سعيد يشدد على ضرورة وقوف العالم الإسلامي صفا واحدا نصرة لفلسطين    تونس تشارك في المعرض الدولي 55 بالجزائر (FIA)    استعدادات لانجاح الموسم الصيفي    استرجاع مركب شبابي بعد اقتحامه والتحوّز عليه    برنامج تعاون مع "الفاو"    مع الشروق .. خدعة صفقة تحرير الرهائن    العدوان على غزّة في عيون الصحف العربية والدولية.. حماس في موقف قوة و كل اسرائيل رهينة لديها    الاعتداء على عضو مجلس محلي    اليوم الدخول مجاني الى المتاحف    لتحقيق الاكتفاء الذاتي: متابعة تجربة نموذجية لإكثار صنف معيّن من الحبوب    بنزرت الجنوبية.. وفاة إمرأة وإصابة 3 آخرين في حادث مرور    تدشين أول مخبر تحاليل للأغذية و المنتجات الفلاحية بالشمال الغربي    هند صبري مع ابنتها على ''تيك توك''    شيرين تنهار بالبكاء في حفل ضخم    تونس العاصمة : الإحتفاظ بعنصر إجرامي وحجز آلات إلكترونية محل سرقة    وفاة 14 شخصا جرّاء فيضانات في أندونيسيا    أخصائيون نفسيّون يُحذّرون من أفكار مدرّبي التنمية البشرية    بداية من الثلاثاء المقبل: تقلبات جوية وانخفاض في درجات الحرارة    غدا الأحد.. الدخول إلى كل المتاحف والمعالم الأثرية مجانا    4 ماي اليوم العالمي لرجال الإطفاء.    عاجل/ أحدهم ينتحل صفة أمني: الاحتفاظ ب4 من أخطر العناصر الاجرامية    روسيا تُدرج الرئيس الأوكراني على لائحة المطلوبين لديها    صفاقس :ندوة عنوانها "اسرائيل في قفص الاتهام امام القضاء الدولي    عروضه العالمية تلقي نجاحا كبيرا: فيلم "Back to Black في قاعات السينما التونسية    إنتخابات الجامعة التونسية لكرة القدم: لجنة الاستئناف تسقط قائمتي التلمساني وبن تقية    قاضي يُحيل كل أعضاء مجلس التربية على التحقيق وجامعة الثانوي تحتج    الرابطة الأولى: برنامج النقل التلفزي لمواجهات نهاية الأسبوع    نابل: انتشار سوس النخيل.. عضو المجلس المحلي للتنمية يحذر    منع مخابز بهذه الجهة من التزوّد بالفارينة    بطولة الكرة الطائرة: الترجي الرياضي يواجه اليوم النجم الساحلي    عاجل/ تلميذة تعتدي على أستاذها بشفرة حلاقة    لهذا السبب.. كندا تشدد قيود استيراد الماشية الأميركية    الثنائية البرلمانية.. بين تنازع السلطات وغياب قانون    القصرين: حجز بضاعة محلّ سرقة من داخل مؤسسة صناعية    هام/ التعليم الأساسي: موعد صرف مستحقات آخر دفعة من حاملي الإجازة    القبض على امرأة محكومة بالسجن 295 عاما!!    "سينما تدور".. اول قاعة متجوّلة في تونس والانطلاق بهذه الولاية    التوقعات الجوية لليوم    فتحي عبدالوهاب يصف ياسمين عبدالعزيز ب"طفلة".. وهي ترد: "أخويا والله"    قتلى ومفقودون في البرازيل جراء الأمطار الغزيرة    بطولة القسم الوطني "أ" للكرة الطائرة(السوبر بلاي اوف - الجولة3) : اعادة مباراة الترجي الرياضي والنجم الساحلي غدا السبت    الرابطة 1- تعيينات حكام مقابلات الجولة السادسة لمرحلة التتويج    كأس تونس لكرة القدم- الدور ثمن النهائي- : قوافل قفصة - الملعب التونسي- تصريحات المدربين حمادي الدو و اسكندر القصري    رئيس اللجنة العلمية للتلقيح: لا خطر البتة على الملقحين التونسيين بلقاح "أسترازينيكا"    القصرين: اضاحي العيد المتوفرة كافية لتغطية حاجيات الجهة رغم تراجعها (رئيس دائرة الإنتاج الحيواني)    المدير العام للديوانة يتفقّد سير عمل المصالح الديوانية ببنزرت    فيلا وزير هتلر لمن يريد تملكها مجانا    إنه زمن الإثارة والبُوزْ ليتحولّ النكرة إلى نجم …عدنان الشواشي    حجز 67 ألف بيضة معدّة للإحتكار بهذه الجهة    بطولة افريقيا للسباحة : التونسية حبيبة بلغيث تحرز البرونزية سباق 100 سباحة على الصدر    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    قرعة كأس تونس 2024.    التلقيح ضد الكوفيد يسبب النسيان ..دكتور دغفوس يوضح    دراسة صادمة.. تربية القطط لها آثار ضارة على الصحة العقلية    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    العمل شرف وعبادة    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الانعكاسات النفسية للعولمة أو أممية رأس المال ...ومذبحة العمال القاسية
نشر في الشعب يوم 23 - 12 - 2006

لا نجانب الحقيقة ان قلنا اليوم ان هناك سيلا اشبه بالطوفان في الادبيات التي تتحدث عن موضوع العولمة، اذ لم يعد الامر يقتصر على مساهمات الاقتصاديين وعلماء السياسة او المهتمين بالشؤون العالمية بل تعدى الامر ذلك ليشمل مساهمات الاجتماعيين والفلاسفة والاعلاميين والفنانين وعلماء البيئة والطبيعيين... لأن قضية العولمة لها من الجوانب والزوايا الكثيرة ما يثير الاهتمام لدى كل هؤلاء.
