فيما تستعد قيادات النهضة الى تنظيم "احتفالاتها الاستعراضية" بالاستفتاء الداخلي حول تأجيل مؤتمرها العام من عدمه ، ينزل قرار استقالة حمادي الجبالي ليحدث صدمة مدوية بين منخرطين وانصار لا يحيط غالبيتهم علما بخفايا قرارأمينهم العام التراجيدي بالإعلان عن الاستقالة. كان للحدث الجلل في كبرى الحركات الاسلامية بالبلاد مسبباته كما سيكون له حتما استتباعاته على مستقبل الرجل الشخصي وعلى حركته التي كان من بين مؤسسيها. باستقاله الجبالي من الامانة العامة لحركة النهضة ينضم "مهندس التنظيم" ، كما كان يلقب ، الى قائمة المنفضين من حول "المرشد". بقي الشيخ المؤسس، رئيس الحركة على فرسه وحيدا او يكاد. ووري صالح كركرالتراب ، وبقي الحبيب المكني رهين منفاه ، واستبعد الفاضل البلدي لاسباب يطول شرحها، وخرج كل من حسن الغضباني وحميدة النيفر عن الجماعة منذ بداياتها، ولزم صالح بن عبد الله البوغانمي الصمت.. لم يبق من المؤسسين الاوائل الا راشد الغنوشي بعد قرار استقالة حمادي الجبالي. ما الذي دفع بآخر المؤسيين الى مغادرة مركب النهضة؟
فشل أم إفشال الجبالي؟! الاستقالة من الامانة العامة ليست بالتاكيد استقالة من الحركة ولكن خروج الجبالي بمطلب الاستقالة الذي قدمه في نسخ متعددة مضمونة الوصول لا يعني ان "مهندس التنظيم" يريد ان يصبح مجرد منخرط قاعدي. انها استقالة يريد من خلالها صاحبها الخروج من مكبلات الجماعة والتنظيم الى "افاق وطموحات سياسية ارحب". الاكثر اهمية في "زلزال" الاستقالة هو خفاياها واسبابها التي دفعت بالجبالي في مرحلة أولى الى "عدم مباشرة مهامه" كامين عام عمليا وصولا الى التخلي عنها رسميا. في ما حدث بالنسبة لبعض المتابعين لشؤون الحركة "ضرب تحت الحزام" بعيدا عن تكاتف صلاة الجماعة الاخوية الاخوانية! وعندما يتباهى أحد القيادات النهضوية النافذة "باسقاطه" لحكومة الجبالي بين أروقة مكاتب مونبليزير نفهم بعضا من "حرب التموقع والنفوذ" داخل الحركة. بالتأكيد ان للاستقالة جذورها وروافدها غير ان المسكوت عنه في القصة يقف ورائها ما يعرف "بدوائر المتنفذين" في الحركة. المتنفذون كثيرون وتتفاوت درجة تأثيرهم بمدى قربهم وترددهم على الطابق الخامس من مقر مونبيلزير. هؤلاء بحسب بعض المصادر القيادية في النهضة حولوا مهام حمادي الجبالي كأول رئيس حكومة بعد انتخابات 23 أكتوبر الى "مهمة شبه مستحيلة" سواء عندما عينته الحركة كرئيس للحكومة او في الفترة التي لحقت "اقالته" او "استقالته" من منصبه بعد اغتيال الشهيد شكري بالعيد في 6 فيفري 2013. دوائر المتنفذين في الحركة كانت على استعداد لمرحلة استقالة الجبالي والا فما معنى تعيين عبد الحميد الجلاصي في منصب "المنسق العام" وهي المهمة التي ليس لها اصل في النظام الداخلي للحركة ولم يقرها اي مؤتمر. يقوم المنسق العام في ظل عدم مباشرة الجبالي لمهامه بنفس الادوار التي كان من المفترض ان يقوم بها. انها المهام الموازية في صلب حركة لم يكف خصومها منذ عودتها الى البلاد باتهامها حقا وباطلا بكونها تدير شبكة الاجهزة الموازية. من هنا نلمس بعض لأصول واسباب الاستقالة. ربما يبرر البعض ما حدث بكونه "تدافع داخلي" أو هو "ضرب من تحت الحزام".. التوصيف هنا يصبح ثانوي. المهم ان حرب النفوذ داخل النهضة ادت الى رحيل احد ابرز قياداتها. لم تكن مسألة منصب "المنسق العام" مجرد خطوة لملئ فراغ تنظيمي. لقد كان المنصب الجديد المسقط على التنظيم تعبيرة عن قوة "كتلة" كامل دخل النهضة ترى ان اولى امتحانات النهضة الفاشلة في الحكم سببها اولا وبالذات شخص اسمه: حمادي الجبالي. كان الجبالي بالنسبة لهؤلاء الشماعة الداخلية التي الصقت بها كل خيبات الحركة في الحكم. بالنسبة لهؤلاء افشل حمادي الجبالي أول تجربة للحركة الاسلامية في الحكم وعليه تحمل مسؤولية الفشل وان يرحل لا من قصر الحكومة فقط بل من دوائر القرار ذاتها! بطبيعة الحال فان لبعض قيادات النهضة تقييم اخر لتجربة حمادي الجبالي في الحكم. بالنسبة لهؤلاء "فشل الجبالي لا بسبب ما لقاه من تمنع ومن هجمة من الدولة العميقة ومن واليسار فقط بل ايضا من المسؤولية المباشرة التي يتحملها بعض وزراء في الحكومة فرضوا عليه من مؤسسات الحركة". يذهب هؤلاء الى تحديد المسؤوليات في افشال حكومة الجبالي عبر تحميل المسؤولية لصاحب اهم حقيبة سيادية وهو وزير الداخلية علي العريض الذي تمت في عهده عملية حرق السفارة الامريكية واحداث الرش بسليانة وعجز عن تأمين خروج الفسفاط من قفصة وشل البلاد بسلسلة الاضرابات هذا فضلا عن عملية اغتيال شكري بالعيد انفة الذكر. لم يكن علي العريض بالنسبة لهؤلاء الا الشجرة التي تخفي الغابة "لكتلة نافذة" على الطرف الاخر تسعى اليوم لخلافة الجبالي بعد استقالته ساعية لافتكاك منصب الامانة العامة اهم وجوهها عبدالحميد الجلاصي وعبد اللطيف المكي ومحمد بن سالم والصحبي عتيق. هي ذات العناصر التي التي رفضت مسألة "الانسحاب من السلطة" زمن الجبالي وهي ذات الوجوه التي قيمت "حكومة القصبة الاولى" سلبا في الاجتماعات الداخلية. ولكن وبصرف النظر على الاختلافات في تقييم حكومة الجبالي ومسألة التدافع الداخلي كان لاستقالة الجبالي عوامل اخرى تعود الى الاشهر الاولى لعودة النهضة للعلنية والى البلاد. سفينة بربانين من المهم ان نعود الى الايام الاولى التي سبقت اول ندوة صحفية تعقدها حركة النهضة بعد عودتها الى البلاد يوم 7 فيفري 2011 لنتلمس البدايات الاولى لحرب "النفوذ" داخل النهضة واحساس الجبالي بالغبن. يوم 7 فيفري، كان يوما جميلا لانصار النهضة الذين التقطوا صور المناسبة التاريخية. كان الغنوشي يتوسط الطاولة وعلى يمينه علي العريض وعلى يساره حمادي الجبالي بابتسامته العريضة. قبل هذه الندوة "الاحتفالية" بايام جاء قرار عودة راشد الغنوشي من لندن مفاجأ للجميع في الداخل. كان قرار القيادة التي تشكلت في الداخل بقيادة حمادي الجبالي ان "يتريث الشيخ وان لا يعود الا وقتما تستتب الامور" كانت البلاد تعيش على وقع مخاض الايام الاولى للثورة والوضع الامني والسياسي غير "مضمون". غير انه ولسبب ما استعجل الغنوشي العودة وارادها ان تكون عودة "على الطريقة الجماهيرية الخمينية". خلط الغنوشي بعودته الاوراق لا داخل البلاد فحسب بل داخل قيادة الداخل. لم يملك الجبالي الا ان يسلم رئاسة الحركة الفعلية التي تقلدها "بتفويض" من قيادة الخارج في اواخر حكم الرئيس بن علي. تسلم الغنوشي "الامانة" ووقع تعيين علي العريض رئيسا للهيئة التأسيسية ونصب الجبالي أمينا عاما قبل ان يدفع به في "محرقة" "تهرئة السلطة" على حد تعبير شيخ مونبليزيرنفسه. لا نخال ان عنصر "الطموح والرغبة في السيادة" كان غائبا في قصة العودة التي بقيت اثارها قائمة الى اليوم. الجبالي الذي خرج من سجون بن علي يوم 25 جويلية 2006 يحسب له بالنسبة للعديد من انصار الحركة انه "أحي التنظيم من رماد" بعد محنة جاوزت العشريتين. الجبالي وجد نفسه بعد قصة "العودة" ومن بعدها في سفينة يحكمها ربان لم يترهل منذ ثلاثين عاما بل ازداد قوة وشبابا!. سفينة النهضة ما بعد منحة السلطة ما عادت تحتمل أكثر من ربان عكس زمن ايام التضحيات والمحنة. بعد أكثر من ثلاثين سنة من أول مؤتمر صحفي تعقدة النهضة (حركة الاتجاه الاسلامي انذاك) في 6 جوان 1981 وجد الجبالي نفسه يجلس في المكان نفسه الى جانب الغنوشي في الندوة التي عقدتها النهضة في باب سعدون يوم 7 فيفري 2011 بمناسبة عودتها الى البلاد. حافظ الغنوشي في كلا الندوتين على صدارة المقاعد والصورة. لم تتغير الصورة كثيرا بعد ثلاثين سنة. كان من الواضح ان الشيخ مازال ينضح رغبة في القيادة والسيادة. ربما كان هذا المشهد أيضا احد محفزات الجبالي في ان يبحث له عن دكان اخر يبيع فيه بضعاته غير دكان النهضة. ثم ماذا بعد حديث الاستقالة؟! اسئلة عدة وسنريوهات حول نوايا الجبالي المستقبلية اهمها الرغبة في التحول من الاقامة من شط مريم بسوسة الى شواطئ قصر قرطاج. - ينشر المقال بالتزامن في جريدة الشعب وموقع حقائق أون لاين