الخبير في المخاطر المالية : الدبلوماسية الاقتصادية في تونس بدأت في التحرك    رياح قوية والحرارة تتراوح بين 23 و35 درجة الأحد ليلا    صفاقس: انقاذ 493 مجتازا للحدود البحرية خلسة وإنتشال جثة آدمية    عيد الأضحى 2024 : دول تحتفل الأحد وأخرى الاثنين    عاجل : اجتماع ثنائي تونسي ليبي برأس الجدير    اجتماع تونسي ليبي لبحث إعادة فتح معبر رأس الجدير    وزيرة التربية تؤكد تلقي عديد الملفات المتعلقة بشبهات فساد مالي وأخلاقي    جربة : نجدة وإنقاذ شخصين على متن مركب صيد ترفيهي    عاجل : العثور على جثة مذيع فقد في جزيرة يونانية    إيران تعلن إقرار 6 مرشحين للرئاسة واستبعاد أحمدي نجاد مجددا    هل يخفّض البنك المركزي نسبة الفائدة المديرية في الوقت الراهن: محلّل مالي يوضّح..    مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الضحايا..#خبر_عاجل    الحماية المدنية: 5 حالات وفاة خلال ال24 ساعة الأخيرة    إحداث 276 نقطة حراسة بالشواطئ وتعيين 152 عون إشراف لحراسة الشواطئ    المنستير: الإحتفاظ بمنظمي عمليات إجتياز للحدود البحرية خلسة    هل يخفّض البنك المركزي نسبة الفائدة المديرية في الوقت الراهن ؟    معرض صفاقس الدولي الدورة 58 من 21 جوان الى 7 جويلية    تطور جديد.. تحرك قضائي من عمرو دياب ضد "شاب الصفعة"    كوريا الشمالية تستأنف رمي جارتها الجنوبية ببالونات "القمامة"    مباراة تونس و ناميبيا اليوم الاحد : الساعة و القنوات الناقلة    عاجل : إحباط عملية صيد بالكيس الممنوع في قابس    أخبار النجم الساحلي .. الجمل يواصل والجلاصي تحت الضغط    بعد موسم استثنائي ...شبيبة العمران في «الناسيونال»    قرمبالية: أهالي جبل طريف يطالبون بالماء الصالح للشراب    مرياح على باب الرحيل ...الطالبي تحت «رادار» الترجي وبن عبدة في البال    السعودية تبعد 300 ألف شخص من مكة لعدم حملهم تصاريح الحج    أشهر عالم آثار مصري يرد على بلاغ مقدم ضده    بوسالم.. حريق يأتي على 13 هكتارا من صابة الحبوب    بتهم فساد مالي واداري.. بطاقة إيداع ضد الرئيسة السابقة لبلدية حلق الوادي    الشركة التونسية للبنك STB ...مؤشرات مرضية وآفاق واعدة    الفنان وليد الصالحي يعلن عن تنزيل اغنية جديدة    قيس سعيّد خلال لقائه برئيس هيئة الانتخابات ...يجب احترام كل أحكام العملية الانتخابية    الصحة العالمية تدعو للاستعداد لاحتمال تفشي وباء جديد    على متنها 261 حاجا: الوفد الرسمي للحجيج التونسيين يغادر في اتجاه البقاع المقدسة    غدا ناميبيا تونس: المنتخب الوطني يختتم التحضيرات واللقاء دون حضور الجمهور    وزارة الداخلية توفّر الحماية لمربي الماشية    يوم 10 جوان.. انطلاق موسم الحصاد بمعتمديتي بلطة بوعوان و فرنانة    نقطة بيع الأضاحي بالميزان في وادي الليل و هذه التفاصيل    سعيّد والدبيبة يتباحثان إعادة فتح معبر رأس جدير    طقس: بعض الامطار المتفرقة بعد الظهر على المناطق الغربية بالشمال والوسط    موعد جديد لنزال تايسون و'اليوتوبر' جيك بول    رئيس الجمهورية يثير مجددا ملف الشيك دون رصيد    الفلبين: تحظر واردات الدواجن من أستراليا لهذه الأسباب    جندوبة تحتفل باليوم العالمي لسلامة الأغذية تحت شعار "تأهّب لغير المتوقع "    محمد كوكة أفضل ممثل في مسرحية كاليغولا بالمسرح البلدي بالعاصمة    علي مرابط يشيد بدور الخبرات والكفاءات التونسية في مجال أمراض القلب والشرايين    مريم بن مامي: ''المهزلة الّي صارت في دبي اتكشفت''    قبلي: انطلاق فعاليات المنتدى الاقليمي حول فقر الدم الوراثي بمناطق الجنوب التونسي    تشيلسي يتعاقد مع مدافع فولهام أدارابيويو    الإعلان عن موعد عيد الاضحى.. هذه الدول التي خالفت السعودية    موعد صيام يوم عرفة...