رئيس الجمهورية يأذن بعرض مشروع نتقيح الفصل 411 من المجلة التجارية على مجلس الوزراء بداية الأسبوع المقبل    عضو هيئة الانتخابات: حسب الاجال الدستورية لا يمكن تجاوز يوم 23 أكتوبر 2024 كموعد أقصى لإجراء الانتخابات الرّئاسية    تونس حريصة على دعم مجالات التعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ( أحمد الحشاني )    مسؤول باتحاد الفلاحين: أضاحي العيد متوفرة والأسعار رغم ارتفاعها تبقى "معقولة" إزاء كلفة الإنتاج    تونس تشارك في الدورة 3 للمنتدى الدولي نحو الجنوب بسورينتو الايطالية يومي 17 و18 ماي 2024    المنستير: إحداث اول شركة أهلية محلية لتنمية الصناعات التقليدية بالجهة في الساحلين    العثور على سلاح "كلاشنيكوف" وذخيرة بغابة زياتين بجرجيس مخبأة منذ مدة (مصدر قضائي)    الترجي الرياضي يكتفي بالتعادل السلبي في رادس وحسم اللقب يتاجل الى لقاء الاياب في القاهرة    كاس تونس - النجم الساحلي يفوز على الاهلي الصفاقسي 1-صفر ويصعد الى ربع النهائي    الحرس الوطني: البحث عن 23 مفقودا في البحر شاركوا في عمليات إبحار خلسة من سواحل قربة    طقس... نزول بعض الأمطار بالشمال والمناطق الغربية    المنستير : انطلاق الاستشارة لتنفيذ الجزء الثالث من تهيئة متحف لمطة في ظرف أسبوع    اليوم العالمي لأطباء الطب العام والطب العائلي : طبيب الخط الأول يُعالج 80 بالمائة من مشاكل الصحة    قبل أسبوعين من مواجهة ريال مدريد.. ظهور صادم لمدافع دورتموند    بوسالم.. وفاة شاب غرقا في خزان مائي    مهرجان «بريك المهدية» في نسخته الأولى: احتفاء بالتّراث الغذائي المحلّي    عمر الغول.. الولايات المتحدة تريد قتل دور مصر بالميناء العائم في غزة    ملتقى وطني للتكوين المهني    المجلس المحلي بسكرة يحتجّ    منال عمارة: أمارس الفنّ من أجل المال    عاجل/ صفاقس: انقاذ 52 شخصا شاركوا في 'حرقة' وإنتشال 4 جثث    عاجل/ ضبط 6 عناصر تكفيرية مفتّش عنهم في 4 ولايات    النجم الساحلي يمرّ بصعوبة الى الدور ربع النهائي    كأس تونس : النجم الساحلي يلتحق بركب المتأهلين للدور ربع النهائي    تمدد "إنتفاضة" إفريقيا ضد فرنسا..السينغال تُلّوح بإغلاق قواعد باريس العسكرية    القصرين: القبض على شخص صادرة في حقه 10 مناشير تفتيش    الإنتخابات الرئاسية: إلزامية البطاقة عدد 3 للترشح..هيئة الإنتخابات تحسم الجدل    آمر المركز الأول للتدريب بجيش الطيران صفاقس: قريبا استقبال أول دورة للجنود المتطوّعين    قريبا.. الحلويات الشعبية بأسعار اقل    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    قراءة في أعمال ومحامل تشكيلية على هامش معرض «عوالم فنون» بصالون الرواق .. لوحات من ارهاصات الروح وفنطازيا الأنامل الساخنة    شبهات فساد: الاحتفاظ بمعتمد وموظف سابق بالستاغ وإطار بنكي في الكاف    بقلم مرشد السماوي: كفى إهدارا للمال العام بالعملة الصعبة على مغنيين عرب صنعهم إعلامنا ومهرجاناتنا!    المهرجان الدولي للمشمش بحاجب العيون في دورته الثانية ...مسابقات وندوات وعروض فروسية وفنون شعبية    ليبيا: اشتباكات مسلّحة في الزاوية ونداءات لإخلاء السكان    القيمة التسويقية للترجي و الأهلي قبل موقعة رادس    تضم منظمات وجمعيات: نحو تأسيس 'جبهة للدفاع عن الديمقراطية' في تونس    وزيرة الصناعة: مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا فريد من نوعه    هذه القنوات التي ستبث مباراة الترجي الرياضي التونسي و الأهلي المصري    أبو عبيدة: استهدفنا 100 آلية عسكرية للاحتلال في 10 أيام    ألمانيا: إجلاء المئات في الجنوب الغربي بسبب الفيضانات (فيديو)    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    السبت..ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة    ابرام اتفاق شراكة بين كونكت والجمعية التونسيّة لخرّيجي المدارس العليا الفرنسيّة    دار الثقافة بمعتمدية الرقاب تحتفي بشهرث الثراث    بينهم طفلان..مقتل 5 أشخاص نتيجة قصف إسرائيلي على لبنان    داء الكلب في تونس بالأرقام    حلوى مجهولة المصدر تتسبب في تسمم 11 تلميذا بالجديدة    كمال الفقي يستقبل رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    نحو 20 % من المصابين بارتفاع ضغط الدم يمكن علاجهم دون أدوية    جندوبة : يوم إعلامي حول تأثير التغيرات المناخية على غراسات القوارص    حفل تكريم على شرف الملعب الإفريقي لمنزل بورقيبة بعد صعوده رسميا إلى الرّابطة الثانية    الصادرات نحو ليبيا تبلغ 2.6 مليار دينار : مساع لدعم المبادلات البينية    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشيخ محمد الفاضل بن عاشور في ذروة نشاطه السياسي (2/2)
بمناسبة مائويته:
نشر في الشعب يوم 26 - 12 - 2009

ظلّ الشيخ محمد الفاضل بن عاشوردائما متميزا بتنوع نشاطاته الفكرية والاجتماعية والسياسية، وتوجهاته العربية الإسلامية، ونزعته للاستقلال والمبادرة الحرة، فقد اتخذت الجمعية الخلدونية وجهة جديدة عندما تولى الشيخ رئاستها في 9 ماي 1945، وصيرها مركزا مهما للانشطة الثقافية والسياسية وإحياء المناسبات الوطنية والدينية، كما أسس بها معاهد تعليمية جديدة مثل معهد البحوث الاسلامية، ومعهد الحقوق العربي، ومعهد الفلسفة. وصبغ مناهج هذه المعاهد بصبغة روح الجامعة الإسلامية الكبرى (17)، واختار لها محاضرين من مختلف الاتجاهات السياسية من أمثال عثمان الكعاك ومحيي الدين القليبي (الحزب الدستوري القديم) والصادق بسيس وعلي البلهوان (الحزب الدستوري الجديد) وغيرهم.
عند حضوره في الاجتماعات النقابية عام 1946 أساسا لإقناع العمال التونسيين بالانخراط في الاتحاد العام التونسي للشغل، وخصوصا بالانسحاب من الاتحاد النقابي لعملة القطر التونسي، بحيث كان المسؤولون النقابيون الجهويون يستعجلون فرحات حشاد أن يوجه إليهم الشيخ محمد الفاضل ليترأس الاجتماعات النقابية، الأمر الذي جعل الحبيب عاشور يتشبّث بفرضه رئيسا شرفيا لمنظمة الاتحاد العام التونسي للشغل.
(18). وكان نجمه لامعا في جميع الاوساط الشعبية حتى أنه شغل منصب رئيس شرفي لجمعية النادي الافريقي الرياضية (19)، فتصرف كزعيم، وألقى الشيخ محمد الفاضل بقاعة الفتح في باب سويقة يوم غرة مارس 1946، بمناسبة يوم العلم، محاضرة حضرها نحو 500 شخصا داخل القاعة و3000 خارجها، انتهت برفع شعارات وطنية وترديد نشيد »حماة الحمى«. ومن الغد أعيدت التظاهرة في نفس المكان، وخرجت مسيرة وطنية نودي فيها بإستقلال البلاد، وفي 2 ماي 1946 قاد الشيخ وفدا الى الباي محمد الأمين، بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف، احتج لديه على مشاركة الفرنسيين بتونس في الانتخابات التشريعية الفرنسية، وفي يوم الجمعة 4 جوان 1946 خطب الشيخ في اجتماع تلامذة المدرسة الصادقية بقاعة أفراح معهد »كارنو« مؤكدا على عروبة البلاد التونسية وإسلامها. وفي 7 جويلية 1946 عقد الشيخ اجتماعا مع كل من صالح فرحات وأحمد بن ميلاد من اللجنة التنفيذية، والمنجي سليم وصالح بن يوسف من الديوان السياسي، انتهى بالدعوة الى ضرورة التمسك بالسيادة والاستقلال، لأجل تحقيقهما خلال أسابيع لا خلال أشهر وفي ليلة 14 جويلية 1946 ألقى الشيخ محاضرة في المرسى بمقر الحزب الدستوري الجديد في نهج الوزير أمام مئات من الشخصيات السياسية وأعيان البلاد.
