لم تكن نتائج الدور الاول للانتخابات الرئاسية مفاجِئَة لنا كتونسيين. فلقد تداولنا الحديث في مناسبات عديدة حول هذه الإمكانية التي ستفرض نفسها علينا و المتمثلة في حتمية دور ثان يضع المترشحين الاثنين الباجي قائد السبسي و المنصف المرزوقي وجها لوجه ، مما يجعل التونسيين امام خيار صعب في الحقيقة. هذا الوضع يذكرنا بالدور الثاني للانتخابات الرئاسية الفرنسية سنة 2002 و الذي تصارع فيه كل من جاك شيراك و جان لوبان. مما أدى الى ما سمي بالتصويت المجدي Vote utile اي ان الإدلاء بالصوت لا يعني الزاما الموافقة على البرنامج السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي للمترشح او الاقتناع باختيار هذا الاخير. بل اصبح ينظر للتصويت كالية لإنقاذ البلاد و المشروع المجتمعي من قوى يمينية من شانها الرجوع على قيم الجمهورية و تهديدها. اليوم تجد تونس نفسها امام مثل هذا الخيار الذي يحدده بعض الملاحظين في بلادنا كخيار بين قوى الثورة و قوى الثورة المضادة. بينما يعتبره البعض معركة لاسترجاع هيبة الدولة و للدفاع عن مشروع مجتمعي طالما كان موضع تشكيك خلال السنوات الثلاث الاخيرة و للحد من المد السلفي و اساليب تعبيره الذي عرفته البلاد بعد 14 جانفي 2011. في حين ان قوى اخرى تعتبر ان لا سبيل لرجوع النظام السابق تحت غطاء جديد يهدد اهداف الثورة التي قامت ضده و نجحت - و لو لمدة قصيرة - في ابعاده عن السلطة. ستكون المعركة صعبة و حاسمة. و كل جهة ستعمل على تجنيد مناضليها و كل التونسيين من اجل دعم هذا المترشح او ذاك. و ستكون الأجواء ساخنة و خطيرة اذا لم تلتزم كلتا الجهتين باحترام الجهة المنافسة بدون اتهامات و حملات تشويه تسيء للمترشحين. ولكن يجب التنبيه كذلك الى امكانية خيار ثالث يلجا اليه شرائح هامة من المجتمع التونسي وهي العكوف على التصويت الذي يفسره البعض برفض المرشحين الاثنين اللذين لا يعبران عن اقتناعات بعض التونسيين. فالمرزوقي يمثل بالنسبة لهم فشلا ذريعا في ادارة البلاد و في الدفاع عن هيبة الدولة. اما الباجي قائد السبسي فهو في نظرهم يجسم رجوع النظام السابق الى الحكم. فهما خياران غير قابلين للمساندة إذ يعتبرونهم فشل ثورة 14 جانفي التي لم تأت بوجوه جديدة و شابة تعبر عن فلسفة و اهداف تغيير أرادوه عميقا يقطع في ان واحد مع الماضي و اساليب حكمه و مع مشروع يشكك في مكتسبات البلاد لقوى مارست الحكم بعد 14 جانفي و لم تنجح في تحقيق اهداف الثورة. فمهما كانت المواقف ، ستمثل - و بدون شك - هذه التجربة الوحيدة من نوعها في تاريخ بلادنا امتحانا ديمقراطيا - بنجاحه او بفشله - يضاف الى المعارك الانتخابية الاخيرة التي خاضها التونسيون في مرحلة ما بعد 14 جانفي. وجب علينا - مهما كانت اختياراتنا- ان ننظر لهذه التجربة التي يتابعها العالم بأكمله كمكسب هام يحسب على نضالات شعبنا منذ عقود من اجل إرساء نظام ديمقراطي و دولة القانون و المؤسسات.