وفضله    تطاوين : بدء الاستعدادات لتنظيم الدورة السابعة للمهرجان الدولي للمونودراما وإسبانيا ضيف شرف    تصفيات مونديال 2026 : فوز مصر والسودان .. وخسارة الجزائر    اكتشاف السبب الرئيسي لمرض مزمن يصيب الملايين حول العالم    هند صبري تلفت الأنظار في النسخة العربية لمسلسل عالمي    مُفتي الجمهورية : عيد الإضحى يوم الأحد 16 جوان    عاجل/ قرار قضائي بمنع حفل "تذكّر ذكرى" المبرمج الليلة    اليوم رصد هلال شهر ذي الحجة 1445    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جدل يتواصل الى اليوم : هل حرّر بورقيبة الاسلام أم غيّر معالمه؟!
نشر في حقائق أون لاين يوم 15 - 01 - 2014

صدرت مؤخرا الطبعة الثانية من مؤلف" بورقيبة والاسلام: الزعامة والامامة" عن دار الجنوب للنشر لصاحبه الكاتب الصحفي لطفي حجي الذي حاول النبش في أحد أكثر الجوانب تعقيدا في تاريخ "المجاهد الأكبر" وهي رؤيته للمسألة الدينية وموقعها صلب المنظومة الاجتماعية وهياكل الدولة،و التي ظلّت حتّى يومنا هذا محلّ جدل وسجالات عقيمة ، تداخل فيها الموضوعي بالأيديولوجي والتاريخي بالدوغمائي ممّا استوجب إعادة تدارس هاته الاشكالية بتؤدة ورصانة بعيدا عن الغوغاء واللغط و رمي الكلام على عواهنه استنادا إلى أحكام مسبقة أوأفكار مؤدلجة توارثها المخيال الجمعي.
ويعدّ لطفي حجي من الباحثين القلائل المهتمين بالمسائل المتعلقة بسيرورة تطور الفكر الديني في تونس سيما خلال الفترة المعاصرة والراهنة وقد كانت له عديد المشاركات في ندوات علمية وملتقيات فكرية وثقافية نشر البعض منها في كتابات جماعية وعلى أعمدة الصحف والمجلات.
وعلى الرغم من مرور زهاء عشر سنوات عن صدور الطبعة الاولى من هذا الكتاب ، إلاّ أنّ الاشكاليات التي أماط الكاتب حولها اللثام مازالت قائمة حيث عادت بقوة غداة الثورة لتطفو على سطح المماحكات الدائرة داخل المجلس الوطني التأسيسي وفي الاوساط الاعلامية والأكاديمية والجمعياتية لتؤكد حتمية التسريع في حسمها عاجلا لا آجلا بغية المضي قدما في ماهو أهم من قضايا ومطالب واستحقاقات ولدت من رحم الحراك الثوري للشعب التونسي.
أهمية الكتاب تكمن في المقاربة التفكيكية التي انتهجها الكاتب من خلال نفض الغبار عن النصوص الأصلية-التأسيسية لفلسفة بورقيبة وتصوّره لمكانة الديني في البناء الاجتماعي وذلك بحثا عن حقائق ولو نسبية، كانت قد ضاعت في غياهب القراءات الفجّة والتحاليل السطحية المغرقة في ترهات التمشي الايديولوجي السمج والتوظيف السياسوي الهدّام الذي أفرز تشويها مقصودا في أحيان عدّة لتاريخ البورقيبية خاصة في علاقة بالقضايا الحارقة والشائكة والمتشعبّة التي سعى لطفي حجي إلى إستبطان ماهيتها وكنه مقاصدها متسلحا في ذلك بأدوات التحليل السيكولوجي والانتروبولوجي الذي رام من خلاله تكشّف النسق الذهني والدافع النفسي الذي كان يحرّك بورقيبة في مساره الاصلاحي المرتكز على الاجتهاد والتأويل كمطيّة لمقاومة التخلّف والتعاطي الماضوي مع المسائل الحياتية المرتبطة بالاسلام كدين وعقيدة ومنهاج.
