خرجت تنهّدات عود أنور براهم ليلة البارحة الخميس 10 جويلية 2014 من "الحجرة" الى مدارج المسرح الأثري بقرطاج، في عرس موسيقي شهده قرابة 6 آلاف متفرج ... العرض الذي ارتأت ادارة تنظيم مهرجان قرطاج الدولي تقديمه لمريدي الثقافة والفنون بمناسبة ذكراه الخمسين، فاق حجم التوقعات بالنسبة لكثيرين وخيّب أمل آخرين. أنور براهم، الذي ملأ اسمه تونس منذ فترة قصيرة وشغل الناس، لم يخف غبطته لاعتلاء درجات الركح الأكثر اغراء في تونس مدةّ ساعة ونصف أو يزيد...فبدأ عرضه بالقاء نكتة طريفة ضحك لها جمهور الحاضرين...كانت تلك نقطة تحسب لرجل غاب سنوات عن الوطن وأهله وظلّت موسيقاه مجهولة لدى فئة كبيرة من التونسيين. بعد تقديم طاقم العازفين وأعضاء أوركسترا تالين المصاحبة له، حمل الرجل المتشّح بالسواد عوده وجعل يزفر فيه تنهّداته...كانت المقطوعة الأولى خافتة مرهقة كأنها جاءت من بعيد حيث الموسيقي، ذات غربة، نظم نوتاتها في غرفة باردة موحشة... عزف براهم فرافقه الصمت...كأن آلاف الحاضرين خشعت قلوبهم لصلاة آلهة تمدّ يدها من سماء الرحمة لتشرح صدر وطن مثقل بالاوجاع... توالت المعزوفات مفعمة برائحة الياسمين الذي غلّف أجواء المسرح وايقاع أوراق الأشجار تعانق نسمات صيف متواطئة مع الجمال... لكنّ المعزوفات الأولى من "استذكار" بدت وكأنها تتشابه جميعها أو هكذا بدا لبعض الحاضرين الذين انتشوا بعطر الياسمين... واعتقدت أنا نفسي أن براهم نسي المعزوفة الثانية والثالثة فلجأ الى اعادة الأولى مستغلاّ النشوة الطاغية على جمهور يقصد المسرح والسينما في أحيان كثيرة بغرض النسيان... وللحظة ظننت معها أن عوده سيصمت الى الأبد، داعب براهم الأوتار فتبدّت معزوفة ولدت في رحم القديم لتخرج الى الدنيا موسيقى جديدة في ثورتها وغضبها وعنفوانها، كفراشة تمرّدت على سجّانها وقطّعت أوصال شرنقتها لتنهل من نور الشمس... كانت تلك لحظة الاسراء... "استذكار" الذي أراد له صاحبه أن يبدأ صغيرا ليكبر بالحبّ، استغرق اعداد مقطوعاته الموسيقية حوالي الثلاث سنوات ونيف..استحضر عبره ابن البلد ورجلها، أحداثا عبرت لكنّها خلّفت في الأذهان ذكريات تقطر دمعا ودما... ولأن الموسيقى لا تقول أحيانا ما تقول، استعان أنور براهم بمقطع فيديو يوثّق لوعة أهالي القصرين ذات جانفي 2011، ثم بتسجيل صوتي لهتافات شعبية في مظاهرات غاضبة فوقفت جموع الحاضرين اجلالا لتلك اللمسة الفنية الراقية واللفتة الوطنية المشكورة... الحفل الذي حظي بتغطية اعلامية كبيرة استوجبتها شهرة الرجل في أصقاع العالم، حضره مثقفون وفنانون ووزراء على رأسهم رئيس الحكومة مهدي جمعة...واختتم بأداء أنور براهم مصحوبا بالأوركسترا لألحان أغنية "ريتك ما نعرف وين" التي منحها منذ 22 عاما للفنان لطفي بوشناق. هل نجحت سهرة افتتاح خمسينية مهرجان قرطاج الدولي؟ تلك مسألة منوطة بتقدير المنظمين وحسابات الجهات الراعية وأذواق جمهور الحاضرين... لكن الأمر الأكيد أن "استذكار" صنع الفارق في تلك الليلة القرطاجنية وان غادر عدد لا بأس به المسرح الأثري وسط العرض غير راض عنه... في طريقي الى موقف السيارات عند المغادرة، سمعت شابا يتحدث في الهاتف عن انطباعاته بخصوص العرض قائلا:" أنور براهم كان قعد في الدار وبعثلنا الموسيقى متاعو في سي دي راو خير...تعبت في الطلوع عالفارغ". ربما كان لذلك الانطباع صداه في نفوس آخرين، لكنّ الهتافات التي كانت ترافق نهاية كلّ مقطوعة تشدو بها نفس الفنان تمثّل دليلا قاطعا على رغبة تونسيين كثر في القطع مع الجاهز والسريع وتعميد آذانهم في نهر الموسيقى الخالدة... ففي وطن فرّقت السياسة أبناءه وسرق الارهاب راحة باله، استطاعت موسيقى أنور براهم أن تجمع آلاف التونسيين على كلمة سواء، أوتار العود حروفها وتنهّدات روح الفنان علامات اعرابها... أسرى براهم بجمهوره الى السماء وترك معجبيه هناك بين ذراعي آلهة الموسيقى...أمّا الذين فضّلوا الالتحام مجدّدا بالأرض الأمّ، مثلي، فقد عرّجت بهم أطواق الياسمين والمشموم البلدي الى هضبة الأوديون حيث ضرب التاريخ في القرن الثاني ميلادي موعدا للحضارة مع بلد ستختار له عرّابته اسم تونس..