وفي 17 جويلية 1946 اجتمع الشيخ بالشبيبة الدستورية بمعية الشيخ الشاذلي النيفر والإخوة الورتاني، لدراسة آفاق العمل السياسي بالبلاد. وفي 9 أوت 1946 أشرف الشيخ محمد الفاضل على اجتماع نسائي بالمرسى حضرته حوالي 250 امرأة، وتولت توجيهه داخل النسوة أخته. كما وقّع الشيخ محمد الفاضل في تلك السنة 1946، باعتباره أحد خمس شخصيات ممثلة للشعب التونسي في ذاته، ومحمد شنيق الوزير الاكبر السابق، ومحمد العزيز الجلولي وزير الاوقاف سابقا، ومحمد بدرة مدير الحجرة التجارية سابقا، وعبد العزيز حسين المستشار لدى جامعة الدول العربية، مع ستة عشر أميرا من امراء البيت الحسيني على كتاب باللغة الفرنسية أصدرته لجنة الدفاع عن المنصف باي خلال تلك السنة بتونس بعنوان »الكتاب الابيض« لتسليط الاضواء على الاحداث التي سبقت خلع المنصف باي والمطالبة بإرجاعه الى العرش (20).
وتزعم الشيخ محمد الفاضل التيار القومي العربي الناشئ بالبلاد التونسية، فأسهم في 22 مارس 1947 في احتفال الحزب الدستوري الجديد بالذكرى الثانية لتأسيس جامعة الدول العربية المعروف بعيد العروبة الثاني، الذي انتظم بالملعب البلدي (ملعب الشاذلي زويتن اليوم) الى جانب كل من صالح بن يوسف والعروسي الحداد وعلي البلهوان والصحبي فرحات واحمد توفيق المدني. فكان يوما مشهودا تألق فيه الشيخ محمد الفاضل وأبرز لجماهير الحاضرين، الذين قدرت أعدادهم بعشرات الآلاف، انتسابهم الى أمة عظيمة هي أمة الإسلام والعروبة، فكان لذلك اثر عظيم في نفوس الشباب، جعلهم ينظمون بنفس الملعب احتفالا ثانيا في 7 أفريل 1947 دعا اليه الاتحاد الإسلامي لمنظمات الشباب التونسي بمناسبة الذكرى الثانية للعيد العالمي للشباب، شارك فيه ما يزيد عن الاربعين جمعية شبابية، فكان ذلك مناسبة جديدة لتوثيق الصلة بين الفئات الشبابية، وإذكاء الشعور الوطني العربي الإسلامي والتفافها حول شخص الشيخ محمد الفاضل بن عاشور. وقد ظهرت اثار هذا الحدث على أعمدة الصحافة التي نعتت الشيخ بزعيم الشباب (21) . كما أشرف الشيخ محمد الفاضل في العام التالي 1948 على الاحتفال الذي نظمته جمعية الاخوان الزيتونيين في قاعة »النورماندي« بالذكرى الثالثة لتأسيس جامعة الدول العربية، حين أحجم الديوان السياسي عن الاحتفال بهذه الذكرى، ربما نتيجة تعليمات وردت إليه من بورقيبة المقيم آنذاك بالقاهرة، والذي يبدو قد نفض يديه من العرب والعروبة.
ومع ذلك فقد غصت قاعة الاحتفال في »النورماندي« بمئات الزيتونيين والشباب المدرسي وغيرهم، وكان ذلك كله مقاومة لفكرة عزل تونس عن أشقائها الأقطار العربية وتحد للحزب الدستوري الجديد (22).
وانسجاما مع انتمائه العربي الإسلامي فقد خدم الشيخ محمد الفاضل القضية الفلسطينية، وألقى عدة محاضرات للتعريف بهذه القضية داخل معهد البحوث الإسلامية التابع للجمعية الخلدونية وخارجه. كما أسهم بنشاط ملحوظ في جهود جمعية الشبان المسلمين لفائدة القضية نفسها ضمن »لجنة الدفاع عن فلسطين العربية« و»فرع المؤتمر الإسلامي بتونس لحماية القدس الشريف« اللذين تم تأسيسهما من قبل تلك الجمعية وقد شملت جهودها مدينة تونس ومختلف المدن والقرى في عموم البلاد التونسية، وذلك بإلقاء الخطب في المساجد ونشر المقالات الصحفية وجمع التبرعات المالية وفتح مكاتب لتسجيل المتطوعين للقتال ضد الصهاينة في فلسطين عام 1948 (23).