وفي ما يلي نصّ الحوار الذي أجريناه مع لطفي حجي حول مضمون كتابه "بورقيبة والاسلام:الزعامة والامامة" والاستنتاجات التي توصّل إليها والتي قد تمثل صدمة حقيقية لعبدة الاصنام السياسية وهواة تشويه التاريخ وتزيييفه خدمة لأغراض ومصالح مقيتة.
هل من مبرر لاعادة طرح اشكالية علاقة بورقيبة بالاسلام اليوم؟
يمكن أن نتحدث في هذا الصدد عن مبررين اثنين على الأقل. المبرّر الأوّل هو أنّ بورقيبة اصبح تراثا مشتركا بالنسبة لجميع التونسيين، وبالتالي يحتاج تاريخه إلى إعادة القراءة بعيدا عن التضخيم والتمجيد أو التخوين.
انّ بورقيبة أثّر في الشعب التونسي بدرجات مختلفة وهذا يتجلى في مسائل عدّة من قبيل التعليم ونمط العيش والاختيارات السياسية. لهذا ليس من الصدفة أن نجد اسلاميا مثل الحبيب المكني يقول لك نحن نشأنا في المدرسة البوقيبية وهو ما جعلنا نكون أقرب إليها منها إلى الزيتونة. وقال المناضل اليساري نورالدين بن خذر رحمه الّله والذي قضى حوالي 10 سنوات في سجون الحقبة البورقيبية: نحن الابناء الشرعيون لبورقيبة، وهو مايعني أنّ الثقافة التي نهل منها كانت بورقيبية رغم أنّه كان في خلاف سياسي معه.
الجانب الثاني الذي يبرّر هذا الطرح هو أنّ علاقة بورقيبة بالاسلام لم تكن قط عادية حيث لم يساير ماهو سائد من أفكار ومواقف وفتاوى وقناعات تجاه الدين الاسلامي.
وانّما منذ اليوم الاول للاستقلال حاول تغييرها ممّا أثار ردود أفعال كبيرة في مجملها كانت سلبية اذا تحدثت عن عداوته للاسلام وقد وصل الامر إلى حدّ تكفيره.
واذا اردنا ان نتحدث عن الزمن الحاضر بعد ثلاث سنوات من الثورة، فانّنا نقول انّ هذه المبررات مازالت قائمة لانّنا لاحظنا أنّ القضايا التي طرحها بورقيبة وقتئذ عادت لتطفو على سطح النقاشات من جديد سواء في الفضاءات المجتمعية أوصلب المجلس الوطني التأسيسي وكذلك في الفضاء العام فنحن الان نشهد سجالات حول تنظيم المساجد وترشيد وحيادية الخطاب الديني.
كلّ هذه القضايا تحتاج إلى الحسم من اجل ارساء الديمقراطية المنشودة.
السقوط في القراءات الايديولوجية والسياسوية التي أشرت إليها، إلى اي حدّ في اعتقادكم خلّف التباسا تاريخيا في موضوع الفلسفة البورقيبية ازاء المسألة الدينية؟
من المؤكد أنّها أفرزت التباسا تاريخيا ان لم نقل التباسات لاعتبار رئيسي وهو أنّ الذي يقرأ قراءة ايديولوجية عادة ما ينطلق بأفكار مسبقة دون أن يطّلع على النص الاصلي للخصم.
على سبيل المثال السائد عن موقف بورقيبة من الاسلام والكثير من التونسيين يردّدونه شفاهيا دون الرجوع إلى الخطابات الاصلية أنّه كان معاد للدين الاسلامي. لكن عندما تقوم بالنبش في حقيقة هذه المقولة تكتشف أنّ الرجل كانت له علاقة بالاسلام. كيف كانت هذه العلاقة ؟
هنا تصبح المسألة محلّ جدال واختلاف بين المقيّيمن. ان بورقيبة اراد أن يوظّف الاسلام في سياقاته المختلفة وأنا بينت في الكتاب كيف أن هذا التوظيف تباين بين الفترة التي سبقت الاستقلال والمرحلة التي تلته.
