استبشرنا خيرا حين تأكدنا أن «اتصالات تونس» غير مسجلة ضمن قائمة الشركات المدرجة في برنامج التخصيص (الخصخصة) لسنة 2009 واعتبرنا ذلك إشارة ضمنية إلى تراجع الدولة التونسية عن بيع نسبة جديدة من رأسمال الشركة الوطنية للاتصالات. وثمّنا هذا القرار الصائب باعتباره اتخذ في الوقت المناسب خاصة وأن الأزمة العالمية مرجحة للتسرب للبلدان النامية عبر الأجزاء المخوصصة من رأسمال المنشآت العمومية بسبب ارتباط الشركاء الأجانب بالاقتصاد العالمي المتأزم . لكننا فوجئنا بقرار السلطة التونسية التي قامت بإصدار طلب عروض دولي خاص باقامة واستغلال شبكة للاتصالات القارة من هاتف وانترنات وتوفير الهاتف الجوال الثاني والهاتف الجوال من الجيل الثالث وهذا القرار معناه ببساطة التفويت في خدمات هي من اختصاص «اتصالات تونس « لصالح مشغل آخر بل يعني كذلك وضع البنية التحتية لاتصالات تونس تحت تصرف هذا المشغل ! مكونات الوضع الاقتصادي العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي استفردت الولاياتالمتحدةالأمريكية بالعالم وأحدثت أنظمة عالمية في المجال الاقتصادي والسياسي والثقافي على مقاسها و مقاس الشركات العالمية الكبرى الدائرة في ركابها و كلفت مؤسساتها التجارية و المالية كصندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية بصياغة تشاريع و قوانين تمكنها من اضفاء طابع الشرعية الدولية على سياسة النهب التي تفرضها على بلدان العالم كافة وتساعدها بالتالي على سحق كل نفس اقتصادي وطني يسعى إلى الدفاع عن مقدراته الوطنية . إن ما يعيشه العالم من أزمة سببه طبيعة هذا النظام الاقتصادي العالمي المبني على قاعدة «الربح بكل الأثمان» و لو كلف ذلك أرواح ملايين البشر .إن هذا النظام الاقتصادي الذي بلغ أعلى درجات الشراسة و الجشع يتخبط حاليا في أزمة هيكلية أي مرتبطة بالمبادئ التي يرتكز عليها و آليات العمل التي يعتمدها وهذه الأزمة أفقدت التحاليل الاقتصادية المدافعة عن العولمة بريقها و كشفت زيف الادعاءات التي يطلقها الخبراء الاقتصاديون الزاعمة أن النظام الاقتصادي العالمي الجديد يهدف إلى الرفع من نسبة التشغيل و تطوير اقتصاديات البلدان النامية و تمكينها من آخر الابتكارات التكنولوجية في حين أن الارتباط بعجلة آلة النهب العالمية الرهيبة لم يخلف للشعوب سوى انتشار الحروب وارتفاع نسبة البطالة و تفاقم الفقر و المجاعة و فقدان الأمن و الاستقرارو غير ذلك من الأوبئة الاجتماعية. خيارات التفاعل مع الأزمة العالمية استغلت العديد من البلدان هذا الارتباك داخل المعسكر الاقتصادي الليبرالي لتعلن تملصها من توجهات المؤسسات المالية العالمية و تقرر اتخاذ سياسة حمائية من ضمنها التراجع عن السير في نهج الخصخصة . وكان في اعتقادنا أن الفرصة أصبحت مواتية لتتخذ الدولة التونسية اجراءات حمائية تنقذ بها ما تبقى من القطاع العمومي و خاصة الاستراتيجي منه كقطاع الاتصالات، إلا أننا فوجئنا بقرار التفويت في خدمات الهاتف القار و الجوال من الجيل الثاني و الثالث و الانترنيت لفائدة مشغل ثالث أقل ما يقال فيه أنه أفضل منا تكنولوجيا . وفي هذه الوضعية يحق لنا أن نطرح التساؤلات التالية : كيف تسمح الدولة التونسية أن تتناقض مع نفسها و مع مصالحها أليست اتصالات تونس هي جزء من وزارتها؟ أليست هي أحد الأركان الكبرى للاقتصاد التونسي ؟ أليس من دور الدولة حماية مؤسساتها من المنافسة التي تسيء بالمصالح الوطنية ؟ إن الذي يحصل مثير للاستغراب . لماذا تقوم الدولة بتوفير امتيازات استثنائية للمشغل الثالث كأن تمكنه من وضع البنية التحتية ل «اتصالات تونس» تحت تصرفه بل أكثر من ذلك تمكنه من امتيازات و تحرم منها «اتصالات تونس» وإلا لماذا نحرم من تسويق خدمة الجيل الثالث من الهاتف الجوال لمدة سنة أو ربما أكثرمن ذلك ؟ لماذا تقوم الدولة بمثل هذه المخاطرات التي لا يمكن إلا أن نتنبأ مسبقا بأنها ستؤدي إلى إفلاس «اتصالات تونس» بسبب اختلال موازين القوى في مجال المنافسة؟ يقول المسؤولون أن تمكين شركات أجنبية كبرى من هذه اللزمة يغنينا عن التكفل بتوفير تجهيزات تتطلب نفقات كبيرة، و نحن نجيبهم بأن توفير التجهيزات المتطورة من طرف هذا المشغل الثالث (بعد تونيزيانا) سيزيحنا من السوق حتما نظرا لارتباطنا بإرث تكنولوجي محدود ليس من السهل التخلص منه و تعويضه بتجهيزات في مستوى المنافسة. ألم يكن من الأجدر تطوير تكنولوجيتنا تدريجيا و تحسين شبكة الهاتف القار وذلك بتكثيف المشاريع الكبرى حتى تتمكن هذه الشبكة من استيعاب التكنولوجيات الحديثة؟ و يقول المسؤولون كذلك أن مثل هذا المشروع سيوفر عددا كبيرا من مواطن الشغل. و نحن نقول أليس تحسين وضعية الأعوان الذين أفنوا حياتهم في خدمة الشركة و تعزيز المؤسسة و تطعيمها بأعوان جدد أفضل من إحداث مواطن شغل جديدة لآلاف الأعوان مقابل طرد أعوان «اتصالات تونس» الذين قد يفوق تعدادهم عدد مواطن الشغل الجديدة؟ إن هذا الأمر محير فعلا !! ألا تعلم الدولة التونسية أنها تمكن المشغل الثالث من كل الآليات و الامتيازات التي تساعده على خنق مؤسستنا الوطنية والإجهاز عليها؟ المطروح تجاوز الأخطاء لا تكرارها ألسنا بصدد تكرارخطإ تمكين شركة « تونزيانا « من امتيازات كان معلوم مسبقا أنها لن تؤدي سوى إلى انهزام «اتصالات تونس» في سباق المنافسة . ألم يمكّن قرار إيقاف نشاط «اتصالات تونس « في مجال بيع خطوط الهاتف الجوال لمدة سنة كاملة خلال انطلاق عمل شركة «تونيزيانا» في بلادنا من افتكاك مركز الصدارة من شركتنا و بلوغ درجة المنافسة حاليا إلى حد خطير يهدد مستقبل « اتصالات تونس» ؟ كيف تريدون أن نصدق صيحات الفزع التي يطلقها بعض المسؤولين الناجمة عن قلقهم من المكانة التي أصبح يتمتع بها المشغل الثاني، (تونيزيانا)؟ وكيف نصدق ذلك ونحن نرى أن نفس أولائك المسؤولين يتخذون قرار منح امتياز للمشغل الثالث يفوق في خطورته ما منح للمشغل الثاني ذلك أن الوثيقة الاعلامية التي أصدرتها الدولة التونسية بشكل مواز مع صدور طلب العرض الدولي تمنع « اتصالات تونس « من تسويق خدمة بيع الهاتف الجوال من الجيل الثالث لمدة سنة كاملة (وربما لمدة أطول من ذلك) ونحن من جانبنا نتساءل، بعد سنة من تسويق المشغل الثالث لهذه الخدمة هل ستتمكن «اتصالات تونس» من اللحاق به و منافسته؟ التجارب السابقة تجيب بالنفي. إن الخيار الصائب هو العمل على تزويد «اتصالات تونس « بالتكنولوجيا المتطورة دون التفويت في خدمات المؤسسة للمشغل الثالث إذا كان القرار السياسي يسعى فعلا إلى دعم المؤسسات العمومية الوطنية وحمايتها لكن ما يجب التنبيه إليه هو أن مجرد التخلي عن سياسة دعم المؤسسات الوطنية و تبني نهج التفويت يسقطنا بالضرورة في منزلقات و قرارات تتعارض مع المصالح الوطنية ذلك أن قيامنا بإغراء الشركات العالمية للاتصالات للاستثمار في بلادنا في مجال الهاتف القار مثلا يفرض علينا إبقاء هذه الشبكة على حالة المحدودية التي هي عليها حتى يشعرالمشغل الثالث بأنه ستتوفر له فرص تحسين الخدمات لكي يضمن المرابيح التي استثمر من أجلها . إن اتخاذ قرار بيع الخدمات يدفعنا للبحث عن أرفع سعر و السعر المرتفع هذا لا يمكن الحصول عليه إلا متى يتم توخي سياسة تعطيل أي برنامج تطويري لخدمات «اتصالات تونس» في ذلك المجال، وإلا لماذا نحرم من تسويق خدمة الوايماكس ؟ و لماذا لم تبلغ خدمات ال ADSL إلى حد الآن المستوى المرغوب فيه؟ إن سياسة التفويت تعطي ظاهريا الانطباع بأنها تنعش الخزينة الوطنية بمبلغ مغر لكنها في الواقع تدفع الدولة في اتجاه التخلي عن المرابيح السنوية التي كانت تجنيها من خدمات «اتصالات تونس» و تدفعها إلى اتخاذ اجراءات تحول دون تطوير المؤسسة. قد يقال لنا أن إدارة «اتصالات تونس» ستعد العدة لإطلاق حملة تطويرية للمؤسسة مباشرة بعد التعرف على المشغل الثالث، لكننا نصطدم بقيود تمويلية أوجدناها بأنفسنا بعد بيع 35 من رأسمال الشركة و دخول الشريك الاستراتيجي الذي اشترط في العقد الذي يربطنا به أن لا تتجاوز نسبة الاستثمار لفائدة المؤسسة 10 من رقم المعاملات في الوقت الذي كانت تصل نسبة الاستثمار قبل هذا الوقت حتى إلى 40. وبعد كل هذا هل نأخذ بمحمل الجد ماتروجه إدارة اتصالات تونس من أنها ستوفر مستلزمات المنافسة كافة ؟ وما رأي المسؤولين لو يقوم المشغل الثالث بتسويق خدمة المكالمات القارة عبر الانترنيت بأسعار زهيدة لن نقدر على منافستها ؟ هل ينتبه المسؤولون إلى أن إطلاق أيدي الشركات العالمية للعمل في مساحاتنا لن نجني منه سوى المفاجآت غير السارة والتي قد نجد فيها أنفسنا عاجزين على حماية مؤسستنا و الدفاع عن مصالحنا المهنية والوطنية. لو أردنا تلخيص مستقبل « اتصالات تونس» لقلنا بأننا سنكون في مجال المنافسة بين المطرقة والسندان، مطرقة المشغل الثالث و سندان «تونيزيانا « التي يجب أن نقرأ لها ألف حساب، فهذا المشغل الثاني بدأ يستعد لمجابهة المشغل الثالث و قد أعد خطة تقضي بتوسيع نشاطاته والارتباط أكثر بنشاط المؤسسات (كالارتباط بالشركة الوطنية للكهرباء والغاز لتقديم خدمة رفع عداد الكهرباء إلكترونيا بفضل تونيزيانا) ونحن ماذا أعددنا؟ و في الأخير نقول أن موضوع بمثل هذه الخطورة لا يجب التعامل معه من طرف السلط المعنية بالتكتم و إخفاء الحقائق، بل المطروح وضع كل الحقائق على الطاولة حتى يتمكن الطرف النقابي، انطلاقا من مسؤوليته الوطنية الإسهام في معالجة هذا الملف، فالموضوع لا يحتمل التفرد بالرأي ولا التأجيل، والقضية ليست اقتصادية بحتة بل سياسية واجتماعية و اقتصادية وتخص كل فرد من أفراد المجموعة الوطنية. محمد نجيب القلال كاتب عام النقابة الأساسية