ولكن وسط هذا الكم الهائل من الكتابات عن العولمة، يكاد المرء يحار في كيفية الالمام بهذا الموضوع او فهم حقيقته خاصة وان كل كاتب عادة ما يركز تحليله على جانب معيّن من العولمة، مثل الجانب الاقتصادي والاجتماعي او الثقافي او السياسي او الاعلامي... لهذا اصبح يوجد الان ما يشبه التخصص في تناول قضية العولمة. ومن النادر ما نجد مرجعا محترما يتناولها من جميع جوانبها من دون ان يكون ذلك على حساب المستوى العلمي او العمق في التحليل بيد ان كتاب «هانس بيتر مارتن» و «هازالد شومان» «فخ العولمة» الذي تولى تعريبه كل من د. عدنان عباس علي ود. رمزي زكي في مجلة عالم المعرفة في عددها قبل الاخير، يجيء استثناء في هذا المجال، لانهما استطاعا بجدارة ان يحيطا بقضية العولمة من جوانبها المختلفة ومن خلال رؤية عميقة موسوعية، واعية وذات نزعة انسانية، خلافا لمقاربات التكنوقراط والاقتصاديين الذين افسدوا علينا فهم القضية من خلال طابعهم الدعائي والسطحي الذي استمت به معظم كتاباتهم.
من الزاوية العلمية المعمقة وانطلاقا من النزعة الانسانية لهذا النوع من الكتابات عن العولمة، ترسم لنا هذه الاخيرة صورة المستقبل بالعودة الى الماضي السحيق للرأسمالية.
فبعد قرن طغت فيه الافكار الاشتراكية والديمقراطية ومبادئ العدالة الاجتماعية، تلوح الان حركة مضادة تقتلع كل ما حققته الطبقة العاملة والطبقة الوسطى من مكتسبات، وليست زيادة البطالة وانخفاض الاجور وتدهور مستويات المعيشة، وتقلص الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة، واطلاق آليات السوق، وابتعاد الحكومات عن التدخل في النشاط الاقتصادي وحصر دورها في «حراسة النظام» وتفاقم التفاوت في توزيع الدخل والثروة بين المواطنين... كل هاته الامور ليست في الحقيقة الا عودة الى الاوضاع نفسها التي ميزت البدايات الاولى للنظام الرأسمالي إبان مرحلة الثورة الصناعية 1750 1850 وهي امور ستزداد سوءا مع السرعة التي تتحرك بها عجلات العولمة المستندة الى الليبرالية الحديثة.
وتبدو قتامة المستقبل الذي سيكون صوره أفضع من الماضي المتوحش للرأسمالية في بداية شبابها، اذ سيكون خلال هذا القرن 20 من سكان العالم، الذين يمكنهم العمل والحصول على الدخل والعيش، اما النسبة الباقية 80 فستمثل السكان الفائضين عن الحاجة الذين لن يمكنهم العيش الا من خلال الاحسان والتبرعات واعمال الخير.
وفي ضوء التوحد الذي اصبح يجمع بين اصحاب رؤوس الاموال بشكل لافت للنظر،فان هناك ما يمكن تسميته «بأممية رأس المال». فهم يهددون بتهريب رؤوس اموالهم ما لم تستجيب الحكومات لمطالبهم مثل منحهم تنازلات ضريبية سخية وتقديم مشاريع البنية التحتية لهم مجانا والغاء او تعديل التشريعات التي كانت تحقق بعض المكاسب للعمال والطبقة الوسطى مثل قوانين الحد الادنى للاجور ومشروعات الضمان الاجتماعي والصحي واعانات البطالة وخصخصة المشاريع العامة وتحويل كثير من الخدمات العامة التي كانت تقوم بها الحكومات، لكي يضطلع بها القطاع الخاص، وإضفاء الطابع التجاري عليها.
وقد ساعد انهيار النموذج الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي وفي دول وسط وشرق اوروبا على انتشار هذه الاممية لرأس المال التي لم تعد تعبأ بأي شيء عدا الربح.
ولئن يعتبرمنظرو العولمة ذات الاتجاه الليبرالي المغرق في التطرف بأنها اي العولمة من قبيل الحتميات الاقتصادية والتكنولوجية الشبيهة بالاحداث الطبيعية التي لا يمكن ان يقف احد في وجهها، فان هذه العولمة في الحقيقة ما هي الا نتيجة حتمية خلقتها سياسات معينة بوعي وارادة الحكومات والبرلمانات التي وقعت على القوانين التي طبقت السياسات الليبرالية الجديدة وألغت الحدود والحواجز امام حركة تنقل السلع ورأس المال، وسحبت المكاسب التي حققها العمال والطبقة الوسطى والانتهاء بالتوقيع على اتفاقية منظمة التجارة العالمية (الات) التي ستتولى توقيع العقوبات على من لا يذعن لسياسة حرية التجارة.
ففي كل هذه الامور كما تلاحظون لم تكن هناك حتميات لا يمكن تجنبها، بل ارادات سياسية واعية بما تفعل، وتعبر عن مصلحة الشركات دولية النشاط.
ويزعم غلاة العولمة ان هذه الاخيرة قد أدت الى انصهار مختلف الاقتصاديات الوطنية والاقليمية في اقتصاد عالمي موحد، بعد ان صار العالم سوقا واحدة، واصبحت التجارة العالمية في نمو مطرد يستفيد منه الجميع بعد ان غدا العالم قرية كونية متشابهة ينمو ويتلاحم بجميع أجزائه وخاصة بعد الدور الذي لعبته الاقمار الصناعية وشبكة الانترنات ومختلف اشكال ثورة الاتصال.