ففي فترة الاستعمار لم يدخل بورقيبة في صدام مع الاسلام السائد بل وظّفه لكي يعطي للتونسيين شحنة كبيرة لمقاومة المستعمر وللتضحية وللجهاد، لذلك كان هناك نوع من التناغم بينه وبين الفهم السائد للاسلام آنذاك.
بعد الحصول على الاستقلال اختلف هذا التوظيف حيث بدأ بادخال بعض الاراء التي كان يرى أنّها ضرورية لتغيير العقليات السائدة تجاه الاسلام وسنّ العديد من القوانين المتعلقة بالاحوال الشخصية والقضاء والتعليم التي أرادت أن تستلهم الافكار الاسلامية بغية توظيفها في معركة التنمية والتي كان يسميها الجهاد الاكبر.
وكان يعتبر حتّى نوعا من القياسات مع الرسول صلّى الله عليه وسلم وهذا يتجلى في قوله "عدنا من الجهاد الاصغر إلى الجهاد الاكبر" واستعماله لهذه المصطلحات لم يكن عفويا البتة بل كان المقصود منه الاستلهام من عمق الثقافة السائدة التي يفهمها التونسيون والمسلمون جميعا.
فهل يعني هذا التحوّل في التعاطي البورقيبي مع الاسلام أنّه كان ميكيافيليا؟
هو تعاط فيه نوع من الميكيافيلية بمعنى التوظيف الذي يستمدّ قيمته من اللحظة التاريخية التي يعيشها المجتمع.
فالناس يريدون معرفة حقيقة هل أنّ بورقيبة كان متبنيا للاسلام أم أنّه كان معاديا له؟ والمسألة لا تطرح بهذه الطريقة.
لقد كان لبورقيبة قراءته الخاصة للدين الاسلامي.
ماهي أبرز مميزات وخصائص هذه القراءة الخاصة للاسلام؟
لقد كان يسعى إلى توظيف عديد الايات والمراحل القوية في تاريخ الاسلام والتي حقّق فيها المسلمون انتصارات باهرة جعلت أنوار دينهم وعلومهم تشرق بشكل لافت وذلك قصد استغلالها كدافع لنهوض الأمّة.
على سبيل الذكر كان بورقيبة يستعمل كثيرا من الايات التي تحثّ على العمل والتدبروالتغيير واستعمال العقل.
ربّما كان بمعنى من المعاني انتقائيا في تعامله مع الاسلام حيث كان ينتقي بعض الافكار والمواقف والقراءات المفيدة لشؤون المسلمين. يمكن القول انّ بعض منتقديه وخصومه لم يستحسنوا هذه الرؤية للاسلام ممّا حدا بهم للتهجم عليه. صحيح أنّ بورقيبة عندما اراد توظيف قراءته للاسلام بالغ أحيانا في المضي قدما إلى الأمام واستفزاز مشاعر المسلمين مثلما حدث في قضية الصوم التي تعدّ الثغرة الاكبر في علاقته بالاسلام بسبب تجاسره على ركن من أركان الدين الاسلامي.
لهذا كان احتجاج المسلمين عليه كبيرا باعتبار أنّه شرب كأس عصير في شهر رمضان.
بورقيبة بهذه البراغماتية أو الميكيافيلية التي تحدثت عنها تراجع في ظرف أشهر معدودات وقال "أنا لم اقل ان الصوم ليس بفرض" مؤكدا على أنّه فرض واجب سيبقى حتّى قيام الساعة.
كان ذلك بعيد ظهور موجة احتجاجات من المسلمين سواء في الداخل أو في الخارج فضلا عن المقربين منه الذين عاتبوه على هذا الصنيع. انّ قراءات بورقيبة للاسلام لم تخل من المبالغات والاستفزاز أحيانا لكن كلّ هذه الثغرات يجب ان لا تحجب عنّا رؤية الجوانب الاخرى التي ارادها أن تكون مطية لتوظيف الاسلام في اتجاه معركة التنمية.
