انتهى العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة قبل ايام بمقتضى اتفاق وقف اطلاق النار بين الفلسطينيين وإسرائيل، ومازالت التقييمات متناقضة بين من اعتبر ان حماس والمقاومة الفلسطينية انتصرت في هذه الحرب وبين من يتمسك بأن الانتصار لا معنى له مع مئات القتلى وآلاف الجرحى ودمار البنية التحتية. وما يتعين ذكره، قبل الإسراع الى نشوة "الانتصار" او جلد الذات جراء "خيبة الهزيمة"، هو أهداف الحرب الاسرائيلية على غزة والتي يمكن من خلال مدى تحققها على ارض الواقع اطلاق حكم الانتصار او الهزيمة او النكسة. وسأكون في هذا المقال بعيدا عن العاطفة والشعارات والاييولوجيا ومقولات "غزة تنتصر" و"ستموت يا ابن اليهودية" و"حماس وإسرائيل أعداء القضية الفلسطينية". وأود اولا ملاحظة ان جميع فصائل المقاومة الفلسطينية شاركت في التصدي لأحد أقوى الجيوش في العالم عبر غرفة عمليات موحدة ولم تقتصر على حماس، صحيح ان كتائب عز الدين القسام (الجناح المسلح لحركة حماس) هي القوة الرئيسية في القطاع لكن ذلك لم يمنع مشاركة كتائب الشهيد ابو علي مصطفى (الجبهة الشعبية) وسرايا القدس (الجهاد الاسلامي) القريبة من ايران. هل حققت اسرائيل أهداف عدوانها؟ مع اطلاق حملة "الجرف الصامد" (حسب التسمية الاسرائيلية) قبل اقل من شهرين، حدد بنيامين نتنياهو أهداف الحملة بتدمير الأنفاق التي تستعملها فصائل المقاومة ووقف اطلاق الصواريخ من القطاع على المستوطنات الاسرائيلية وتدمير القدرة العسكرية لحركة حماس في القطاع. لكن العدوان انتهى دون تحقيق اي هدف منها باعتبار ان حماس لازالت قوة رئيسية في القطاع والإنفاق لم تُدمٓر، كما تواصل اطلاق الصواريخ على المستوطنات (حتى المستوطنات البعيدة عن القطاع) لم يتوقف الا قبل اعلان وقف اطلاق النار بساعات. والقول بان "الانتصار لا معنى له مع مئات وآلاف القتلى والجرحى وتدمير البنية التحتية" هو قول يتطلب الانسجام من أصحابه، فالخسائر التي خلفها العدوان الاسرائيلي على لبنان في 2006 اكثر بكثير مما شهدناها في غزة هذا العام فبالإضافة الى مدن الجنوب اللبناني لحق الدمار بجزء كبير من العاصمة بيروت والبنية التحتية من طرقات وجسور وشركات طاقة ومياه، ومع ذلك اتفق الجميع على ان حزب الله انتصر في تلك المعركة. اتفق الجميع على انتصار حزب الله آنذاك رغم الدمار وآلاف القتلى والجرحى فقط لان اسرئيل لم تحقق أهدافها وهو تحرير أسراها وتدمير قوة حزب الله وإعادته الى ما فوق نهر الليطاني، بل ان اتفاق وقف اطلاق النار آنذاك افقد حزب الله سيطرته على مناطق في الجنوب اللبناني بعد تولي قوات اليونيفيل الدولية مراقبة الحدود. لكن ذلك لم ينقص شيئا من انتصار حزب الله على اسرائيل. وهنا اعتبر أعراض البعض عن القول بان المقاومة انتصرت في غزة يعود الى أساسا خلاف ايديولوجي مع حركة حماس، باعتبار انها حركة إخوانية إسلامية رجعية حليفة لإخوان مصر وقطر وتركيا والقرضاوي، لا غير. في حين ان حزب الله الشيعي الرجعي (حزب ولاية الفقيه) لا يتعرض الى النقد والهجوم ببساطة لانه مناهض لقطر وتركيا والإخوان. اما في ما يخصني، فصواريخ حزب الله وحماس وفتح والجهاد وأبو علي مصطفى والمقاومة الوطنية تمثلني بشدة. اين انتصرت المقاومة و"حماس"؟ يكمن انتصار المقاومة كما أشرنا سابقا في التصدي للعدوان ووقفه دون تحقيق اي من أهدافه، فهدف المقاومة في عملية "العصف المأكول" كما يسمونها هو التصدي للعدوان الاسرائيلي، فحركة حماس وباقي فصائل المقاومة لم تبادر بالعدوان ولم تقم بعمليات استفزت اسرائيل. وحتى مقتل المستوطنين الثلاثة قبل الحرب تبين بعد ذلك انه لا دخل لحماس والمقاومة فيه، عكس حرب تموز 2006 التي بادر فيها مقاتلو حزب الله بأسر جنود إسرائيليين مما اجبر اسرائيل الى شن عدوانها على لبنان. ثاني الانتصارات، وهو برأيي انتصار معنوي وسياسي فلسطيني، هو توحيد البندقية