الظهور التلفزيوني، للشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة "النهضة"، ليلة الثلاثاء على قناة "نسمة"، كان مرتبا له جيدا من حيث التوقيت وكذلك المضمون. وهو يأتي أيضا في إطار تأكيد "باعث القناة"، على أنه بصدد لعب دور سياسي. يفسر بتعمده البروز الى جانب الشيخ الغنوشي في كواليس مقر القناة. مثلما سبق له وأن برز الى جانب شيخ البحيرة، الباجي قائد السبسي، منذ أيام في رحاب زاوية سيدي بلحسن الشاذلي. وليس في الأمر سوء – في تقديري- فالسياسة لا تمارس اليوم، خارج نفوذ أو هيمنة المال والاعلام. استضافة شيخ مونبليزير، التي كانت متوقعة بعد بيان مجلس الشورى الأخير، الذي بقى في حاجة الى "شروح" كما يقول الفقهاء، تفترض الحسم فيها من قبل الغنوشي نفسه، حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وحتى تبرز زوايا مهمة معتمة في الصورة التي ستتشكل بعد يوم الأحد القادم، والتي برزت ملامحها في الواقع أثناء انتخاب مكتب مجلس نواب الشعب، تحت قبة قصر باردو. أحد القياديين النهضويين، من الذين أثق جيدا في تحليلاتهم وخاصة قرب أو تماهي مقاربتهم مع وجهة نظر الشيخ الغنوشي، أكد لي ليلة انعقاد الدورة الأخيرة لمجلس الشورى، "أن الشيخ سيكون له ظهور تلفزي مهم"، وأنه سيوجه "رسائل مهمة لما يتعين على النهضويين قاعدة وقيادة اتباعه"، بل أنه ذهب أبعد من ذلك عندما أخبرني بأن ما سيقوله الشيخ هو موقف الحركة"، وان كان الغنوشي حاول وضع كل اجاباته على أسئلة "مريم" ضمن سياق موقف مؤسسات الحركة، الذي عبرت عنه من خلال بيان الشورى، وبالمناسبة حمل معه ورقة كتب عليها البيان حاول في أكثر من مرة اظهارها في الكاميرا. لقاء الغنوشي في 'نسمة"، يتجاوز اذن مجرد "الحضور الاعلامي" ليرتقي الى "الحدث السياسي"، الى الاعلان عن موقف سياسي مرتب له مسبقا. بدأت معالمه منذ لقاء باريس في صائفة 2013، وتأكد في الحوار الوطني وفي كل التوافقات اللاحقة وأهمها الدستور. موقف الغنوشي في تقديري ليس مفاجئا لأنه يندرج ضمن سياق ما حصل بعد لقاء باريس. وهو موقف مساند ل "الأصلح" لحكم تونس. الذي على "شعب النهضة" اما مساندته أو عدم قطع الطريق أمامه، عبر التصويت بالورقة البيضاء، ان لزم الأمر، لمن لم يهضم التحولات الجارية في المواقف والسياسات . حرص الغنوشي، على مساندة حليف اليوم الباجي قائد السبسي دون ان يغضب حليف الامس الرئيس المؤقت. وذلك حفاظا على "الماء والملح" كما يقول المثل الشعبي، فقط ليس أكثر. فالنهضة حسمت أمر المرزوقي منذ أشهر، بل أن بعض قياداتها صرحوا بأنه "كان عبئا ثقيلا عليهم" وحان وقت التخلص منه، وأنهم مع رئيس يعيد "هيبة المنصب" مثلما صرح نورالدين البحيري. كما أن الترويكا بالنسبة للنهضة انتهت بخروجها من الحكم، وفق عبارة الغنوشي. بما يعني أنه لا يوجد أي رابط لا سياسي ولا أخلاقي يربط النهضة بالرئيس المؤقت. ما يكشف على أن دعم النهضة للمرزوقي في الدور الأول من الرئاسية، لا يخرج عن منطق الحسابات