وفي هذا السياق لابد من التأكيد على ان الامر لا يبدو كذلك عدا التوحد التلفزيوني الذي يربط بين من يعيشون في افريقيا وآسيا وكاليفورنيا وعدا بضع مدن تتركز فيها وسائل الصناعة الحديثة والتقنيات العالية، ويتصل ببعض وبالعالم الخارجي اكثر من اتصاله بالبلاد التي ينتمي اليها، اي ان حقيقة الامر تعكس فيما تعكس وجود الجزء الاعظم من العالم يتحول الى جزر منفصلة والى عالم بؤس وفاقة، ويكتظ بالمدن القذرة والفقيرة، اضافة الى ان المساعدات التنموية التي كانت تعطى للبلدان النامية قد اصبحت في خبر كان، ولا سيما بعد انتهاء الحرب الباردة وموت حوار الشمال والجنوب ودخول الدول النامية النفق المسدود للمديونية الخارجية.
بل إنه مع نمو العولمة، يزداد تركز الثروة، وتتسع الفروق بين البشر والدول اتساعا لا مثيل له ان يوجد على سبيل المثال 359 «ملياردير» في العالم يمتلكون ثروة تضاهي ما يملكه 5،2 مليار من سكان المعمورة اي ما يزيد قليلا من نصف سكان العالم وان هناك 20 من دول العالم تستحوذ على 85 من الناتج العالمي الاجمالي وعلى 78 من التجارة العالمية ويمتلك سكانها 85 من مجموع المدخرات العالمية، وهذا التفاوت القائم بين الدول يوازيه تفاوت اخر داخل كل دولة، حيث تستأثر قلة من السكان بالشطر الاعظم من الدخول الوطني والثروة القومية في حين تعيش أغلبية السكان على الهامش.
وهذا التفاوت الشاسع في توزيع الدخل والثروة سواء على الصعيد العالمي او على الصعيد المهني، لم يعد في نظر غلاة العولمة بالامر المزعج بل بات مطلوبا في حلبة التنافس العالمي الضاري.
وبالتالي فإنه مع تسارع عمليات العولمة، اصبحت بعض المصطلحات والمفاهيم النقدية في ظل عمليات التحرير هذه، غير خاضعة بالمرة للسلطة النقدية المحلية (البنك المركزي).
فعمليات دخول وخروج الاموال، على نطاق واسع وبالمليارات، تجري في ومضات سريعة على شاشات الكومبيوتر وعلى نحو يجعل السلطة النقدية تقف عاجزة عن الدفاع عن اسعار الصرف واسعار الفائدة واسعار الاوراق المالية في البورصات. وهكذا تحول العالم الى رهينة في قبضة حفنة من كبار المضاربين الذين يتجارون بالعملات والاوراق المالية، مستخدمين في ذلك مليارات الدولارات التي توفرها البنوك وشركات التأمين وصناديق الاستثمار الدولية وصناديق التأمين والمعاشات. والاغرب من ذلك كله انه لا توجد اي سلطة محلية او عالمية لمحاسبة هؤلاء او حتى ردعهم، وهكذا تتحول الدعوة الى الانتفاح على السوق النقدية والمالية العالمية الى ايديولوجية صارمة يجب ان يخضع لها الجميع والا فقانون الغاب سيتكفل بالعقاب، وكل دول العالم تقريبا اخذت تحت تأثير الضغوط التي تمارسسها المنظمات الدولية في تطبيق سياسية الانفتاح المعولمة.
وبطبيعة الحال، فقد برزت ظاهرة على غاية من الخطورة ولها علاقة وثيقة بالعولمة وتتعلق بالنمو المطرد للبطالة وما ينتج عنها من تقلص في قدرة المستهلكين واتساع دائرة المحرومين. فتحت تأثير الركض المحموم وراء الارباح المرتفعة التي اصبحت تتحقق في الاسواق النقدية والمالية، راحت جميع القطاعات تتنافس وتتصارع من اجل خفض كلفة الانتاج.
وكان التنافس ضاريا والضغط شديدا على عنصر العمل للوصول ببند الاجور الى أدنى مستوى ممكن، ولم يعد الامر مقتصرا على اصحاب البدلات الزرقاء الذين أبعدوا عن اعمالهم بعد ان حلت الالات الحديثة والمتطورة مكانهم في مواقع الانتاج المادي، بل امتد الامر ليشمل ايضا اصحاب الياقات البيضاء، حيث تولت عمليات اعادة هندسة عنصر العمل والاستخدام الموسع لأجهزة الكومبيوتر، مهمة الاستغناء عن عشرات الالاف من الوظائف والمهن التي يقوم بها هؤلاء وكانت «مذبحة العمال قاسية» جدا في البنوك والشركات.
ولئن ساد الخطاب الداعي الى تلازم التنمية بالديمقراطية في ظل العولمة، فان هذا التلازم في رأيي ليس حتميا دائما على اعتبار ان الديمقراطية التي يجري الدفاع عنها الان، والتي تستند اليها العولمة، اي الديمقراطية التي تستوجب السوق. ما هي الا ارهابا وآليات تدافع وتحمي مصالح الاثرياء والمتفوقين اقتصاديا.
وتضر بالعمال والطبقات الوسطى التي بدأت تتساقط كالذباب في صنف «البروليتاريا» المسحوقة. مقابل اشتداد التنافس بين كبار الرأسماليين في العالم بما مهد لظهور ما يمكن تسميته «بصفوة الرأسمالية» التي اعلنت ولادة العولمة كاديولوجيا احادية يمكن ان تغزو العالم بأسره.