الشيخ محمد الفاضل في صراع مع الحزب الدستوري
بلغت نشاطات الشيخ محمد الفاضل بن عاشور في مختلف المجالات الثقافية والسياسية، وبالخصوص تحركاته ذات الصبغة القومية العربية والإسلامية، حدا من عدم الانضباط لسياسة الحزب الدستوري الجديد، وأصبحت استقلالية الشيخ ضربا من الخروج عن خط هذا الحزب ذي النزعة اللائكية والإقليمية التونسية، الأمر الذي بدأ يزعج بعض قادة هذا الحزب.
وتشبث في موقعه من الحزب والنقابة بقناعاته، وظل حريصا على استقلاليته وحريته في التحرك، فزادت شعبيته وعظمت شهرته بأن جمع في فترة قصيرة من الزمن، الى جانب عضويته في الديوان السياسي للحزب ورئاسة الاتحاد العام التونسي للشغل، الرئاسة الشرفية للجامعة العامة للنقابات الفلاحية التونسية، والرئاسة الشرفية لجمعية الدفاع عن شباب المغرب العربي، إضافة إلى عضويته بالهيئات العلمية ومجالسها المنتخبة بالجامع الأعظم والمدرسة الصادقية، ومشاركته في البرامج الثقافية والعلمية والسياسية على الصعيد المغاربي، حيث شارك في توقيع اتفاق بين الاطراف الوطنية التونسية والجزائرية، بهدف توحيد العمل السياسي الكامل بين أقطار شمال إفريقيا لأجل تحقيق الاستقلال والانضمام إلى جامعة الدول العربية والمنظمات العالمية القائمة (24).
لا نستبعد أن يكون حاول زحزحتهما عن مواقعهما الإيديولوجية، وتعبئة عناصرهما القاعدية عن طريق شحنها بفكر قومي عربي وديني إسلامي، لاستعمالها في دفع التنظيمين نحو تبني ايديولوجية أبعد ما يمكن عن الاغراق في اللائكية والإقليمية التونسية وأقرب للانتماء العربي والإسلامي. فضلا عما كان يعرضه الشيخ محمد الفاضل بين الحين والاخر من مشاريع وأفكار تنظيمية في هذا الاتجاه على الديوان السياسي للحزب باعتباره أحد اعضاء تلك الهيئة القيادية، وخاصة تصوراته حول نظام الحكم بالبلاد مستقبلا، والحريات العامة، والديمقراطية، واتجاه البلاد العربي الإسلامي، وعلاقتها بجامعة الدول العربية والمنظمات العالمية.
عندما كلف الحزب الشيخ محمد الفاضل بالالتحاق بالقاهرة في نهاية سنة 1947 ليكون ممثل تونس لدى جامعة الدول العربية، ادرك الشيخ أن الغاية من هذا التكليف هي إبعاده عن ميدان العمل السياسي بتونس، ورفض الاستجابة لهذا الأمر. وكانت النتيجة ان رفته الحزب وخاض حملة لتشويه موقفه. وذلك باتهامه ووالده الشيخ محمد الطاهر بالعمالة والتزلف للسلطة الاستعمارية.
فتأثر الشيخ محمد الفاضل وتوجه باللوم والنقد علنا في خطاب سياسي عقد بمدينة صفاقس الى قادة كل من الحزب والاتحاد، مما جعل الحبيب بورقيبة يراسله من القاهرة ويواسيه ويطيب خاطره، وقد روى الاستاذ حسن المناعي عن محمود شرشور (وهو زيتوني ودستوري) أن بورقيبة بعد عودته من القاهرة في شهر سبتمبر 1949 قد سأله عن الاسباب الحقيقية لمعاداة الشيخ محمد الفاضل، فأجابه شرشور بما يفيد أن جماعة الديوان السياسي غاروا من الشيخ وحسدوه، فرد بورقيبة بأنه كان على يقين من ذلك وأنهم لو تركوه »لأكلهم« (25).