توظيف بورقيبة للاسلام ألا ترى أنّه يعكس تناقضا غريبا في شخصيته. فهو من جهة يرنو إلى فصل الدين عن السياسة بيد أنّه في المقابل يوظّف الدين لمآرب سياسية محضة؟
بالنسبة إلى قصّة المتناقضات بين الفكر والممارسة، بورقيبة لم يكن يعرها اهتماما لانّه يعتبر نفسه بصدد تقديم قراءة يحتاجها المسلمون والتونسيون بالاساس لتغيير نظرتهم إلى الاسلام.
لكن اذا اردنا أن نتعمق في هذا الموضوع، يمكن أن نتعرض إلى تناقض رئيسي كنت قد أشرت إليه في خاتمة الكتاب، وهو اذا ما رمت تقديم رؤية عصرية أو حداثية للدين فعليك ان تحدّد علاقته بالدولة.
لا يمكن لرجل السياسة أن يضطلع في نفس الوقت بدور ديني وسياسي مزدوج. كان على بورقيبة مثلا أن يؤسّس هيئة أو مجلسا مستقلا عن الدولة يسهر على رعاية شؤون الاسلام وتطوير أفكاره حتى تبقى سائدة على مرور الزمن.
كلّ هذا لم يحدث حيث كان هناك نوع من احتكار الدين الذي يمكن أن نعنونه بمفهوم "دولنة الدين" بحيث تشرف الدولة على الدين وهي التي تعيّن الايمة وتحدّد الخطب الدينية والرئيس يعتلي المنابر لتقديم نوع من الدروس الدينية سيما في الاعياد والمناسبات ذات الطابع الديني مثل المولد النبوي الشريف.
التداخل الانف ذكره أعاق الرؤية البورقيبية عن التطور والتواصل ايضا لانّنا لاحظنا أنّه بمجرد الانقلاب على بورقيبة تغيّر المعطى الديني من خلال ظهور ضرب من ضروب التشدّد وتمّ التخلي عن هذه الرؤية البورقيبية ثمّ بعد الثورة شاهدنا كيف أن القضايا التي كانت مكبوتة وممنوعة و"محرمة" في فضاءات النقاش في تونس كلّها تفجّرت فاصبحنا نعيش على وقع انفجار في المساجد التي حاولت كلّ الاطراف ذات المرجعية الدينية الاستيلاء عليها واضحى هناك بون شاسع في الاراء إزاء موقع الاسلام في الدولة وموضعه في الوقع التونسي المعيش وقد شاهدنا ذلك في النقاشات الدائرة صلب المجلس الوطني التأسيسي.
لو أنّ بورقيبة قام بارساء مؤسسات تضمن التواصل لما عشنا حالة اللااستقرار في فهم الاسلام. الان وكأنّنا في وضعية عود على بدء بخصوص هذه القضايا التي لم تحسم على المستوى المؤسساتي رغم أنّ بورقيبة خطب فيها واشار اليها. لقد كان هذا مكمن العجز لدى بورقيبة .
هل هذا يعني أنّ بورقيبة بالمحصلة فشل في تأصيل مشروعه وتجذيره صلب المجتمع؟
في الحقيقة هذه الحدود التي كنّا بصدد استعراضها لاتعدو أن تكون سوى نوع من الثغرات في المشروع البورقيبي،ونحن لا يمكن أن نحكم بالفشل المطلق أو النجاح الكامل.
دعني اطرح عليك السؤال من زاوية أخرى. إلى اي حدّ اثّرت هذه الثغرات على مساعي بورقيبة لترسيخ رؤيته للقضايا الاسلامية في الذهنية التونسية؟
لقد أثرّت بدرجة كبيرة بحيث كانت بمثابة الحلقة الاضعف في المشروع البورقيبي وهي التي تركت فراغات تسلّلت منها الاطراف الاخرى التي ترفض هذا المشروع وتعاديه.
هذا يعني أنّ بورقيبة لو قام بتركيز مؤسسات قوية تحافظ على الدين الاسلامي وترعاه وفق المنهج البورقيبي لما كنّا الان في خضم نقاشات جمّة حول مسائل يعتقد البعض أنّها حسمت منذ مدّة.