الفلسطينية تجاه اسرائيل عبر توحد فصائل المقاومة عسكريا وسياسيا. وراينا كيف كانت حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" تتبنى مطالب حماس وتدافع عنها وتحمل اسرائيل كامل المسؤولية بعد ان كانت المواجهات السياسية والعسكرية بينهما على أشدها في السابق. كما كان الوفد الفلسطيني المفاوض في القاهرة متكونا من قيادات "فتحاوية" و"حمساوية" و"جبهاوية" و"جهادية" ومستقلين ، وحافظ على قدر كبير من الانسجام والبراعة في التفاوض. كما تجسمت الوحدة الوطنية أيضاً عبر اعلان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس اتفاق اطلاق النار ممثلا بذلك كل الفصائل المفاوضة. من جهة اخرى تمكنت المقاومة من تحقيق تفوق عسكري في بعض المحطات مثل قتل 10 جنود إسرائيليين من لواء غولاني في عملية واحدة أربكت جيش الاحتلال. ثالث الانتصارات هو بداية رفع الحصار عن قطاع غزة عبر مفتح بعض معابر حدودية بين اسرائيل وغزة بالاضافة الى نعبر رفح الذي تعهدت مصر بفتحه بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية، الى جانب اتفاقات اخرى كتمديد مساحة الصيد البحري للبحارة الفلسطينيين وإعادة إعمار القطاع ورفع الحصار المالي. كما لا يمكن إغفال حملة التضامن الدولي مع غزة والقضية الفلسطينية من خلال التظاهرات الحاشدة في عدد من الدول الأوروبية والأمريكية والتحركات الدبلوماسية التي ساندت القضية وجعلت من مأساة غزة محور اتهام الشعوب وليس العرب والمسلمين فقط. العدوان الاسرائيلي اثر أيضاً على الجبهة الداخلية الاسرائيلية حيث تواجه حكومة بنيامين نتنياهو انتقادات لاذعة من المعارضة والإعلام الاسرائيلي الذي تحدث صراحة عن فشل اسرائيل في تحقيق اي هدف من أهداف الحرب، ويتوقع ان يواجه نتنياهو ما واجهه إيهود اولمرت عقب حرب تموز 2006. فالانكسار المعنوي للجيش الاسرائيلي صاحب التفوق في المنطقة يعتبر في حد ذاته نصرا. كما ان مكاسب اخرى ستحسب لحماس بعد انطلاق مفاوضات اطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين لديها خاصة اذا توافقت اسرائيل على اطلاق سراح قيادات فلسطينية مقابل أسراها الذين رفضت حماس الإفصاح عن عددهم. ما يحسب ضد "حماس" بعد اعلان اتفاق وقف اطلاق النار، اثنى رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل على جهود الوساطة المصرية واطنب في مدح قطر وتركيا على "دعمهما للفلسطينيين"، ولم يشر الى حزب الله وإيران وسوريا رغم الدعائم العسكري والسياسي الكبير الذي تلقته حماس منهم لعقود من الزمن مما يعني ان حماس أبقت على نفسها ضمن الحلف الداعم للإخوان وتصرفت كحركة إخوانية عقائدية لا كحركة مقاومة وتحرر وطني. هذا التصرف الذي اقدم عليه خالد مشعل افقد حركته جزء من التعاطف الذي اكتسبته اثناء العدوان. فحتى لو كانت قطر وتركيا في مصاف الدول الداعمة لحركة حماس، الا ان دعمها لن يتجاوز الدعم السياسي الدبلوماسي الذي تحكمه علاقات دولية متحركة وبطبيعة الحال تحت سقف الولاياتالمتحدة خاصة وان الدوحة وأنقرة تحتفظان بعلاقات متينة مع اسرائيل. لكن الدعم الإيراني والسوري كان دعما سياسيا وعسكريا وماليا لم يتوقف على مدار عقود، وان حماس، كحركة مقاومة، من الأشرف لها ان تبقى في حلف حزب الله وإيران سوريا (أعداء اسرائيل) من ان تبقى تحت مظلة قطر وتركيا. من جهة اخرى، لم تخلو احتفالات حماس بوقف العدوان من الشعارات الحزبية محتكرة بذلك فعل المقاومة و"النصر" رغم انها من كانت تسوق لغرفة العمليات الموحدة اثناء الحرب، ولعل العودة الي البيت الفلسطيني ومنظمة التحرير هو القرار الذي كان سيرفع من اسهم حماس امام الراي العام العربي والدولي لكنها تغافلت عن ذلك في انتظار اعادة ترتيب أوراقها بخصوص الشأن الداخلي الفلسطيني. "الجيش القوي إذا لم ينتصر فهو منهزم، والجيش الضعيف إذا لم ينهزم فهو منتصر" وزير الخارجية الامريكي الأسبق هنري كيسنجر