«إن الأصل في الإنسان هو الحرية وان الرّقّ عارض» بمثل هذا الرأي أجمل الشيخ « الحنفي محمد بيرم الخامس» خلال منتصف القرن التاسع عشر رؤية الإيالة التونسية لمسألة الرّقّ أو استعباد الإنسان. ولعل مثل هذه الرؤية ومثل هذا المناخ الفكري والعقدي السائد إضافة إلى النزعة التحرريّة والرغبة في الانفتاح على الغرب الأوروبي لدى حاكم تونس المشير الأول أحمد باشا باي ( 1837-1855م ) هو ما دفعه للسير في طريق لم تسبقه إليه حتى أعتى الديمقراطيات والملكيات في العالم ، فقد بادر وألغى العبودية بشكل نهائي في تونس سنة 1846 قبل الإعلان العالمي الصادر في لندن سنة 1848 ذاك الإعلان الذي نصّ على إلغاء الرق، فقد كانت تنازع المشير رغبة حادة في ربط عهده بميلاد الإنسان التونسي المسلم الجديد إذ كان مولعا بالتمدن والتفرنج بشكل لم يخفَ لا على المحيطين به ولا على الفاعلين الرئيسين في عهده، فقد كان يتطلّع إلى بناء الإنسان التونسي القادر على التأقلم مع ما يعرض لحياته -في انفتاحها على الغير - من مستجدات. وفي إطار سعيه الإصلاحي عمد أحمد باي إلى التمهيد لإلغاء العبودية عبر منعها على مراحل، فأذن أوّلا بهدم المحل المخصّص لبيع وشراء العبيد واستقبال التجار، ثم أمر بالترفيع في المكوس (الضرائب) المستوجب دفعها على قوافل الرقيق، إلى أن منع سنة 1841 هذه التجارة نهائيا في كل الأسواق ومنع تصدير العبيد من الأراضي التونسية ثم منع بعد سنة واحدة استيراد البشر لاسترقاقهم واصدر أمرا باعتبار كل عبد يدخل التراب التونسي بأية طريقة حرّا طليقا، ومن اجل إنفاذ هذا الأمر سعى إلى جمع علماء الدين ليسبغوا على مبادرته شكلها الشرعي، كما جمع رجالات الدولة للمشاركة بالرأي والإنارة ، فاتفق بين يديه شيوخ المالكيّة مع شيوخ الحنفيّة على ضرورة العدول عن ممارسة تقليد فضيع أباح امتلاك الرقاب، واستعبد بموجبه الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا،. واثر هذا الاتفاق بين العلماء تطلّع الباي إلى سنّ قانون يجرّم العبودية ويستند إلى الفقه باعتباره الدعامة في تصريف شؤون الناس، و قد أوردت بعض كتب التاريخ انه بعد إلغاء بريطانيا للرق سنة1833 تأسست بها سنة 1839 جمعية «تحرير العبيد « التي كان لها تأثير واضح في اقناع الكثير من الدول الأوروبية بالأمر، وفي هذا الاطار زار قنصل بريطاني تونس في 29 افريل سنة 1841 بهدف اقناع احمد باي بفكرة إلغاء الرق ومساوئ الاستعباد فأدهشه أن لم يجد في قصر هذا الباي الحاكم أي اثر للعبيد وازدادت دهشته أكثر عندما وجد أن المشير مقتنع تمام الاقتناع بما يطرحه عليه من أفكار مستجدّة. ففي تلك الفترة وان استجابت دول كفرنسا وتركيا لأهداف إنشاء جمعية تحرير العبيد فإن دولا أخرى كثيرة قد تبطأت في إلغاء تجارة العبيد الى حدود سنة 1863 كالولايات المتحدةالأمريكية، بل إن بعض الدول العربية كالمملكة العربية السعودية انتظرت حتى الستينات من القرن العشرين لتحرّم العبودية ولازالت دول أخرى كموريتانيا تناضل إلى اليوم من اجل إلغاء ممارسات اجتماعية تبيح الاسترقاق، وهنا تظهر ريادة تونس في انتباه حكامها منذ اكثر من قرن ونصف لضرورة تامين سعادة البشر عبر إقرار تساويهم تجاه حق الحرية وذلك انطلاقا من منظومة فكريّة تعلي من شان الإنسان الفرد بل هي تستشرف ملامحه المستقبلية المقامة على اقرار العدالة، واعتبار جميع الناس متساوون في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن لونهم او عرقهم وتواصل هذا الفكر في تونس الحديثة مع قيادات الجمهورية المستقلة سواء في فكر الزعيم الخالد الحبيب بورقيبة أو من خلال افكار ورؤى النظام القائم اليوم.