الوجه الاكثر بشاعة للعولمة (الحرب)
وهنك وجه اكثر بشاعة للعولمة او للامبريالية باعتبارها أعلى مراحل الرأسمالية، هذا الوجه البشع يتعلق بالحروب وبالابادة وما الى ذلك من جرائم ضد الانسانية بهدف السيطرة على مدخرات الشعوب والهيمنة على ثرواتها والعمل على تفتيت مقومات نهضتها العلمية والتكنولوجية والعسكرية، ولو توقفنا في هذا السياق على نوعية تعاطي العرب بصورة خاصة مع العدوان على العراق، لوجدنا ان ثماني منها معرضة وفق القانون الدولي الى المحاكمة بتهمة المشاركة في جريمة الحرب، بل ان العرب بحكم وعيهم التاريخي الزائف في هذا الزمان والمتمثل في الاعتقاد باختفاء الدور العربي منذ انهارت الدولة الاسلامية المركزية في القرون الثلاثة الاولى للهجرة قد شطبوا اكثر من الف عام من تاريخهم.
ذلك ان تكوين وعي تاريخي موضوعي يتطلب بالضرورة النظر الى الامر باعصاب هادئة. اذ ان التاريخ عملية تطور وسيرورة تمر بها اية امة في مراحل على خط غير مستقيم اي ان السيرورة لابد ان تتخللها مراحل وتراجعات وانكفاءات وأدوار مختلفة وهي بذلك اي السيرورة ليست تقدما صاعدا مستمرا.
فبعد سقوط بغداد، يبقى السؤال من الزاوية النفسية يبحث عن اجابة شافية عبر مقاربات النخبة والانتلجنسيا، اي ان الدور المطلوب رهنا يستوجب تجاوز هذه الصدمة بفعل الرفض وعدم القبول بها وان الاقتناع بما حصل لابد ان يكون موصولا بضرورة التفكير العميق في الذي جرى.
ان النكسة التي اصابت المواطن العربي لا تعود الى سقوط بغداد، لان هذه الاخيرة انطلقت من ظاهرة الازمة المحددة في الزمن، ذلك ان الذي حصل هو نتاج تراكمات تاريخية تعود الى سقوط الدولة العثمانية، اي ان خسارة العرب بدأت منذ انهيار هذه الخلافة، وهو وضع متواصل ومتمظهر في كل مرحلة بشكل مختلف.
لابد اذن للنخبة والانتلجنسيا ان تقطع اللعب بالعواطف، وان تعمل على صياغة برنامج نهضة يمتد على قرن او قرنين كما انها مطالبة الان بوضع اسس لهذا البرنامج وتصور فضاء جغراسياسي وثقافي بإمكانه ان يضمن امننا وهويتنا ومستقبل الاجيال القادمة.
ومن الناحية النفسية لابد من تغيير في مستوي العقليات بمعنى لابد ان ننتقل من تخيل البطل المنتصر باعتباره تخيل كاذب الى حقيقة واقعنا كأمة مضطهدة مطلوب منها ان تدافع عن نفسها مع القناعة بأن العدو يبقى دائما بالمرصاد لها.
ولسائل ان يسأل: ما هي العوارض والظواهر المرضية التي قد يصاب بها المواطن العادي جراء ما حصل؟
في هذا السياق يقول الدكتور زهير الهاشمي الاخصائي في علم النفس بمستشفى الرازي: ما يمكن ان نتخيله هو انه سيكون هناك اشتداد الشعور بالاهانة وسيتراكم هذا الشعور بنقص الثقة، وهو امر خطير خاصة وانه سيكون ذا بعد ازدواجي على المستوى الذاتي وعلى المستوى المهني، بمعنى انه ما يهددنا هو انهيار في احلامنا كل احلامنا وطموحاتنا بفعل ان صدام حسين رسّخ في صفوف المواطنين العرب غير العراقيين نوعا من الامل تبين في نهاية الامر كونه ليس الا خيانة!! فالشعب العربي وفي سواده الاعظم لا يفكر في ان العراق كان بإمكانه ان يكسب الحرب. ولكنه بإمكانه الفوز بشرف المعركة. بمعنى ان العرب لم يكونوا ليقبلوا بالهزيمة الا باستشهاد صدام حسين مثلا باعتباره كان يجسد صورة البطل ورمز الشهادة من اجل الكرامة العربية. ولكن ما حصل هو انه لم يكن الا مجرد انسان له حسابات اي انسان عادي.
واذا كانت تأثيرات الحرب على العراق كأداة عملية للعولمة وللامبريالية مباشرة، فان الانعكاسات النفسية للعولمة لا تبدو مباشرة اذ تمر حتما عبر تشخيص الحالة الاجتماعية طبقيا لتبين ما مدى تأثير التفككات التي اصابت البنية النفسية الاجتماعية.
وقبل الخوض في الانعكاسات النفسية للعولمة وتأثيراتها على الافراد والمجموعات، يجدر بنا التأكيد على ان علم نفس الاعماق سيساعدنا على فهم انفسنا لتحقيق شرعيتنا ولتنمية شخصيتنا وتطويره كي نتجاوب بشكل موضوعي مع الكون ومع الاخرين.
ويمكن تطبيق هذا العلم الحديث والمدهش في مختلف النشاطات البشرية خاصة وانها يساهم في ارساء قواعد علم الاخلاق والسلوك الحديثين.
وبطبيعة الحال يعتبر علم النفس التحليلي «البسيكاناليز» من بين طرائق العلاج النفسي الاكثر قدرة وفعالية.
