت احدى الحصص التلفزية الى انّ هناك خطأ إداريا او قضائيا، وماذا نفعل اذا حققت الحصة التلفزية ما عجزت عنه الاجهزة المختصة والقوة العامة وغير ذلك من المسميات؟ ماذا نفعل، كيف نتصرف مع المخطئين بعد ان اثبتت الحصة التلفزية خطأهم وكشفت للمقصرين تقصيرهم؟ لذلك فأعود فأسأل لماذا هذا الكمّ الكبير من البرامج المتشابهة، المستنسخة، المكررة، المقتناة بالملايين، والتي تتكلّف المشاركة فيها، بل قل رغبة المشاركة فيها وحدها بعشرات الدنانير من هاتف ورسائل، ونسخ للوثائق وإرساليات ونقل ومصاريف تنقل وأشياء أخرى؟ أسأل أيضا لماذا هذ التسابق المحموم بين قنواتنا على مثل هذه البرامج بالذات؟ هل حلت بقية مشاكلنا وشكاوينا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية حتى لم يبق لنا الا بحث إفرازات «الترف» في مجتمعنا اذا صح ان نسميها كذلك؟ ما رأي المجلس الأعلى للاتصال في المسألةباعتباره السلطة (المعنوية) المحكمة في المشهد الاعلامي؟ لست بهذا أدعو الى حجب ايّ برنامج، حيث أصبح بذلك مناقضا لنفسي أنا من ينادي بالحرية المطلقة في التعبير والاعلام والصحافة، للصحافيين وعموم المواطنين، إنّما أطالب بالترشيد دفاعا عن مجتمعنا الذي لم يتأزم الى الحدّ الذي توحي به تلك البرامج، ودفاعا عن مؤسساتنا، ودفاعا، بشكل خاص، عن واجب التنويع في المادة الاعلامية التي تقدّم للناس في التلفزات أساسا. أين البرامج الحوارية الحقيقية التي يلتقي فيها الجميع دون استثناء أو إقصاء او تهميش، أين الحصص الاخبارية التي تلاحق الاحداث وتشرح للناس كل ما يهمهم وتنبههم الى حقوقهم وواجباتهم، اين المتابعات التي يدلي فيها كل ذي شأن برأيه في ذلك الشأن، أين الأخبار البعيدة عن الدعاية والاشهار والاصرار والتكرار؟ أين الحوارات الجريئة والمثيرة والمشاكسة مع الوزراء والمسؤولين، أين التحقيقات التي تكشف الفساد والرشوة، عند اثباتها، اين الجوانب السمحة والجميلة في مجتمعنا التي يجب تقديمها دون مساحيق؟ أين ابداعات شعبنا واختراعات شبابنا وتفوقهم العلمي؟ اين كل هذا، أين؟ أنا لا ألوم على القنوات الخاصة ولا على شركات الانتاج الخاصة، إنّما يذهب كل لومي الى قنواتنا الوطنية، العمومية، فهذه ملك للشعب، من واجبها ان ترتقي به وأن تعلو به الى أعلى ما يكون. يكفينا ما نعانيه من الرياضة وكرة القدم بوجه خاص وما أصبحنا نراه من مظاهر مقرفة وخصومات ونعرات وأغان متدنية وأموال مهدورة، رغم أنّ النتائج تأتي نزولا وتواضعا. لاحظوا كم أصبحت القنوات تخصص من وقت رياضي للعراك والخصومات والسباب والشتائم وفاحش الكلام ومظاهرالاخلال بالنظام العام والاعتداء على الذوق العام والاخلاق الحميدة لتفهموا اننا اصبحنا جميعا عاجزين بما فينا السلطة الحاكمة عن تنظيم لقاء ودّي بين رئيسي جمعيتين متنافستين ناهيك عن اللقاء بين الجمعيتين في حد ذاتهما، وفقدنا بالتالي السيطرة على غول العنف الزاحف وغول الفوضى التي اصبحت تحكم كرة القدم عندنا. انتظمت في المدة الأخيرة عدة مسيرات شعبية ومظاهرات للتنديد بالعدوان على غزّة، شارك فيها الناس بالآلاف، بل بعشرات الالاف، ولولا بعض الانكماش لكانوا بمئات الالاف، وخلافا لما كان يتصوّره البعض، جرت تلك المظاهرات في أرقى تنظيم ممكن، وأعطت عن تونس، صورة البلد المتحضّر، حيث لا تكسير ولا تخريب ولا تجاوز. قارنوا أبسط واحدة من تلك المظاهرات بأي مقابلة من مقابلات الكرة وقيسوا النتائج المترتبة عن كلا التظاهرتين. تحدثت بعض هذه الحصص التلفزية عن أخطاء إدارية وتجاوز سلطة وعجز القوّة العامة عن تنفيذ حكم محكمة بسيط، ومرّ ذلك الحديث واستمع إليه الناس جيدا ورددوه في كل مكان وانتهوا الى ما لا عدّ له ولا حصر من الاستنتاجات المسيئة الى الادارة والسلطة والقوة العامة. وفي نفس الاسبوع، فوجئنا ولاول مرة منذ 7 نوفمبر 1987 بحجز عدد من احدى الصحف الاسبوعية نقلت فيه على مايبدو تفاصيل تصريحات أحد المتهمين في قضية الحوض المنجمي لدى المحكمة. ورغم أنني لم أطلع على تصريحات المتهم، فإنني لا أتصوّر أنّها أخطر أو أكثر تأثيرا على الرأي العام أو إساءة للحكومة ممّا جاء في الحصص التلفزية المذكورة، علما وإنّ قرّاء الجريدة بضعة آلاف فيما مشاهدي التلفزة بالملايين. تتنافس القنوات التلفزية وشركات الانتاج الخاصة على صنف من البرامج يحرج الجميع في نهاية المطاف (تصوّروا موقف ذلك المربي الذي اعترف أمام الملايين أنّه من زواج غير شرعي أمام تلاميذه او ر م ع شركة النقل او رجل الاعمال الخ.. ولكنها تلتقي جميعا في استغلال حاجة الشباب للعمل فتشغلهم في ظروف قاسية وبعقود وقتية وأجور متدنية، فيما هي تكسب الملايين من الدينارات.