السياسية. وذلك عبر تأكيد حجمها الشعبي بعد أن أكدت حجمها السياسي في الانتخابات البرلمانية، وهي التي حصلت على 69 مقعد سيجعلها طرفا في الحكم القادم. وهنا نجحت النهضة، في تحسين شروط التفاوض السياسي، ولعل انتخاب مورو كنائب أول لرئيس مجلس نواب الشعب، هو ضمن "سلة" كاملة سيعلن عنها بعد وصول السبسي لقرطاج. وهو في طريق مفتوح، بعد أن رأى شيخ النهضة أن مواصفات الرئيس "الأصلح تتوفر فيه. بالنسبة للغنوشي، الأصلح هو "القادر على أن يجمع كل التونسيين، ويحقق التنمية عبر المساعدة عليها من خلال الانسجام مع الحكومة –وهي برئاسة النداء-". هذه المواصفات بالتصريح، هي عند الباجي وليس منافسه المرزوقي. و ذهب الغنوشي بعيدا، عندما حذر من "فزاعة" التخويف بعودة الدكتاتورية، وهي الشعار المركزي في حملة المرزوقي. حيث استبعد عودة منظومة الاستبداد الى تونس قائلا في هذا الصدد "لست متخوفا على تونس من عودة الاستبداد" مشيرا الى أن تونس أدخلت العالم العربي في عهد جديد عبر ثورة 14 جانفي. كما اعتبر أن دولة البوليس والحزب الواحد قد انتهت ويبقى هاجس البلاد اليوم في عدم الوقوع في الفوضى والتوقي من براثن الارهاب. مؤكدا على أن التحدي الكبير للتونسيين اليوم، هو كيف يستطيعون تنظيم جياتهم على اساس الحرية. وفي دلالة واضحة على التباين مع أطروحات المرزوقي، دعا الغنوشي الى "دفن الأحقاد"، والانطلاق نحو المستقبل، بالسماحة والعفو وفق "نهج الهدي النبوي المحمدي". منبها الى خطر الابقاء على الصراع، من خلال وجود تباين بين راسي السلطة –الرئاسة والحكومة-. وهي وضعية يري الغنوشي أنها ليست في مصلحة تونس، موضحا أنه مع الانسجام كما انه مع استمرار نهج التوافق، الذي قال أنه ميز "الأنموذج التونسي"، والذي يري فيه – أي التوافق - شرطا ضروريا لادارة المرحلة القادمة، التي لا تحتمل منطق السلطة والمعارضة. تبدو مواقف الرجل واضحة وحاسمة، بل أنها شجاعة وهي من الخاصيات الواجب توفرها في الزعيم السياسي. الذي تفرض عليه الأحداث، وخاصة اذا كانت في علاقة بالمصلحة الوطنية العليا، أن يكون حاسما أيا كانت التداعيات. وهو ما تنبه اليه الغنوشي، الذي أكد في أكثر من مناسبة على "أن مصلحة تونس أهم من مصلحة النهضة". وهو ما تأكد من خلال انتصاره لموقف ومقاربة، تجد معارضة واسعة داخل الحركة التي يرأسها. فاختار بذلك المشي بين الألغام، على الاستسلام أو الانصياع للمغامرين من داخل وخارج النهضة، التي تأتي عادة عواقبها على الأخضر واليابس. وهو هنا يستفيد من تجارب الآخرين. كما يعبر عن قربه مما يعتمل في رحم المجتمع التونسي من تحولات، وتلك من دلالات الواقعية السياسية، التي تنظر للسياسة باعتبارها "فن الممكن" ولا تخضع لمنطق المغالبة أو الاستقواء بالوهم. وهو برغم ذلك، نراه يجد عذرا لأبناء حركته من الرافضين أو المترددين للنهج الذي اختاره، من خلال تأكيده على أن "النهضة – مثلما هو حال كل البلد -، تمر بتطورات كبري وسريعة، تحتاج مواكبتها وهضمها لوقت".