اذن هذه الانعكاسات اثرت على البنية النفسية للافراد وللمجموعات، من حيث انها ولدت لدى شرائح واسعة حالة من الاغتراب الفكري والمادي اي حالة من الشقاء التي لا ترتبط فقط بالطبيعة الخاطئة للرغبات الانسانية، بل تعمل على عرقلة وصول الانسان الى السعادة من حيث انها نتيجة الصراع الجدلي بين الطبيعة الانسانية بكل مكوناتها النزوية الاولية وبين متطلبات العيش المشترك والحضارة وما تفرضها من قيود على تحيق تلك النزوات.
ونعود الان الى الانعكاسات السلبية للعولمة على نفسية الافراد والمجموعات. وهذه الانعكاسات تفرض وجوبا كما ذكرت سابقا التطرق الى جملة من المسائل الاقتصادية والاجتماعية باعتبارها مقومات اساسية في تحقيق التوازن النفسي والاجتماعي، اي انه مقومات وشروط تحدد مدى قدرة الفرد والمجموعة على تلبية حاجياته الاساسية.
وان كانت الانعكاسات الاجتماعية على مستوى الشغل والعلاقات الشغلية وقوانين الشغل تدركونها بحكم مواقعهم في العملية الانتاجية وبحكم التزامكم النقابي الذي يتيح لكم الاطلاع على خصائص المشكلة، فاني في هذا السياق سأحاول التعرض أولا الى حجم مديونية الاسر التونسية ثم ثانيا الى ظاهرة الزواج باعتبارها احدى الموشرات الدالة على تحقق الفرد ماديا واجتماعيا ونفسانيا وثالثا مقاربة ظاهرة الهجرة السرية لدى الشباب واخيرا نحاول الاجابة عن السؤال الأهم وهو: هل ان مجمل الاوضاع التي افرزتها العولمة تجعل من الفرد او المجموعة اليوم تحقق ذاتها وتعيش السعادة بالمعنى المطلق لهذه الكلمة.
حجم ديون العائلات التونسية
في الظاهر، تشير كافة المؤشرات ان العائلة التونسية، قد تحسنت من عديد الجوانب الحياتية.
فنسبة 20 من الاسر اصبحت تملك سيارة خاصة و33 منها تملك آلة غسيل و 5،37 تملك هاتفا بالمنزل وبات 45 من العائلات التونسية تتعامل مع مشترياتها وحاجياتها عبر التقسيط وذلك بفعل اعادة تشكل البنية الذهنية والنفسية للافراد عبر الاستهلاك كأهم ميزة من ميزات الانظمة الرأسمالية.
ولكن اللافت للانتباه ان العائلات التونسية تسعى للتداين لاسباب حيوية في الغالب الأعم، مثل توفير السكن والسيارة والتجهيرات المنزلية وتوفير المستلزمات الدراسية للابناء. فخلال الفترة الفاصلة ما بين شهر نوفمبر 2002 وشهر جوان 2003 بلغت نسبة ديون العائلات التونسية 5،2 مليار دينار موزعة على النحو التالي:
5،1 مليار لتمويل المسكن
9،0 مليار دينار لتغطية المصاريف العامة
1،0 مليار دينار لتمويل شراء السيارات ومواد البناء والتجهيز
وعلى مستوى الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية بع عدد القروض نحو 85 الف قرض خلال سنة 2002 بقيمة مالية قدرها 666،53 مليار!!
ومن جانبه أوضح البنك المركزي وجود 500 الف تونسي في وضعية اقتراض بما يمثل 22 من حجم الاجور المقدرة ب 5،11 مليار دينار خلال سنة 2002 وحدها.
واذا اخذنا هذه المؤشرات من زاوية اخرى، يصبح من الواضح ان العائلة التونسية لا يمكنها برمجة مقتنياتها بصفة منتظمة ومسبقة ذلك ان 47 من العائلات التونسية غير منتظمة في مصاريفها الشهرية الخاصة بالاغذية التي تستحوذ على قرابة 40 من المصاريف الجملية لكل عائلة.
وبات واضحا ايضا ان 25 من المشتريات المخصصة للباس تسبب الخلافات داخل الاسر، رغم ان 70 من الاسر التونسية تقتني حاجياتها من الالبسة من «الفريب» وهذه الارقام وحدها تكشف حالة من النزيف في ميزانيات العائلات التونسية التي تواجه ضغوطات عديدة بحكم عدم التوازن بين الاجر والاسعار وتكشف جملة من اسباب تفكك النظام الاسري والاجتماعي والقيمي.
فالاجر باعتقادنا لا يمكن ان يحدد انطلاقا من هذه المعادلة، بل انطلاقا من اعادة الاعتبار للعديد من الوظائف ثم لابد ان تحدد من قيمة الانتاج الذي يقدمه الفرد داخل حقل نشاطه.
اذ لا يمكن ان نتصور على سبيل المثال أجر لاعب كرة قدم يفوق مائة مرة أجر الاستاذ الجامعي او الطبيب!!
فهذا الانقلاب في القيم الوظيفية وما صاحبه من تراجع مذهل في القدرة الشرائية من ناحية ومن انحدار مخيف داخل السلم الاجتماعي من ناحية اخرى، قد خلقا حالة من الاحباط الجماعي والضغط النفسي واسع الدائرة فانعكس بدوره على الجانب الصحي العضوي والنفسي وعلى العلاقات الاجتماعية وبصورة عامة على منظومة الاخلاق داخل المجتمع، فبات العديد يشتغل وظيفتين وتفشت ظاهرة الارتشاء والعنف وتفكك العلاقات الاجتماعية والقيمية التقليدية.
المجتمع التونسي يدخل الالفية الثالثة وأكثر من نصفه أعزبا
يبدو ان تأثيرات العولمة على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية كانت كبيرة وذات فاعلية قوية، حيث استطاعت تفكيك البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية القديمة واستبدلتها ببنى اخرى فرضت انماطا جديدة من العلاقات الاجتماعية مرتكزة على قيم البراقماطية والنفعية ضاربة في العمق الاحلام الجماعية ومنظومة الوجدان والعاطفة التي كانت الى وقت غير بعيد متجاوزة للجانب المادي الصرف.