بورقيبة عيبه أنّه ترك الدين في مستواه الذاتي وهو ما حال دون تغلغله صلب المجتمع. صحيح أنّ هنالك نخبة اقتنعت وآمنت بهذا المشروع ووصل بها الامر إلى التهليل له غير أنّه في الاخير لم يستطع أن يصل إلى عمق المجتمع. لكن لا يظنّن البعض أنّ التصور البورقيبي للاسلام لم يؤثر البتة في المجتمع التونسي.
انّ دراسة تاريخ الاسلام في تونس تكشف أنّ الاسلام السائد في فترات سحيقة والذي كان يقوم على نوع من القدرية المفرطة علاوة عن الخلط بين التعاليم الاسلامية الاصلية والعادات والمعتقدات الخاطئة مثل الاولياء الصالحين وغيرها، ليس هو نفس الفهم المنتشر الان.
انّ الاشياء التي تحدثنا عنها هي نقائص ناجمة عن نرجسية بورقيبة الذي يمحور كلّ شيء حول ذاته وقد كان من المفترض تجاوزها لكي لا نصل إلى ما وصلنا إليه اليوم. كما انّ الاستبداد السياسي لبورقيبة جعله لاينفتح على القراءات الاخرى والاستفادة من التجارب المقارنة ومن الكفاءات والمشايخ الذين كانت لهم رؤية مستنيرة للدين ممّا ولدّ صراعا كبيرا معهم تحدثنا عنه في فصول هامة من الكتاب.
الحكم على المشروع البورقيبي بافتقاده للعمق المجتمعي، ألا ترى أنّه يحتاج إلى تنسيب لاسيما عندما نرى كيف أنّ المكتسبات الاجتماعية التي ارساها بورقيبة وحتىّ الفصل الاول من الدستور الملغى الذي استنبطه منذ زهاء نصف قرن مازالا إلى اليوم قائمين رغم محاولة البعض اعادة النظر فيهما؟
هو بالفعل حينما نريد قراءة علاقة بورقيبة بالاسلام يجب أن تقوم العملية على النسبية.
وأنا كنت في الكتاب ضدّ القراءات السوداء أو التمجيدية لانّنا عندما ننسبّ نجد أنّ بصمة بورقيبة بقيت في المجتمع خاصة في الموقف من المرأة الذي ارتكز فيه على نصوص دينية والأستاذ أحمد المستيري الذي وضعت مجلة الاحوال الشخصية زمن اشرافه على وزراة العدل بين كيف أنّ منطلقاتها كانت اسلامية.
نحن تحدثنا عن اشياء لم تؤثر فيها الرؤية البورقيبية لكن في هذه النقطة المتعلقة بوضعية المرأة المشروع البروقيبي أثّر فيها حيث أنّ رؤيتها للاسلام وعلاقتها بذاتها اختلفت وتغيّرت.
نفس المسألة تكررت مع القضاء الذي مزج فيه بورقيبة بين ماهو اسلامي وماهو مدني الامر الذي جعل البعض عن جهل وعن قناعات ايديولوجية يقولون انّ القضاء الذي وضع مداميكه بورقيبة كان معاديا لللاسلام وهذا غير صحيح. أيضا في مجالات أخرى كالتعليم اثّر بورقيبة بشكل بارز وفي هذا المضمارو نذكر المعركة حول الزيتونة التي غيّر موقعها وطريقة التدريس فيها من خلال المزج بين المواد العصرية ونظيرتها الدينية.
ولم يكن التونسي يشعر وقتذاك بوجود قطيعة بين هذين العالمين مثلما يصوّر لذلك بعض شيوخ الاسلام.انّ كلّ هذه النقاط الايجابية تحسب للمشروع البروقيبي ربّما حينما نقوم بقراءاته في اطار ما أسميته أنت بالنسبية.
دعنا في قضية التعليم الديني. هل تعتبر أنّ إلغاء بورقيبة للوظيفة التعليمية لجامع الزيتونة كان خطأ تاريخيا مثلما يروّج لذلك البعض؟
هذا الموضوع كان ولازال مدار معركة كبيرة بين بورقيبة وخصومة ومن المغالطات التاريخية الكبرى أن يقف شخص ويقول انّه قد تمّ الغاء التعليم الديني.