بعد هزيمة العرب في فلسطين عام 1948، ظهر جليا أن الحزب الدستوري الجديد كان لا يولي اهتماما كاف للقضية الفلسطينية، إلا انصياعا لضغط جماهير التونسيين إذا اشتد اندفاعهم لنصرة هذه القضية، ويرى الاهتمام بها ضربا من الانشغال عن القضية الوطنية، التي يجب ان تكون الشغل الشاغل للتونسيين، وأن سياسة الحزب كانت تقوم على خطب ودّ الولايات المتحدة الامريكية رغم مساندتها الصريحة لإسرائيل.
وبذلك برزت مواقف الشيخ محمد الفاضل، ومن ورائه كثير من الزيتونيين، المبدئية من القضية الفلسطينية أقرب لمواقف الحزب الدستوري القديم. الأمر الذي دفع الشيخ محمد الفاضل وجماعة من علماء الزيتونة لليأس من صلاحية الحزب الدستوري الجديد والاتحاد العام التونسي للشغل كإطار للعمل السياسي الوطني، وإلى التفكير جدّيا والعمل سريا في عام 1948 قصد إيجاد تنظيم آخر يستجيب لخصوصياتهم الفكرية العربية الإسلامية، ومبادئهم التي تعتبر أن السياسة أخلاق او لا تكون، وأن شرف الغاية من شرف الوسيلة.
وقد كشفت مصالح الامن الاستعمارية أمر هذا التنظيم، وأشارت الى محمد الشاذلي بن القاضي، صديق الشيخ محمد الفاضل، باعتباره أحد مؤسسيه، ولم يتوصل الى اليوم أحد الى كشف أسماء بقية أعضائه، لكن الاستاذ حسن المناعي أفاد أنه وقف على مسودات الوثيقة الجامعة للقانون الأساسي لذلك التنظيم بخط الشيخ محمد الفاضل نفسه (26). ونحن نلاحظ من خلال تأملنا في الوثيقة المعنية أنها تضمنت النواحي القانونية للجانب التنظيمي لجمعية سرية أطلق عليها اسم »الاتحاد الدستوري الإسلامي« وكذلك الجانب الدستوري لمشروع دولة اسلامية كان مؤسسو الجمعية المذكورة يحلمون بتحقيقه في تونس، ليكون بديلا معاصرا قادرا على أن يعم البلاد الإسلامية كلها، ابتداء بالأقطار المغاربية وصولا إلى قيام الجامعة الإسلامية التي تعمّ العالم الاسلامي كله.
وكان الصدام الثالث بين الشيخ محمد الفاضل بن عاشوروالحزب الدستوري الجديد في عهد الحكومة التفاوضية التي ترأسها محمد شنيق وشارك فيها هذا الحزب، يوم كان كفاح لجنة صوت الطالب الزيتوني على أشده، ذلك أن الحزب، ممثلا بأمينه العام صالح بن يوسف، بدأ يضيق ذرعا بنضال الطلبة الزيتونيين ويقلب للجنتهم ظهر المجن بعد أن كان يدفعها لاتخاذ المواقف الأكثر تطرفا ضد حكومة الكعّاك حتى سقطت، فأخذ الحزب الدستوري الجديد يطلب من لجنة صوت الطالب تجميد نضالاتها اعتبارا لكونها تعطّل الحكومة التفاوضية عن بلوغ الغاية التي جاءت من أجلها، وتعرقل سير القضية الوطنية التي يجب أن تحظى بالأولوية المطلقة.
يتعرض الشيخ للاعتداء بالضرب والسلب مساء يوم 15 فيفري 1951 بينما كان مارا بنهج جامع الزيتونة (المسمى نهج الكنيسة آنذاك)، وهو في طريقه الى باب البحر، مصحوبا بالشيخ محمد المختار بن محمود كاهية شيخ الإسلام الحنفي. وتم ابعاد والده الشيخ محمد الطاهر من إدارة الجامع الاعظم وفروعه في نهاية السنة الدراسية، وكانت تلك الادارة تابعة حينئذ للوزارة الكبرى.