ولو نتطرق ايضا الى قضية الزواج او العزوبية او الطلاق ونحاول استقرار بعض الارقام والمؤشرات فسنلمس بالاساس الملامح الاولى او التمظهرات الخارجية لعلاقة الانثى بالذكر على مستوى بناء المؤسسة العائلية.
فنسبة المتزوجين من الذكور سنة 1994 التي وصلت الى 1،54 نجدها تقهقرت الى حدود 0،49 سنة 2001 وكذلك نفس الشيء تقريبا بالنسبة للاناث حيث تراجعت النسبة خلال نفس الفترة من 5،54 سنة 1994 الى 6،49 سنة 2001.
ولئن سجلنا استقرارا في نسبة المطلقين من الرجال بين سنة 1994 (4،0) وسنة 2001 (4،0)، فاننا نسجل ارتفاعا في نسبة المطلقات خلال نفس الفترة بحيث ارتفعت من 5،1 سنة 1994 الى 6،1 سنة 2001.
كما نسجل ارتفاعا في نسبة العزوبية لدى الرجال من 4،44 سنة 1994 الى 4،48 سنة 2001 وكذلك نفس الشيء بالنسبة للاناث حيث ارتفعت النسبة من 35 سنة 1994 الى 8،39 سنة 2001.
ولو دققنا اكثر في المعطى المتعلق بالعزوبية لوجدنا ان النسبة المتعلقة بالفئة العمرية ما بين 20 24 سنة قد ارتفعت لدى الشبان من 9،51 سنة 1984 الى 71 سنة 1994، ثم الى 86 سنة 2001.
وقد اصبح هذا الارتفاع اكثر حدة عند الاناث في نفس الفئة العمرية اذ فاقت هذه النسبة ضعف ما كانت عليه سنة 1984 اي من 7،37 الى 54 سنة 2001.
ونسجل ايضا ارتفاعا مذهلا في نسبة العزوبية لدى الشبان من الفئة العمرية ما بين 25 29، حيث تحولت من 71 سنة 1994 الى 3،86 سنة 2001، كما ارتفعت النسبة ايضا وبشكل مذهل لدى الفتيات من نفس الفئة العمرية من 7،37 الى 9،53 سنة 2001.
ومن خلال هذه الارقام فقط، نتبين ان المجتمع التونسي دخل الالفية الثالثة واكثر من نصفه أعزبا!!
وبطبيعة الحال، فإن تطور نسبة التمدرس لدى الفتيان والفتيات، اضافة الى التكلفة الباهضة للزواج عوامل لا يمكن نكرانها اذ لها علاقة ايضا بتأخير عملية الاقبال على الزواج.
غير ان هنالك معطى نفسي واجتماعي بالغ الاهمية وهو ان الفرد الواحد سواء كان من جنس الذكور او من جنس الاناث لم يعد قادرا وحده على تحمل اعباء الاسرة، اضافة الى ان اقتران الانثى بالذكر بات يشترط مقومات مادية اساسية.
لكن تظل المعظلة الاكبر في علاقة التجاذب بين الفتاة والفتى تعود اسبابها الى غياب التربية التي تقرّب عالم الانثى من عالم الذكر منذ الطفولة، والتي تشكل البنية الذهنية لدى الشاب والفتاة على نسق منظومة الاستهلاك وعلى قيم الاخلاق المادية للرأسمالية والتي سهلت هضمها ونحتت صورتها في اللاوعي الجماعي الوسائل السريعة للاتصال مثل الانترنات وهوئيات الالتقاط والنظم التربوية والتعليمية التي تحاكي بصورة تكاد تكون مطلقة برامج صندوق النقد الدولي (التعليم العالي انموذجا).
الهجرة السرية
مازالت ظاهرة الهجرة السرية لم تأخذ حظها كاملا في البحث العلمي والسوسيولوجي وذلك لانها أولا ظاهرة ليست كلية بل هي أخذة في التشكل وثانيا لأن هناك نوع من التعتيم والمصادرة فيما يتعلق بالمؤشرات والارقام المتعلقة بهذه الظاهرة، اضافة بطبيعة الحال الى خصوصيتها المرتبطة بالتخفي والسرية التامة.
غير انه في المقابل هناك بحوث سوسيولوجية جدية انطلقت في دراسة هذه الظاهرة، ولعل اهمها البحث الذي قام به الاستاذ توفيق بورقيبة حول تركيبة شبكات الهجرة السرية وايضا البحث الذي اعده الدكتور مهدي مبروك حول المرجعية الطبقية والاجتماعية للحارقين، وهو بحث ميدني تناول مجموعة من الشبان من حي التضامن ومن احدى قرى الساحل، وقد عكس البحثان المذكوران صورا قاتمة لهذه الظاهرة التي تدفع باتجاه الموت المحدق والاقدام عليه وذلك تطبيقا للمقولة الشعبية «اذا كان الموت لازما، فلماذا يستمر العذاب ويستبد بالبشر».
وقد تبين البحثان ان الذين يقدمون على الحرقان هم شريحة الشباب المعدم ومن الاوساط المفقرة التي تعاني من تفككات أسرية ومن سوابق عدلية في قضايا حق عام على وجه الخصوص.
كما بين البحثان وجود شبكات أجنبية تنسق مع اطراف داخلية في هذا الهجرة السرية، كما بين البحثان ان السواحل التونسية باتت منطقة تهريب واسعة لجنسيات افريقية اخرى.