انّ هذه المسالة تعدّ من الاخطاء التي شاعت من كثرة تكرارها. الحقيقة ان بورقيبة نقل التعليم الديني من جامع الزيتونة إلى الكلية الزيتونية أي إلى مؤسسة تعليمية عصرية تدرّس المواد الدينية والعلوم الانسانية واللغات في الان ذاته من أجل تطوير آفاق المتخرج من هذا الاختصاص وذلك بسبب انغلاق جامع الزيتونة على نفسه وتحنّط مواد تدريسه لدرجة انّ خريجي هذا النوع من التعليم اضحوا من محدودي الافق. وهذا لم اقله أنا بل قاله علماء الزيتونة الذين دعوا منذ أواخر القرن 19 إلى اصلاح التعليم الزيتوني.
ولكنّ هذه الدعوات في جلّها كانت تطالب باصلاح من داخل منظومة التعليم الزيتوني وليس من خارجها؟
نعم هذا صحيح،غير أنّ لكل فترة تصوّرها. هم كانوا في حاجة إلى سند قوي مثل أجهزة الدولة لكي تؤمن بضرورة القيام بعمل اصلاحي.
وهو ما تمّ بالفعل. المسجد اذاك لم يعد قادرا على احتواء العدد الكبير من طلبة العلم.لا تنس أيضا المنافسة التي كانت قائمة بين خريجي الزيتونة والطلبة الذين درسوا في المدرسة الصادقية ذات المناهج والبرامج التعليمية العصرية.
لقد كانت حاجة مجتمعية وليست رغبة بورقيبية، أن يتوسع التعليم الديني ليستجيب للاختصاصات الجديدة مقارنة بماهو موجود في دول أخرى.
الغريب أنّه من المفارقات أنّ جزءا كبيرا ممن يروجون لمقولة أنّ بورقيبة أغلق جامع الزيتونة وألغى التعليم الديني هم من خريجي الكلية الزيتونية العصرية .
إذن هذه الفلسفة والرؤية البورقيبية للمسألة الدينية أين يمكن أن نصنفها على المستوى الفكري؟
في اعتقادي هي صعبة التصنيف لأنّ بورقيبة كان مزيجا من مدراس متنوعة حيث كان ينهل من مشارب فكرية مختلفة فكان يستشهد بعلماء مصلحين من تاريخ تونس ويقوم بتقديم اراء لمشايخ من المشرق مثل محمد عبدو الذي اقتبس منه قراءة لمسألة تعدّد الزوجات وألغى بموجبها هذا العرف السائد آنذاك وذلك انطلاقا من قاعدة العدل.
بورقيبة كانت له قدرة على التقاط كلّ الجوانب الايجابية في أيّة تجربة تاريخية وليس من الصدفة أن يقول حوله المؤرخون الذين كتبوا عنه انّه قد استفاد من ارث جلّ الحضارات والازمنة المتعاقبة على تونس.
وهل كان بورقيبة أتاتوريكيا في بعض الجوانب؟
لا على العكس من ذلك، وهذه المقولة تعتبر أيضا من الاخطاء الشائعة حيث يسوّق البعض على أنّ بورقيبة كان أتاتورك المغرب العربي أو أتاتورك تونس.
عديد الاشياء تفنّد هذا الطرح وتبيّن أنّ بورقيبة كان متأثرا فقط ببعض الجوانب من شخصية بأتاتورك لأنّه حقّق انتصارات لبلده تركيا فضلا عن كونه سياسيا محنّكا وعسكريا متميّزا.
في المسألة الدينية على وجه الخصوص لم يكن يقلّده فكمال أتاتورك ألغى الاسلام من الحياة العامة وغيّر لغة التخاطب والتدريس في حين أنّ بورقيبة حافظ على الدين السائد وحاول ملاءمته مع مقتضيات العصر والمرحلة التارخية التي تعيشها تونس غداة الاستقلال. لقد بلغ الامربه إلى درجة انتقاد بورقيبة لاتاتورك في هذا التمشي واعتبر في خطاب القاه في تركيا سنة 1965 أنّ مصطفى كمال كان مخطئا عندما ألغى الاسلام من الحياة العامة ممّا اثار جدلا كبيرا ونقدا وردود افعال كادت تؤدي إلى أزمة ديبلوماسية بين البلدين.