وإزاء هذه التطورات تبيّن للشيخ محمد الفاضل بن عاشور البون الشاسع الذي يفصل بينه وبين أبرز قادة الحزب الدستوري الجديد، هو بمبادئه الاخلاقية التي آمن بها وتربى عليها، وهم بقناعاتهم المكيافيلية التي تقود عملهم السياسي، والتي تجعلهم لا يتورعون عن سلوك كل السبل المتاحة قصد تحقيق غاياتهم. فتعفف الشيخ، وترفع عن مجاراة القوم، وفضل اعتزال السياسة والتفرغ لنشاطه الفكري، رغبة في الحفاظ على الوحدة الوطنية وتجنيب البلاد الدخول في صراعات داخلية لا يستفيد منها الا عدو الجميع وهو الاستعمار الأجنبي. وقد ساعدت الشيخ محمد الفاضل في اتخاذ هذا القرار عدة معطيات تمثلت بالخصوص في فشل التجربة التفاوضية التي خاضتها حكومة شنيق بصدور مذكرة 15 ديسمبر 1951، وعودة الحزب الدستوري الجديد للمعارضة، مما عرض عددا من قادته للسجن والتشريد وقواعده للقمع على يد السلطات الاستعمارية فضلا عن حصول شيء من التقارب، أو بالاحرى هدنة مؤقتة، بين لجنة صوت الطالب الزيتوني وهذا الحزب مع دخول البلاد في المواجهة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي خلال شهر جانفي 1952، وكذلك تولي الشيخ محمد الفاضل نفسه خطة الافتاء المالكي بتاريخ 5 نوفمبر 1953 في عهد حكومة صلاح الدين البكوش (1952 1954) (27).
خاتمة:
إن الشيخ محمد الفاضل بن عاشور لم يكن من أول المشائخ الزيتونيين العاملين في حقل النضال الوطني التونسي، لأن الزيتونيين طلبة ومدرسين وصحفيين وغيرهم كانوا سبّاقين في هذا المجال.
كان خلاف قائم على تباين منهجي وفلسفي في العمل بين الطرفين أساسه الاختلاف في النظر الى المسألتين القومية والدينية، الأمر الذي جعل التفاهم بين الطرفين عسيرا والتعايش بينهما شبه مستحيل. وهو ما يفسّر اندفاع هذا الشيخ إلى اليأس من صلاحية التنظيمين المعنيين كإطارين للعمل السياسي الوطني، وإلى التفكير مع جماعة من علماء جامع الزيتونة عام 1948 في تأسيس جعية »الاتحاد الدستوري الإسلامي« لكن ما يدعو للحيرة والتساؤل فعلا هو عدم نزول هذه الجمعية نزولا فاعلا للعمل السياسي على الساحة الوطنية التونسية (28)، وعودة الشيخ محمد الفاضل نفسه الى العمل مجددا مع الحزب الدستوري الجديد بعد استلام هذا الحزب حكم البلاد التونسية في 1955، وذلك بتولي الشيخ مناصب على جانب كبير من الاهمية وهي: رئاسة دائرة بمحكمة التعقيب في 25 سبتمبر 1956، فعمادة الكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين في 1961، ثم الإفتاء بالجمهورية في 6 أفريل 1962، وقد بقي الشيخ جامعا بين هذين المنصبين الى حدّ وفاته في 20 أفريل 1970.
بقلم: علي الزيدي
كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس
المرجع نفسه، ص 113 116 .
(17) ابن عاشور، نفس المصدر، ص 222.
(18) Kraïem (Mustapha). La classe ouvriére tunisienne et la Lutte de libération nationale (1939 - 1952), Tunis, 1980,p.168.
(19) المناعي، نفس المرجع، ص،122.
(20) الساحلي (حمادي)، »المنصف باي والحركة المنصفية 1942 1948« في:La Tunisie de 1939 à 1945.... نفس المرجع، ص186 187.
(21) المناعي، نفس المرجع، ص 122.
(22) شهادة أبي القاسم محمد كرو أثناء مقابلة لنا معه بتاريخ 1988/3/17 .
(23) التيمومي (الهادي)، النشاط الصهيوني بتونس بين 1897 و1948، التعاضدية العالمية للطباعة والنشر، 1982، ص 192،
(24) المناعي، نفس المرجع، ص 130.
(25) المرجع نفسه، ص 128 130.
(26) المناعي، نفس المرجع،، 134 135.
(27) انظر بشأن ذلك ما ورد في الباب الاول من كتابنا: تاريخ النظام التربوي للشعبة العصرية الزيتونية (1951 1965) منشورات مركز البحوث في علوم المكتبات والمعلومات التابع للمعهد الاعلى للتوثيق، تونس، 1986.
(28) أفادنا الاستاذ أبو القاسم محمد كرو أن هذه الجمعية قد نشطت فعلا بتونس، وأنّه كان عضوا في الجمعية المعنية. وذلك أثناء لقائنا به بتاريخ 2000/10/11.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.