لكن الشيء الثابت ان 47 من الشريحة العمرية ما بين 20 و 25 سنة تفكر جديا في الحرقة وان زهاء 80 من الاطباء والمهندسين لديهم ايضا مشروع هجرة، وهذه الارقام تؤكد ان الحرقان ستتوسع دائرته ليصبح ظاهرة اجتماعية حقيقية بحكم تزايد حجم الاغتراب والاحباط وفقدان سوق الشغل، بل فقدان أبسط مقومات الحياة الكريمة.
واذا اكد البحثان المذكوران على ان المستوى التعليمي للحارقين بدأ يتطور، حيث ان هناك عددا من هؤلاء من لهم مستوى باكالوريا فانه يصبح من المشروع التساؤل عن مدى انحراف زهاء 450 الف حامل شهادة عليا نحو الحرقان خاصة وان هذا الرقم من حاملي الشهادات العليا ومن العاطلين عن العمل يمثلون 7 من مجموع العاطلين في تونس ويشهدون تنافسا شديدا على سوق الشغل لا تحترم فيه أبسط حقوق العمل والتشغيل؟!
ان ظاهرة الحرقان يمكن ان تشمل بصورة أوسع شريحة الفتيات ايضا بحكم تطور نمط الحياة وبحكم ايضا الالتزمات المادية والاجتماعية التي جعلت من هذا الجنس مسؤولا على تحقيق العديد من الاحلام ومن الواجبات ايضا.
بؤس الواقع ووهم الحلول
ان حالة التوتر الدائم والضغط النفسي الواسع ومناخات الاغتراب الفردي والاجتماعي، بقدر ما اثرت على البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية فانه اثرت ايضا على الناحية الصحية في بعديها الجسدي والنفسي.
فالعديد من الامراض التي كانت ترتبط بالشيخوخة اصبحت تصيب الشبان مثل امراض ارتفاع ضغط الدم وامرض السكري وامراض القلب والشرايين.
ولو دققنا اكثر في توزيع المرض المزمن حسب الجهات لوجدنا ان اعلى نسبة توجد في الشمال الغربي 5،17 من السكان تليها منطقة الوسط الشرقي 8،16 في حين ان الجهات الاقل اصابة هي الجنوب بكامله.
وبطبيعة الحال، فان الامراض الجسدية لها علاقة وطيدة بالامراض النفسية، بل اننا نجد من بين الاسباب الجوهرية للأمراض العضوية هي الامراض النفسية، ويكفي التدليل ههنا على وجود 7 الاف عيادة جديدة سنويا في مستشفى الرازي وحده!!
ودون الدخول في تفاصيل الامرض النفسية وتصنيفاتها، فانه لابد من الاشارة الى ان اكثر الشرائح التي تعاني منها هي شريحة المثقفين وخاصة رجال التعليم الذين انهكهم الوعي بالواقع واضر بهم ذلك الصدام بين الاحلام والمتغيرات.
ويبقى السؤال مطروحا: كيف يمكن تحقيق السعادة للأفراد والمجموعات على ضوء هذه التغيرات التي افرزت حالات من الاغتراب والتوتر والضغط النفسي وجملة من الامراض المزمنة التي كانت في السابق توصف بكونها أمراض شيخوخة؟
وقبل الاجابة عن هذا السؤال، لابد من التأكيد على ان الناس يريدون ان يكونوا سعداء وان يبقوا كذلك، ولهذا الطموح وجهان: أي هدف سلبي وهدف ايجابي.
انهم يريدون من جهة تجنب الالم وتحاشي الحرمان من الفرح، وينشدون من جهة ثانية المتع والملذات العارمة.
واذا كان الانسان ينشد اللذة، فلا شك انه يصادف في سعيه هذا عقبات تعيق تواصل بحثه، بحيث انه غالبا ما يضطر الى التخلي، تحت ضغط احتمالات الشقاء والالم، عن الجانب الايجابي من البحث عن اللذة، مكتفيا قدر الامكان بالتخلي عن الالم، وسرعان ما يحدث لمبدأ اللذة نفسه ان يتحول الى مبدأ الواقع.
ان السعي الايجابي الى السعادة بالحصول على اللذة محدود منذ البداية بحكم تكوين الفرد البيولوجي وارتباطه بجهازه النفسي، وما يسمى بالسعادة بالمعنى الضيق انما ينجم عن اشباع فوري لحاجيات ملحة شديدة الوطأة ولكنها مؤقتة بطبيعتها، واذا كانت السعادة محدودة اساسا بحكم التكوين الداخلي للفرد وبالظروف الخارجية، فان الالم، بالعكس، يهدد الانسان باستمرار وهو يأتي من ثلاث جهات.
من الجسم بالذات المحكوم عليه بالفساد والانحلال ومعاناة القلق والآلام.
من العالم الخارجي الذي يثور على الفرد ويهاجمه بأقسى وسائل الدمار.
من علاقات الفرد بالناس والآخرين، وهي علاقات اكثر ألما من اي شقاء اخر.
وهنا، نتساءل ما هي اساليب الاحتماء من الالم والشقاء والقلق والمعاناة والدمار؟
1) اللجوء الى تغيير وجهة الليبدو بصرف الطاقات البشرية في مجالات اخرى وبتوجيه الغزائز، بحيث لا يعارض العالم الخارجي اشباع هذه الاهداف الجديدة، اي بالتسامي، مثل ان يستمد الفرد سعادته من العمل العقلي او الفكري اقصى ما يمكن من اللذة، لكن نقطة ضعف هذه الطريقة كونها ليست عامة الاستعمال، وانما هي في متناول حفنة قليلة اضافة الى كونها تستوجب استعدادات او مواهب غير متاحة لأغلبية الناس بمقادير فعالة على الاقل، كما انها لا يمكن ان توفر حتى لتلك لنخبة النادرة حماية تامة من الألم، حيث انها تصبح عاجزة حينما يكون مصدر الالم كامنا في جسم الانسان بالذات.