وهل يصحّ القول بأنّ بورقيبة أرسى ضربا من مفهوم العلمانية الجزئية وفقا لتصنيفات المفكر عبد الوهاب المسيري؟
بعض العلمانيين يريدون تصنيف بورقيبة في خانة الرؤساء العلمانيين.وهذا تصنيف غير صحيح حيث لم يكن بورقيبة قط علمانيا وهذه أقولها على عهدتي،لاسيما اذا ما اعتمدنا القواعد العلمية لهذا المفهوم الذي يقتضي الفصل بين الديني والسياسي.
فقد ركزّ بورقيبة نموذجا خاصا به يتداخل فيه الديني بالسياسي وهو يعتبر نفسه رجل سياسة يمكن أن يفتي في الدين الامر الذي جعله يكون زعيما واماما في ذات الوقت. لذلك هو غير قابل للتصنيف وفق قواعد العلمانية مهما كان صنف هذه المدرسة التي سنعتمد عليها.
كيف يمكن أن نستفيد في حاضرنا من هذه التجربة الفريدة في علاقتها بالاسلام خاصة في ظلّ اللغط السائد لدرجة أنّ بعضهم حمّل بورقيبة مسؤولية تفشي الارهاب؟
هنا يجب أن نفصل أو نميّز بين أمرين اثنين.المسالة الاولى تتعلق بمواقفه السياسية التي ليس فيها خلاف حول قضية أنّه كان استبداديا دكتاتوريا ممّا جعل مشروعه تعتريه ثغرة كبيرة أثّرت في حصيلته بشكل سلبي في بعض الجوانب.
المسألة الثانية مرتبطة برؤيته للدين.
الفصل بين هاتين المسألتين سيجعلنا أقرب إلى قراءة تجربته بموضوعية ايجابية.
أظنّ أنّ ما يمكن أن نستفيد منه هو الاتجاه أكثر ما يمكن صوب قراءة مستنيرة للاسلام.
انّ اختلاف المسلمين كان منذ القرن الاول هجري وهودليل على تعدّد القراءات وحتّى عندما ننظر في المشهد التونسي بعد الثورة نستشفّ انّ هنالك رؤى مختلفة للاسلام أوجدت أطراف مختلفة من ضمنها النهضة والتحريرو السلفية والصوفية.
لقد تبيّن من التاريخ أنّه لا يمكن الحديث عن فهم واحد للاسلام الذي هو نصّ ديني موحد لكنّ التأويلات والقراءات اختلفت.
ايضا علينا في باب الاستفادة أن نأخذ المشاريع التي كرستها التجربة البورقيبية ونعمل على تطويرها.
بماذا تفسّرون الصراع المحموم الدائر حول هذا الارث البورقيبي؟
هو توظيف سياسي بامتياز لانّ من يسمّون أنفسهم بالبورقيبين اكانوا قد تنكروا لبورقيبة في وقت الشدّة وهم يريدون الان استعمال ارثه واحتكاره على الرغم من أنّه ملك مشترك للتونسيين جميعا.
القول بأنّ هذا الشخص بورقيبي الاخر ليس بورقيبيا توظيف خاطئ في غير محله. ثانيا هناك الكثير من هؤلاء ودعني أصفهم بالراديكاليين يريدون تحنيط التجربة البورقيبية وشخصية بورقيبة في حدّ ذاتها.والقراءات النسبية والموضوعية تأبى التحنيط.
لقد كانت تجربته في سياق تاريخي تونسي مثلها مثل تجارب أخرى يمكن ان نستفيد منها الشيء الكثير وكذلك بامكاننا أن ننتقدها في ثغراتها.
من يريد توظيف التجربة البورقيبة لمآرب سياسية وحتّى سياسيوية هو خاطئ. أظن أنّ الوقت مناسب الان للنأي بالنفس عن القراءات الايديولوجية المحنطة وإعادة النظر في تاريخ بورقيبة بحكم توفر المسافة الزمنية السانحة بالقيام بذلك طالما لن تكون هناك مصلحة لاي طرف كان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.