2) مناشدة الجمال والبحث عنه اينما وجد، وهذا الموقف الجمالي المنظور إليه على انه هدف في الحياة لا يوفر لنا الا حماية بسيطة من تهديد المعاناة، ولكنه يعوضنا عن الكثير من الاشياء.
ويمتاز هذا العمل بأنه يربط الفرد بالواقع اضافة الى كونه ضروريا للفرد في محافظته على وجوده داخل المجتمع.
لكن ما الجدوى من هذا العمل وغالبية الناس لا تعمل الا تحت الضغط؟
3) الانخراط في العالم وفي الواقع بروابط عاطفية خاصة روابط الحب والجنس، وهي طريقة تتشبث بقوة النزوع البدائي والجامح الى تحقيق السعادة، اي جعل الحب مركز كل شيء ومصدر اللذة الطاغية، غير ان الحب والحب الجنسي يحمل الكثير من الآلام والعذاب والشقاء، بفعل الغيرة والنزاعات والفشل، اذ ليس اضعف من البشر الا حينما يحب، وليس هناك من هو أشقى حالا من البشر الا عندما يفقد الشخص المحبوب او حبّه.
4) الالتجاء الى المسكرات والمخدرات باعتبار ان هذه المواد تحظى بمفعول هام وبتقدير كبير وعظيم النفع في الصراع من اجل تأمين السعادة وأبعاد شبح التعاسة الى حد ان بعض الافراد، بل شعوبا بكاملها، قد خصوا المخدرات والمسكرات بمكان ثابت في اقتصاد طاقاتهم اللبيدية، لكن غالبية المخدرات تفقد مع استمرار تعاطيها قدرتها على توفير المتعة، بل انها تصبح مسببة للآلام والقلق وتدمير الفرد.
5) مواجهة نزوات الفرد الداخلية ومواجهة قسوة العالم الخارجي، حيث يفضل الزاهد المتدين البحث عن الغاء النزوات بالهروب من المجتمع وقطع اية صلة بواقعه، بل هناك من المتزمتين من يفعل اكثر من ذلك بأن يعيد تشكيل الواقع وبناء واقع اخر بدل الواقع الفعلي، ولكن عندما تحاول مجموعة كبيرة من الزهاد والمتدينين تجريب اقامة مثل هذا الواقع الجديد بالالتجاء الى عالم الاوهام، فإنها سرعان ما تفشل في مصادرة نزواتها الداخلية والحد من تأثيرات العالم الخارجي وتتحول الى درجة من التطرف بعد قضائها على جل الغرائز وفقدان بذلك الحساسية تجاه العالم.
لقد اختبر الناس طرقا عديدة من اجل بلوغ السعادة، منها هو ايجابي غايته تحقيق المتعة ومنها ما هو سلبي غايته تجنب الألم، لكن السعادة بهذا المعنى النسبي تبدو وحدة غير قابلة للتحقيق خاص وان الليبدو يخضع الى العنصر الاقتصادي الذي اتيناه عليه في سياق حديثنا عن العولمة.
لذا، فان نصيحتي لكل فرد هي ان يبحث بنفسه عن الكيفية التي يمكنه ان يصبح بها سعيدا، خاصة وان الامر يتعلق ههنا بكمية الاشباع الحقيقي التي بوسع كل واحد توقعها من العالم الخارجي، وبمدى قدرته على الاستقلال عنه وبالقوة المتاحة له كي يبدله وفق رغباته، ذلك ان التكوين النفسي للفرد هو من الاساس محدد بصرف النظر عن الظروف الموضوعية.
فالانسان الذي يغلب عليه المزاج الشهواتي يضع العلاقات العاطفية مع الاخرين في المقام الاول، بينما يسعى النرجسي، الميال الى الاكتفاء بذاته الى المتع الاساسية التي يسميه حياته الخاصة، في حين لا يتخلى الرجل العملي عن عالم يجد في نفسه القدرة على مواجهته واذا كنتم، بحكم التزامكم النقابي والنضالي من هذا الصنف الاخير، فان أممية رأس المال التي لم تتوقف عن مذبحتها المتواصلة للعمال بإمكانكم مواجهتها وتغيير شكل العالم.
خاصة وان شعار «يا عمال العالم اتحدوا» بات يجد اكثر من مرتكز موضوعي وبات ايضا كالنجمة في الأفق البعيد يرسم أحلاما وحتى أساطير ضرورية لكل تعبئة تهدف الى تغيير الواقع والعالم.
المراجع
النفط والسيطرة دور النفط في التطور الرأسمالي الراهن على الصعيد العالمي ابو الحسن بني صدر دار الكلمة للنشر لبنان.
العام العربي في اطار التقسيم الدولي للعمل مجلة العلوم الاجتماعية عدد خاص ربيع 1983.
الحضارة التقنية الخاسرة اوريوجيارني هنري لوبرجيه دمشق 1983.
الانسان التقني كتور فركس دار الافاق الجديدة بيروت فكر فصلية للدراسات والابحاث باريس 1985 عنف الانسان او العداونية الجماعية فاوستوانطونيني عالم المعرفة عدد 273 عالم المعرفة 274 عالم النفس والنظريات الحديثة فرويدر اخرون بيروت التحليل النفسي وقضايا الانسان والحاضرة د. فيصل عباس دار الفكر اللبناني.
البنوية في علم النفس التحليلي مصطفى صفوان (points) المسح التونسي لصحة الاسرة سبتمبر 2002 دراسات وبحوث لتوفيق بورقيبة ومهدي مبروك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.